|
ذاكرة الباطن
أكرم
أنطاكي
الفصل
الرابع
سنوات المراهقة... (1958-1961) آ
وفاة
الجد...
طائر
الليل: وما زالت عيناي تدمعان حين أسمع تلك
الترنيمة الكنسية الحزينة تردِّد كالعنين:
فليكن ذكرُه مؤبَّداً... فليكن ذكرُه مؤبَّداً... كان
شتاء 1957-1958 أبرد من الذي سبقه... أو، على الأقل،
هذا ما ادعاه جدِّي (605) وأبناؤه الذين اتفقوا على
اللقاء في صبيحة ذلك اليوم المثلج من أواخر
كانون الأول 1957 في "مقهى الروضة" الذي
كان – وما يزال – يقع في شارع العابد. كان
والدي (606) – كالعادة – أول من وصل. ثم تلاه جدِّي
وعمي جورج (607) اللذان دخلا المقهى وهما ينفضان
الثلج عن منكبيهما. وسرعان ما علَّق العجوز
قائلاً: -
المجانين وحدهم يغادرون
منازلهم في مثل هذا الطقس! وجلس
الثلاثة يرتشفون الشاي بصمت لم يقطعه إلا فتح
الباب بقوة ودخول عمِّي رزق الله (608) الذي انضم
إليهم. ثم تلاه بعد عشر دقائق عمي فلاديمير (609)
الذي كان آخر الحاضرين. وردَّد العجوز مرة
أخرى: -
نعم، المجانين وحدهم
يغادرون منازلهم في مثل هذا الطقس! ولم
يكن في المقهى من أحد سواهم إلا صاحب المقهى
وأحد الخدم الذي كان ينظر إليهم متبسماً. ولم
يحضر أحد سواهم في ذلك الصباح. ونظر
الأب وأبناؤه بعضهم إلى بعض بدهشة، ثم
انفجروا جميعاً مقهقهين، بينما كان والدي
يعلِّق: -
هكذا إذن يا بابا! نحن في
تعريفك "عائلة مجانين"! "عائلة
مجانين" – ربما! ولكن، قطعاً، عائلة كانت
تعيش حياتها كسواها – وإن تخلل تلك الحياة
بعض الصخب؛ وخاصة في نهاية العام، حيث كان
أكثر ما يشغل منزلنا هو احتفالات أعياد
الميلاد ورأس السنة. فبدءاً من العشرين من شهر
كانون الأول من كل عام كان والدي (610) يباشر نصب
شجرة الميلاد (التي كانت في حينه غصن أرزة
طبيعية) وتزيينها وإقامة المغارة. كما كانت
والدتي (611) تبدأ بالتحضير لطعام العيد. وكان
الجميع يساهم، بالتنسيق مع عمي جورج (612)، في شراء
الهدايا و"إخفائها" في مكان (يعرفه
الجميع!)، بانتظار حلول ليلة الميلاد التي
كنَّا دائماً نقضيها سوية كعائلة. أما ليلة
رأس السنة فكان أهلي يقضونها عند بعض
الأصدقاء، بينما كنا (أنا (613) وإكرام
(614)) نبقى وحدنا
في المنزل. ويستوقفني
الحنين... فهذه المناسبة تذكِّرني بوالدي (615)؛
خاصة وأن اكتشاف الشجرة والمغارة اللتين
رافقتاني منذ أيامي الأولى كان من خلاله،
وعلى يده تحديداً؛ ولأن أجمل لحظاته ولحظات
العائلة كانت حين كان يصنعهما في نهاية كل عام
وهو يغنِّي بصوته الأجش: Il
est né le divin Enfant... Jouez
Hautbois, raisonnez Musettes... Il
est né le divin Enfant... Chantons
tous son avènement... [لقد ولد الطفل
الإلهي... فاعزف يا أوبوا واصدح
يا مزمار... لقد ولد الطفل الإلهي... فلنغنِّ جميعنا
لمجيئه...]
وأعترف
بخجل أني كنت ما أزال أتجنَّبه في تلك الأيام...
