يأتي
الدرويد (كهنة الطبيعة في بلاد الغال "فرنسا القديمة") بعد المصريين،
في عبادة إله واحد. وقد شيدوا للإله مذابحًا من الحجر الخام من دون صوت
مطرقة، وأقاموا طقوسهم في حقول مفتوحة، وآمنوا بوجود سماء للأخيار،
ووجود جحيم للأشرار، وآمنوا بخلود الروح. أكرم الدرويد آلهة كثيرة
كاليهود والمسيحيين الذين أتوا بعدهم، ولكن لم يكن ذلك وفقًا لأصول
العبادة. فقد آمنوا بالثالوث الإلهي في ثلاث صفات، وقاموا بإسداء إكرام
لكل واحدة من هذه الصفات.
لدى ديانة الدرويد وجهان: عبادة الإله الواحد، والإكرام لآلهة النجوم،
والعناصر، والهضاب، والأشجار. وكان المسارَرون مطَّلِعين على طقوس الكاباري
الفينيقي
Cabari Fenicio
وامتلكوا عقائد باطنية، واحتفالات دينية، ولكنهم لم يعطوا الشعب إلا ذلك الذي
كان بوسعهم جعله مفيدًا ونافعًا، وليس ذلك الذي لم يكن فهمه ممكنًا.
في
سياق تحليلنا لشخصية الإله التوراتي كشفنا عن الطابع المركب لشخصيته
باعتبارها نتاجًا لتعددية الآلهة الكنعانية، وعن الانقسامات الداخلية
في هذه الشخصية القلقة وميولها المتناقضة، وعن الطريقة التي عبَّرت بها
عن كل جانب من جوانبها في علاقتها مع البشر. وقادنا التحليل إلى اكتشاف
خمسة مستويات متراكبة في داخله أضفنا إليها في الدراسة السابقة مستوى
يعود إلى أكثر أشكال الحياة الدينية للصحراوية بدائية، وهو الاعتقاد
بالجن وقواها الغامضة. وفي الحقيقة فإن هذه المستويات جميعًا قد تراكبت
فوق المستوى التحتي الأكثر قدمًا، والذي ينتمي إلى يهوه إله البراكين
الذي جاءت به جماعة الخروج من الصحارى الجنوبية، حيث كان يُعبد من قبل
الجماعات الرعوية ومن قبل سكان المحطات التجارية عند الواحات، الذين
كانوا يكسبون عيشهم من خدمة القوافل التجارية الصاعدة من مصر ومن بلاد
العرب. وباستخدام مصطلحات التحليل النفسي الفرويدي يمكن وصف هذا
المستوى التحتي القديم بأنه "اللاشعور" أو "الخافية" التي تحتوي على كل
ما هو سلبي ومكبوت، والتي قد تقتحم عناصرها ساحة "الشعور" أو "الواعية"
وتتسبب في شتى أنواع الاضطرابات النفسية للإله التوراتي الذي لم ينجح
بعد في لم شتات انقساماته الداخلية.
14- ماضي الإنسان ومستقبله
ما أن نفهم الحقيقة القائلة بأن الإنسان قد بلغ وضعه الحالي عبر سلسلة طويلة
ومتنوعة من الحيوات، حتى يبرز تلقائيًا في أذهاننا سؤال عن مدى قدرتنا على
امتلاك أية معلومات تخص ذلك التطور المبكر، والتي ستكون بالتأكيد مثيرة
لاهتمامنا. ولحسن الحظ فإن مثل هذه المعلومات متوفرة، ليس فقط عن طريق الموروث
الشفهي، بل من خلال وسيلة أخرى أكثر مصداقية بكثير؛ وهي التكهن النفسي.
ولديَّ هنا مجال واسع للإسهاب حول عجائب هذه الطريقة، إلاَّ أن عليَّ القول
ببساطة إن ثمة أدلة كثيرة تكشف عن عدم إمكانية حدوث أمرٍ دون أن يتم تسجيله على
نحو دائم - وإن هناك نوعًا من الذاكرة في الطبيعة نستطيع أن نستعيد منها بدقة
مطلقة شريطًا مُصوَّرًا حقيقيًا، كاملاً ومتقنًا، عن أي مشهد أو حدث جرى منذ
نشأة العالم.
يغريني
ترديد حكاية تلميذ كبير ذهب إلى الله طالبًا منه أن يعلمه الحقيقة. قال
الإله "الفقير": "صديقي، اليوم حار جدًا، أرجوك، اذهب وأحضر لي كوب
ماء". خرج التلميذ وطرق باب أول بيت عثر عليه في طريقه، فالتقى هناك
فتاة جميلة فتحت له الباب. أُغرِمَ بها التلميذ، فتزوج الاثنان وأنجبا
عدة أبناء. وذات يوم بدأ هطول الأمطار، وأمطر الجو من دون توقف، ففاضت
الأنهار، وغُمِرَت الطرقات، وجُرِفَت البيوت بالمياه. تمسك التلميذ
بامرأته، ووضع أبناءه على كتفيه، وعندما وجد نفسَه مجروفًا بالسيل،
صاح: "يا سيد، أتوسل إليك، خلصني!" أجاب السيد: "ماذا عن كوب الماء
الذي طلبتُه منك؟".
يُفتح
الخطاب الأكبري على أنساقٍ فكرية إنسانية عاصرته أو سبقته دون أن يفقد
إبداعيته وخصوصيته، ومن بين القضايا التي تبرز عبرها خصوصية تفكير
الشيخ الأكبر مسألة الأنوثة والذكورة.
تحضر هذه المسألة في الفكر السابق عن ابن عربي دون الإعلان عنها لتتخذ مع صاحب
الفتوحات طابعها المعرفيَّ بشكل صريح؛ فيخترق الزوج المفاهيميُّ -
الأنوثة/الذكورة - الفكر الأكبري على المستوى الأنطولوجي والكسمولوجي
والأنثروبولوجي والمعرفي واللغوي... ويحضر بشكل واسع وعميق إلى حد يمكن اعتبار
هذا الخطاب هو خطاب أنوثة. المؤشر على صحة هذه الفرضية ما يرمز إليه ابن عربي
في الصفحة الأولى من صفحات الفتوحات حينما يعرض لمناسبة كتابته لمؤلفه،
وهي مشاهدته القلبية للنبي والصحابة والأنبياء محيطين بمجلسه، وحين يصل إلى ذكر
عيسى يقول: