|
ب
مدرسة الآباء
العازريين (2)...
طائر
الليل: لأن أجمل ما يتبقى بين أيدينا هو ما
بوسعنا أن نقوله عن الأمس كنتيجة وكمحصلة... كانت
– ومازالت على حد علمي – في بلدة الزبداني،
حيث قضينا صيف عام 1959، كنيستان: الأولى للروم
الأرثوذكس، وتقع في البلدة القديمة في أسفل
المنحدر؛ والثانية للروم الكاثوليك، وتقع في
أعلى التل، قرب مكان سكننا في البلدة الحديثة.
وقد اعتاد أهلي وعائلة عمِّي رزق الله (708) وباقي
معارفنا من "المسيحيين الدمشقيين" الذين
يقضون الصيف هناك الذهاب صباح كل أحد (تقريباً)
للصلاة في الكنيسة الكاثوليكية، لأنها كانت
الأقرب، وخاصة لأن قداسها كان الأقصر... وكان
الكاهن الذي يؤدي خدمة القداس في تلك الكنيسة
في حينه هو الأب جرجورة من بطريركية الروم
الكاثوليك في دمشق – وكان "يتميز" بقلة
ذكائه! وأتذكر أنه في صباح أحد الآحاد من ذلك
الصيف ألقى هذا الكاهن في نهاية القداس
موعظةً تحدث فيها عن أحد قديسي العصور الأولى
للمسيحية الذي كان قائد مائة centurion،
راوياً كيف دخل هذا القديس وسريَّته ذات يوم
بلدة كان جميع سكانها من "عبدة الأوثان"،
فدعاهم إلى الاهتداء. فلما رفضوا دعوته جمعهم
في ساحة البلدة وأحرقهم عن بكرة أبيهم. وهكذا،
على حد قول الأب جرجورة، "قتل أجسادهم،
ولكنه أنقذ أرواحهم"! وكان
حين انتهى القداس أن اتجه عمِّي رزق الله (709)
إلى
هذا الكاهن، وقال له بصوت منخفض وهو يضحك: -
لقد بهدلتَنا يا أبونا! فوجئ
الكاهن بقول عمِّي، فسأله مضطرباً: -
لماذا يا سيد رزق
الله؟! ماذا قلت؟! ماذا فعلت؟! فأجابه
عمِّي ضاحكاً: -
لم نكن نعلم يا أبونا أن القديس "فلان"
الذي تحدثتَ عنه اليوم كان "مجرماً بحق
الإنسانية"! ثم
ابتعد عمِّي رزق الله (710) وهو يضحك، تاركاً
الكاهن المسكين وحيداً، فاغراً فاه، غير فاهم
لما جرى، وعاد للالتحاق بالجمع من معارفه
ليقصَّ عليهم ما دار بينهما من حديث غدا موضوع
تندُّر خلال هذا الصيف...
أشير
هنا إلى أنه، بعد وفاة والده، أصبح عمِّي رزق
الله (711) عميد أسرتنا وراعيها المعنوي. وقد انعكس
هذا خاصة تحسناً في علاقته مع والدي ومع عمِّي
جورج. فأصبح عمِّي جورج (712) يساعده في تصليح أوراق
الامتحانات لطلابه في الحقوق، بينما أضحى
والدي (713) شقيقه المفضل وشريكه في جلسات لعب
الشدة مع الأصدقاء. كما كان ابنه كريم (714) في حينه
صديقي المفضل، إلى جانب من كانوا آنذاك
يشكلون شلَّتنا المدرسية التي كانت تضم أيضاً
كميل لكح (715)، نواف نصير
(716)، وسيم عبد الله
(717)، وسيم
الأتاسي (718)، وفؤاد مرشاق
(719)... و
كانت نهاية العطلة الصيفية لعام 1959 وعودتي
إلى المدرسة (الحبيبة) طالباً في صفَّ الكفاءة.
وكان هذا بالنسبة لي واقعاً غطَّى على أنباء
تلك التغييرات السياسية التي جرت في تشرين
الثاني 1959 في قمة هرم الدولة الموحدة، وتمثلت
في حينه...
بتشكيل
وزارة مركزية للإقليمين، ضمت من سورية كلاً
من السادة أكرم الحوراني (720) (بعثي)، صلاح البيطار
(721)
(بعثي)، أمين النفوري (722) (ضابط سابق)، أحمد عبد
الكريم (723) (ضابط سابق)، بشير العظمة
(724) وحسن جبارة
(725) (مستقل)،
ومجلسين تنفيذيين في كلا الإقليمين؛ وكان
المجلس السوري منهما يضم السادة: مصطفى حمدون (726)
(ضابط سابق، بعثي) للإصلاح الزراعي، وعبد
الغني قنوت (727) (ضابط سابق، بعثي) للشؤون
الاجتماعية، وخليل الكلاس (728) (بعثي) للاقتصاد –
الأمر الذي بدا في حينه وكأنه تعزيز لمكانة
البعث في الدولة الموحدة. أما
على صعيد الجيش فكانت تنقلات للضباط بين
الإقليمين، أدَّت إلى إبعاد معظم الضباط
الحزبيين (البعثيين خاصة) إلى مصر، بينما كانت
تتعزز على صعيد البلد، ومن خلال جوٍّ "مباحثي"
خانق أضحى الصفة المميزة لمعظم تلك السنين،
مكانة وزير الداخلية المسؤول عن الأمن
الداخلي، السيد عبد الحميد السرَّاج (729). وحين
سأل أبي (730) شقيقه رزوق
(731) عن رأيه بتلك التغييرات،
شرح له كيف أنها، من وجهة نظره، تعكس، رغم
ظاهرها البراق، خلافاً متصاعداً بين البعث،
من جهة، والسرَّاج (732) وعبد الناصر
(733)، من جهة أخرى،
مشيراً هنا إلى أن عمِّي (734) وحزبه (المنحل طبعاً)
لم يكونوا رافضين التعاون مع عبد الناصر (735). فقد
كانوا يفضلونه، "على علاته"، على "حزب
البعث الذي خرَّب البلد بمزاوداته وسياساته
الخرقاء"... وفعلاً،
لم يمضِ العام 1959 إلا وكان الوزراء البعثيون
الأهم – الحوراني (736) والبيطار
(737) وقنوت
(738) وحمدون
(739) –
قد قدموا استقالتهم من الحكومة. ومرت
السنة الدراسية 1959-1960 كالتي سبقتْها ببطء،
بين دراسة وألعاب مراهقة؛ حيث لم يميزها على
صعيدي الشخصي إلا تمتين علاقة صداقة مميزة
بيني (740) وبين شقيقتي إكرام
(741) التي كانت تعيش أولى
سني مراهقتها المبكرة والصعبة التي سبَّبت
لها ولنا العديد من المشاكل. وأتذكر ذلك بألم... لأن
إكرام (742) كانت الأقرب الى قلبي في حينه؛ وما كانت
تعانيه، بسبب حساسيتها وحدَّة طباعها، من
صعوبة في التواصل مع الآخرين – وكنت أعانيه
أنا أيضاً، لكن بحدَّة أقل – كان صعباً
ومريراً. وأتذكره لانعكاساته السلبية على
أجوائنا العائلية، خاصة وأن كلا والديَّ كان
يفتقد الأسلوب في التعامل معنا خلال هذه
المرحلة الأصعب من حياتنا. فلم يكن لوالدي (رحمه
الله)، بسبب عصبيَّته، أسلوب لمعالجة مشاكلنا
سوى تهديدنا بالضرب؛ الأمر الذي كان غالباً
ما يؤدي إلى صِدام بينه وبين والدتي، فتتعقد
الأجواء المنزلية وتصبح جحيماً. لذلك، أجدني
دائماً، حين أفكر بتلك الخصوصيات المؤلمة،
أحاول نسيان ذلك الذي كان أحد أهم دوافع
توجُّهي نحو ذلك العام الذي بات يتلبَّسني
ويتلبَّس البلد. فكما
أضحت العادة، كان عبد الناصر (743) يأتي في أواسط
شباط من كل عام لزيارة سورية بمناسبة ذكرى
الوحدة. وكما أضحت العادة أيضاً، كان علينا أن
نخرج من مدارسنا "طوعاً" لاستقباله
وتحيته، وللالتقاء في نفس الوقت ببعض معارفنا
من فتيات الفرانسيسكان الواقعة قرب قصر
الضيافة، حيث كان عبد الناصر (744) يلقي خطابه
التقليدي الذي كان يجب علينا – "بكل سرور"
– الاستماع إليه. وأتذكر
هنا، للمناسبة، كيف أتيحت لي، للمرة الأولى