لأني، كما سبق وأشرت، كنت أخجل منه بعض الشيء،
بحكم تأثير الوالدة (616)، من جهة، وبسبب قصوري عن
فهمه، من جهة أخرى. كنت أفضِّل في أعماقي –
بكل غباء! – لو كان غنياً كعمِّي رزق الله (617)،
لأني قطعاً لم أكن في حينه أدرك أن كلَّ
إنسان هو في النهاية ما هو. والذي بقي
عالقاً منه في قلبي وذاكرتي هو ذلك الصدق
المرعب الذي كان يميِّزه، والذي كان بعض أقرب
المقربين إليَّ يعتبره سذاجة! وكان
في 11 كانون الثاني 1958 احتفال لطيف في منزلنا
بعيد ميلادي الثالث عشر، دعوتُ إليه بعض
أصدقائي القدامى والجدد من الفرير
والعازرية، وبعض الفتيات من المعارف
والأقارب. لَهَوْنا كما يفترض أن يلهو من هم
في مثل سنِّنا، وكما يلهو اليوم أولادي في تلك
المناسبات السعيدة، غير عابئين بما يجري
حولهم من أحداث مصيرية وغير مصيرية! وكان
في 11 كانون الثاني 1958 الإعلان عن سَفَر وفد
يمثل "اللجنة العسكرية" إلى مصر
للاجتماع إلى الرئيس عبد الناصر (618) والطلب إليه
الموافقة على الوحدة الاندماجية والفورية مع
سورية. وقد أضحى معروفاً اليوم أن تلك اللجنة
كانت، من وراء الستار، الحاكم الفعلي للبلد
في الحقبة "الديموقراطية" الماضية. كان
ذلك الوفد برئاسة اللواء عفيف البزري (619)، رئيس
الأركان؛ وقد ضم عدداً من كبار الضباط أعضاء
اللجنة، من بعثيين وغير حزبيين. وكانت
هذه "اللجنة" قد رفعت أيضاً في حينه
إنذاراً نهائياً Ultimatum
بهذا الخصوص إلى رئيس الجمهورية
السيد شكري القوتلي (620)، الذي يقال إنه فوجئ
واستنكر في البدء، ثم رضخ للأمر الواقع،
فوافق على التجاوز العسكري لشرعيته
المنتهكة، و... قرر
ركوب الموجة "الوحدوية"، التي كان حزب
البعث آنذاك من أنشط دُعاتها. فسافر إلى مصر
في 13 كانون الثاني 1958 ممثلُه الأبرز في
الوزارة، وزير الخارجية آنذاك، السيد صلاح
البيطار (621)، للالتحاق بالوفد العسكري ودعم
مطالبته بالوحدة. وكان
في 15 كانون الثاني 1958 الإعلان من القاهرة عن
قيام تلك الدولة الواحدة التي سُمِّيتْ بـ"الجمهورية
العربية المتحدة"، وذلك بعد أن وافق
السوريون الموجودون يومذاك في مصر على طلب
الرئيس جمال عبد الناصر (622) إبعاد الجيش عن
السياسة وحل جميع الأحزاب... تلك الدولة التي أيدت قيامها إجمالاً
أيضاً الحكومة السورية آنذاك، ماعدا وزير
الدفاع بالوكالة السيد خالد العظم (623) الذي سجَّل
تحفظه رسمياً في محضر جلسة مجلس الوزراء،
والبرلمان السوري في شبه إجماع، ماعدا أيضاً
الشيوعي خالد بكداش (624) الذي غادر البلاد متغيباً
في حينه، متعمداً عدم حضور تلك الجلسة
التاريخية. فقد وافقت جميع الأحزاب السورية
تقريباً (وظاهرياً) على حلِّ نفسها، ماعدا
الشيوعيين الذين رفضوا حلِّ الحزب. ثم
كان الـ22 من شباط 1958، وكان استفتاءٌ مضمون
النتائج في كل من سورية ومصر على الوحدة وعلى
رئاسة عبد الناصر لها. وقد جاءت نتيجة هذا
الاستفتاء (كما زعموا، وأضحى تقليداً بعدئذٍ)
الموافقة بنسبة 99,1 % من الأصوات... فقط! وجاء
عبد الناصر (625) الذي كان أصبح رئيساً لـ"لجمهورية
العربية المتحدة" في أول زيارة له إلى
سورية، وألقى خطاباً هاماً من على شرفة قصر
الضيافة في دمشق، أعلن فيه عن اكتشاف مؤامرة
جديدة – سعودية هذه المرة – ضد الدولة
الجديدة. وجاء
تشكيل أول حكومة فيها لصالح البعثيين عموماً.
