|
ب
مدرسة الآباء
العازريين (1)...
طائر
الليل: وكنت لم تزل بين
الطفولة والمراهقة. والطفل–المراهق لا يدرك
أن السياسة ليست سوى جانباً اجتماعياً من
الحياة يفترض أن ينظم العلاقات بين البشر،
وأن الإنسان هو، في نهاية المطاف، أهم من كلِّ
السياسات... في
أوائل صيف 1956 حصلت هزة أرضية عنيفة شعرت بها
معظم دول المنطقة وألحقت بعض الأضرار ببيروت
وجبل لبنان. ولكننا لم نشعر بها تماماً؛ إذ
حصلت قبل قدومنا إلى عاليه لقضاء العطلة
الصيفية – وكانت جميلة كالتي سبقتها. ولكن
أهم الذي ما أزال أذكره منها كان حدثاً
عائلياً، تمثَّل بمجيء خالي ألبير (472) الذي كان
ما يزال طالباً في السنة الأخيرة من كلية
الحقوق، لزيارتنا. "جاء
ألبير إلى عاليه في يوم كان فيه أريس (473) وشكري
(474) (زوج
خالتي أوديت (475)) موجودين؛ وقد أحضر لنا معه
خروفاً هدية. سررنا بقدومه؛ ولكن بدا واضحاً
منذ البداية أنه كان يحمل نبأ يريد أن يزفه
إلينا...". "حين
جلسنا إلى مائدة الغداء قال متوجِّهاً بحديثه
إليَّ (476) وإلى خالتك أوديت: "لقد قررت
العائلة، بناء على اقتراح والدي (حسيب (477)) وأمي (أولغا
(478))،
تقسيم حصص المنزل والدكاكين خلال حياة والدي،
وذلك حتى لا يحصل أي خلاف في المستقبل بعد
وفاته (بعد عمر طويل)..."." فعلَّق
والدك (479) مازحاً وقد فهم "المكتوب من عنوانه":
"أبشر يا شكري (480)... لقد أصبحنا أغنياء!" وتابع
ألبير (481)، متظاهراً بأنه لم يسمع، قائلاً: "لقد
قررنا وسجَّلنا لدى كاتب العدل أن يُقسَّم
المنزل والدكاكين بالتساوي بيني وبين إميل (482)
وبين أمي (483)، لكلٍّ منا الثلث. كما قررنا أيضاً
أن نعطي أختنا فينوس (484) [ولم تكن قد تزوجت بعد]
مبلغ 5000 ليرة سورية. أما البنات المتزوجات
اللواتي عاملناهن بالتساوي، فبارك الله في
أزواجهن، وإن كنَّا على استعداد لإيجاد تسوية
معهنَّ من حصة أمي (بعد عمر طويل)...". صُعِقنا
أنا وخالتك... بينما لم يتأثر لا شكري (485) ولا أريس
(486)
الذي ردَّ على ألبير (487) ساخراً: -
كلا! أنتم لم تعاملوا البنات
بالتساوي، إنما فضلتم أوديت (488) وروزين
(489) (أمي) على
ثريا (490) وإيفون
(491)، حيث قدمتم لهما خروفاً! فانتفض
ألبير (492) وتوجَّه إلى والدك قائلاً: -
هل تسخر منِّي يا أريس (493)؟
أجابه والدك وهو يضحك: -
نعم يا ابن عمَّتي! فصاح
ألبير (494): -
هذا لا يليق! أنا لا أحتمل
هذا! فأجابه شكري (495) منفعلاً: -
إن كنت لا تحتمل التعليق بعد
الذي قلتَه يا ألبير (496) فالباب يتَّسع لجمل... وغادر
ألبير المنزل... وأجهشنا أنا (497) وخالتك أوديت
(498) في
البكاء لحرمان أهلنا لنا من التركة، بينما
انفجر أريس (499) وشكري
(500) بالضحك، وقالا وهما يحاولان
مواساتنا: -
لا تتأثرا. فقد بقي لديكما
نحن و... الخروف! وأفهم
اليوم أن ما حصل وعكَّر بعض حين العلاقات بين
والدتي وأهلها كان عادياً، وإن كان ظالماً؛
حيث غالباً ما كان (وما زال) يحصل، مع الأسف،
في محيط بعض الأسر التقليدية أن تُحرَم
البنات من الإرث لتحافظ هذه الأسر على ثروتها
ضمن نطاق حلقة أبنائها. وأسجِّل هنا أن موقف
أبي (501) وجدّي
(502) وعمي جورج
(503) كان بخصوص هذه المشكلة
أكثر عقلانية وتسامحاً من موقف أمي (504)، حيث
سرعان ما لعبا دوراً إيجابياً في إعادة
الأمور إلى نصابها بين أمي وعائلتها... أما
في 26 تموز 1956 فكان الإعلان عن تأميم قناة
السويس... في
ذلك اليوم كان أبي (505) وزوج خالتي
(506) جالسين قرب
المذياع يستمعان بصمت إلى خطاب الرئيس المصري
(507).