والأخيرة، فرصة رؤيته عن قرب. فقد كنت أقف مع
إحدى الفتيات من معارفنا، عندما صرخت هذه
الفتاة فجأة، وقد أطل موكبُه: -
انظروا يا جماعة! كم عيناه
خضراوان!! وفعلاً،
تأمَّلتُه قدر المستطاع في تلك اللحظة التي
كان ركبُه يتقدم تجاهنا – وكان يقف في مقدمة
سيارته المكشوفة ملوِّحاً بيديه. فتعجَّبت من
اللون الأسمر غير المألوف لبشرته الذي يكاد
يقارب السواد، وذُهِلت لبريق عينيه
الخضراوين ولابتسامته الساحرة. فقد كنت في
حينه، كمعظم أبناء جيلي من شباب هذا البلد،
شديد الإعجاب بذلك الذي كنا نعتبره – وكان
فعلاً – بطلاً قومياً؛ مؤكداً هنا، أن مشاعري
تجاهه، كمشاعر معظم أبناء جيلي، لم تكن قطعاً
لشكله، إنما لارتباط اسمه بتأميم القنال،
وبصمود السويس، وعبر الوحدة، ربما، لتجسيده
ذلك الشعور بالعزَّة القومية الذي أسَرَنا. ولكن،
إن كانت تلك في حينه مشاعر معظمنا كشباب،
فإنها لم تكن قطعاً مشاعر الجميع في بلدنا،
كالشيوعيين المعتقلين والملاحَقين،
والبعثيين الذين أضحوا خارج الحكم، والضباط
الحزبيين الذين أبعِدوا إلى مصر، وقسم هام من
التجار والصناعيين الذين تضرَّرتْ مصالحُهم
نتيجة عدم قدرتهم على منافسة البضائع المصرية
الرخيصة التي غزت الأسواق، ومن المزارعين
الذين تضرَّروا من الإصلاح الزراعي، وسوء
المواسم بسبب شحِّ الأمطار، والمثقفين الذين
فقدوا حريتهم بسبب الحكم المباحثي، إلخ. وبدأ
يظهر على السطح ما كان يُفترَض أنه واضح منذ
البداية. وبدأت الوحدة السورية–المصرية
تتعثر على أرض الواقع. هنا كان يجب طرح حوار
وطني لمناقشة ما جرى ويجري، وتلمُّس الآفاق
المستقبلية. ولكن لم يكن هذا النقاش ممكناً في
حينه بسبب فقدان الديموقراطية. فلم يناقش أحد
في العمق أسباب تعثر الوحدة؛ إنما جاء الحل
لمشاكلها، على يد عبد الناصر، مزيداً من
الهروب إلى أمام... وكانت
"القرارات الاشتراكية المباركة" – تلك
التي وضعت أساس نظام رأسمالية الدولة الذي
ساد في البلد منذ ذلك الحين، ولم يزل العائق
الأساسي أمام أي تطور ديموقراطي محتمل لاحق. وكان
في آذار 1960 تشكيل وزارة جديدة (بلا بعثيين هذه
المرة) برئاسة التكنوقراطي السيد نور الدين
كحالة (745)، ضمت في حينه وزيرين كانا أقرب إلى حزب
الشعب (المنحل طبعاً)، هما السيدان عبد الوهاب
حومد (746) ومحمد العالم
(747). وأضحى السرَّاج
(748) هو الشخص
الأقوى في البلد، رغم أن بعض الشائعات بدأت
تتحدث عن الخلافات بينه وبين المشير عبد
الحكيم عامر (749)، المكلَّف الشخصي لعبد الناصر
(750)
بالشؤون السورية... ومرَّ
هذا العام الذي تقدَّمتُ فيه بنجاح لامتحانات
الشهادة الإعدادية السورية. وجاءت العطلة
الصيفية التي ما زلت أتذكر بعض أحداثها، حيث... كان
يجري تشكيل "الاتحاد القومي" حزباً
وحيداً لدولتنا الموحدة... وقد
شبَّه والدي يومها هذا الحزب الحكومي بـ"حزب
التحرير الذي أسَّسه الشيشكلي (751)"... وكان
تصعيدٌ للخلاف بين "الجمهورية العربية
المتحدة" و"المملكة الأردنية"،
تجلَّى، بشكل خاص، بتبادل الحملات الإعلامية
بين البلدين. وكان الصوت الإعلامي الأكثر
جعجعة في حينه هو صوت السيد أحمد سعيد (752) من
إذاعة "صوت العرب"... وكان
استقلال الكونغو برئاسة لومومبا (753)، وبدء الحرب
الأهلية هناك... وكان
جل ما فعلتُ خلال هذا الصيف هو المطالعة.