فكان البعثي أكرم الحوراني (626) والوطني صبري
العسلي (627) فيها نائبين لرئيس الجمهورية. وكان
البعث (الذي يُفترَض أنه حلَّ نفسه) ممثَّلاً
في هذه الوزارة بثلاثة وزراء من قيادييه، هم
السادة: صلاح البيطار (628) وخليل الكلاس
(629) ورياض
المالكي (630). وكان أهم شخصياتها رئيس المخابرات
العسكرية، العقيد عبد الحميد السرَّاج (631) الذي
أصبح وزيراً للداخلية. "جاء
جورج (632) يومها للغداء عندنا في منزلنا كالعادة.
وقد لاحظت أنه كان منفعلاً، بمعنى أنه كان
يحمل أخباراً هامة يريد أن يزفَّها إلينا.
وفعلاً قال فور جلوسه إلى المائدة: "كنت
البارحة ليلاً يا جماعة أحضر فيلماً في سينما
الأمير. وفي فترة الاستراحة، لن تصدقوا من
وجدت معنا في السينما. كان الرئيس جمال عبد
الناصر (633) بشخصه قد جاء ليحضر الفيلم. فصفقت له
القاعة بحرارة – وكنت أنا من بين المصفقين...". "فأجبته:
"ولم العجب يا جورج؟! وقد كان خالد العظم (634)
يذهب دائماً بشكل اعتيادي إلى السينما، ويجلس
بشكل طبيعي بين الناس...". "فرد
جورج: "ولكن يا أريس (635) هذا عبد الناصر
(636)! وليس
خالد العظم..."." وانتقل
عمِّي رزق الله (637) وعائلته إلى منزل جديد كبير
وجميل في حيِّ أبو رمانة خلف السفارة
السعودية، كان قد اشتراه بـ60000 ليرة سورية.
كما اشترى سيارة أمريكية كبيرة من نوع
شيفروليه وعيَّن سائقاً لها، وبيتاً جميلاً
في مصيف الزبداني. وتزوجت
خالتي فينوس (638) من خياط غني من أسرة الكباش
الحمصية؛ فأصبحت جدتي أولغا (639) تسكن وحدها مع
خالي إميل (640) في الطابق العلوي من بناء
الحميدية؛ بينما انتقل خالي ألبير (641)، الذي كان
يعمل في حينه قاضياً، ليسكن في الطابق السفلي
من البناء. كما
اشترى لي والدي دراجة (بيسيكليت) صرت أذهب بها
إلى المدرسة... وأعاكس الفتيات! ففي تلك الأيام
صرت مراهقاً... وكانت
المراهقة تعني بالنسبة لي، كما بالنسبة إلى
معظم الشبان الذين كنت أعرفهم من سنِّي،
التغير في النظرة إلى الجنس الآخر، أولاً،
والتشبُّه بالكبار من خلال المظاهر الفارغة،
وخاصة التدخين والقمار، ثانياً. والحق
أقول إنني تعاطيت التدخين في تلك الحقبة،
لمدة شهرين تقريباً بشكل متقطع؛ ثم، لما لم
أستسغه، انقطعت عنه انقطاعاً كاملاً، ولم أزل
إلى اليوم. أما القمار، فقد تعاطيتُه بنهم في
حينه مع العديد من أصدقائي في الصف. وأيضاً... لما
كانت المراهقة تعني، في جملة ما تعني، التغير
في الذوق والاهتمام الموسيقيين، فقد غدوت في
تلك الأيام من عشاق موسيقى الروك الأمريكية،
وخاصة من عشاق المغني الأمريكي إلفيس بريسلي،
حيث لم أكن أتذوق في حينه الموسيقى
الكلاسيكية ولا الموسيقى العربية. لكني أسجل
هنا أنه كان لعمِّي جورج (642)، المحب للأغاني
الرومانسية الفرنسية والأمريكية، الذي كان
أيضاً من عشاق موسيقى الجاز، دورٌ هام في
تشذيب ذوقي الموسيقي نحو الأفضل. فبت منذ ذلك
الحين أشاركه حبه لتلك الأغاني والموسيقى
الراقية. وأخيراً... وهذا
أهم ما في الأمر، بدأت المراهقة تتجلَّى
بالنسبة لي بازدياد شغفي بالمطالعة. فبدأت
قراءة مؤلفات همنغواي الذي أهداني عمِّي جورج
(643)
في البدء روايته الأجمل والأعمق، العجوز
والبحر، التي استحوذت علي مأساتُها، وإن لم
أدرك في حينه كامل عمقها. كما
بتُّ أشارك في بعض النشاطات الكشفية عن طريق
