|
مفتاح
الثيوصوفيا
هيلينا
ب. بلافاتسكي
الباب
العاشر في طبيعة مبدئنا المفكِّر _____ سرُّ
الأنيَّة
السائل:
آنستُ من المقبوس الذي أوردتَه قبيل قليل من التعليم
البوذي تبايُناً ليتك تفسِّره. فقد جاء فيه
أن الـسكندها – بما فيها الذاكرة – تتغير
مع كلِّ تقمص جديد. ومع ذلك فثمة تشديد على أن
انعكاس الأعمار الماضية (المصنوعة برمَّتها،
على ما قيل لنا، من الـسكندها) "يجب أن
يبقى". حتى هذه اللحظة لم يتضح لذهني تماماً
بعدُ ما هو بالدقة الشيء الذي يبقى؛ فليتك
تشرح لي الأمر. ما هو؟ أهو ذلك "الانعكاس"
وحسب، أم تلك الـسكندها، أم أنها دوماً
تلك الأنية بعينها، ذلك الـمَنَس؟ الثيوصوفي:
لقد شرحت للتوِّ بأن المبدأ المعاود للتجسد،
أو ما ندعوه الإنسان الإلهي، لا يطالُه
فناءٌ طوال دورة الحياة: لا يفنى بوصفه كياناً
مفكراً، بل وحتى بوصفه صورة أثيرية. ما "الانعكاس"
إلا التذْكِرَة المُرَوْحَنَة،[1]
في أثناء الفترة الديفاخانية، للـشخصية
السابقة، أكانت السيد فلان أو السيدة فلانة
– التي تتواحد معها الأنية في أثناء تلك
الفترة. وبما أن هذه الفترة ليست إلا استمراراً للحياة
الأرضية، إذا جاز التعبير،
أو نقطةَ الأوج أو ذروةً، في سلسلة غير منقطعة، للَّحظات القليلة السعيدة من ذلك
العمر الذي مضى بعينه، فإن على الأنية أن
تتواحد مع الوعي الشخصي لتلك الحياة، إذا
ما بقي منه شيء. السائل:
هذا يعني أن الأنية، على الرغم من طبيعتها
الإلهية، تصرف كل فترة من هذه الفترات بين
تجسدين في حالة من الإظلام الذهني أو الجنون
المؤقت. الثيوصوفي:
لك أن تعتبرها كما تشاء. أما نحن، إذ نعتقد
بأنه، ماعدا الحق الأحد، ليس من شيء إلا
وهو وهم عابر – بما في ذلك الكون بأسره –
فلسنا ننظر إليها باعتبارها جنوناً، بل
كمتوالية أو انبساط للحياة الأرضية طبيعي
للغاية. ما الحياة البشرية؟ إنْ هي إلا حزمة
من أشد الخبرات تنوعاً، من الأفكار
والانفعالات والآراء المتغيرة يومياً. ففي
شبابنا مراراً ما نكرِّس أنفسنا متحمِّسين
لمثال، لبطل أو لبطلة ما، نحاول أن نقتدي به
أو بها ونحييه أو نحييها فينا. غير أننا، بعد
بضع سنوات، حينما تذوي نضارةُ مشاعرنا الفتية
وتثوب إلى رشدها، نكون أول مَن يضحك من
أوهامنا. ومع ذلك فقد كنا ذات يوم قد واحدْنا
شخصيتَنا مع شخصية المثال في ذهننا – خصوصاً
إذا كانت شخصية كائن حي – إلى حدِّ أن الأولى
كانت مندمجة بكليتها في الثانية وضائعة فيها.
فهل يصح أن نقول في امرئ في الخمسين إنه عينه
الكائن الذي كانه في العشرين؟ الإنسان الباطن
يبقى هو هو؛ أما الشخصية الحية الظاهرة فإنها
تتحول وتتغير تماماً. فهل يجوز لك أيضاً أن
تسمي هذه التغيرات في الحالات الذهنية
البشرية جنوناً؟ السائل:
فماذا تسميها أنت، وبالأخص، كيف تعلِّل
ديمومة الأول وزوال الثانية؟ الثيوصوفي:
إن عقيدتنا لبالمرصاد لمثل هذا السؤال،
والإجابة عليه ليست بالأمر العسير علينا.
يكمن المفتاح في وعي ذهننا المثنَّى، وكذلك
في الطبيعية المزدوجة للمبدأ الذهني. هناك،
من جهة، وعيٌ روحي، هو العقل المَنَسي
المتنوِّر بنور بودِّهي، ذلك الذي يدرك
المجرَّدات إدراكاً ذاتياً؛ وهناك، من جهة
أخرى، الوعي المُحِسُّ (النور المَنَسي
الأدنى) غير المنفصل عن دماغنا وحواسنا
الجسمانية. وهذا الوعي الأخير خاضع للدماغ
وللحواس الجسمانية، وهو، باعتباره يعوِّل
عليها بدوره بالمقدار نفسه، يجب بالطبع أن
يخبو ثم ينطفئ أخيراً مع اختفاء الدماغ
والحواس الجسمانية. وحده النوع الأول من
الوعي، الضارب بجذره في الأبدية، يبقى ويحيا
إلى الأبد، ويجوز، بالتالي، أن يُعتبَر خالداً. أما كل ما عداه فيندرج في باب الأوهام
العابرة. السائل:
فماذا تقصد حقاً بالوهم في هذه الحالة؟ الثيوصوفي:
هناك وصف جيد جداً له في المقالة المذكورة
لتوِّها في "الذات العليا". هاك ما يقول
فيها الكاتب: تتناغم
النظرية التي نحن في صددها (تبادل الأفكار بين
الأنية العليا والذات الدنيا) تناغماً
جيداً جداً مع النظر إلى هذا العالم الذي نحيا
فيه باعتباره عالم الوهم الفينوميني، حيث
المراتب الروحية للطبيعة، من جهة أخرى، هي
عالم أو مرتبة الحق النوميني. تلك الناحية من
الطبيعة التي تضرب النفس الدائمة فيها
بجذورها، إذا جاز التعبير، لهي حقيَّة أكثر
من تلك الناحية التي تتفتح فيها أزهارُها
الزائلة لبرهة وجيزة، تذوي بعدها وتسقط
متناثرة، بينما تسترد النبتة الطاقة على
الطلوع بزهرة جديدة. هَبْ أن الحواس العادية
كانت لا تدرك إلا الأزهار، وكانت جذور هذه
تضرب في حالة من حالات الطبيعة لا قِبَلَ لنا
بلمسها أو برؤيتها – أما يكون شأن الفلاسفة
في عالم كهذا، يتكهَّنون بوجود أشياء كالجذور
في مرتبة أخرى من مراتب الوجود، أن يقولوا عن
الأزهار بأنها ليست النباتات الحقيقية،
وبأنها ليست بذات أهمية غير نسبية، بل مجرد
ظواهر وهمية للحظة بعينها. هذا
ما أعنيه. ليس العالم الحق الدائم هو العالم
الذي تتفتح فيه أزهارُ الحيوات الشخصية
العابرة والزائلة، بل العالم الذي نجد فيه
جذر الوعي – ذلك الجذر الذي يتخطى الوهم
ويقيم في الأبدية. السائل:
ماذا تعني بالجذر المقيم في الأبدية؟ الثيوصوفي:
أعني بهذا الجذر الكيان المفكِّر، الأنية
التي تتجسد، سواء اعتبرناها "ملاكاً" أو
"روحاً" أو قوة. من كلِّ ما يقع تحت
مداركنا الحسية، وحده ما ينمو مباشرة من ذلك
الجذر الخفي في الأعلى أو يرتبط به يُكتَب له
أن يقاسمه حياته الخالدة. من هنا فإن كلَّ
خاطر أو فكرة أو شوق نبيل من خواطر وأفكار
وأشواق الشخصية التي تبلِّغها هذه الأنية، إذ
يصدر عن هذا الجذر ويتغذى منه، لا بدَّ أن
يصير دائماً. أما الوعي الجسماني، باعتباره
خاصية "المبادئ" المُحِسَّة – لكنْ
الدنيا (كاما–روبا أو الغريزة الحيوانية، وقد استنارت بالانعكاس المَنَسي
الأدنى) – أو النفس البشرية، فيجب أن يتلاشى.