وأكثر ما قرأت خلاله تميزاً كان العقد
الاجتماعي لجان جاك روسو الذي استهواني
جداً بطروحاته الجذرية حول "العدالة" و"المساواة".
وما زلت أذكر، إلى الآن، أن هذا الكتاب كان
يبدأ بعبارة شهيرة تقول إن "أول لص في
التاريخ كان ذلك الشخص الذي وضع يده على أول
قطعة أرض وقال: هذه الأرض لي...". كذلك، بقي
عالقاً في ذهني كتاب سياسي عن حرب السويس
مرَّره لي، ولابن عمي في حينه، عمِّي رزق الله
(754).
فاكتشفت من خلاله، للمرة الأولى، ذلك الوجه
الآخر للحقيقة الرسمية المعلنة، ذلك الذي كان
يُحجَب عن العامة والقائل إن حرب السويس التي
كانت، ربما، انتصاراً سياسياً، كانت في الوقت
نفسه هزيمة عسكرية ماحقة. وأخيراً، كان أفضل
ما قرأت ذلك الكتاب الرائع والأجمل الذي لا
علاقة له بالسياسة أرض البشر لأنطوان دو
سانت إيكزوبيري، الذي استحوذ عليَّ عمقُ
نظرته الإنسانية، وأضحى، منذ تاريخه، كتابي
المفضل – ولم يزل. "وكان
انتخاب ليلى (755)، ابنة عمِّك فلاديمير
(756)، ملكة
لجمال لبنان." "كانت
ليلى (رحمها الله) جميلة جداً، ولكن مشكلتها
كانت أنها أصيبت حين كانت طفلة بروماتيزم حاد
أثر على قلبها." "وتوفي
عمو كريم (757) في حلب... "توفي
بعد أقل من سنتين من وفاة شقيقه والدي.
أخبرونا عن الحدث بالهاتف، فتوجَّهنا جميعاً
– أقصد رزوق (758)، فلادو
(759)، جورج
(760)، وأنا
(761) – إلى حلب
للمشاركة في الجنازة... "وللاستفسار
عن التَرِكَة. لكن زوجته بهية كانت "ضبَّت"
على كل شيء... "كان
هذا متوقعاً، فلم يُفاجَأ أحدٌ منَّا بذلك.
نحن من جانبنا، وبناء على اقتراح عمِّك رزق
الله (762)، لم نصر على الموضوع. "وحده
أثاره شقيقي ألبير (763) ووالدتي
(764) اللذان حرَّكا –
وإنْ بغير جدوى – دعوى قضائية ضد بهية...". وبدأ
في أواخر هذا الصيف التسجيل لدى الدولة لمن
كان يرغب في حينه من المواطنين باقتناء جهاز
تلفزيون. وسجَّل أهلي على جهاز من الحجم
الصغير من نوع فيليبس، وُزِّع علينا في أواخر
شهر تشرين الثاني من هذا العام، أي بعد شهر
تقريباً من بدء البث التلفزيوني في البلد. كان
التلفزيون حدثاً في منتهى الأهمية، أوْجَدَ
تحولاً كبيراً في الحياة الاجتماعية في
سورية، يستقطب الناس ويتحلَّقون حوله،
يتابعون بِنَهَمٍ كلَّ ما كان يُعرَض عليهم
من أخبار مصورة ومسلسلات محلية وأجنبية.
وأتذكر أنه كثيراً ما كان والدي يردد: -
آه لو كان أبي (765) الآن حياً وعاش
هذا الحدث... ثم
كانت عودتي إلى المدرسة طالباً في الصف
العاشر. وقد حصل في هذا العام 1960-1961 تغيرٌ كبير
على صعيد الطاقم التدريسي لمدرستنا؛ حيث كان
هنالك أولاً كاهنان جديدان انضما إلى طاقم
كهنة المدرسة هما: الأب خلدة (766)، من مصر، وبات
يدرِّسنا الرياضيات، والأب جورنياك (767) الذي كان
شاباً فرنسياً لطيفاً جذاباً، وبات يدرِّسنا
الأدب الفرنسي. وأيضاً، بدأ يدرِّسنا، منذ
مطلع العام الدراسي، طاقمٌ متميز من الأساتذة
الذين كان أبرزهم، من وجهة نظري، أستاذ
الفيزياء والكيمياء سيف الدين البغدادي (768)،
وأستاذ اللغة العربية الياس طعمة (769)، وأستاذ
التربية الاجتماعية... ندره اليازجي (770).
ولما
كان أيضاً قد صدر قرارٌ تم الاتفاق فيه بين
إدارة المدرسة وأهالينا يقتضى البدء بتهيئة
بعضنا للتقدم، في العام الدراسي القادم،
لامتحانات البكالوريا الفرنسية (الجزء الأول)،
ولما كنت من بين المنتقين، الأمر الذي جعل
برنامجي الدراسي مثقلاً، فقد أجبرتني الظروف
على التخفيف من لعب الميسر، والالتزام بنمط
حياة أكثر روتينية... فأضحيت
أعود إلى المنزل في المساء الباكر للدراسة.
وعبر التلفاز، كنت أتابع الأخبار المصورة
التي كانت تنقل إلينا كيف... كانت
الإطاحة بالزعيم الكونغولي باتريس لومومبا (771)،
وكيف فاز السياسي الشاب جون كنيدي (772) برئاسة
الولايات المتحدة... وكانت
أجواء البلد، المليئة بالشائعات والأقاويل،
تتحدث خاصة عن انعكاسات ما تم من إجراءات "اشتراكية"
كان الرئيس عبد الناصر (773) قد أعلن عنها في أواخر
شباط 1961، وقضت بتأميم البنوك والمصانع
الكبيرة في كل من سورية ومصر، وإعطاء العمال
نسبة من الأرباح. كما كانت الشائعات تتحدث
خاصة عن تصاعد الخلافات بين عبد الناصر (774)
والسرًّاج (775)... ثم
كان اغتيال الزعيم الكونغولي لومومبا (776) في
نيسان 1961، واضطراب الدراسة في المدارس
السورية لبعض الوقت بسبب العَراضات
الاحتجاجية (شبه الرسمية) التي عمَّت البلد في
هذه المناسبة. كما كان نبأ إرسال الروس
لغاغارين (777)، أول رائد فضاء في تاريخ الإنسانية،
عاملاً مدعِّماً لقناعاتي الاشتراكية، التي
كانت بدأت تتبلور وتترسخ، غطَّى في حينه
بالنسبة لي على تلك الأنباء الأخرى التي كنت
أسمعها حول "جدار العار في برلين"... تلك
القناعات التي انعكست من جانبي آنذاك تأييداً
متحمساً لقرارات عبد الناصر "الاشتراكية"،
من جهة، ومزيداً من القراءة لما كان يتيسر لي
من كتب يسارية التوجُّه من جهة أخرى... ففي
ذلك العام، تنامت اهتماماتي السياسية
باطِّراد، وكذلك – إن شئت أن أكون منصفاً –
اهتمامات أصدقائي. وكان هذا الواقع ينعكس من
خلال النقاشات التي لا تنتهي التي كانت تجري
بيننا كطلاب بعامة، وكشلة خاصة، من جهة،
وبيننا جميعاً وبين الأساتذة والرهبان في
المدرسة، خلال دروس الأدب الفرنسي والديانة
والاجتماعيات، من جهة أخرى. وأتذكر
اليوم، بمحبة وبحنان، الروح السمحة التي كان
يبديها خلال تلك النقاشات تجاهنا، عموماً،
وتجاهي، خاصة، مديرُ المدرسة الأب يوسف عطا
الله (778)، وخاصة الأب معلولي
(779)، اللذين أضحت تربطني
بهما علاقة صداقة متميزة. وذلك التلاقي
الفكري الذي بات يربطني بالكاهن الفرنسي
الشاب جورنياك (780)، الذي أسرَّ إلي ذات يوم أنه
التحق بالكهنوت هرباً من حرب الجزائر. وقد
أضحى هذا الكاهن – الماركسي الميول – المصدر
الذي يزوِّدني بكتابات بعض أشهر كُتَّاب
اليسار الفرنسي. فأصبحتُ من قراء مجلة الأزمنة
الحديثة لسارتر، الذي بدأتُ أيضاً بقراءة
كتاباته وكتابات كامو وجان جونيه إلخ. في
حينه، وكنت بدأت قراءة سارتر، توقفت – وأنا
أقرأ الأيدي القذرة – أمام تعبيره القائل
إن "الجحيم هو الآخرون...". وقد بُهِرت
يومها بهذا التقويم الفلسفي العميق. ولكن قلبي
المعارض كان يقول لي منذ ذلك الحين إن جحيمي
لم يكن الآخرين، بقدر ما كان يضطرم في أعماق
نفسي. وأعماق
نفسي كانت تعيدني دائماً إلى شقيقي الأصغر
سمير (781) الذي كنا نتهرب منه جميعاً. "جميعاً؟!