المدرسة، و"الشبيبة الطلابية المسيحية"،
و"النادي الغسَّاني"، الذي كان يقع في حي
القصاع قرب مكان سكني... ومن
خلال "هدوء ظاهر" (هو السمة المميزة
لجميع الديكتاتوريات التي عشناها) كانت
الأوضاع الداخلية والخارجية تتفاعل وتنعكس
بين الناس من خلال ما كانت تتناقله وسائط
الإعلام، بعامة، والشائعات والأحاديث، بخاصة... والشائعات
كانت تتحدث عن تسريح "الضباط الشيوعيين"
من الجيش السوري. والأنباء كانت تتحدث عن قبول
استقالة رئيس الأركان "الشيوعي الميول"
عفيف البزري (644) في نيسان 1958. وكانت هذه الإجراءات
متوقعة. كما
تفجرت للأوضاع في لبنان، الذي اختلَّت
تركيبتُه بسبب انحياز رئيسه كميل شمعون (645)،
والمسيحيين الموارنة من ورائه عموماً، إلى
التوجهات الغربية، بينما تصاعدت العواطف في
الشارع الإسلامي اللبناني نحو عبد الناصر (646)
خاصة. فكان الـ8 من أيار 1958، وكان اغتيال
الصحفي نسيب المتني (647) وبداية حرب أهلية طائفية
محدودة، دعمت "الجمهورية العربية المتحدة"
فيها الجانب الإسلامي المعارض لشمعون
ولتوجهاته... تلك الأحداث التي كانت تتناقلها
الإذاعات... التي كانت تتناقل أيضاً أنباء "الثورة
الجزائرية"، وانعكاساتها الحادة على
الأوضاع الداخلية في فرنسا، حيث كان في الـ31
من أيار 1958 استدعاء الجنرال ديغول (648) للعودة إلى
سدة الحكم. وطبعاً،
لم نذهب في صيف عام 1958 إلى لبنان بسبب الأحداث
هناك، وإنما اكتفينا بالذهاب لمدة أسبوعين
إلى بيت جدي في حمص، ثم إلى الزبداني حيث
قضينا أسبوعين آخرين ضيوفاً على عائلة عمِّي
رزق الله (649). أما باقي الصيفية فكان في دمشق. ولكن
هذا الصيف كان حاراً جداً... ومتميزاً جداً من
حيث أحداثه... ففي
صبيحة الـ14 من تموز 1958 – وكنا في حينه في حمص
– استيقظت متأخراً على ضجيج مذياع "مقهى
الحميدية" يلعلع، والناس من حوله في الشارع
المواجه لبيت جدِّي تهلِّل وتهتف وتصفق... وعمَّت
سورية "العَراضات" المؤيدة للثورة
العراقية المظفرة والمندِّدة بالإمبريالية
الأمريكية والبريطانية والفرنسية، والمؤيدة
خاصة للرئيس عبد الناصر (650) الذي سارع بالعودة
إلى إقليمه الشمالي، قاطعاً رحلته إلى
يوغوسلافيا. فما جرى كان من الممكن أن يؤدي
إلى فَلَتان في المنطقة، وكان خطيراً جداً من
وجهة نظر الغرب الذي... سارعت أهم دوله – الولايات المتحدة في
حينه – إلى إنزال قواتها في لبنان في الـ15 من
تموز 1958. كما سارعت بريطانيا بعدها مباشرة، في
الـ17 من نفس الشهر، إلى إنزال مظلييها في
الأردن. وانتهت
الحرب اللبنانية من خلال تسوية يقال إن
الولايات المتحدة رَعَتْها، وإن الرئيس جمال
عبد الناصر (651) وافق عليها؛ تمثلت هذه التسوية
بامتناع شمعون (652) عن ترشيح نفسه لرئاسة ثانية،
مقابل توقف الجمهورية العربية المتحدة عن
مساعدة الجانب الإسلامي المحارب، من جهة،
وانتخاب (الحيادي الذي رفض تأييد أي جانب في
الحرب الأهلية) قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب (653)
رئيساً للبنان، من جهة أخرى... ثم
اعترفت الولايات المتحدة وبريطانيا بالأوضاع
الجديدة في العراق. وبدا
وكأن عبد الناصر (654) وخطَّه قد انتصرا على طول
الخط؛ أو على الأقل، هذا ما كانت تصوره لنا (ونصدِّقه
عموماً) دعايتُنا الرسمية وأناشيدنا التي
كانت تهلل لـ... "الريِّس..."،
"كبير القلب..."، الذي "إحنا اخترناه...
وحنمشي وراااااااه..." ولـ... "بيروت
بعد العدوان... [التي زال عنها] الاستعمار
والطغيان...". وتدعو
العراق – الذي أضحى "شقيقاً" – إلى
الالتحاق بـ"الجمهورية العربية المتحدة"
التي باتت، حسبما كان يردد إعلامنا، "رأس
رمح مسدَّد إلى قلب العدو الإسرائيلي" الذي
غدا واقعاً "بين فكي كماشة" – ذلك
الإعلام الذي كان يسبِّح طبعاً بمنجزات
العهد، التي كان من أهمها في حينه "قانون
الإصلاح الزراعي"، و"السدُّ العالي"
الذي باشرنا بناءه "بأيدينا..."! وكانت عودتي إلى المدرسة (العازرية طبعاً)، وقد أصبحتُ طالباً في الصف الثامن. لم يتغير طاقم أساتذتنا خلال هذه السنة عموماً؛ فقط أصبحت تدرِّسنا العلوم الطبيعية امرأة فرنسية جميلة متزوجة من سوري من عائلة منصور. ثابرت آنذاك على تفوقي الدراسي، وخاصة في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية... واستمررت،
فيما يتعلق بمراهقتي، في لعب القمار بشكل
مكثف. كنت والشلة التي ألعب معها نستفيد من كل
لحظة فراغ خارج المدرسة لـ"نلعب فَتّ"،
مما كان يؤدي أحياناً إلى تأخري بعض الشيء في
العودة إلى المنزل مساءً، الأمر الذي انعكس
سلباً في حينه على علاقتي بوالدي (655). وتزوج
خالي إميل (656) من فتاة لوائية الأصل تصغره بعشرين
عاماً تدعى فدوى – وكان تعرف إليها عن طريق
قريبنا الحلبي الكاهن قسطنطين أنطاكي (657). فذهب
لقضاء أسبوعي عسل في بيروت عند شقيقته أوديت (658).
ثم جاء إلى دمشق حيث قضى بضعة أيام في ضيافتنا. أضحت
فدوى، زوجة أميل (659)، موضوع تندُّر في حلقتنا
العائلية، بسبب ضخامة جسمها، من جهة، وخاصة
بسبب ما لوحظ منها وأسمته والدتي "بساطتها"،
من جهة أخرى. كانت عبارتُها الشهيرة حين ترى
أي شيء يعجبها في السوق – وكان كل شيء تراه
يروق لها: "إميل، حبيبي، اشترِ لي هادا..."،
الأمر الذي صار موضوع تندُّر في منزلنا،
وانعكس في النهاية سوء علاقة بين أهلي وبينها.
وجاءت
مع نهاية عام 1958 أنباء من فرنسا تتحدث عن
انتخاب ديغول (660) لرئاسة جمهوريتها الخامسة.
وحلَّ مطلع عام 1959 مع أخبار من كوبا تتحدث عن
استيلاء الثوار فيها، بقيادة فيديل كاسترو (661)،
على السلطة. أما
في منطقتنا، فكانت أخبار العراق هي السائدة.
وكانت الأنباء تتحدث بإسهاب عن تلك الخلافات
الحادة التي نشبت بين قادة "ثورته"، عبد
الكريم قاسم (662) الذي لم يكن موافقاً على الاتحاد
مع مصر وسورية – وكان يؤيده في ذلك الشيوعيون
المحليون ومستنيرو البورجوازية الوطنية –
وعبد السلام عارف (663) الداعي إلى الوحدة الذي كان
يؤيده البعث وباقي الفئات القومية... خاصة
وأن المسرح الداخلي في سورية ومصر شهد في مطلع
عام 1959 تصعيداً كبيراً في الخلاف بين عبد
الناصر والشيوعيين المحليين الذين بوشرت
آنذاك حملة اعتقالات منظمة ضدهم في سائر
أنحاء البلاد. كما قام عبد الناصر (664) بمهاجمتهم
بعنف في خطابه الذي ألقاه في دمشق في الـ22 من
شباط 1959 من على شرفة قصر الضيافة، الأمر الذي
انعكس، إلى حدٍّ ما، سلباً على علاقات عبد
الناصر بروسيا والدول الدائرة في فلكها. وكثرت
رحلات عمِّي رزق الله (665) إلى مصر، حيث كان مجلس
الأمة قد عيَّنه خبيراً في لجنة توحيد
القوانين بين الإقليمين التي كان يترأسها
السيد أنور السادات. ولكن... كان
أكثر ما يشغلنا كعائلة، وتدور حوله الأحاديث
في المنزل في حينه، هو صحة جدِّي لطف الله (666)
التي بدأت تتدهور بشكل متسارع. وكان ذلك اليوم
الذي جاء فيه رزق الله (667) وجورج
(668) إلى منزلنا في
الصباح الباكر، فاجتمعا مطولاً إلى أبي (669)
وأمِّي (670)، وطلبا منهما أن ينتقل الجدُّ إلى
عندنا لتقوم والدتي على رعايته بشكل أفضل.
وافق أهلي على ذلك مباشرة؛ ولكن بقي إقناع
صاحب العلاقة بالأمر. وكان
أن ذهب أبي وأمي في نفس اليوم، فاجتمعا إليه
بحضور عمي جورج، وأقنعاه بأن يأتي إلى عندنا
لبعض الوقت ريثما يتم شفاؤه. وكما فهمت، فيما
بعد، اعتذرت منه والدتي في هذا اللقاء عما كان
صدر عنها وأساء إليه، ورَجَتْه باكية أن يأتي
إلى عندنا، فاقتنع ووافق على المجيء في صبيحة
اليوم التالي... وكان
ذلك اليوم التالي، ومجيئه عندنا ظهراً بعد أن
ودَّع رزُّوق (671) الذي سافر في نفس اليوم إلى
القاهرة لمتابعة أعماله. وقد أحضره عمِّي
جورج (672) بسيارة تكسي بعد أن ساعده على ترتيب
حاجاته. ولكن – وهذا هو الأهم... جاء
وهو يحمل إلينا معه – وقد أعطاه لوالدي (673) – "الكتاب
المقدس" و"الأيقونة" التي علَّقها أبي
مباشرة على الحائط المواجه لأسرَّتنا في غرفة
النوم، مواجه سريري تحديداً... وقد
قدمت له أمي (674) في حينه سرير إكرام
(675)، فبات ينام
معي ومع سمير في نفس الغرفة، بينما انتقلت
شقيقتي لتنام على الصوفا في غرفة الجلوس. أما
ريما (676) فكان سريرها الصغير ما يزال في حينه في
غرفة والدي. وكانت
تلك الأيام التي تلت مجيئه إلينا، ومن خلال
سعادته، أياماً في منتهى السعادة بالنسبة لي.
فالوالدة وأبي كانا يدلِّلانه وكأنه طفل، إن
لم نقل كأنه ملك. كانت أمي تتابع علاجه وتطبخ
له كل يوم ما كان يشتهي ويتمنَّى من طعام. وكان
أبي وعمي جورج (677) يُحضِران له كل يوم الصحف
اليومية التي كان يتصفَّحها بإمعان قبل أن
يلقيها وهو يعلِّق ساخراً، مقارناً بينها
وبين الصحافة أيام فرنسا... فمن
أول أفضال "الاستقلال" ثم "الوحدة"
علينا، كما كان يقول، "أننا فقدنا "حريتنا"..."! ثم
عبَّر لأبي عن رغبته بأن يرى شقيقه كريم (678).
فاتصل والدي مباشرة بالعم كريم هاتفياً وجاء
هذا الأخير إلى عندنا في اليوم التالي. وبقي
أربعاً وعشرين ساعة في ضيافتنا، نام خلالها
في تلك الليلة في سريري إلى جانب شقيقه، بينما
نمت أنا يومها على فراش أرضي مع إكرام في غرفة
الجلوس. وقد
بقي جدي عندنا في المنزل حوالى عشرين يوماً،
كثر خلالها زوار منزلنا من أصدقائه، وبدا
خلالها وكأنه يتماثل للشفاء، فلم يعد حتى
يسعل ليلاً. كما كان قد توقف عن التدخين،
وعادت وجنتاه إلى الاحمرار. ثم كان ذلك اليوم
الأخير – الأربعاء على ما أذكر... وقد عدت من
المدرسة ظهراً، وكان معي صديقي الإيطالي
كارلو (679) الذي جاء يومها من مدرسته اللاييك
لتناول الغداء في منزلنا. فتغدينا جميعاً،
ولعبنا الشدَّة أنا وكارلو بعض الوقت، بينما
كان هو يقرأ في سريره. ثم توجَّهت إليه وسألته
بتحدٍّ مازحاً – وقد كنت في حينه أعتبر نفسي
لاعب بوكر ماهراً: -
هل تلعب معنا البوكر يا جدو؟ فسألنا
مازحاً عن مقدار المال الذي معنا. ثم قال: -
تفضلوا... وجلسنا
نلعب معه، بينما جلست إكرام (680) إلى جانبنا تتفرج.
وكانت لعبة لا تنسى! خلال
عشر دقائق كان العجوز قد "شلَّحنا" –
ونحن نضحك! – كل ما كان معنا! ثم أعاد الفيش
إلينا، وأعدنا الكرَّة من جديد. وأعاد من
جديد، خلال دقائق، تشليحنا ما كان بحوزتنا.
ودخل أبي في حينه إلى الغرفة فتأمل ما كان
يجري وعلَّق ضاحكاً: -
ماذا يا بابا؟! أنت تستقوي
على أولاد؟ فأجابه
جدِّي ضاحكاً: -
تفضل العب معنا إن كنت رجلاً! ورفض
أبي الدعوة قائلاً: -
أنا لا أضاهيك يا بابا! وتابعنا
اللعب. وأعدنا الكرَّة مرات ومرات. وأعاد
تشليحنا بسهولة مرات ومرات. وكان صديقي كارلو
يلعب معه بحماس، وهو لا يصدق ما كان يرى. كما
كنت أنا نفسي لا أصدق أيضاً ما كنت أرى... -
كما في الأفلام! كان كارلو
يردد بين الفينة والأخرى متعجباً. ثم
بدأ العجوز يعلَّمنا أن أهم قواعد هذه اللعبة
(كأية لعبة في هذه الحياة) هي السيطرة النفسية
على الطرف الآخر، وكيف يمكن ذلك من الدقائق
الأولى. وكنا نستمع إليه بإعجاب، فاغري الفاه
صامتين... ثم
غادرني كارلو عائداً إلى منزله، وتناولنا
العشاء معاً ونمنا جميعاً باكراً هذه الليلة.
فخلال وجود جدِّي عندنا لم يعد أهلي يسهرون
خارج المنزل... وكان
أن استيقظت فجأة بعد منتصف الليل بقليل على
صوت ضجيج وأصوات تتعالى. فنظرت إلى السرير حيث
كان ينام جدِّي (681) فوجدته خاوياً. وخرجت من
الغرفة حيث وجدت الجميع مستيقظاً وفي حال
اضطراب شديد... كانت
أمي (682) تحمل ريما
(683) وتبكي. وكانت إكرام
(684) تنظر إلى
الجميع بعينيها الكبيرتين وهي تبكي أيضاً.
