|
الكنيسة والدولة
الإيمان[1] هو جوهر الحياة المعطاة. إنه ما يمنح القوة، ومنحى الحياة. وكل إنسان حي يعثر على هذا الجوهر، ويعيش على أساسه، وإن لم يعثر عليه فسوف يموت. وفي بحثه هذا ينتفع الإنسان بكلّ ما أبدعته البشرية جمعاء. كل ما أبدعته البشرية هذا يسمّى الكشف، وهذا الكشف هو ما يساعد الإنسان على فهم جوهر الحياة: هذه هي العلاقة التي تربط الإنسان بالدين. فما هذا الشيء المذهل؟ هناك أناسٌ يخرجون من جلودهم[2] لكي يستخدم الآخرون صيغة معينة بالتحديد، دون غيرها، للكشف. ولا يمكنهم أن يرتاحوا إلا إذا قَبِل الآخرون صيغة الكشف الخاصّة بهم بالتحديد؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. وآخرون يفعلون الشيء ذاته؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. والفريق الثالث أيضًا كذلك. وهكذا يقوم الجميع بلعن وإعدام وقتل بعضهم بعضًا، مطالبين بأن يَدين الجميع بدينهم هم. وينتج أنّ عقائدهم بالمئات، وكلها تلعن وتعدم وتقتل بعضها بعضًا. في البداية أذهلني كيف لا يقضي هذا العبث الجليّ للعيان، هذا التناقض البيّن، على الإيمان ذاته؟ كيف تمكّن البشر من البقاء مؤمنين وسط هذا البطلان؟ وبالفعل، من المنظور العام، يبرهن هذا الأمر برهانًا دامغًا، عصيًّا على الإدراك، على أنّ العقائد جميعها باطلة، وأنها كلها خرافات، الأمر الذي برهنته الفلسفة السائدة اليوم. ناظرًا من المنظور العام، أنا أيضًا توصّلت، بشكل لا يُدحض، إلى الإقرار بأنّ العقائد كلها أباطيل بشرية، لكني لم أستطع إلا أن أتوقّف عند فكرة أنّ البشرية برمّتها، على الرغم من غباء الكذبة وجلائها، تنصاع لها. وأنّ هذا الأمر، بحدِّ ذاته، يدلّ على وجود شيء ما، ليس باطلاً، يقبع في أساس هذا الباطل. وإلاّ فالأمر برمّته من الغباء بمكان بحيث ينبغي عدم الانخداع به. بل حتى هذا الانصياع للباطل، الذي يشمل البشرية كلها، الحيّة بحقّ، أرغمني على الإقرار بأهمية الظاهرة التي تعدّ حجّة الباطل. وتبعًا لهذه القناعة رحتُ أدرس العقيدة المسيحية التي تكمن في أساس باطل الإنسانية المسيحية برمّتها. هذه هي النتيجة المتحصِّلة من المنظور العام، ولكن من وجهة النظر الشخصية - التي بموجبها يجب على كل إنسان، وأنا كذلك، لكي يعيش أن يؤمن بمعنى الحياة، وأن يكون لديه هذا الإيمان- ينتج أنّ ظاهرة الإكراه في الدين هذه لهي الظاهرة الأشدّ إذهالاً من حيث عبثيتها. وبالفعل، كيف، ولماذا، قد أحتاج، لا إلى أن يكون الآخر متديّنًا فحسب بل وأن يَدين بدينه كما أفعل أنا؟ الإنسان حيّ، وهذا يعني أنه ربما صار يعرف مغزى الحياة. فقد أقام علاقةً مع ربه، وهو يعلم حقيقة الحقائق، وأنا كذلك أعلم حقيقة الحقائق. وقد تكون تعبيراتها مختلفة (يجب أن يكون الجوهر واحدًا وهو أنّ كلانا بشر). وبالتالي، لماذا، وما الذي قد يدفعني إلى أن أطلب من أيٍّ كان أن يعبّر عن الحقيقة الخاصّة به مثلما أفعل أنا بالضبط؟ ليس في مستطاعي إجبار إنسان على تغيير دينه، لا بالإكراه، ولا بالمكر، ولا بالخداع (العجائب الباطلة). دينه حياته؛ فكيف يمكنني سلبه دينه ومنحه دينًا آخر؟ هذا يشبه تمامًا أنْ أستلَّ قلبه وأضع مكانه قلبًا آخر. يمكنني القيام بذلك فقط عندما يكون ديني ودينه مجرّد كلمات، وليس ما يعيش به ويترعرع عليه؛ ليس قلبه. لا يجوز القيام بذلك لأنه لا يجوز خداع الإنسان، وإكراهه على الإيمان بما لا يؤمن. وهذا غير ممكن لأنّ المؤمن - أي الذي على صلة مع الله، وبالتالي يعلم أنّ الإيمان هو صلة الإنسان بالله - لا يمكنه أن يرجو بناء علاقة بين إنسانٍ آخر والله عن طريق الإكراه أو الكذب. هذا مستحيل لكنه حدث، ويحدث، في كلِّ زمانٍ ومكان؛ أي إنّ حدوث ذلك ليس ممكنًا لأنه مستحيل، ولكن حدث، ويحدث، شيءٌ شديد الشّبه بهذا. حدث، ويحدث، أنّ الناس يفرضون على الآخرين ما يشبه الدين، والآخرون يقبلون شبهة الدين هذه: شبهة الدين أي باطل الدين. لا يمكن للإيمان أن يتسمّى، ولا يمكن قبوله لأجل أيّ شيءٍ كان: سواء كان العنف أم الخداع أم المنفعة؛ لذا فهذا ليس إيمانًا بل باطل إيمان، وباطل الإيمان هذا هو الشروط القديمة لحياة البشرية. ففيمَ يتلخّص هذا الباطل، وعلامَ يتأسس؟ ما الذي يستدعيه لدى المخادعين، وما الذي يحفظه لدى المخدوعين؟ لن أتحدث عن البراهمانية أو البوذية أو الكونفوشيوسية أو المحمدية، التي احتوت على تلك الظواهر ذاتها، لا لاستحالة مثيلاتها هنا أيضًا؛ فكل من قرأ عن هذه الأديان سيتضح له أنّ ما حدث في المسيحية حدث في تلك الأديان أيضًا، لكني سأتحدث عن المسيحية باعتبارها ديانة معروفة لنا، نحتاجها، وهي عزيزة علينا. في المسيحية، الباطل كله مبني على فكرة "الكنيسة" الفنتازية، التي لا تستند إلى شيء، والمثيرة للدهشة بخرافتها غير المتوقّعة، وغير النافعة، منذ بداية تعليم المسيحية. من بين كلّ الأفكار والأقوال البذيئة ما من فكرةٍ أو كلمةٍ أكثر بذاءةً من فكرة "الكنيسة". وما من فكرةٍ ولّدت شرًّا أكبر، وما من فكرةٍ أشدّ عداءً لدين المسيح، كما فعلت فكرة "الكنيسة". في جوهرها، كلمة Ecclesias[3] تعني الاجتماع ليس إلاّ، وهكذا استُخدِمت في الأناجيل. وبلغات كافة الشعوب، كلمة Ecclesias تشير إلى بيت العبادة. فيما بعد، لم تتسرّب معاني هذه الكلمة إلى أية لغة رغم مرور 1500 سنة على وجود خدعة "الكنيسة". حسب التعاريف التي يعطيها الكهنة الذين يحتاجون إلى خدعة "الكنيسة" لهذه الكلمة، ينتج أنها ليست سوى تمهيدٍ يقول: كل ما سأقوله الآن حقٌّ؛ فإن لم تصدّق فسأحرقك، أو ألعنك، أو أؤذيك بشتّى السُّبل. هذه