لا ليس تماماً يا أكرم (782)." فالعم
جورج (783) كان أكثر من يهتم به ويُخرِجُه معه. ثم
كان يليه والدي (784)، فوالدتي
(785)، بحكم موقعها. لهذا،
ربما أشعر اليوم، حين أتذكر، ببعض الخجل.
فالحقيقة التي ربما لم أكن أرغب الاعتراف بها
آنذاك، أن سميراً (786)، بحكم واقعه وما كان يذيقنا
إياه من عذاب ويسببه لنا من حرج تجاه الآخرين،
كان صانع طفولتي وموجِّه مراهقتي هروباً
متعثراً نحو الظاهر. فقد كنت أخجل منه، بينما
كان الأصح هنا أن أخجل من نفسي! وأعترف،
ضمن السياق، أني لم أكن في حينه شديد الإعجاب
بعمِّي جورج (787)، الذي لم أكن قادراً آنذاك على
تفهم نعومة ورقَّة أحاسيسه التي جعلته، ربما،
يكرِّس حياته من أجلنا، والتي كانت أيضاً
تُعتبَر سذاجة... ففي
حينه، كانت أحلامي المتجاوزة للواقع قد بدأت
تتشكل عبر قراءاتي. وكان هذا هروباً، كما قلت... "لكن
وعيك في حينه كان وعي طالب لم يتجاوز بعد
المرحلة الإعدادية...". لذلك... أجدني،
حين أعود إلى تلك الأيام، لا أستطيع التعبير
كما يجب عما أصابني، فأوصلني إلى تلك
القناعات الجامحة – تلك التي جعلتني أتوجَّه
إلى العالم الخارجي، وأنا لم أكمل بعد بناء
عالمي الداخلي. وأتذكر
نقاشاتي وأصدقائي مع الأستاذ ندره اليازجي (788)
الذي لم أكن أستسيغ طروحاته، ولا أسلوبه الذي
كنت أجده مملاً؛ وقد اتخذت منه في حينه موقفاً
رافضاً. وأتذكر كيف بدأت أصغي، باهتمام
متزايد، إلى أحاديث تُطري الشيوعيين
السوريين المضطهدين على لسان الأستاذ سيف
الدين بغدادي (789) الذي قرَّبني منه في تلك الأيام
تفوُّقي في مادته، والذي كان ذات يوم، على ما
يبدو، شيوعياً أو صديقاً للشيوعيين. فاهتمامي
بهؤلاء (أقصد بالشيوعيين) كان بدأ يتزايد،
وخاصةً بعد أن وجدت ذات يوم في أسفل الباب لدى
عودتي إلى المنزل منشوراً شيوعياً يهاجم
الحكم من خلال ما كان يمارسه تجاههم من تنكيل.