وكان أبي (685) يتحدث بالهاتف إلى عمِّي جورج
(686) بصوت
متهدج قائلاً: -
أخبر رزوق (687) في مصر برقياً
الآن... مباشرة... ونظرت
إليَّ أمي وقالت: -
لقد مات جدو (688) يا أكرم... سألتها: -
أين هو الآن؟ وكيف حصل؟ أجابتني: -
إنه
الآن في سريرنا أنا ووالدك. لقد توفي وهو في
طريقه إلى المرحاض، وكان والدك إلى جانبه... وجلست
على الكنبة مذهولاً غير مصدق، وجلست إكرام (689)
إلى جانبي... بعد
ربع ساعة، وصل عمي فلاديمير (690)؛ وأجهش الجميع
بالبكاء بصوت عال. وبعد نصف ساعة أخرى وصل عمي
جورج (691) الذي دخل وهو يبكي قائلاً: -
لقد أرسلت هاتفاً مسجلاً
وبرقية إلى رزق الله (692) في مصر... ولم
تمضِ ساعة إلا واتصل بنا عمي رزق الله (693) هاتفياً
من الفندق في مصر، وأخبر والدي أنه سيحاول
الحضور ظهراً مع أول طائرة. مع
الصباح، كان يجب إخبار باقي الأقارب
والأصدقاء وملاحقة الإجراءات الضرورية في
مثل هذه الأحوال، كالعم كريم (694)، شقيقه من حلب (الذي
لم يحضر يومها بسبب مرضه)، وجدتي أولغا (695)،
شقيقته في حمص (التي سارعت بالحضور مع ابنيها
إميل (696) وألبير
(697))، وآل رزق الله
(698)، وآل نعيم
(699)، وآل
مسابكي (700)، وآل أتاسي
(701)، وجميع الآخرين من أقاربنا
وأصدقائنا وأصدقاء عمي رزق الله، كالشيخ
معروف الدواليبي (702) الذي بقي عندنا ذلك اليوم
بكامله وكان من أول المعزِّين... وكان
وصول رزق الله (703) من المطار حوالى الواحدة بعد
الظهر، أي قبل المراسم بساعة. وكانت جنازة
مهيبة، وبرقيات وصلت من مختلف الأصدقاء
والمعارف، أهمها كانت تلك التي أرسلها إلى
عمِّي رزق الله السيد أنور السادات (704) من مصر... وأذكر
أنني سرت معهم في الجنازة بعض الوقت... ثم
سرعان ما وجدت نفسي، وقد تخلفت عن الركب
وابتعدت عنه، أستقل الباص إلى حي الصالحية،
حيث نزلت... وقادتني قدماي جراً، دون أن أدري،
إلى سينما الأمير... دخلت وجلست وحيداً...
اختليت بنفسي في الظلام، وبكيت بصمت، دون أن
يشعر بي أحد، ذلك الذي أحببته أكثر من الجميع
في عائلتي، وطبع طفولتي بطابعه. وكانت،
كالعادة، ثلاث أيام للتعزية، جاءت في صباح
اليوم الأخير منها خليلتُه بهيجة التي... "انتظرت
وهي تترصد عند الجيران خروج والدك من المنزل.
فالمسكينة لم تكن تجرؤ الحضور بوجوده." ومرت
تلك الأيام التي بدت لي كئيبة من خلال الدراسة
والمدرسة ودوامها الممل الذي لم تقطعه، في
حينه، إلا الذكرى الأربعين لوفاة جدي التي
حضرها العم كريم (705)، وتلك العَراضات التي أضحت
شبه رسمية، وكانت تُخرِجُنا منها في حينه
هاتفة ضد الشيوعية والشيوعيين وضد "قاسم
العراق"... فكنا نستفيد من هذه الاستقطاعات
المدرسية للذهاب إلى السينما، أو إلى منزل
أحدنا لنلعب الشدة، أو إلى مشارف مدرسة
الفرانسيسكان للالتقاء ببعض الفتيات من
معارفنا. وكانت
أحداث الموصل، ومحاكمات المهداوي، وتصعيد
الخلاف بين العراق، الذي لم يعد شقيقاً، إنما
بات يوصف بـ"الشيوعي"، وبين جمهوريتنا
العربية المتحدة. وكان
حدثٌ هزَّ الوسط الشبابي في دمشق، حيث توفي
أحد "أجمل" شبابها الذي كانت تعشقه معظم
صبايا البلد: فتى من عائلة الحسيني، الغنية
والمعروفة، يقال إنه قُتِلَ بينما كان يحاول
التسلل إلى العراق عبر الصحراء. فقد كان شيوعي
الميول، كما قيل. وأتذكر
بالمناسبة أن الصبايا اللواتي كنا نتابعهن
باهتمام متزايد في تلك الأيام لم يكنَّ
يُعِرْنَنا أي انتباه بسبب صغر سننا. ولعلي لا
أذيع سراً حين أقول إن من كان يجذب الاهتمام
الأكبر لتلك الفتيات الأجمل في دمشق في حينه
كان بعض الشباب الـ"دونجوانية" الأكبر
سناً منا، الذين أسَّس بعضهم فرقاً موسيقية،
كهاري... وجوني... وإدمون... وفؤاد... إلخ... وانتهي
العام الدراسي 1958-1959، ونجحتُ وشلَّتي إلى
الصف التاسع، بينما نجحت شقيقتي إكرام (706) إلى
الصف السابع. وذهبنا جميعاً في هذا العام
لنقضي الصيف في الزبداني في بيت استأجرناه
قريباً من ذلك الذي يملكه عمِّي رزق الله (707)... ***
|
|
|