الفكرة سفسطة لازمة من أجل بعض الغايات الجدلية، وتبقى مُلكَ من يحتاجها. عند الشعب، وليس عند الشعب فقط بل وفي المجتمع وأوساط المتعلّمين من البشر، لا وجود لهذه الفكرة على الإطلاق رغم أنها تُعلَّم في كتب تعليم أصول الدين. هذا التعريف (بقدر ما هو من المعيب وغير الجادّ دراسته، يجب القيام بذلك لأنّ عددًا كبيرًا من البشر يدّعون أهميته بجديّةٍ كبيرة) باطلٌ مطلق. فعندما يقولون إنّ الكنيسة هي اجتماع المؤمنين الحقيقيين فإنهم، في الحقيقة، لا يقولون أيّ شيء (بغضّ النظر عن الموتى المزعومين)، لأنني إذا قلتُ إنّ الجوقة هي اجتماع كل الموسيقيين الحقيقيين، فإنني لا أقول أي شيء إذا لم أذكر أسماء الموسيقيين الحقيقيين. لكن يتبيّن، بحسب اللاهوت، أنّ المؤمنين الحقيقيين هم أولئك الذين يطيعون تعاليم الكنيسة، أي الذين يرتادون الكنيسة. ناهيكم عن أنّ عقائد حقٍّ كهذه بالمئات، ويبدو أنّ التعريف لا يقول أيّ شيءٍ مفيدٍ حتى، مثله مثل تعريف الجوقة بأنها اجتماع الموسيقيين الحقيقيين، ولكن خلف ذلك مباشرةً تُرى نهاية العروة[4]. الكنيسة حقّ وواحدة، فيها رعاةٌ ورعيّة. يقوم الرّعاة، المقررون من قِبَل الله، بتعليم هذا الدين الحقّ والوحيد، أي: "والله! كلّ ما نقول.. كلّه حقّ وصادق"، ليس إلاّ. الكذب كله يكمن هنا؛ في كلمة، وفكرة، "كنيسة". وفحوى هذه الكذبة هو أنّ هناك أناسٌ بلا ذاكرة يرغبون في تعليم عقيدتهم للآخرين، وحسب. لماذا، إذًا، لديهم رغبة في تعليم عقيدتهم للآخرين؟ فلو كان إيمانهم حقيقيًا لعرفوا أنّ الإيمان هو مغزى الحياة، وأنه العلاقة التي يقيمها كل إنسان مع ربّه، ولهذا السبب لا يمكن تعليم الإيمان، ولكن يمكن تعليم العقيدة الباطلة، لكنهم يريدون ممارسة التعليم. لماذا؟ لكان أبسط جواب هو أنّ القسّ بحاجة إلى أرغفة خبز وبَيض، وأنّ المطران بحاجة إلى قصر وفطيرة وغفّارة حريرية. لكنّ هذا الجواب ليس كافيًا. هكذا هو، دون شكّ، المبرر الداخلي والنفسي للكذب، المبرر المرسِّخ للباطل. ولكن كما أنّ، عند بحث، كيف يمكن لإنسانٍ ما (جلاّد) أن يقرر قتل إنسانٍ آخر لا يكنّ له أية ضغينة، لا يكفي القول إنهم يعطونه فودكا وسميطة[5] وقميصًا أحمرَ، كذلك تمامًا لا يكفي القول إنّ مطران كييف مع الرهبان يحشون أكياس القشّ، مسمّين إياها أضرحة المَرضيّين، فقط ليحصلوا على مدخول قدره 30 ألفًا. هذا العمل وذاك مهولان جدًا، ويناقضان الطبيعة البشرية، بحيث لا يمكن لهذا التفسير البسيط والفجّ أن يكون كافيًا. كما الجلاد، كذلك المطران، عند تبرير فعلتهم، يقدّمون سلسلة كاملة من البراهين التي تقوم بصورة رئيسة على الولاء التاريخي. "يجب إعدام إنسان. وقد أُعدم منذ فجر التاريخ. إن لم أفعل أنا، فسيقوم سواي بذلك. أرجو أنّي أقوم