فالشعور العام في حينه كان يميل إلى توقع
أحداث هامة. كنا أنا (508) ونبيل
(509) نجلس حولهما
صامتين، بينما كانت إكرام (510) تلعب مع ميمي
(511). وكانت
أمي (512) (التي تحتضن ريما
(513)) وخالتي
(514) تتسارران على
شرفة المنزل وهما تراقبان لعب أولادهما
الأصغر ذكي (515) وفريد
(516) (توأم أوديت) وأخي سمير
(517). وحين
أعلن عبد الناصر (518) تأميمه لقنال السويس وقف أبي
(519)
فجأة ثم صاح: "لقد فعلها... حيَّاه الله!" وأتذكر
أن أبي (520) وزوج خالتي
(521) قضيا معظم اليوم الذي تلا
ذلك الخطاب التاريخي وهما يتابعان الإذاعات
الأجنبية راصدين أقوالها وتعليقاتها. وكانا
يتبادلان التعليقات حول ردود الفعل على ما
حدث. وانتهت
العطلة الصيفية وعدنا إلى دمشق... لنواجه
تطوراً عائلياً سريعاً وغير متوقع؛ إذ حصل
خلاف حادٌّ بين أمي (522) وأبي
(523)، من جهة، وجدِّي لطف
الله (524)، من جهة أخرى، وأدى إلى انشطار جديد في
العائلة. وكان هذا الخلاف بسبب انتقال عمِّي
فلاديمير (525) للعمل في دمشق، بينما بقيت عائلته
في بيروت. وكان هذا الأخير يبحث عن سكن له
عندما تبرع جدِّي (526)، المعروف بنخوته، عارضاً
عليه أن يستضيفه في منزلنا وأن يستبقيه معه في
الغرفة. رفضت والدتي (527) ووالدي
(528) ذاك الحل، بينما
أصر العجوز (529) على كلمته. وحصل ما حصل و... تركنا
المنزل واستأجرنا منزلاً منفصلاً في نهاية
حيِّ القصاع قرب "كازية ديوانه"
المُطِلَّة على ساحة العباسيين. وبقي عمي
جورج (530) يتناول الغذاء معنا ويحضر إلى عندنا
مساءً مرتين في الأسبوع للإشراف على دراستي(531)
ودراسة شقيقتي إكرام (532). وقد استمرت القطيعة
بيننا وبين جدِّي (533) بضعة أسابيع؛ ثم حُلَّت
الأمور، وتصالحنا نتيجة تدخل جورج (534) ورزق الله
(535).
ولكن بقي الانشقاق قائماً: أبو رزوق (536) وأبناؤه
جورج (537) وفلاديمير
(538) في المنزل القديم، من جهة،
وأبي (539) وعائلته في منزلنا الجديد، من جهة أخرى.
