|
إضاءات
لست أخفي أنِّي (افتراضيًّا) – كمعظم أبناء مدينتي – غير معجب بِمَنْ يحكمونها ويديرون شؤونها، وأنِّي، في أحسن الأحوال، قد مللتُهم، ما يجعلني أحلم بتغييرهم. ولست أخفي أيضًا أنه (افتراضيًّا طبعًا، وبالتأكيد) لو كان في وسعي التعبير عن رأيي هذا في حرية، ولو كان في وسعي العمل على تغيير واقع الحال هذا، لسارعت إلى القيام بذلك في حدود الممكن، وبأفضل الطرق وأكثرها رقيًّا وإنسانية، فانتخبت لقيادة مدينتي، من بين مرشحين أحرار فعلاً، مَن أعتقد أنهم الأفضل (من حيث المناقب ومن حيث البرامج التي يضعونها) لتمثيلي وللتعبير عن مصالحي وتطلعاتي في إدارة شؤونها. ولكن...
بعد عشرة أيام من السجن يطل وجه وائل غنيم أمام الحشد مستغربًا شبه مذعور من حماسة المستقبلين: لست بطلاً، لست بطلاً! والبطولة لا أحد يدعيها من شباب هذه الحركة، مع أن أداءها المتقن الذي لم يتعثر مرة واحدة يوحي ببطولة مدهشة. فلعل سرها الحميم في هذا الموقف الجماعي المنبعث من وعي جميل عنوانه العقد المدني. ينبئ نجاح الحركة الشعبية في مصر بعد تونس بمرحلة جديدة حبلى بتحولات جذرية لم تتكشف ملامحها بعد ولن تقوى المؤسسة التقليدية مهما بلغت سطوتها على تجييرها أو ردعها. إنها تشكل منعطفًا لا مرد عنه، بل ثورة في مفهوم الثورة التقليدي منذ بداياتها عام 1789 في فرنسا، تعيد تأسيسه على العقد المدني بعد أن قام واستتب في المجتمع العربي على نخبوية التنوير المتماهية أحيانًا مع نبوية تقدس الفرد، من قائد ملهم إلى مفكر فذ إلى نبي.
مؤخرًا أعلن كلٌّ من ولسون ولويد جورج عن عزمها الذي لا يلين لمواصلة القتال حتى النصر النهائي، وفي الهيئة التشريعية الإيطالية عومل الاشتراكي مرغاري كمجنون لأنه تكلم بضعة كلمات إنسانية طبيعية. واليوم وبثقة غبية بالنفس ينفي مبعوث وولف الإشاعة عن وجود مُقترح ألماني جديد للسلام: "ألمانيا وحلفائها ليس لديهم أدنى سبب لكي يكرروا عرضهم الشهم للسلام". بعبارة أخرى يستمر الوضع كما كان عليه، وإذا ما حاولتْ ورقة عشب وديعة أن تشق التربة فإن جزمة عسكرية سوف تسحقها على الفور. أيضًا، وفي الوقت نفسه، نقرأ بأن مفاوضات السلام قد بدأت في برست–لتوفسك، وأن السيد كوهلمن افتتح الجلسة بالإشارة إلى أهمية عيد الميلاد، وتحدَّث بكلمات من الإنجيل عن السلام على الأرض، فإذا كان يعني ما يقول، وإذا كان لديه أدنى فهم لتلك الكلمات الهائلة، فإن السلام محتوم. لكن، لسوء الحظ، فإن تجربتنا عن الاقتباسات المأخوذة من الكتاب المقدس التي يتفوه بها رجال الدولة غير مشجعة حتى الآن.
قليلةٌ جدًا، في حدود علمي، إن لم تكن منعدمة، تلك الدراسات التي تعالج، فلسفيًا وحقوقيًا، مفهوم السلطةِ عندنا نحن العرب، ومكانَ الإنسان فيها، ومعناها، ثقافيًا واجتماعيًا وحضاريًا (السلطة شيء، والسياسة شيء آخر). الأبحاث التي قام بها خبراؤنا في علوم السياسة والدولة، لا تتعدى وصف الممارسات، وسَرْدَ الأشكال، وكيفيات تداول الحكم: بقيت في حدود الظاهر المباشر، ولم تتجاوزها إلى الخوض في الأسس والدلالات. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحاجة مُلِحَّةً إلى أن نعرف لماذا تتغيَّر أشكال الحكم عند العرب، ويتغير رجالُه، لكن السلطة تبقى هي هيَ: واحديَّةً، وطغيانيَّة؟ ولماذا لم نَنجحْ، نحن العرب، منذ خمسة عشر قرنًا حتى الآن، في إقامة دولةٍ مدنيَّة، بالمعنى الحقوقي الإنساني المعروف، والمتَّفق عليه، كونيًا؟
في القرن الثامن عشر، وفي انطلاقة الدفاع عن سلامة النفس والجسد في أوروبا، نشأ تحالف بين داعية حنبلي من آل شيخ ومحمد بن سعود على قاعدة الدم بالدم والهدم بالدم باستعارة جملة محمد بن عبد الوهاب نفسه. وكما يقول مؤرخو الوهابية، فقد أنكر ابن عبد الوهاب الشرك والبدع، و"أمر الناس بالمعروف، وألزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه، ألزم به وعزر عليه إذا تركه ونهى الناس عن المنكرات، وزجرهم عنها، وأقام حدودها. مثل قتل الساحر وجلد المخمور وقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن". كان يمكن لهذه المدرسة أن تخمد في جزيرة العرب، إلا أن الحرب المقدسة التي خاضتها قامت بدور تاريخي يذكر لها هو توحيد الجزيرة العربية. ثم جاءت الثروة النفطية لتجعل منها إيديولوجية محافظة ضرورية للتصدير لمواجهة المد التقدمي في العالمين العربي والإسلامي.