بهذا، بعون الله، بصورة أفضل! من أيّ شخصٍ آخر". وسيقول المطران مثل هذا الكلام: "إن الطقوس الدينية واجب. لقد بُجِّلت أضرحة المَرضيين منذ فجر التاريخ. إنهم يأتون إلى هنا، ويُبجِّلون الأضرحة الكهفية. وإن لم أرأسهم أنا فسيفعل سواي ذلك. أرجو أنّي، بعون الله، أستخدم هذه الأموال المتحصَّلة بالخداع التجديفي بصورة أكثر إرضاءً لله". من أجل فهم باطل الدين يجب العودة إلى بدايته ومنشئه. نحن نقول إننا نعرف المسيحية. عند العودة إلى بداية الدين المسيحي نجد في الأناجيل تعاليم تنفي، بصورة مباشرة، الطقوس الدينية، وتدينه، وبشكل خاص، تنفي بجلاء وبشكل قاطع شتى أشكال التدريس. لكننا نجد، منذ عهد المسيح وصولاً إلى وقتنا الراهن، انحرافًا للدين عن الأسس التي وضعها المسيح. وقد بدأ هذا الانحراف منذ عهد الرُّسل، وبشكل خاص محبّ التدريس بولس؛ وكلما اتّسع انتشار المسيحية كلما هُضِمت أكثر فأكثر أساليب تبجيل اللاهوت (الطقوس الدينية) والتدريس، ذلك الأمر نفسه الذي نهى عنه المسيح بصورة قاطعة. ولكن، في العهود الأولى للمسيحية كان مفهوم "الكنيسة" يُستخدم فقط للإشارة إلى كلّ الذين يُقسِّمون الدين الذي أعتبره صحيحًا - مفهومًا صحيحًا تمامًا إذا لم يشمل التعبير عن الدين بالقول فقط، بل بكليّة الحياة، إذ لا يمكن التعبير عن الإيمان بالكلمات. وقد استُخدِم أيضًا مفهوم "الكنيسة الحقّ" كحجّةٍ ضدّ المخالفين، ولكن حتى عهد الامبراطور قسطنطين ومجمع نيقية كانت الكنيسة مجرّد مفهوم، ومنذ عهد الامبراطور قسطنطين ومَجْمَع نيقية صارت الكنيسة واقعًا، هو واقع الكذب. وتلك الخدعة تبدأ من المطارنة مع الأضرحة، والخوارنة مع الشُّكر، والمراتبية، والمجامع الكنسية (سينودِس)، وهلمّ جرّا، الذين يثيرون دهشتنا وخوفنا، ولا يجدون مبررات كافية، بسبب شناعتهم، لتبرير المنفعة الخاصة لهؤلاء الأشخاص. هذا الكذب قديم العهد، ولم يبدأ من المنافع الشخصية للأفراد. ما من إنسانٍ وحشٍ بهذا القدر، بحيث يقرر القيام بذلك لو أنّه كان الأول، ولو لم تكن هناك أسباب أخرى. الأسباب التي أدّت إلى ذلك لم تكن خيّرة: "من ثمارهم تعرفونهم". فالبداية كانت شرًّا: الكراهية، الغرور البشري، معاداة الآريين، وغير ذلك؛ وأما الشرّ الأعظم فقد كان: اتّحاد المسيحيين مع السلطة. السلطة، الامبراطور قسطنطين الذي، بحسب المفاهيم الوثنية، يتربّع على قمّة العظمة الإنسانية (كانوا ينسبونه إلى الآلهة)، يدخل المسيحية، فيقدِّم مثالاً للشعب كله؛ ويُدخِل الشعب في مِلَّته، ويقدّم يد العون ضدّ الهراطقة، ويؤسس، من خلال المَجْمَع المسكوني، العقيدة المسيحية الوحيدة القويمة. العقيدة المسيحية الكاثوليكية راسخة إلى الأبد. وهكذا، كان من الطبيعي الخضوع لهذا الباطل، ومازالوا حتى