فإن ما يبدي نشاطاً، والجسمُ غافٍ أو مشلول،
هو الوعي الأعلى، وإن تكن ذاكرتنا لا تسجل
خبرات كهذه إلا تسجيلاً ضعيفاً وغير دقيق (بسبب
آليتها)، ومراراً ما تفشل حتى في الاحتفاظ
بأدنى انطباع عنها. السائل:
ولكن كيف يكون مَنَس، مع أنكم تدعونه نوس،
أو "إلهاً"، بهذا الضعف في أثناء
تجسداته، بحيث يتمكن منه فعلياً جسمُه
ويكبِّله؟ الثيوصوفي:
في وسعي أن أفحمك بالسؤال نفسه فأسأل: "كيف
يصح لذاك الذي تعتبرونه "رب الأرباب"
والإله الحي الواحد أن يكون من الضعف بحيث
يجيز للشر (أو إبليس) أن ينال منه ومن سائر
مخلوقاته، سواء حين يمكث في السماء، أو في
أثناء الفترة التي تجسد فيها على الأرض؟"
يقيناً أنك سوف تجيب أيضاً: "ذلك سر، وحرامٌ
علينا أن نفحص عن أسرار الله." ولكن بما أن
فلسفتنا الدينية لا تحرِّم علينا ذلك[2]
فإني أجيب على سؤالك بأنه، اللهم إلا إذا
تنزَّل إلهٌ بصفته أفاتارا،[3]
ما من مبدأ إلهي ماخلا هذه الحالة، إلا
ويتعطَّل وينشلُّ بالمادة الحيوانية الهوجاء.
ستبقى للتغايُر اليد الطولى على التجانس على
مرتبة الأوهام هذه، وكلما كانت ماهيةٌ ما
أقرب إلى مبدئها–الجذر – التجانس الأوَّلي
– كان إنفاذُ هذه سلطانَها على الأرض أصعب.
القدرات الروحية والإلهية ترقد هاجعة في كلِّ
كائن إنساني؛ وكلما اتسع مدى بصيرته الروحية
كان حضور الإله فيه أقوى. ولكن لما كان البشر
الذي يشعرون بذلك الإله هم القلة النادرة،
ولما كانت الألوهة، كقاعدة وسطية، مغلولة
ومحدودة في فكرنا بتصوراتنا السابقة – تلك
الأفكار التي يلقِّنوننا إياها منذ الطفولة
– لذا فمن الصعب عليك جداً أن تفهم فلسفتنا. السائل:
أتكون هذه الأنية فينا هي إلهنا؟ الثيوصوفي:
قطعاً لا. فأيُّ "إله" ليس الألوهة
الكلِّية، بل شرارة وحسب من بحر النار
الإلهية الواحد. إلهنا فينا، أو "أبونا
الذي في السر"، هو ما ندعوه الذات العليا،
أتما. لقد كانت أنيتنا المتجسدة في أصلها
إلهاً، مثلها في ذلك مثل كافة الفيوض البدئية
عن المبدأ المجهول الواحد. لكنها منذ "سقوطها
في المادة" واضطرارها إلى التجسد طوال مدة
الدور، على التوالي، من البداية إلى النهاية،
لم تعد ذلك الإله الحر المغتبط، بل حاجٌّ
مسكين في سبيله إلى استعادة ما فَقَدَ. في
وسعي أن أجيبك إجابة أوفى بتكرار ما جاء عن الإنسان
الباطن في إيزيس سافر:[4] منذ
الأزمنة الموغلة في القِدَم كانت الإنسانية
ككل على قناعة دائمة بوجود كيان روحي شخصي
في الإنسان الجسماني الشخصي. وهذا الكيان
الباطن كان إلى حدٍّ ما إلهياً، بمقدار قربه
من التاج. وكلما كانت الوحدة أوثق كان
قَدَر الإنسان أسجى وكانت الشروط الخارجية
أقل خطورة. وهذا الاعتقاد ليس تزمتاً وليس
تطيُّراً، بل هو شعور غريزي دائم الحضور
بالتجاور مع عالم روحاني غير مرئي، على كونه
ذاتياً بالنسبة إلى حواس الإنسان الظاهر،
فإنه موضوعي تماماً بالنسبة إلى الأنية
الباطنة. علاوة على ذلك، كانوا يعتقدون بوجود
شروط خارجية وداخلية تؤثر في تقرير إرادتنا
لأفعالنا. لقد كانوا يأبون الجبرية؛ إذ إن
الجبرية تستلزم وجود سُنَّة عمياء تنصاع
لقدرة ما أكثر عمى أيضاً. كانوا بالأحرى
يؤمنون بـالقَدَر أو كرما، الذي
يحوكه كل امرئ حول نفسه خيطاً خيطاً، من
الميلاد حتى الممات، مثلما يصنع العنكبوت
نسيجه؛ وهذا القَدَر يوجِّهُه ذلك الحضورُ
الذي اصطلح بعضهم على تسميته بالملاك الحارس،
أو خليلنا الإنسان الباطن النجمي، الذي ليس،
في أغلب الأحيان، غير الجنِّي الشرير للإنسان
الجسداني أو الشخصية. لكليهما سلطان على
الإنسان، لكن لا بدَّ لأحدهما من أن يسود؛
ومنذ بدء العراك الخفي يقوم قانون التعويض
والجزاء الشديدُ والحتمي بالتدخل وأخذ
مجراه، متابعاً بأمانة تأرجُح الصراع. وعندما
يُحاك آخر خيط، ويبدو الإنسان وكأنه مقمَّط
بالشبكة التي صنعها، إذ ذاك يجد نفسه تماماً
تحت سلطان قَدَره الذي صنعه بنفسه.
وعندئذٍ إما أن يثبِّته هذا القَدَر
كالصَّدَفة الجامدة على الصخرة الراسية،
وإما أن يحمله بعيداً كالريشة في مهب الإعصار
الذي حرَّضتْه أفعالُه. ذلكم
هو قَدَر الإنسان – الأنية الحق، وليس
الإنسان الآلي، أي الصَّدَفَة التي
تُعرَف بهذا الاسم. فعلى عاتقه يقع أمر قهر
المادة. طبيعة
مَنَس المركَّبة
السائل:
لكنك كنت تريد أن تخبرني شيئاً عن طبيعة مَنَس
الجوهرية وعن العلاقة التي تربط بينه وبين سكندها
الإنسان الجسماني؟ الثيوصوفي:
إن هذه الطبيعة، الغامضة، البروتيوسية،[5]
المتعالية عن كلِّ إدراك، التي تكاد تكون
مبهمة في ارتباطاتها بالمبادئ الأخرى، هي
التي يصعب جداً إدراكُها، بل ويصعب أكثر
تفسيرها. مَنَس "مبدأ" وهو، إلى ذلك،
"كيان" وفردية أو أنية. إنه "إله"،
ومع ذلك مقضي عليه أن يخضع لدورة لا تنتهي من
التجسدات، يتحمل مسؤولية كلٍّ منها، ويشقى من
جراء كلٍّ منها. يبدو هذا كله متناقضاً بمقدار
ما هو محيِّر؛ ومع ذلك هناك مئات الناس، حتى
في أوروبا، يدركون هذا ملء إدراكه، لأنهم لا
يستوعبون الأنية في كلِّيتها وحسب، بل وفي
مظاهرها العديدة أيضاً. وأخيراً، إذا شئتُ أن
يكون كلامي مفهوماً، عليَّ أن أبدأ من
البداية وأعطيك لمحة موجزة عن نَسَب هذه
الأنية. السائل:
هيا، قل ما عندك. الثيوصوفي:
حاول أن تتخيل "روحاً"، كائناً سماوياً
– أياً كان الاسم الذي نطلقه عليه – إلهياً
في طبيعته الجوهرية، لكنه ليس من النقاء بما
يكفي لكي يكون واحداً مع الكل، وعليه،
لكي يحقق ذلك، أن يطهِّر طبيعته على هذا النحو
لكي يظفر أخيراً بتلك الغاية. إنه لا يستطيع
أن يقوم بذلك إلا بالمرور فردياً وشخصياً،
أي روحياً وجسمياً، عبر كلِّ خبرة وشعور يوجد
في الكون المتعدد والمتمايز. لذا فإن عليه،
بعد أن يكتسب خبرة كهذه في الممالك الدنيا،
ويصعد عالياً فأعلى على مراقي سلَّم الوجود
كلِّها، أن يكابد كلَّ تجربة في المراتب
البشرية. إنه، من حيث ماهيَّتُه نفسُها، فكر،
وهو، بالتالي، يُدعى في صيغة الجمع مانَسا
بُترا، "أبناء العقل (الكلِّي)". هذا
"الفكر" المتفرِّد هو ما ندعوه، نحن
الثيوصوفيين، الأنية الإنسانية الحق،
الكيان المفكِّر المحبوس في صندوق من اللحم
والعظم. ذلكم قطعاً كيان روحاني، وليس من مادة،
وكيانات كهذه هي الأنيات المتجسدة التي
تحيي حزمة المادة الحيوانية التي ندعوها
البشرية، والتي تدعى مانَسا أو "العقول".
لكنها، متى سُجِنَت، أو تجسدت، ازدوجتْ
ماهيَّتُها: أي أن أشعة العقل الإلهي
السرمدي، باعتبارها كيانات فردية، تتخذ
خاصية مزدوجة هي (أ) خاصيتها الفطرية الجوهرية،
العقل المتشوق إلى السماء (مَنَس الأعلى)،
و(ب) صفة التفكير البشرية، أو ملَكة التعقُّل
الحيواني، المُعَقْلَنَة بفضل تفوُّق الدماغ
البشري، مَنَس الأدنى أو النازع إلى كاما.
الأول ينجذب إلى بودِّهي، والثاني، ينزع
نحو الهبوط إلى مقعد الأهواء والرغبات
الحيوانية. لا مكان لهذه في ديفاخان، كما ليس
لها أن تخالط الثالوث الإلهي الذي يصعد ككلٍّ واحد
إلى الغبطة العقلية. ومع ذلك فإن الأنية، أو
الكيان المَنَسي، هي التي تتحمل مسؤولية كافة
خطايا الصفات الدنيا، مثلما يؤاخَذ الوالد
على معاصي ولده، مادام هذا الأخير غير مسؤول. السائل:
أيكون هذا "الولد" هو "الشخصية"؟ الثيوصوفي:
نعم، هو هي. لذا فإن التقرير بأن "الشخصية"
تموت بموت الجسم لا يقرِّر كلَّ شيء. فالجسم،
الذي لم يكن إلا الرمز الموضوعي للسيد فلان أو
السيدة فلانة، يضمحل مع كلِّ الـسكندها
المادية الخاصة به، بما هي التعبيرات المرئية
عنه. غير أن كل ما كان يكوِّن إبان الحياة
حزمةََ الخبرات الروحية، وأنبلَ
الأشواق، والمودَّاتِ التي لا تبيد،
والطبيعةَ السمحاء للسيد فلان أو للسيدة
فلانة، يتشبث طوال الفترة الديفاخانية بالأنية
التي تتواحد مع القسم الروحاني من ذلك الكيان
الأرضي الذي توفي متوارياً عن الأنظار. والممثل
يكون متشرباً للـدور الذي أدَّاه لتوِّه
إلى حدِّ أنه يحلم به الليل الديفاخاني
بطوله، وتستمر هذه الرؤيا حتى تحين ساعةُ
عودته إلى خشبة مسرح الحياة للقيام بدور آخر. السائل:
ولكن كيف لم تجد هذه العقيدة، القديمة قِدَم
الإنسان المفكِّر، كما تقول، أيَّ متسع لها –
في اللاهوت المسيحي، على سبيل المثال؟ الثيوصوفي:
أنت مخطئ لأنها وجدت مثل هذا المتَّسع.[6]
بيد أن اللاهوت قد شوَّهها، مثلما فعل بعقائد
أخرى كثيرة، حتى لم يعد بالإمكان التعرف
إليها. يسمي اللاهوتُ الأنيةَ الملاكَ
الذي يهبُنا الله إيَّاه ساعة ولادتنا للعناية
بنفسنا. ولكن بدلاً من سؤال ذلك "الملاك"
عن معاصي "النفس" المسكينة العاجزة فإن
هذه الأخيرة هي التي تُعاقَب، وفقاً للمنطق
اللاهوتي، على خطايا الجسد والذهن جميعاً! إن
النفس، نسمة الله اللامادية وخليقته
المزعومة، هي التي يُكتَبُ عليها، عبر
شعبذة ذهنية ولا أعجب، أن تتلظى في جحيم مادي
بدون أن تحترق أبداً،[7]
على حين ينجو "الملاك" معفى من الضرائب،
بعد أن يطوي قوادمَه البيض ويرطِّبها ببضع
دمعات. أجل، تلك هي "أرواحنا المسعِفة"،
"رسل الرحمة" الذين يُرسَلون، كما
يخبرنا الأسقف مَنْتْ: .........
من أجل إيفاء الخير لورثة
الخلاص، من أجلنا ما فتئوا يحزنون
حين نخطئ، ويبتهجون حين نتوب... ومع
ذلك يصير من الجلِّي أن جميع أساقفة العالم
قاطبة، إذا ما طُلِبَ منهم أن يقدموا تعريفاً
جامعاً مانعاً لما يقصدونه بالـنفس
ووظائفها، لعجزوا عن ذلك عجزهم عن إرشادنا
إلى أية شبهة منطق في الإيمان القويم! تعليم العقيدة في إنجيل
يوحنا
السائل:
قد يردُّ أشياع هذا المعتقَد بأن المذهب
القويم، وإن كان يَعِدُ الخاطئ غير التوَّاب
والآخذ بالمذهب المادي بوقت عصيب في جحيم
شديد الواقعية نوعاً ما، فإنه يمنحهم، من جهة
أخرى، فرصة للتوبة حتى آخر دقيقة. كما أنهم لا
يعلِّمون فناء الشخصية أو فقدانها – وهو
الأمر عينه. الثيوصوفي:
إذا كانت الكنيسة لا تعلِّم شيئاً من هذا
القبيل فإن يسوع، من جانب آخر، يفعل؛ وهذا أمر
هام، على الأقل في نظر الذين يُنزِلون المسيح
منزلة أعلى من المسيحية. السائل:
هل يعلِّم المسيح فعلاً شيئاً من هذا القبيل؟ الثيوصوفي:
نعم، يعلِّم، كما سيخبرك أيُّ عالِم غيبي
راسخ في العلم أو حتى قبالي. يعلِّم المسيح،
أو الإنجيل الرابع على كلِّ حال، العَوْد
للتجسد، كما يعلِّم فناء الشخصية – على أن
تتناسى الحرف الميت وتتمسك بالروح الباطنية.
تذكَّر الآيتين الأولى والثانية من الإصحاح
الخامس عشر من إنجيل يوحنا. عمَّ يتكلم المثل
إن لم يكن يتكلم على الثالوث الأعلى في
الإنسان؟ أتما هو الكرَّام، والأنية
الروحية أو بودِّهي (خريستوس) هي الكرمة،
في حين أن النفس الحيوانية والحيوية، الشخصية،
هي "الغصن": "أنا الكرمة الحق،
وأبي هو الكرَّام. كل غصن فيَّ لا يثمر يفصله...