أجدني، بادىء ذي بدء، أعود، في هذا الخصوص، إلى ما عبَّرتْ عنه، في منتهى البلاغة، سيمون ڤايل حول حاجة الإنسان إلى الأمن حين قالت: الأمن حاجةٌ أساسية للنفس. ويعني الأمنُ عدمَ وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب، إلاَّ إثْرَ اتِّفاق ظروف عرَضية ولفترات نادرةٍ وقصيرة. فالخوفُ أو الرعبُ، كحالاتٍ نفسيةٍ تدوم طويلاً، هما نوعان من السم قاتلان أو يكادان يقتلان، سببُهما احتمالُ البطالة أو القمعُ البوليسي أو وجود محتَـلٍّ أجنبيّ أو توقُّعُ اجتياح محتَمل أو أيُّ بلاء آخر يبدو أنه يتجاوزُ الطاقةَ البشرية. كان الأسيادُ الرومانُ يَعرِضون سوطًا في البهو على مرأى العبيد، مع العِلْم أنَّ هذا المشهدَ يضع النفوسَ في حالةٍ بين الحياة والموت الضروريةِ للرِّق. من جهة أخرى، ينبغي على البارِّ، عند المصريين [القدماء]، أنْ يتمكَّنَ من القول بعد الموت: "لم أسبِّبِ الخوفَ لأحد." حتى وإنْ لم يكن الخوفُ سوى حالةٍ كامنة، بحيث لا يشعرُ به المرءُ عذابًا إلاَّ نادرًا، فإنه دائمًا مرَض. إنه نصفُ شللٍ للنفْس. مشيرًا إلى أن الموضوع الذي سأتناوله في هذه المقالة هو موضوع مبدئي وإشكالي وفي منتهى الأهمية.
هل كان الرسول محمد (ص) يتقن التكلم باللغة اليونانية؟ هذا السؤال ربما يفاجئ البعض لأنه يقفز على ذلك الفهم الشائع لدى المسلمين بأن النبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، لأن عدم إتقان الرسول للقراءة والكتابة بلغته سوف يجرنا حتمًا إلى نفي إتقانه لأية لغة أخرى غير لغته الأم. لذا سنحاول أولاً إثبات إتقان الرسول للقراءة والكتابة بلغته قبل تناول ما نود طرحه في هذه الدراسة حول إتقانه اللغة اليونانية. ولنبدأ بمناقشة لفظة الأمي التي ورد ذكرها في عدد من آيات القران الكريم مقرونة مع اسم النبي محمد (ص)، فهل تعني هذه الكلمة ما تعنيه في العادة لفظة الأمي؟ أم أنها تعني شيئًا آخر يرتبط بالسياق الذي يمثله معناها العام، فالذين يؤيدون الرأي الأول، وهم يمثلون السواد الأعظم من المسلمين، يؤكدون كلامهم هذا بجملة من الآيات، من أمثلتها الآية التالية:
ليست مشكلةُ اقتلاع الفلاحين أقلَّ خطورةٍ من مشكلة اقتلاع العمال. فعلى الرغم من أنَّ المرَضَ أقلُّ تفاقماً فإنَّ فيه شيئاً أكثرَ فضحًا؛ لأنَّ ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية هو أنْ يزرعَ الأرضَ أناسٌ مقتلَعون. لا بد من إيلاء الاهتمام نفسِه للمشكلتين. فضلاً عن ذلك، يجب عدم إظهار علامة اهتمام علنية أبدًا للعمال مِن دونِ إظهار علامة أخرى مماثلة للفلاحين. لأنهم شديدو الحذر، شديدو الحساسية، وتُقِضُّ عليهم مضجعَهم دائمًا فكرةُ أنهم منسيُّون. لا شك أنهم يجِدون ضمن الآلام الحالية عَزاءً في ضمان أنه يفكَّر بهم. يجب الاعترافُ بأننا نفكر بهم عندما نكون جائعين أكثر بكثير مما نفكر بهم عندما نأكل ما نشاء؛ كذلك الأمر حتى بين الناس الذين كانوا قد اعتقدوا أنهم وضعوا تفكيرَهم على مستوى أعلى بكثير من جميع الحاجات الجسدية.
|
|
|