|
قيم خالدة
يتجدد العالم في كل يوم، بل في كل نبضة قلب ورفّة جفن، ولكنه تجدد شامل وخاطف إلى حد أن حواسنا البطيئة والبليدة لا تكاد تشعر به إلا بعد أيام أو أعوام أو أجيال. فنحن لا نحس دبيب البقاء وزحف الفناء في أجسادنا من ساعة لساعة ومن يوم ليوم، ونمضي نقطر الثواني إلى الثواني، والفصول إلى الفصول، واهمين أننا اليوم عين ما كنّاه أمس، وسنكون غدًا عين ما نحن اليوم. إلا إذا ابتلينا بمرض من بعد عافية أو حظينا بعافية من بعد مرض، وإلا إذا ابيض شعر كان أسود، وارتخى ساعد كان مفتولاً، وغام بصر كان جليًا، وتناثرت قواضم كانت حادة، أو نحو ذلك من الأحداث التي تطرأ على أجسادنا فإذ ذلك نشعر أننا قد تغيرنا.
التحرّر من الشهوات يسمّى في التصوف الأرثوذكسي هدوءًا، حيث الروح الإلهي فاعل وأنت متقبّل، أي أن آخر ينشئ الوداعة فيك. وإذا كتب يوحنا، صاحب سلّم الفضائل الناسك الكبير في صحراء سيناء، عن الهدوء يقول: إنه اللاهوى، ويحدّد هذا على أنه الكمال المتشبّه بالله والسماء الأرضيّة وقيامة النفس قبل القيامة العامة. لا كلام بعد هذا الكلام لأنك إن بلغت هذا العلى لا تبقى في حاجة إلى تعبير لساني. ويوضح القديس يوحنا هذا في المقالة الثامنة أن الوداعة هي "سكون النفس وتقبّلها للإهانات والكرامات بحال واحد على السواء". ويتوسّع في الكلام على الرذيلة المناقضة، وهي عنده الغضب؛ وكما عرف الوداعة بالهدوء يعرّف الغضب بالاضطراب. عند الشتيمة تسكت. هذه درجة أولى من الخير. أما الدرجة الثانية فتحزن من أجل شاتمك، والدرجة العليا أن تتصور الضرر الذي أحدثه الشتم في الشاتم وأن تبكي على خطيئته بكاءً حارًا.
الإيمان هو جوهر الحياة المعطاة. إنه ما يمنح القوة، ومنحى الحياة. وكل إنسان حي يعثر على هذا الجوهر، ويعيش على أساسه، وإن لم يعثر عليه فسوف يموت. وفي بحثه هذا ينتفع الإنسان بكلّ ما أبدعته البشرية جمعاء. كل ما أبدعته البشرية هذا يسمّى الكشف، وهذا الكشف هو ما يساعد الإنسان على فهم جوهر الحياة: هذه هي العلاقة التي تربط الإنسان بالدين. فما هذا الشيء المذهل؟ هناك أناسٌ يخرجون من جلودهم لكي يستخدم الآخرون صيغة معينة بالتحديد، دون غيرها، للكشف. ولا يمكنهم أن يرتاحوا إلا إذا قَبِل الآخرون صيغة الكشف الخاصّة بهم بالتحديد؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. وآخرون يفعلون الشيء ذاته؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. والفريق الثالث أيضًا كذلك. وهكذا يقوم الجميع بلعن وإعدام وقتل بعضهم بعضًا، مطالبين بأن يَدين الجميع بدينهم هم. وينتج أنّ عقائدهم بالمئات، وكلها تلعن وتعدم وتقتل بعضها بعضًا.
|
|
|