و... بقيت
"أيقونة السيدة العذراء" و"الكتاب
المقدس" في منزل جدِّي (540)... الذي
بقي لفترة من الزمن (سنة تقريباً) يرفض
زيارتنا في منزلنا الجديد، مكتفياً بأن نزوره
نحن. فقد كان متأثراً ومتضايقاً بشكل خاص من
موقف والدتي، التي كان يقدِّرها ويحبها،
معتبراً أنها طعنته وانتقصت من مكانته تجاه
أبنائه. والحق يقال إن والدتي، التي لم تكن
تقصد إطلاقاً إهانته، كانت تطمح في أعماقها،
منذ زمن طويل، أن تستقل وعائلتها عن المنزل
الأبوي؛ فاستغلَّت ذلك الخلاف الذي كان من
الممكن تسويته كما تريد، من خلال بعض السياسة
والحكمة، من دون ترك المنزل، ودفعت الأمور
باتجاه الانفصال عن المنزل الأبوي... وأتذكر
أن أمي (541) غالباً ما كانت تردِّد على مسمعي أن... "منذ
تزوجت والدك يا أكرم (542) وأنا أتطلع إلى أن يكون
لي منزل مستقل. وقد تأمَّن لي هذا بعد ثلاث
عشرة سنة من زواجي من أبيك...". كانت
أمي تحلم، منذ زواجها من أبي، بمنزل خاص لها
ولعائلتها؛ وكان هذا من حقها. ولكن، بالنسبة
لي، كان وَقْعُ ما حدث، وارتباطه بحادث
تركِنا لما أضحى يسمى "بيت جدي"، مؤلماً
جداً. ففي
تلك الليلة الأخيرة لنا في ذلك المنزل اختبأت
تحت الفراش وبكيت. لم يشعر بي أحدٌ في حينه؛
ولم أحاول من جانبي أن أُشعِر أحداً بألمي.
ولكن، في ذلك اليوم، وفي تلك الليلة تحديداً،
انتهت طفولتي... مع انفصالي الجسدي عن ذلك
العجوز الذي كنت أحب أكثر من الجميع. أكثر
ما كنت أخشى هو أن لا يكون بوسعي من الآن
وصاعداً أن أرى وجهه الطافح، ولا عينيه
الساخرتين، ولا أن يعود بوسعي الاستماع إلى
صوته المجلجل يسأل في كل صباح عن الطربوش وعن
العصا... كما
كنت لا أرغب في ترك "عين الكرش" التي
أصبحت أحبها، ولا أرغب في ترك أصدقائي، وخاصة
منهم فاروق (543)، ولا حتى ذلك البائع المتجول الذي
كان مصاباً بمرض عضال (الساعة) و"يُتَرْغِل"
معنا بعدة لغات... كما
كنت غاضباً في حينه، خاصة لأن أحداً لم يسألني
عن رأيي فيما حدث. ولو سُئلت لكنت أجبت بأني لم
أكن موافقاً قطعاً على تركنا المنزل
البطريركي. فالاستقلال الذي كانت والدتي تحلم
به لم يكن يهمني؛ لا بل كان يخيفني. وما كان
يهمني كان فقط تلك الصداقة الأولى والأجمل
التي كانت تربطني بالعجوز والتي لم أكن أريد
فقدانها... والحق
يقال إني لم أفقدها... حيث كان أول ما فعله حين
صفح عنَّا وتصالحنا من جديد أنْ أجلسني على
ركبتيه وضمَّني إليه، ثم استدار ليتحدث إلى
والدي ووالدتي... كما
أني لم أكن واثقاً أن يكون في وسع والدي تحمل
أعباء المنزل وحده. ولكن ما حدث كان أن هذا
الانشقاق مكَّن أبي الذي أضحى مسئولاً بشكل
مباشر عن عائلته من ضبط الأمور على أفضل وجه.
وحده عمي جورج بقي، بحجة تناوله الغداء
عندنا، يشارك نسبياً في بعض مصروف منزلنا... وكان
منوال حياة جدِّي (544) ما زال على حاله، وإن كانت
معالم الشيخوخة قد بدأت تنعكس بوضوح على جسمه
الضخم الذي بات يعاني بشكل خاص من آثار
الزيادة في حامض البول والشحوم؛ مما كان
يستلزم تغييراً جذرياً في عاداته ونظامه
الغذائي. وكان هذا بالنسبة له من سابع
المستحيلات. فالعادات عنده مقدسة، والطعام
الدسم كان من أهم تلك العادات – التي كان منها
أيضاً أن يذهب كل شهرين إلى حلب لملاحقة دعوى
الأرض (التي لا تنتهي)، ولزيارة أخيه كريم (545)
الذي بات أيضاً يعاني من تدهور في حالته
الصحية ألزمه المنزل. وأيضاً... كان
الجميع قد صرف النظر عن إمكانية زواج عمِّي
جورج (546) وقبل ببقائه عازباً. أما لماذا كان ذلك؟
فالله أعلم. ولكني أقدِّر اليوم أن عدم زواجه
إنما كان يعود نسبياً إلى طبيعته الرومانسية
وخجله المفرط، من جهة؛ مما لم يمكِّنه من
التعرف إلى فتاة أحلامه... ولكن
ما لم أكن أفهمه آنذاك، من جهة أخرى – وربما
كان هذا هو الأساس – هو أن عدم زواجه كان يعود
إلى حبِّه الكبير وشعوره بالمسؤولية الشخصية
تجاه عائلة شقيقه الأصغر – وتحديداً تجاهي
وتجاه إكرام (547)، وخاصة تجاه سمير
(548) وريما(549) التي
كانت ما تزال رضيعة. فنحن كنا عائلته الصغرى،
ولم يكن مستعداً لأن يفرِّط بنا. وكان
مطلع العام الدراسي (1956-1957) وتسجيلي طالباً في
الصف السادس لدى مدرسة الآباء العازريين التي
كانت تقع في وسط حي باب توما. وبتُّ أذهب إلى
المدرسة سيراً على الأقدام، بينما بقيت
شقيقتي إكرام (550)، الطالبة في مدرسة
الفرانسيسكان، تذهب إلى المدرسة بالباص...
كانت
مدرسة الآباء العازريين كبيرة من حيث بناؤها
ومتصلة مع مدرسة أخرى (أصغر منها) للفتيات
تديرها راهبات من نفس المؤسَّسة الدينية
الكاثوليكية (راهبات العازرية). كانت تقع على
طرفي زقاق صغير، حيث كان يوجد دير الرهبان في
الجهة اليمنى إلى جانب الكنيسة، وقسم
الحضانة، وباحته صغيرة؛ أما في الجهة اليسرى
فيقع الجزء الأكبر من المدرسة الذي كان يشتمل
على أقسامها الثلاثة: الابتدائي والإعدادي
والثانوي... وكان
مدير المدرسة اللبناني الأصل (والذي عُيِّن
في نفس العام) هو الأب يوسف عطا الله (551) الذي كان
يدرِّسنا مادة الديانة. ومعه كان المحاسب
الأب جورج خوري (552) الذي يدرِّسنا الرياضيات.
وكان الأب سومو (553) Seumeux
(الفرنسي) يدرِّسنا اللغة
الفرنسية، والأب هارود (554) Harood
(الإنكليزي) يدرِّسنا اللغة
الإنكليزية. وطبعاً، كان الأب يوسف معلولي (555)
يشرف على تربيتنا الأخلاقية والرياضية. وكان
هناك أيضاً الأستاذ الطيب سبع الليل (556) للغة
العربية، وآخرون لم أعد أذكر أسماءهم للعلوم
والتاريخ والجغرافيا... كانت
دراستنا تبدأ في تمام الساعة الثامنة وتستمر
حتى الثانية عشرة ظهراً. ثم، بعد استراحة
للغداء مدة ساعتين، كنَّا نعاود الدراسة حتى
الساعة الخامسة بعد الظهر؛ ننتقل بعدها إلى
قاعة المطالعة حيث كنَّا نبقى مدة ساعة ونصف،
قبل أن يؤذَن لنا بالانصراف إلى منازلنا، وقد
درسنا دروسنا وكتبنا وظائفنا. كانت
العطلة الأسبوعية يوم الأحد. لكننا،
كمسيحيين، كنَّا ملزمين بالحضور في الساعة
الثامنة صباحاً للصلاة في كنيسة المدرسة.
وكان يوم الأربعاء يوم دوام نصفي. أما يوم
الخميس فكانت الساعة الأولى منه بالنسبة
للمسيحيين قداساً إلزامياً في الكنيسة،
بينما كان المسلمون (واليهود) من طلاب المدرسة
يقضون هذه الساعة وهم يلعبون في الباحة... وأفكر
اليوم أني أحببت العازرية منذ اليوم الأول
لانتقالي إليها؛ بينما لم أكن، في المقابل (كما
سبق وأشرت)، أحب مدرسة الفرير. وهذا كان يعود
للفارق بين المدرستين، إن لم نقل بين
المؤسَّستين الدينيتين، الذي شعرته منذ
البداية ولم أفهمه إلا لاحقاً جداً... فبمقدار
ما كان جو الطلاب عند الفرير متعالياً، كان
الجو عند العازريين أكثر بساطة، مما جعلني
أحب العازرية. وحب المدرسة كان يتجسَّد من
خلال تلك العلاقة الجيدة التي نشأت منذ اليوم
الأول بيننا كطلاب مستجدِّين وبين جهازها
الإداري والتدريسي الذي عرف كيف يتفاعل على
أفضل وجه مع طلابه. وقد تعمَّقت تلك العلاقة
مع الزمن. فجميعنا مثلاً كان يحب – ويهاب معاً
– الأب يوسف عطا الله ( 557) مديرنا. وجميعنا كان يحب
– إن لم نقل يقدِّس الأب معلولي (558) – الذي كان
يختلف من حيث العمق الروحي والقلب عن جميع
الآخرين؛ فقد كان يشعُّ على الجميع بحيويته
وإخلاصه وتفانيه في العمل والتعامل مع
الطلاب، كباراً وصغاراً. وأيضاً كنا نحب الأب
سومو (559)؛ لكني أعترف اليوم خجلاً أنه كان موضع
تندُّرنا، خاصة وأنه كان المسؤول عن تعليمنا
الترتيل الديني أو الكورال الذي كنَّا نجده
مضيعة للوقت. كما كنا نخاف ونتجنب الأب هارود (560)
الذي، لولا قسوته الظاهرة وإصراره، لما
تعلَّمنا الإنكليزية. ولكن – وهذا هو الأهم –
كنَّا ننظر إليهم جميعاً كوحدة متكاملة. فهم
كانوا بالنسبة لنا في حينه هذه المدرسة التي
أحببنا والتي، من خلال أجوائها الطيبة
ونظامها الذي كان مزيجاً من الصرامة والرفق،
تجاوزنا طفولتنا...
وانقضت
تلك السنة الأولى التي قضيتها في مدرسة "العازرية"
التي كانت متميزة من حيث أحداثها... ففي
29 تشرين الأول 1956 وقع العدوان الثلاثي (الإسرائيلي–البريطاني–الفرنسي)
على مصر، وكانت تلك الحرب التي عُرِفَت بحرب
السويس التي أتذكر منها تلك المظاهرات
الصاخبة المؤيِّدة لمصر التي كان بعضها يطرق
أبواب مدرستنا فيُخرِجُنا منها ويقطعنا عن
دروسنا... وأصبح
عبد الناصر (561)، نتيجة لـ "تأميم القنال"
ولتلك الحرب التي ربحها "سياسياً"،
معبود "الشارع السياسي" في بلدنا. أما
في كانون الثاني 1957 فكان طرح الحكومة
الأمريكية لـ"مبدأ أيزنهاور (562)" الذي نصَّ
على استعداد "زعيمة العالم الحر" بأن
تملأ الفراغ الذي تركته بريطانيا وفرنسا
وراءهما في المنطقة، منعاً من أن تستغله
الشيوعية الدولية. وكان (طبعاً) رفض سورية "القطعي"
لهذا المبدأ... نجحت
بتفوق في صفِّي. وتوفي جدي حسيب (563). فسافر والدي
(564)
ووالدتي (565) وجدِّي
(566) إلى حمص للمشاركة في العزاء... "لم
نذهب في صيف هذا العام 1957، كما في العامين
الماضيين، لقضاء كامل العطلة الصيفية في
لبنان. فوضعنا المادي في تلك السنة لم يكن
مريحاً بسبب انفصالنا عن جدك. فقط اكتفينا
بالذهاب لمدة أسبوعين لزيارة خالتك أوديت (567) في