وقد أعطيت هذا المنشور في حينه لوالدي (790) الذي
قرأه بصمت ثم مزَّقه دون تعليق... والدي
(791)
الذي أفشى إلينا في تلك الأيام "سراً
خطيراً" يقول: إن سبب تزايد رحلات عمي رزق (792)
الله إلى مصر في الآونة الأخيرة إنما كان يعود
إلى واقع كون الرئاسة في مصر كلَّفتْه بمهمة
الدفاع الشخصي عن شقيق الرئيس، الليثي عبد
الناصر (793)، الذي كان متهماً آنذاك في قضية تهريب
أقمشة بين مصر وسورية... ثم
كان خلاف بين والدي (794) وبين الوقف الكاثوليكي
المالك لمنزلنا؛ الأمر الذي نغَّص علينا صفاء
العيش بعض الوقت واضطرنا إلى البحث عن، ثم
الانتقال إلى، منزل مستأجر آخر. وكان ذلك
المنزل الصغير الذي انتقلنا إليه في أواسط
عام 1961 يقع في منطقة الجسر الأبيض، قرب منزل
عبد الحميد السرَّاج (795). وأشير هنا، للمناسبة،
إلى أن اقتناء منزل بالتملك كان أمراً
نادراً، رغم رخص أسعار العقارات، وأن
الاستئجار كان الحالة الأكثر شيوعاً في بلدنا
آنذاك... "ورغم
أن أسعار المنازل كانت في حينه زهيدة، إلا أنه
كانت تنقصنا السيولة لشراء واحد لنا. وقد
حاولت يومها الاستدانة من شقيقتي أوديت (796)،
لكنها رفضت أن تُقرِضَنا ما طلبتُه وكان
ينقصنا: حوالى الـ5000 ليرة. تصور! لقد رفضت أختي
الحبيبة في حينه إقراضي هذا المبلغ...". ولكن
هذا لم يكن مهماً بالنسبة لي. فالأهم والمتعلق
بهذا الموضوع كان يومها انتقال عمِّي جورج (797)
للسكن معنا مجدداً، مع احتفاظه بغرفته في
منزل عين الكرش الذي بات عمِّي فلاديمير (798)
ساكنه الوحيد... وكان
مطلع آب 1961 وتشكيل حكومة موحَّدة للدولة
الواحدة، مركزها القاهرة... الأمر
الذي اعتبره عمِّي إبعاداً لبعض الوزراء
السوريين، وعلى رأسهم السرَّاج (799)، بانتظار
تَنحِيَتهم، وتفاقماً للأزمة السياسية
القائمة... حيث
لم تعد سراً لأحد تلك الخلافات المحتدمة في
قمة هرم السلطة بين السرَّاج (800)، من جهة، وعبد
الناصر (801) وعبد الحكيم عامر
(802)، من جهة أخرى.
فالشائعات كانت تملأ البلد والأجواء كانت
مضطربة تنبئ بما هو آت. وكان
الإعلان رسمياً عن استقالة السرَّاج (803) في الـ22
من أيلول. وقد أصبح عبد الحكيم عامر (804) هو
المكلَّف بشؤون "الإقليم الشمالي"
المضطرب... وأصبحتُ
طالباً في الصف الحادي عشر و... كان
عمِّي جورج (805) الذي ترك آنذاك العمل مع زياد
الأتاسي (806) قد عُيِّن مستشاراً لقضايا الدولة
لدى القصر العدلي في دمشق. وأشير، للمناسبة،
أن عمِّي الذي منذ انتقاله للعيش معنا من جديد
صار ينام معي في نفس الغرفة... واستيقظنا
فجأة في تلك الليلة على أصوات رشقات رصاص
تلعلع معكرة سكون الليل. وقفز عمي (807) من سريره
وسارع إلى المذياع وهو يقول: -
إنه انقلاب يا جماعة! و"الجماعة"
التي كان يقصد بحديثه كانت، طبعاً، أنا (808) وأبي
(809)
ووالدتي (810) وإكرام
(811) الذين استيقظوا معه... ولكن
الإذاعة التي كنا نترصد بقيت صامتة حتى
الفجر، حين أعلن "البيان رقم واحد" قيام
جيشنا الباسل [بحركته] "لإزالة الفساد
والطغيان وإعادة الحقوق الشرعية إلى الشعب..."! مما
جعلني أجهش بالبكاء... كان
ذلك في 28 أيلول 1961. وكنتُ – يا صاحِ – في حينه،
كمعظم أبناء البلد، من مؤيِّدي الوحدة،
وزعيمها الملهم، وقراراتها الاشتراكية
المباركة... *** *** ***
|
|
|