وكما أن الغصن، إن لم يثبت في الكرمة، لا
يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك أنتم لا
تستطيعون أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ. أنا
الكرمة وأنتم الأغصان [...]. من لا يثبت فيَّ
يُلقَ كالغصن إلى الخارج فييبس، فيجمعون
الأغصان ويلقونها في النار فتشتعل."[8] دعنا
الآن نفسِّر على هذا النحو: أما وأننا لا نؤمن
بنيران جهنم التي يلذُّ للاهوت أن يراها
مبطِّنةً للوعيد الموجَّه إلى الأغصان،
نقول إن "الكرَّام" يعني أتما، رمز
المبدأ اللانهائي، اللاشخصي،[9]
في حين تمثل الكرمة النفس الروحانية، خريستوس،
بينما يمثل كلُّ "غصن" تجسداً جديداً. السائل:
ولكن ما البراهين التي بحوزتكم لتأييد مثل
هذا التأويل الاعتباطي؟ الثيوصوفي:
إن في علم الرموز العالمي ضمانة على صحَّته
وعلى كونه ليس اعتباطياً. يقول هرماس عن "الله"
إنه "غرس الكرمة"،[10]
أي خلق البشرية. وقد جاء في القبالة أن شيخ
الشيوخ، أو "الوجه الطويل"، يغرس
كَرْماً، حيث يرمز الكَرْم إلى البشرية،
والكرمة تعني الحياة. لذا فقد جاء أن روح "المسيح
الملك" تغسل ثيابها في الخمرة
اللدنية، منذ خلق العالم.[11]
والمسيح الملك هو الأنية المتطهرة بغسل
ثيابها (أي شخصياتها في العَوْد للتجسد) في الخمرة
اللدنية، أو بودِّهي. آدم، أو آ–دم هو
"الدم". وحياة الجسد هي في الدم (نِفِش،
النفس)، بحسب سفر اللاويين، الإصحاح 17.[12]
وآدم قدمون هو الابن الوحيد. ونوح أيضاً يغرس
كرمة[13]
– المهاد المجازي لبشرية المستقبل. وكنتيجة
لتبنِّي المجاز نفسه نجده وارداً في المخطوطة
النصرانية، حيث جاء ذكر سبع كَرْمات
تُنسَلُ – هي ذرِّياتنا السبع مع مخلِّصيها
أو بوذاواتها السبعة – التي تنبت من
إيوكَبَر–كسيفو، تسقيها فرهو (أو برشا) رابا.[14]
وحين سيعرج المباركون بين مخلوقات النور
سيبصرون إيافار–كسيفو، رب الحياة، والكرمة
الأولى.[15]
وهكذا فإن هذه الاستعارات القبالية تتكرر في الإنجيل
بحسب القديس يوحنا (15: 1). وليتنا
لا ننسى أن الأنية في المنظومة البشرية –
وحتى وفقاً لأولئك الفلاسفة الذين يجهلون
تقسيمنا السباعي – أو الإنسان المفكِّر
يدعى الكلمة، أو ابن النفس والروح. فكما
جاء في أحد المؤلفات الباطنية، "مَنَس
هو ابن الملك ...... والملكة ........ بالتبنِّي" (المرادفان
الباطنيان لـأتما وبودِّهي). إنه عند
أفلاطون "الإله–الإنسان" الذي يصلب
نفسه في الفضاء (أي دوام مدة دورة الحياة)
من أجل افتداء المادة. وهو يقوم بذلك
بالتجسد المرة تلو المرة، وبذلك يقود الإنسان
قُدُماً نحو الكمال، فيخلي المجال للأشكال
الدنيا لكي تتفتح عن أشكال عليا. وهو لا يني في
كلِّ حياة يطور نفسه ويساعد الطبيعة
الجسمانية على التقدم؛ وحتى حالة فقدانه
العرضية والنادرة جداً لإحدى شخصياته، في حال
كانت هذه الأخيرة خلواً تماماً من شرارة
واحدة حتى من الروحانية، تساعد في تقدمه
الفردي. السائل:
ولكن قطعاً إذا كانت الأنية تُسأل عن
معاصي شخصياتها فإنها تؤاخَذ أيضاً على ضياع
واحدة منها، أو بالأحرى على فنائها التام. الثيوصوفي:
قطعاً لا – إلا إذا لم تحرِّكْ ساكناً لدفع
هذا المصير المريع. ولكن إذا عجز صوتُها – صوت
ضميرنا – على الرغم من جهودنا كلِّها، عن
خرق جدار المادة، إذ ذاك فإن غلاظة هذه
الأخيرة الناجمة عن الطبيعة الناقصة للمواد
تصنَّف مع إخفاقات أخرى للطبيعة. حسب الأنية
قصاصاً أنها تُحرَم من الديفاخان، ولاسيما
اضطرارها إلى التجسد الذي يكاد يكون فورياً. السائل:
إن هذه العقيدة القائلة بإمكان خسارة المرء
نفسَه – أو شخصيته، كما تسمونها – لَتنهَضُ
ضد النظريتين المثاليتين لكلا المسيحيين
والأرواحيين معاً، على الرغم من أن سويدنبرغ
يتبنَّاها إلى حدٍّ ما فيما يسميه بـالموت
الروحي. أما هم فلن يقبلوها أبداً. الثيوصوفي:
ليس لهذا أن يبدِّل واقعة في الطبيعة بأيِّ
حال من الأحوال، إذا كانت واقعة فعلاً، أو
يحول دون وقوعها من حين لآخر. فالكون، بكلِّ
ما فيه، معنوياً كان أم ذهنياً، جسمانياً،
نفسانياً، أم روحانياً، مبني على قانون
مُحكَم التوازن والتناغم. وكما قيل أعلاه،[16]
ليس بإمكان القوة النازعة إلى المركز أن
تتجلَّى في الدوران المتناغم للأجرام
السماوية بدون القوة الطاردة من المركز؛
والأشكالُ جميعاً، كما وتقدُّمها، نتاجٌ
لهذه القوة المزدوجة في الطبيعة. أما الروح (أو
بودِّهي) فهي القوة الروحية الطاردة من
المركز، بينما النَّفْس (مَنَس) هي الطاقة
الروحية النازعة إلى المركز؛ وعليهما من أجل
إحداث نتيجة واحدة أن تكونا متحدتين
ومتناغمتين اتحاداً وتناغماً كاملين. هَبْ أن
الحركة للنفس الأرضية النازعة إلى المركز
الذي يجذبها قد انقطعتْ أو تأذَّت؛ أو هَبْ أن
عرقلةَ مادةٍ أثقل من أن تستطيع حملها، أو
أثقل مما يليق بالحالة الديفاخانية، قد
أوقفَتْ تقدُّمَها، إذا ذاك فإن تناغم الكل
سوف يختل. إن الحياة الشخصية، أو ربما
انعكاسها المثالي بالأصح، لا يمكن أن تستمر
إلا إذا أمدَّتْها القوةُ المزدوجة، أي
الاتحاد الوثيق بين بودِّهي ومَنَس
في كلِّ عَوْد للتجسد أو كلِّ حياة شخصية. إن
أدنى انحراف عن التناغم كفيل بالإخلال بها؛
وحين تختلُّ بما لا رجعة فيه فإن القوتين
تنفصمان لحظة الموت. ولا يطول الأمر بالصورة الشخصية
(التي تدعى كاما روبا أو مايافي روبا
على حدٍّ سواء) – التي يلتحق برعمُها الشخصي
بالأنية في الحالة العادية، ويتبعها إلى
ديفاخان ويضفي على الفردية الدائمة
لونَها الشخصي (مؤقتاً، إذا جاز التعبير)
– أن تُسحَب لكي تمكث في كاما لوكا ولكي
تفنى تدريجياً. فإن اللحظة المصيرية والحاسمة
لا تأتي إلا بعد موت الفاسقين تماماً
والمتجرِّدين من كلِّ روحانية والأشرار
الذين لم يعد بالإمكان افتداؤهم. فإذا أُحبِط
المجهودُ الأخيرُ اليائسُ الذي تقوم به الذات
الباطنة (مَنَس) في أثناء الحياة لتشدَّ
شيئاً من الشخصية إليها وإلى شعاع بودهِّي
الإلهية الساطع، وإذا أجيز لهذا الشعاع أن
يحتجب أكثر فأكثر عن قشرة الدماغ الجسماني
التي تزداد كثافة، فإن الأنية الروحانية
أو مَنَس، حالما تتحرر من الجسم، تبقى
منقطعة تماماً عن جثمان الشخصية الأثيري؛
وهذا الأخير، أو كاما روبا، إذ ينقاد
لانجذاباته الأرضية، فإنه ينشدُّ إلى هاذِس
– الذي ندعوه الـكاما لوكا – ويلبث فيه.
تلك هي "الأغصان اليابسة" التي ذكر يسوع
أنها لم تثبت في الكرمة. بيد أن الفناء ليس
أبداً آنياً، وقد يستغرق إتمامُه أحياناً
قروناً. على أن الشخصية تبقى هناك في صحبة بقايا
أنيات شخصية أوفر حظاً، وتصير معها صَدَفَة
وعنصرية. وكما جاء في إيزيس، فإن
هاتين الفئتين من "الأرواح" – الأصداف
والعنصريات – هي التي تؤدي دور "النجوم"
الهادية على الخشبة الروحية لمسرح "التجسمات".[17]
وكن على ثقة من أنها ليست هي التي تتجسد؛ لذا
فإن قلة قليلة من هؤلاء "الراحلين الأعزاء"
يعرفون شيئاً عن العَوْد للتجسد، وبذلك
يضللون الأرواحيين. السائل:
ولكم أليست مؤلفة إيزيس سافر متهمة بأنها
هاجمت التقمص؟ الثيوصوفي:
أجل، ولكن متهميها أناس أساؤوا فهم ما قيل.
لدى وضع ذلك المؤلَّف لم يكن أحدٌ من
الأرواحيين يؤمن بالتقمص، لا الإنكليز منهم
ولا الأمريكيين، وما جاء في الكتاب عن العَوْد
للتجسد كان موجَّهاً ضد الأرواحيين
الفرنسيين الذين لا تعادل نظريتُهم في
لافلسفيَّتها ولامعقوليَّتها إلا التعليم
المشرقي في منطقيَّته وتماسك حقيقته.
فالآخذون بالتقمص من مدرسة ألان كاردِك
يؤمنون بعَودٍ للتجسد اعتباطي وفوري. عندهم
يمكن للأب الميت أن يتجسد في ابنته التي لم
تولد بعدُ، وهلم جرا. ليس لديهم لا ديفاخان،
ولا كرما، ولا أية فلسفة من شأنها أن تسوِّغ
ضرورة الولادات الجديدة المتتالية أو تبرهن
عليها. فكيف يمكن لمؤلِّفة إيزيس أن تحاجج
ضد العَوْد الكرمي للتجسد، ذي الفواصل
المديدة التي تتراوح بين 1000 و1500 سنة، وهذه
العقيدة هي من معتقدات البوذيين والهندوس
أساسُها؟ السائل:
إذن فأنتم ترفضون نظريات الأرواحيين،
فرنسيين وأنكلوسكسون، جملة وتفصيلاً؟ الثيوصوفي:
ليس جملةً، إنما نرفض ما يتعلق بالمعتقدات
الأساسية الخاصة بكلٍّ من الفئتين. كلتاهما
تعوِّل على ما تقوله "أرواحُهما"؛ وكلٌّ
منهما يعارض الأخرى بمقدار ما نعارِض، نحن
الثيوصوفيين، كلتيهما. الحقيقة واحدة؛ وحين
نسمع الأشباح الفرنسيين يبشِّرون بالعَوْد
للتجسد، والأشباح الإنكليز ينفون العقيدة
ويندِّدون بها، نقول إن "الأرواح"
الفرنسية أو "الأرواح" الإنكليزية تهرف
بما لا تعرف. أما نحن فنؤمن مع كلا الفريقين
بوجود "أرواح"، أو كائنات غير مرئية
تتمتع بكثير أو بقليل من الفطنة. ولكن، في حين
أن أنواعها وأجناسها جحفل،[18]
فإن خصومنا لا يقرُّون بوجود أرواح غير "الأرواح"
البشرية المتجرَّدة من جسومها التي تنتمي
غالبيتها، على ما نعلم، إلى فئة الأصداف
الكامالوكية. السائل:
إنك تبدي الكثير من المرارة حيال الأرواح.
فبما أنك بسطتَ لي نظراتكم والأسباب التي
تحول دونكم والاعتقاد بتجسُّم الأرواح
المتجرِّدة من أجسامها – أو "أرواح الموتى"
– أو بإمكان الاتصال بها مباشرة في جلسات
استحضار الموتى، هل لك أن تنوِّرني فيما
يتعلق بواقعة أخرى أيضاً؟ لم لا يكلُّ بعض
الثيوصوفيين من الحديث عن مبلغ خطر التواصل
مع الأرواح والوساطة؟ هل لديهم أسباب وجيهة
تدعوهم لذلك؟ الثيوصوفي:
ينبغي أن نفترض ذلك. من جانبي عندي مثل هذه
الأسباب. فنظراً لمعرفتي اللصيقة، الممتدة
على نصف قرن، لهذه "المؤثرات"
اللامرئية، إنما الملموسة بحيث لا سبيل إلى
إنكارها، بدءاً من العنصرانيات الواعية،
فالـأصداف نصف الواعية، نزولاً حتى
الأشباح عديمة الحس التي ليست لها صفة تُذكَر
من كل الأنواع، أدَّعي بأن لنظراتي وزناً في
هذا المجال. السائل:
هل لك أن تأتي بمثال أو بأمثلة تبيِّن لماذا
يجب أن تُعتبَر هذه الممارسات خطرة؟ الثيوصوفي:
يتطلب هذا من الوقت أطول مما في وسعي أن
أخصِّص لك. على كلِّ سبب أن يُبَتَّ فيه
بالنتائج التي تنجم عنه. فلتستعرِض تاريخ
الأرواحية طوال الأعوام الخمسين الأخيرة،
منذ عودتها إلى الظهور في هذا القرن في أمريكا
– واحكم بنفسك فيما إذا كانت قد جلبت على
أشياعها خيراً أو ضرراً أكثر. أرجوك افهمني.
