|
منقولات روحيّة
عندما أقرأ عقيدةَ مجْمعِ "ترانت" [ترينتو] Trente، يبدو لي أنْ لا علاقةَ لها بتاتًا بالدين الذي يُعرَض فيها. عندما أقرأ العهدَ الجديد وعلومَ التصوف والليتورجيا [الطقوس] وعندما أشاهد إقامةَ القداس، أحسُّ، بنوع من اليقين، أنَّ هذا الإيمانَ إيماني، أو بتعبير أدق سيكون إيماني إذا لم نأخذْ بالحسبان المسافةَ التي بيني وبينه من جَرَّاء نقصي. يشكِّل ذلك موقفًا روحيًا شاقًا. لا أريد أن أجعلَه أقل صعوبةً، بل أكثر وضوحًا. وأيُّ عناء يمكن قبوله في الوضوح. سأسرد لكَ عددًا لا بأس به من الأفكار التي تسكنني منذ سنوات (أو بعضًا منها على الأقل) والتي تَحُوْل بيني وبين الكنيسة. لا أطلب منكَ أن تناقشَ جوهرَها. وإنه ليسعدني مثلُ هذا النقاش، ولكنْ فيما بعد، في مرحلة ثانية.
لا شيء ملموس في النهاية، لا شيء مؤكد. ولكن، رغم هذا، ينتابك شعور جامح بوجود ما تصبو إليه غامضًا ورائع الجمال معًا. وأنت تعرف أن لا قيمة علمية رصينة ودقيقة تؤكد، في نهاية المطاف، صحَّة ما تذهب إليه. ورغم هذا تجدك متأكدًا من أن ما تتلمسه وتفترضه لم يأت من فراغ إنما من الأرضية الراسخة لواقع حلم معاش. فالأخوة وجدوا ههنا كما وجدوا هناك. وما يؤكد صحة ما تذهب إليه هو ما تركوه خلفهم، وفي كل مكان، من أثر فلسفي وروحاني لا يمكن لأحد تجاوزه و/أو إنكاره. والأخوة ما زالوا بيننا - حتى الآن - كما كانوا على مرِّ العصور، رغم تغيُّر الظروف والمعطيات وتغيُّر المفاهيم. وما يدفعك إلى مثل هذا التخمين هو ما تتلمسه من فكرٍ يعود اليوم، بكل محبة وثقة، ليواجه كلَّ الجهالات التي كانت وما زالت تسعى للتحكم بنا. وهذا ليس مجرَّد شعور. وتتساءل عن الفائدة من مثل هذه المحاولة التي قد لا توصلك إلى شيء في نهاية المطاف؟
مذهب التوحيد، أي إثبات أن مبدأ كل وجود مبدأ واحد من حيث الماهية، نقطة أساسية تشترك فيها المنقولات الأرثوذكسية كافة – حتى إنه يجوز لنا القول بأن تطابُقها في العمق يظهر حول هذه النقطة بالذات على أوضح ما يكون، مترجَمًا إلى تطابُق في التعبير حتى. فبالفعل، حين تكون المقصودة هي الوحدة يمَّحى كل تنوع؛ أما حين يتم النزول إلى الكثرة فتظهر اختلافات الأشكال، وتكون كيفيات التعبير نفسها عندئذ عديدة عديدَ ما تشير إليه، ومن شأنها أن تتنوع تنوعًا غير محدود لتتكيف مع ظروف الأزمنة والأمكنة. لكن "التوحيد واحد"، كما تقول العرب؛ أي أنه في كل مكان دومًا نفسه، ثابت ثبات المبدأ، مستقل عن الكثرة والتغير اللذين لا يقدران أن يؤثرا إلا في التطبيقات من رتبة عَرَضية.
-1- 1- القبالة تعني "تلقّي المعرفة السرّانية"، وهي حكمة سرّانية تعمد إلى تفسير الدين تفسيرًا صوفيًا. 2- مبادئها الرئيسة: تبحث هذه المبادئ في: أ- الكائن الأعلى والأسمى: طبيعته، رموزه وصفاته المميّزة من وجهة نظر اللغة. ب- أصل الكون: بنيته ونواميسه. ج- إبداع الملائكة والإنسان. د- مصير الملائكة والإنسان. ه- طبيعة الروح. و- العناصر الأولية الجوهرية، طبيعة الملائكة والأبالسة. ز- معنى، مضمون، وأهمية الشريعة الملهمة. ح- الرمزية الفائقة والسامية للأعداد. ط- الأسرار المميّزة والمتضمنة في الأحرف البصرية.
تدور هذه المحاضرة حول الدور الديني لرؤى المنام في الإسلام، وبالأخص حول طائفة منها فريدة في بابها: رؤية المؤمنين للنبي محمد. لقد أقرَّ المأثور الإسلامي من فوره، كما هو معلوم، أنه يجوز للرؤيا أن تصير ناقلاً خطيرًا لرسائل من رتبة فائقة للطبيعة. فالقرآن يؤكد ذلك مرارًا، كما في حالة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده، فصدَّق الرؤيا وأوَّلها كأمر إلهي (سورة الصافات 102، 105)؛ وقصة يوسف الصدِّيق، كما وردت في السورة الموسومة باسمه، تسرد رؤى يوسف بن يعقوب طفلاً (الآيات 4-6)، كما تسرد تأويله لرؤيتَي الفتَيَين السجينين معه في مصر (الآيتان 36، 41)، ثم أخيرًا تأويله لرؤيا فرعون نفسه (43-49)، بالتطابق مع النص التوراتي. وفي النص الكريم أيضًا إشارتان إلى خبرتين رؤيويتين كابدهما محمد نفسه: إسراؤه إلى القدس الشريف ودخوله والمسلمين المسجدَ الحرامَ مُحرمين، "محلِّقين رؤوسـ[ـهـ]ـم ومقصِّرين" (سورة الفتح 27). وصحة رسائل الرؤى مثْبتة في القرآن فيما يخص غير الأنبياء، وربما غير المؤمنين أيضًا، على اعتبار أن صاحبَي يوسف السجينين، وفرعون مصر كذلك (وثلاثتهم مشركون)، بحسب الآيات من سورة يوسف التي ذكرنا أعلاه، قد تبلغوا رؤًى تبيَّن بعد تأويلها أنها مُنذِرة بوقوع خطب جلل.
|
|
|