الآن يؤمنون بخَلاصيَّة هذا الحدث. وهو الحدث الذي ارتدَّ فيه معظم المسيحيين عن دينهم، لقد كان الدرب الوردي الذي سارت عليه الأغلبية، باسم المسيحية، في درب وثنية، ومازالت تسير حتى الآن. وقد واصل كارل العظيم وفلاديمير الأمر ذاته. وكذب الكنيسة مازال جاريًا حتى الآن، الكذب القائم على أنّ قبول سلطة الكنيسة ضروري للذين فهموا الحَرف، وليس روح المسيحية. إذ إنّ التديّن بالمسيحية دون التبرّؤ من السلطة هو استهزاء بالمسيحية، وتحريفٌ لها. إنّ تقديس سلطة الدولة تجديفٌ على المسيحية، وهلاكٌ لها. بعد العيش طوال 1500 سنة في ظلّ الاتحاد التجديفي المبتدع بين المسيحية والدولة، يلزم بذل جهد أكبر للتخلّص من كلّ السفسطات المعقّدة التي شوّهت كلّ تعاليم المسيح طوال 1500 سنة لمصلحة السلطة في كلّ مكان. ولكي تكون قادرة على التواؤم مع الدولة، حاولوا تبرير قدسية وشرعية الدولة، وقدرتها على أن تكون مسيحية. في حين أنّ كلمة "دولة مسيحية" تشبه تمامًا كلمة: جليد حارّ وساخن. فإمّا الدولة وإمّا المسيحية. لكي نفهم بوضوح يجب علينا نسيان جميع الخرافات التي رُبِّينا عليها بحرص، وأن نسأل، بشكل مباشر، عن مغزى تلك العلوم التاريخية والشرعية التي يُدرِّسها الجميع. ليس لهذه العلوم أية أسس. هذه العلوم ليست سوى ذروة العنف. لندع تاريخ الفرس والهنود وغيرهم جانبًا، ولنأخذ تاريخ الدولة التي أقامت أول اتّحاد مع المسيحية. كانت روما وكرَ قطّاعِ طرقٍ؛ نما عن طريق السلب والنهب والعنف والقتل، والتسلّط على الشعوب. قطّاع الطرق وأخلافهم، يقودهم رؤساء عصابات كانوا يسمَّون قيصرَ تارةً، وأغسطس تارةً أخرى، نهبوا الشعوب وأنهكوها لإشباع رغباتهم. أحد ورثة عصابة قطّاع الطرق هؤلاء، قسطنطين، قارئ الكتب والمتخم بحياةٍ شهوانية، فضّل بعضًا من عقائد (دوغمات) المسيحية على العقائد السابقة. فضّل الفقر على الأضحيات البشرية، وفضّل تبجيل الإله الواحد، وابنه المسيح، على تبجيل أبولو وفينوس وزيوس، وأمر بنشر هذه العقيدة بين أولئك الذين كانوا يخضعون لسلطانه. "الملوك يتسلّطون على الشعوب. لن يكون الأمر هكذا بينكم. لا تقتلْ. لا تزنِ. لا تكنز الثروة. لا تَدِنْ. لا تحاكم. اصبر على الظلم". لم يقل له أحد شيئًا من هذا. أما "هل تريد أن تُدعى مسيحيًا وتبقى رئيس عصابة قطّاع طرق، فتواصل القتل والحرق والحرب، وتفسق وتعدم وتُسرف؟" فربما. وقد تدبّروا له مسيحيةً. تدبّروها مريحةً جدًا إلى درجة يستحيل توقّعها. فقد خمّنوا بأنه، بعد قراءة الأناجيل، ربما يستفقد بأنّ هذا كله مطلوب هناك، أي الحياة المسيحية، وليس فقط بناء المعابد والتجوّل فيها. لقد تكهّنوا بهذا، وبحرص تدبّروا له مسيحيةً بحيث يستطيع، دونما خجل، أن يعيش على الطريقة القديمة، الطريقة الوثنية. من جهة، المسيح ابن الله، وفقط بعد ذلك جاء ليفتدي الجميع. وبما أنّ المسيح قد مات فيمكن لقسطنطين أن يعيش كما يرغب. وهذا غيضٌ من فيض، إذ يمكن الاعتراف، وابتلاع قطعة خبز مع النبيذ، وسيكون هذا خلاصًا، وسيُغفَر كلّ شيء. ناهيكم عن أنهم، بالإضافة إلى ذلك، قدّسوا سلطته الإجرامية، وقالوا إنها من عند الله، ومسحوه بالزيت. ولهذا فقد قام هو أيضًا بإنشاء ما أرادوا لهم - مَجْمَع القساوسة، وأمر بتلقين نوع العلاقة التي يجب أن تربط كل إنسان بالله! وأمر جميع الناس بتكرار ذلك. الكلّ بات راضيًا، وها هي ذي تلك العقيدة ذاتها تعيش في الدنيا طوال 1500 سنة، ورؤساء العصابات المجرمين الآخرين فرضوها، وجميعهم مُسِحوا، وكلّ شيء.. كلّ شيء من عند الله. فإذا ما قام مجرمٌ ما بنهب الجميع، وقتل الكثير من أفراد الشعب، فإنهم يمسحونه - إنه من عند الله. عندنا، قاتلة الأزواج، الزانية[6]، كانت من عند الله، وعند الفرنسيين كان نابليون. لذا؛ فالقساوسة ليسوا من عند الله فحسب، بل إنهم يكادون يكونون آلهة تقريبًا لأنّ الروح القدس تكمن فيهم. وتكمن أيضًا في البابا، وفي مجمعنا الكنسي (سينودس) برؤسائه: موظفيه. وأي ماسحٍ، أي زعيم عصابة قطاع طرق، سيرغب بسحق شعبه والشعوب الأخرى. وسوف يصنعون له الآن ماءً مقدّسًا، وسيرشّونه به، وسيأخذون الصليب (ذلك الصليب نفسه الذي مات عليه مسيحنا لأنه استنكر قطاع الطرق هؤلاء)، وسيباركون القتل والشنق وقطع الرؤوس. ولكان كل شيء على ما يرام إلا إنهم، وحتى هنا، لم يتّفقوا، وصار الماسحون يدعون بعضهم بعضًا قطّاعَ طرقٍ (كما هم حقًا)، وبات القساوسة يدعون بعضهم بعضًا بالمخادعين (كما هم حقًا)، وراح الشعب يصغي، وكفّ عن تصديق الماسحين وحُماة الروح القدس، وتعلّم منهم أن يسمّيهم كما ينبغي، وكما يسمّون هم أنفسهم، أي قطّاع طرق ومخادعين. ولكن فيما يتعلق بقطاع الطرق فقط فقد لاءمتهم الكلمة لأنهم أفسدوا المخادعين. فالحديث، إذًا، يجري عن المخادعين، المسيحيين المزعومين. ولا يمكن للأمر أن يكون على غير ذلك. فقد خرجوا عن الطريق منذ تلك اللحظة الأولى التي قدّسوا فيها أول امبراطور، وأقنعوه بأنه قادر، عن طريق عنفه، على مساعدة الدين - دين الوداعة والتفاني وتحمّل الإساءة. إنّ كلّ تاريخ الكنيسة الراهنة، وليس الخيالية، أي تاريخ الكهنوت في ظلّ سلطان الملوك عبارة عن سلسلة من المحاولات عديمة الجدوى لهذا الكهنوت البائس للحفاظ على حقيقة الدين، مبشّرًا بها كاذبًا، ومرتدًا عنها عمليًا. تقوم قيمة الكهنوت فقط على الدين الذي يريد التبشير به. الدين يتحدث عن الوداعة ونكران الذات والمحبة والفقر، ولكن يتمّ التبشير به عن طريق العنف والشرّ. لكي يكون لدى الكهنوت ما يعلّمه، ولكي يكون هناك تلاميذ، لا ينبغي التبرّؤ من الدين، ولكن لكي يُبرّئ الكهنوت ذاته يحتاج إلى إخفاء جوهر الدين بشتّى الوسائل المتاحة. ولأجل ذلك يجب نقل مركز ثقل الدين إلى ظاهره، لا إلى جوهر الدين. وهذا بالذات ما يفعله الكهنوت. وإذًا، فإنّ منشأ تلك العقيدة الباطلة التي تبشّر بها الكنيسة، منشأها هو اتّحاد الكهنوت، باسم الكنيسة، مع السلطة - مع العنف. أما منشأ كون الناس يريدون تعليم الآخرين الدين فيكمن في أنّ الدين الحقّ يفضحهم هم ذاتهم، ويحتاجون إلى استبدال الدين الحقّ بالعقيدة المبتدعة من قِبلهم، والتي تُبرِّئهم. إنّ فكرة "الكنيسة"، أي اتّفاق الأكثرية، الأغلبية، بالإضافة إلى قِصر المدة الفاصلة بين منشأ الدين في القرنين الأولين للمسيحية، كانت أحد أسوأ الحجج الظاهرية وحسب. قال بولس: "أنا تعلّمت من المسيح ذاته". ويقول آخر: "أنا تعلّمت من لوقا". ويقول الجميع: "تفكيرنا صحيح، والدليل على أنّ تفكيرنا صحيح هو كثرة مجامعنا، "إكليزياتنا"، كنائسنا". لكن فقط منذ مجمع نيقية، الذي عقده الامبراطور، بدأت - بالنسبة لقسم من أتباع ذلك الدين نفسه - الخدعة المباشرة والملموسة. راحوا يقولون آنذاك: "من أجلنا ومن أجل الروح القدس". ولم تعد فكرة "الكنيسة" حجة رديئة وحسب، بل صارت سُلطة بالنسبة لبعضهم. فقد ارتبط هذا المفهوم مع السلطة، وصارت الكنيسة تتصرف كسلطة. وكلّ ما اتّحد مع السلطة، وخضع لها، كفّ عن أن يكون دينًا، بل صار باطلاً. ما الذي تعلّمه المسيحية، عند فهمها باعتبارها دينَ كنيسةٍ ما، أو جميع الكنائس؟ افهموا كما ترغبون، مازجين إياها، أو مقسّمين إياها، لكنّ الدين في مجمله منقسم إلى قسمين منفصلين بحدّة: تعليم العقيدة الأساسية (الدوغما)، بدءًا من ألوهية الابن، الروح، تعامل هؤلاء الناس [رجال الدين- م.]، وصولًا إلى التقدمة مع نبيذ أو دون نبيذ، مع خبزٍ فطير أو مالح. والتعليم الأخلاقي للوداعة والقناعة والطهارة الجسدية، والأُسروية، وعدم الإدانة، والتحرر من أسر القيود، والمسالمة. ومهما حاول معلّمو الكنيسة مزج وجهي الدين هذين لم يمتزجا قط، وظلاّ منفصلين دائمًا، كما الزيت والماء: قطرات كبيرة وأخرى صغيرة. إنّ اختلاف وجهي الدين هذين واضح للجميع، وفي مقدور أيّ شخص تتبّع ثمار هذا الوجه للدين، أو ذاك، في حياة الشعوب. ومن خلال هذه الثمار يمكننا استنتاج الوجه الأكثر أهميةً، وإذا أمكن القول: الأكثر حقّانيةً، فأيهما أكثر حقّانيةً؟ انظر إلى المسيحية من هذا المنظور وسينهال عليك الرعب. بلا استثناء، منذ البداية وحتى النهاية، وصولاً إلينا، أينما نظرت، إلى أية عقائد (دوغمات) نظرت، ولو منذ البداية - عقيدة ألوهية المسيح - وصولاً إلى وضعية الأصابع، ووصولاً إلى القربان (السرّ) مع نبيذ أو دون نبيذ، فإنّ ثمار هذه الجهود العقلية لشرح العقائد الأساسية هي: الضغينة، الكراهية، الإعدام، الاضطهاد، ذبح الزوجات والأبناء، الحرق، التعذيب. وإذا نظرت إلى الوجه الآخر، إلى التعليم الأخلاقي، فمن الاعتزال في الصحراء من أجل العيش مع الله وصولاً إلى عادة تقديم الخبز للسجناء، وثمار ذلك هي: كل مفاهيمنا عن الإحسان، كل ما هو مضيء ومفرح ومعزّي ونافع لنا، عبر التاريخ. كان ضلال الذين لم تكن ثمار هذين الوجهين جليًّا أمام أعينهم محتملاً، بل كان عدم الضلال مستحيلاً. وكان من الممكن أن يضلّ حتى أولئك المنخرطين بإخلاص في هذه المجادلات حول العقائد الأساسية، دون أن يلاحظوا أنهم إنما يخدمون الشيطان من خلال هذه العقائد، وليس الله، ودون أن يلاحظوا أن المسيح قال، بصريح العبارة، إنه قد جاء ليدمّر العقائد (الدوغما). وكان ممكنًا كذلك ضلال الذين، وقد ورثوا خرافة أهمية هذه العقائد، تلقّوا تربية عقلية متقلّبة بحيث يعجزون عن رؤية أخطائهم، وممكنٌ ضلال الجهلة من البشر، الذي لا تعتبر العقائد بالنسبة لهم شيئًا سوى كلمات أو تصورات خيالية. لكن نحن، الذين كُشف لهم المغزى الأول للأناجيل، والذين ينبذون كافة أشكال العقائد الجامدة، نحن الذين تمثُل أمام أعينهم ثمار هذه العقائد الجامدة في التاريخ، لم يعد جائزًا لنا أن نخطئ. فالتاريخ، بالنسبة لنا، يُعدّ مرجعًا لحقّانية الدين، بل مرجعًا للآليات حتى. هل عقيدة "حبل العذراء بلا دنس" ضرورية أم لا؟ ما الذي نتج عنها؟ - الضغائن، الشتائم، التهكّمات. وهل كانت هناك فائدة منها؟ - لا، على الإطلاق. التعليم المتعلق بعدم إعدام الزانية، هل هو ضروري أم لا؟ وما الذي نتج عنه؟ - لقد خُفِّفت العقوبة عن الناس آلاف المرات بفضل هذا التحذير. أمرٌ آخر: هل الجميع موافقون على العقائد الأساسية، أيًا كانت؟ - كلاّ. وعلى إعطاء السائل؟ -نعم. هاكم النقطة الأولى: العقائد الأساسية، التي لا يوافق عليها أحد، والتي لا يحتاج إليها أحد، والتي تهلك البشر، هي ما يقدّمه الكهنوت على أنه الدين. والنقطة الثانية هي أنّ ما يتّفق عليه الجميع، ويحتاج إليه الجميع، وينجّي البشر، رغم أنّ الكهنوت لم يتجرّأ على رفضه، إلا أنه لم يتجرّأ كذلك على تقديمه باعتباره دينًا، لأنّ هذا الدين كان له أن ينبذه، هو ذاته. ترجمة: هَـڤال يوسف *** *** *** [1] الكلمة الروسية تعني: الإيمان، والدين، والعقيدة. وقد بدّلنا المعاني بما يناسب الثقافة العربية، حسب السياق. [2] بمعنى يبذلون قصارى جهدهم. [3] وتعني: كنيسة، كهنوت، إكليروس. وكذلك: سفر الجامعة في العهد القديم. [4] أي: ينكشف ما وراء الأكمة. [5] نوع من الأرغفة. [6] يقصد كاترينا الثانية. يُقال إنها كانت تختار من بين الجنود أكثرهم فحولةً فتضاجعه ليلةً ثم تأمر بقتله حتى لا يفتضح أمرها.
|
|
|