لست أهاجم الروحانية الحق، بل الحركة الحديثة
التي تحمل ذلك الاسم، وتلك الفلسفة المزعومة
التي اختُلِقَت لتعليل ظواهرهم. السائل:
أفلا تعتقد بوجود ظواهرهم على الإطلاق؟ الثيوصوفي:
لأني أستند في اعتقادي بوجودها إلى أسباب
أكثر من وجيهة، ولأني أعرف أنها – ما خلا بعض
حالات الاحتيال العَمْد – صحيحة صحة أننا
نحيا أنت وأنا، ينفر كياني برمَّته منها.
أكرِّر أنني لا أتكلم إلا على الظواهر
الجسمانية وحدها، وليس على الظواهر الذهنية
أو حتى النفسانية. الطير على أشكالها تقع.
أعرف شخصياً عدداً من الرجال والنساء
المترفعين عن الدنايا، الأنقياء، الأخيار،
ممَّن صرفوا سنوات من حياتهم بإرشادٍ مباشر،
وحتى حماية، من "أرواح" عليا، سواء
متجردة من جسومها أو كوكبية. لكن هذه
العقول ليست من فئة جون كنغ وإرنست التي تظهر
في حجرات جلسات استحضار الأرواح. فهذه العقول
العليا لا ترشد البشر وتقودهم إلا في حالات
نادرة استثنائية، إذ تنجذب إليهم وتنشدُّ
مغناطيسياً بفضل الماضي الكرمي للفرد. لا
يكفي لجذبها الجلوسُ "بانتظار ما سيجري"!
فذلك لا يفتح الباب إلا لحشد من "الأشباح"
– طيِّبها، شريرها، ولامباليها – التي يمسي
الوسيط عبداً لها مدى الحياة. وإني لأرفع صوتي
ضد مثل هذه الوساطة والخِلطة المشاعيتين مع
القطارب[19]
الخبيثة، وليس ضد التصوف الروحي. فهذا مشرِّف
وقدسي؛ بينما الأوْليين من طبيعة الظواهر
نفسها التي حُكِمَ من جرائها بالعذاب قبل
قرنين على ذلك العدد الغفير من الساحرات
والمشعوذين. اقرأ غلانفل وغيره من المؤلفين
ممَّن كتبوا في موضوع الشعوذة وستجد مدوَّنةً
في كتاباتهم مثيلات غالبية – إن لم نقل كافة
– الظواهر الجسمانية لـ"أرواحية" القرن
التاسع عشر. السائل:
هل ترمي إلى التلميح بأنها شعوذة ليس إلا؟ الثيوصوفي:
ما أرمي إليه هو أن كل هذا التعامل مع الموتى،
واعياً كان أم غير واعٍ، هو استحضار للموتى،
وهو ممارسة شديدة الخطورة. فقبل موسى بعصور
كان مثل هذا الاستدعاء للأموات يُعتبَر لدى
جميع الأمم الذكية أمراً شائناً وقاسياً،
بالنظر إلى أنه كان يقلق راحةَ النفوس ويعرقل
تفتحها التطوري نحو حالات أرفع. ما انفكت
الحكمة الجمعية للقرون الماضية قاطبة تندِّد
بشدة بمثل هذه الممارسات. وأخيراً، سأقول لك
ما لم أنِ أكرِّره شفاهاً وكتابةً طوال خمسة
عشر عاماً: فعلى حين تهرف بعض "الأرواح"
المزعومة بما لا تعرف، وتكرِّر – مثل
الببغاوات – ما تجده في أدمغة الوسيط وغيره
من الناس ليس غير، فإن بعضها الآخر شديد
الخطورة، ولا يملك أن يزين للمرء إلا الشر.
هاتان واقعتان بيِّنتان. اذهب إلى حلقات ألان
كاردِك الأرواحية تجدْ "أرواحاً" تصرُّ
على صحة التقمص وتتكلم مثل كاثوليك رومان
مطبوعين؛ ثم توجَّهْ إلى "الراحلين
الأعزاء" في إنكلترا وأمريكا تسمعهم ينفون
التقمص صراحة، مندِّدين بمن يعلِّمونه،
متمسِّكين بنظرات البروتستانتية. إن خيرة
وسطائكم وأقدرهم عانوا جميعاً في صحة أجسامهم
وأذهانهم. تفكَّر في النهاية التعسة لتشارلز
فوستر الذي قضى نحبه مجنوناً يهذي في مصحة
للأمراض العقلية؛ تفكَّر في سليد، المصروع؛
في إغْلِنتُن – خيرة الوسطاء في بريطانيا
اليوم – الذي يكابد الداء عينه. تذكَّر حياة د.
د. هوم، الرجل الذي كان ذهنُه ممتلئاً سخطاً
ومرارة والذي لم يفُهْ قط بكلمة طيبة واحدة عن
كلِّ من كان يشتبه في امتلاكه قدرات نفسانية
وكان يسفِّه جميع الوسطاء الآخرين حتى مماته
المرير. لقد عانى كالفن[20]
الأرواحية هذا سنين طوال من داء شوكي رهيب،
أصابه من جراء مخالطته للـ"أرواح"، ومات
محطماً تماماً. تفكَّر أيضاً في مصير المسكين
واشنطن آيرفنغ بِشوب التعس. لقد عرفتُه في
نيويورك، يوم كان في الرابعة عشر، وكان
وسيطاً، ما في ذلك ريب. صحيح أن الرجل المسكين
احتال على "أرواحه"، فأطلق عليها تسمية
"النشاط العضلي اللاواعي"، الأمر الذي
هلَّلت له جميعُ هيئات المغفَّلين من
متضلِّعين وعلماء والذي عبَّأ جيبه. ولكن اذكروا
محاسن موتاكم[21]
- كانت ميتتُه محزنة. لقد حرص جاهداً على إخفاء
نوباته الصرعية – أول أعراض الوساطة
الحقيقية وأشدها – ومن يدري إن كان ميتاً أو
في غيبوبة حين عوين بعد "مماته". أقرباؤه
يصرون أنه كان ما يزال حياً، إذا أخذنا برقيات
وكالة رويترز على محمل التصديق. وأخيراً دونك
الشقيقتين فوكس، المحنَّكتين بين الوسطاء،
مؤسِّستي الأرواحية الحديثة ومحرِّكتيها
الأوليين. فبعد أكثر من أربعين عاماً من
التواصل مع "الملائكة"، جعلتهم هذه "الملائكة"
مخبولتين لا أمل في برئهما، تندِّدان الآن،
في محاضرات علنية، بعمل وفلسفة حياتهما
برمَّتها بوصفها خديعة. فهل لك أن تقول لي
أيَّ ضرب من الأرواح كان ذاك الذي لقَّنهما؟ السائل:
أيكون استنتاجك هذا صائباً؟ الثيوصوفي:
ماذا تستنتج من انهيار خيرة طلاب مدرسة معينة
للغناء نتيجة إرهاق حناجرهم وتقرُّحها؟ لا
بدَّ أنك سوف تستنتج أن النهج المتَّبع كان
سيئاً. لذا أعتقد أن الاستنتاج منصف
للأرواحية سواء بسواء حين نشاهد خيرة وسطائها
واقعين فريسة مصير كهذا. ليس في وسعنا إلا أن
نقول: فليبُتَّ المهتمون بالأمر في شجرة
الأرواحية من ثمارها، وليتفكَّروا في العبرة.
