|
في موكب التجدد[1]
يتجدد العالم في كل يوم، بل في كل نبضة قلب ورفّة جفن، ولكنه تجدد شامل وخاطف إلى حد أن حواسنا البطيئة والبليدة لا تكاد تشعر به إلا بعد أيام أو أعوام أو أجيال. فنحن لا نحس دبيب البقاء وزحف الفناء في أجسادنا من ساعة لساعة ومن يوم ليوم، ونمضي نقطر الثواني إلى الثواني، والفصول إلى الفصول، واهمين أننا اليوم عين ما كنّاه أمس، وسنكون غدًا عين ما نحن اليوم. إلا إذا ابتلينا بمرض من بعد عافية أو حظينا بعافية من بعد مرض، وإلا إذا ابيض شعر كان أسود، وارتخى ساعد كان مفتولاً، وغام بصر كان جليًا، وتناثرت قواضم كانت حادة، أو نحو ذلك من الأحداث التي تطرأ على أجسادنا فإذ ذلك نشعر أننا قد تغيرنا. إن تكن تلك حالنا مع أجسادنا - وهي أقرب الأشياء إلينا - فحالنا مع الأكوان من فوقنا ومن تحتنا وعن جانبينا أغرب وأعجب. وها هي ذي الأرض تنهب بنا الفضاء نهبًا فلا نشعر بحركتها على الإطلاق. ولولا تناوب الليل والنهار، ولولا تعاقب الفصول لحسبنا أن ليس في الكون من حركة إلا حركتنا وإلا حركات الكائنات التي تشاطرنا الأرض. ومن ثم فالتغير المستمر في أحشاء الأرض وفي أديمها يكاد يكون أبعد من متناول حواسنا. فالجبال تبدو لأبصارنا ونحن في الشيخوخة كما لو كانت عين الجبال التي عرفناها ونحن في ريعان الصبا والتي عرفها أسلافنا منذ آلاف السنين. وكذلك الأودية والأنهار والبحار، إلا إذا زلزلت الأرض زلزالها فاندكّت نجاد وارتفعت وهاد، وجفت أنهار وتفجرت أنهار، ولفظ البحر جزيرة أو ابتلع جزيرة. فحينئذٍ ندرك أن وجه الأرض قد تغير. لو أننا ما كان لنا من هادٍ في حياتنا غير الحواس وغير الغريزة لما كان من فرق بيننا وبين البهيمة، ولقبلنا الأشياء على ظواهرها، فما خطر لنا ببال أن خلف الظواهر بواطن، ولا عرفنا أننا والعوالم من حولنا في تغير مستمر، ولا سألنا أنفسنا عن ذلك التغير هل هو يتبطّن عن قوة تُغير ولا تتغير، وتُحرك ولا تتحرك، وما هي تلك القوة، ثم هل لها غاية وما هي تلك الغاية؟ إلا أن القدرة التي انتشلتنا من حظيرة البهيمة ورفعتنا إلى مستوى الإنسان ما تركتنا عالة على الغريزة ولا ألعوبة للحواس. بل أودعتنا قوى وجهزتنا بأسلحة إذا نحن توصلنا إلى فهمها كل الفهم وأتقنّا استعمالها على أتمّ وجه تحررنا بها من ربقة الغريزة ومن خدع الحواس، ونفذنا من ظواهر الأشياء إلى بواطنها فأدركنا سر التغير والتجدد فيها والغاية من كليهما. وإذ ذاك تحكّمنا في الأشياء بدلاً من أن تتحكّم الأشياء فينا. ومن أبرز تلك القوى وأمضى تلك الأسلحة -الفكر والخيال والإرادة. ما يزال الإنسان قريب العهد بالبهيمة وحديث التمتع بالفكر والخيال والإرادة فما أتقن استعمالها بعد، وعلى الأخصّ الإرادة فهي إلى اليوم أضعف الأسلحة في يده. إلا أنه منذ أن اهتدى إلى الفكر والخيال والإرادة أعلنها حربًا شعواء على الحواس البطيئة، البليدة، الخدّاعة، وعلى الغريزة العابثة، المستبدة، القاسية. وهو ما برح من حربه في البداية. ولكنها بداية بارعة تبشّر بنهاية رائعة. أما الحواس فقد حطم الإنسان بفكره وخياله جانبّا لا يستهان به من قيودها وحدودها. فالأرض ليست مسطحة وثابتة، والشمس لا تدور حول الأرض، والإنسان اللاصق بالتراب لا يستحيل عليه امتطاء الهواء ولا اقتناص البرق الشارد في الفضاء، ولا أن يرسل صوته عبر الصحارى والبحار، والجماد ليس عديم الحركة والحياة. فالأكوان على رحابة مداها وعديد أشكالها وألوانها كهيربات لا تنفك تنبض بالحياة والحركة، وهي أدق من أن تتناولها الحواس الخشنة ولكنها تتآخى وتتماسك وتتكاثف هنا وهناك وهنالك فتتّخذ أشكالاً وألوانًا تبصرها العين وتسمعها الأذن وتلمسها اليد. وإذن فالكون في حركة دائمة وفي تحدّد سرمديّ. حقًّا إن ما أحرزه الفكر والخيال في حربهما مع الحواس حتى الآن لفتح مبين ونصر عظيم. ولكنه سيبدو تافهًا وضئيلاً إزاء ما سيحرزانه من النصر في المستقبل البعيد. فحربهما حرب لا هدنة فيها ولا هوادة. ومن الأكيد أنهما لن يكفا عن النضال إلا من بعد أن يحطّما آخر قيد من القيود التي تفرضها علينا الحواس. ويا ليته كان في مستطاعنا أن نقول هذا القول في حربهما مع الغريزة. إن حرب الإنسان مع الغريزة لحرب فظيعة، هائلة، طويلة، قاسية. ذلك لأن الغريزة متأصلة في دم الإنسان ولحمه وعظمه تأصّلها في النبات وفي الحيوان. فليس يكفينا في حربها فكر وخيال يرسمان لنا الخطط: لا تقتل. لا تسرق. لا تزنِ. لا تقابل الأذية بالأذية. أحب من أبغضك. بارك الذي يلعنك وعامل بالحسنى الذين يسيئون إليك. لا. ليس يكفينا في حربنا مع الغريزة أن نخلق بالفكر والخيال قيمًا إنسانية تعاكس القيم الحيوانية. بل لا بد لنا من إرادة نيّرة، صلبة، تتولى حراسة تلك القيم، وتحفظها من الفساد، وترد عنها الهجمات العنيفة التي ما تفتأ الغريزة تشنها عليها. لا بد لنا، إلى جانب الخيال الخلاّق والفكر المدبّر، من إرادة فاهمة، منفذة. وهذه، لسوء الحظ، ما تزال عند سواد الناس طفلة مقنّعة مقمّطة لا يصعب على الغريزة العاتية أن تكمّ فاها بنبرة أو بحركة. ولكنها طفلة قابلة للنمو. ونموّها بطيء إلى حد أننا نكاد نقنط منه. ولولا أنها في بعض أفراد الإنسانية بلغت أشدّها فجاءت بالعجائب لكان أمل الإنسان بالتغلب على الغريزة ضربًا من التعليل والتخدير. لقد كان من انتصارات الفكر والخيال الباهرة في عالم الحس، ومن التواء الإرادة وتقهقرها في عالم الغريزة، أن راح أكثر الناس ينعون على الإنسان هزيمته في حربه مع غرائز البهيمة فيه. فيقولون إنه ما تقدم خطوة بفكره وخياله حتى تراجع خطوات بأخلاقه. فهو في طمعه وجشعه وقساوته وظلمه وتكالبه على الحطام وتهالكه في سبيل الملذات الحيوانية حيوان وأحط من الحيوان. ولكنهم ينسون أو يجهلون أن ما يستطيعه الفكر والخيال في حربهما مع الحواس لتوسيع آفاقها وتبديد أوهامها لا تستطيعه الإرادة في حربها مع الغريزة لكبح جماحها والسمو بها من القيم الحيوانية إلى الإنسانية. فسيّان عند الغريزة أكانت الأرض مسطّحة أم مستديرة، وسيّان عندها أمشت إلى غاياتها في الظلام أم في ضوء الكهرباء، وعلى الأرض أم في الهواء. وسيّان أكان الجماد بلا حياة أو كان يعج بالحياة. أمّا أن تصوم عن الطعام وهي جائعة والطعام موفور لديها، وأمّا أن تُصفع فتصفح، وأن تموت ليحيا غيرها، وأن تعفّ عن اللذة الجنسية وشهوتها مشبوبة، وأن تقرّ بحق غير القوة أمّا هذه الأمور وكثير من نوعها فلا تتعادل أبدًا ولا يمكن أن تتعادل في ميزان الغريزة التي لا تعرف حقًا إلا القوة البدنية، ولا دافعًا على العمل إلا اللذة الحسية، ولا ناهيًا إلا الخوف من الألم. إن للفكر والخيال أجنحة. أما الإرادة فتزحف زحفًا وئيدًا عند الأكثرية الساحقة من الناس. فأّي عجب إذ ذلك في أن تعاني ما تعانيه من المضض في حربها مع الغريزة، وأن يكون تقدمها في الميدان بطيئًا إلى حد أنه لا يكاد يكون محسوسًا إلا على مدى أجيال طوال، وإلا في نخبة من الآدميين الذين تجنّحت إرادتهم فكانوا -وما برحوا- حداة القافلة الإنسانية وهداتها؟ قصارى القول إننا نعيش في عالم دأبه التجدد. والتجدد لا يكون بالبناء دون الهدم، ولا بالهدم دون البناء. ولكنه يقوم بكليهما. فنحن لا نستطيع أن نبني بيتًا من حجارة كثيرة إلا إذا حطمنا حجارة كثيرة. ولا أن نجهز البيت بالأبواب والأثاث إلا إذا أجهزنا على حياة أشجار كثيرة. وأجسادنا لا تقتات إلا بأشياء نميتها، ولا تنمو إلا بغير الانحلال. فهل من غاية وراء هذا التجدد المستمر وما هي؟ ما شككت يومًا في وجود الغاية. والغاية التي يدلّني عليها فكري وخيالي هي أن هذا الكون الجيّاش بالحركة والحياة إنّما يتحرك من اللاوعي إلى الوعي، من الجهل إلى المعرفة، من الحدود والقيود إلى حيث لا حدود ولا قيود، من الحسّ إلى ما وراء الحسّ، من الخير والشر إلى ما فوق الخير والشر، من الجزئيات إلى الكليات، من الحق الذي لا يقوم بغير القوة إلى القوة التي لا تقوم بغير الحق، من الغريزة المخلوقة العمياء إلى الإرادة الخلاقة المبصرة. إنه لموكب هائل رائع ساحر هذا الذي تؤلفه الأكوان في طريقها إلى الانفلات من حدود الزمان والمكان، والانعتاق من قيود الحس والمادة. إنه لموكب الحياة التي تأبى الحصر في الأقفاص وإن تكن من الذهب والياقوت والألماس. أما تراها في قطرة الماء كيف تغدو بخارًا، وفي الحطبة كيف تصبح نارًا، وفي البذرة الميتة كيف تنفض عنها الموت لتتعالى إلى السماء نبتة هيفاء أو دوحة وارفة، وفي بيضة الطير كيف تنقف منها كائنًا يمتطي الريح ويسوقها بالأغاريد، وفي نطفة الإنسان كيف تنطلق منها جسدًا عجيبًا غريبًا، وفكرًا يجوب الأرض والسماء، وخيالاً يطوي مهامه الآزال والآباد، وإرادة تسعى بغير انقطاع إلى التسلط على كل منظور وغير منظور؟ أجل. هي الحياة المجسدة تسعى إلى الانفلات من أجسادها. وهي ما تجسّدت إلا لتعرف ذاتها. لذلك لا تنفك في حركة دائمة وتجدد سرمدي تسوقها الغريزة العمياء أولاً والإرادة المبصرة فيما بعد. والإنسان -ذلك الحيوان المستحدث من جماد- ما يزال في بدء عهده بالإرادة المبصرة وفي بدء صراعه مع الغريزة العمياء. وصراعه سيكون قاسيًا ومرًّا وطويلاً. ولكنه لن يلقي سلاحه حتى تكون له الغلبة، وحتى تنساق غريزته لإرادته فيخلق عالمًا يليق بعظمته وبجمال الحرية التي يشتاقها بكل قلبه وفكره وخياله. *** *** *** [1] ميخائيل نعيمه، النور والديجور، مؤسسة نوفل، بيروت، 1988.
|
|
|