نحن الثيوصوفيين اعتبرنا الأرواحيين دوماً
إخواناً لنا، لديهم ميولنا الصوفية عينها؛
أما هم فقد اعتبرونا دوماً أعداء. ولما كنا
مؤتمَنين على فلسفة أعرق فقد حاولنا من
جانبنا أن نساعدهم ونحذِّرهم؛ لكنهم جازونا
بالشتم وبالطعن فينا وفي دوافعنا بكل السباب
الممكن. ومع ذلك فإن خيرة الأرواحيين
الإنكليز تقول بما نقول به تماماً حيثما
تناولوا معتقدهم تناولاً جدياً. اسمع م. أ.
أوكسُن يعترف بهذه الحقيقة: "الأرواحيون
مغالون في الميل إلى القول حصراً بتدخل أرواح
خارجية في عالمنا هذا وإلى تجاهل قدرات
الروح المتجسِّدة."[22]
فلماذا يُطعَن فينا، إذن، ونسفَّه على قولنا
بالشيء عينه بالضبط؟ من الآن فصاعداً لن يكون
لنا دخل في الأرواحية، ولنعد الآن إلى التقمص. *** [1]
أي المصعَّدة إلى العالم الروحي. (المترجم) [2]
يقول بولس الرسول (1 كورنثوس 2: 10 و11): "...
الروح يفحص عن كلِّ شيء حتى أعماق الله. فمن
ذا الذي يعرف أسرار الإنسان غير الروح الذي
في الإنسان؟ وكذلك ما من أحد يعرف أسرار
الله غير روح الله...". (م) [3]
كلمة سنسكريتية تتضمن معنى "النزول"
وتشير إلى كافة تجسدات الإله في بشر. (م) [4]
Vol. II., p. 593. [5]
نسبة إلى الإله الإغريقي بروتيوس Proteus الذي كان بمقدوره اتخاذ أيِّ شكل يريده،
في أيِّ وقت. (م) [6]
جاء في أحد مقالات الثيوصوفي الكبير وليم ك.
دجدج: "[...] وبعد التلاميذ جاء آباء
الكنيسة الأوائل، ومن بينهم أوريجينس الذي
علَّم عقيدة العَوْد للتجسد. لكن نفوذه
المتنامي ألَّب عليه غيرة بعض الجهَّال من
الآباء، وفي مجمع القسطنطينية عام 500 ب م
حرَّموا العقيدة التي كان يعلِّمها بوصفها
مضلِّلة، وبذلك ضاعت على العالم الغربي."
(م) [7]
لأنها من "طبيعة أسبستوسية" [مادة
مقاومة للاحتراق]، على حدِّ التعبير البليغ
والملتهب لترتوليانوس إنكليزي حديث. [8]
إنجيل يوحنا 15: 1-6. (م) [9]
إبان تلقين الأسرار، كان كبير الكهنة
الأقدسين، "الآب"، هو الذي يزرع
الكرمة. ولكلِّ رمز سبعة مفاتيح للولوج
إليه. أما الذي كان يُكاشَف بالملأ الأعلى
فكان يدعى دوماً "أباً". [10]
Hermas, Pastor, silmilitude V, 6. (م) [11]
Zohar,
comm. on the Genesis, XL., 10. [12]
الصحيح: "لأن نفس الجسد هي في الدم
ولذلك جعلته لكم على المذبح ليكفَّر به عن
نفوسكم لأن الدم يكفِّر عن النفس." (الأحبار
17: 11) (م) [13]
جاء في سفر
التكوين 9: 20: "... رأيت كأن جفنة كرم بين
يدي، وفي الجفنة ثلاثة قضبان، وكأني بها
أفرعتْ وأقلعت ونضجت عناقيدها وصارت عنباً."
نذكِّر أيضاً ببيت ابن الفارض الشهير: "شربنا
على ذكر الحبيبِ مدامةً سَكِرْنا بها من
قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ." (م) [14]
Codex Nazaræus,
Vol. III., pp.60, 61. [15]
Ibid., Vol. II., p. 261. [16]
Vide Isis Unveiled, Original edition, Vol. I, pp. 318-9. [17]
المقصود بالـ"تجسمات" تلك الهيئات
المادية التي تظهر في جلسات الأرواحيين،
فيظنونها "أرواحاً" تتخذ صورة مادية،
بينما هي ليست في الواقع إلا تلك الأصداف أو
الأجداث النجمية التي تتحرق إلى تلبية
الرغبات والشهوات غير المشبعة في الحياة
الشخصية للمتوفى باستعمالها الأجسام
اللطيفة للمشاركين في الجلسة. (م) [18]
استعارة من الإنجيل وردت فيه عند ذكر حادثة
إخراج الشياطين من الممسوس (مرقس 4: 9)، وتعني:
"كثيرة جداً". (م) [19]
فئة من "العفاريت" في التراث الشعبي
الأوروبي. (م) [20]
إشارة إلى جان كالفن (1509-1564)، أحد أئمة
المذهب البروتستانتي وناشر الكنيسة
الإصلاحية في فرنسا وسويسرا، الذي عُرِفَ
بتكفيره لأتباع المذاهب الأخرى كافة؛
والمقصود أن سلوك الوسيط المذكور في نطاق
الأرواحية كان شبيهاً بسلوك كالفن في نطاق
الدين. (م) [21]
باللاتينية في الأصل: De mortius nil nisi bonum. (م) [22]
Second Sight, “Introduction.” |
|
|