عاليه. وبقينا معظم الوقت في دمشق..." حيث
كانت الأجواء مضطربة. فقد كانت نقاشات مستمرة
وحادة جداً داخل المجلس بين نواب "الأكثرية"
الحكومية، المدعومة من "الشارع" ومن
الجيش، وبين نواب "حزب الشعب" الذين
اعترضوا بشدة في تلك الأيام على أجواء
الإرهاب المباشر وغير المباشر التي كانت
سائدة وتمارَس ضدهم... وكانت
الأحاديث تدور عن "حشود تركية"، وعن
اكتشافات جديدة لمؤامرات استعمارية جديدة
لقلب نظام الحكم، وعن تعيين "الشيوعي"
عفيف البزري (*)
(568) لرئاسة الأركان العامة... وكانت،
أيضاً ودائماً وكالعادة، مظاهرات من "الشارع
السياسي" أمام البرلمان الذي كانت أغلبية
نوابه تفضل اتِّباع سياسة أقل تطرفاً وأقل
عداء للغرب؛ الأمر الذي انعكس سلباً على
أجواء البلد التي أضحت متوترة، وخاصة على
الصعيد الطائفي، حيث كانت تفجيرات قرب بعض
الكنائس والمدارس المسيحية في حلب. وأيضاً،
كان الصراع مع إسرائيل قد انعكس سلباً على
أوضاع اليهود من أبناء البلد الذين كانت
أحوالهم قد ساءت عموماً بعد حرب فلسطين. فبعد
أن كان لهم في برلمان 1947 نائبٌ عن دمشق، صارت
الحكومة والناس تنظر إليهم بارتياب. كان
بعضهم قد تمكَّن، في حينه، من مغادرة البلد
إلى إسرائيل أو إلى أمريكا؛ لكن قسماً هاماً
منهم كان ما يزال باقياً، حيث لم يكن هناك
إجمالاً تمييز أو اضطهاد ضدهم، كما بقيت لهم
بعض الوجوه المحترمة على صعيد البلد، كالطبيب
الدمشقي طوطح (569) الذي كان يعالج الفقراء مجاناً (تقريباً)،
وكان الجميع يحترمه... وكان
معنا في مدرسة العازرية بعض الطلاب اليهود
الذين كانت علاقتنا بهم عادية جداً، ولم تترك
لدي أي انطباع؛ بمعنى أننا لم نكن نلحظ أنهم
"يهود". وأتذكر أنه لم تكن لعائلتي أية
علاقة بعائلة يهودية. أتذكر فقط خلال طفولتي
اثنين من "اليهود الشوام" الذين كانوا
يترددون إلى منزلنا بين الحين والآخر. كان
أولهما يدعى حاييم (570)، وكان سمكرياً (أي مصلِّح
مدافئ وبوابير كاز وأدوات صحية)؛ وكان الثاني
يدعى خليل (571)، وكان تاجراً متجولاً للثياب
والحاجات العتيقة... وكان
والداي، وخاصة جدي، يتعاملون مع الاثنين (كما
مع الجميع) بمحبة وإنسانية، الأمر الذي خلق
بينهم وبيننا نوعاً من الصداقة – وخاصة مع
حاييم (572) الذي سارَرَ والديَّ ذات يوم بألمه
لانقطاع صلته بأبنائه الذين تركوه وهاجروا
إلى إسرائيل. وأتبسَّم حين أتذكر ذلك اليوم
الذي سألت فيه والدتي (573) حاييم
(574) (بسذاجة "حمصية"): -
هل صحيح يا حاييم (575) أنكم
تذبحون طفلاً مسيحياً قبل كل عيد فصح، ثم
تخلطون دمه بخبزكم المقدس؟ وكيف
انتفض هذا الأخير صائحاً ومحتجاً وقد ترقرقت
الدموع في عينيه: -
ما الذي تقولينه يا مدام؟!
ما الذي تقولينه؟!! نحن بشر مثلكم! وكادت
الصلة أن تنقطع في ذلك اليوم بين والدتي (576)، التي
أحست مباشرة بخطئها فتلعثمت، وبين حاييم (577) الذي
غضب محقاً لأنه شعر بالإهانة، لو لم يتدخل جدي
(578)
وأبي (579) – رحمهما الله – الذين طيَّبا خاطره،
وأعادا الأمور إلى نصابها... وأتذكر
كيف كنت أنظر، بطرافة، حين ألتقيه أحياناً
مساء السبت في ساحة باب توما، إلى "بائع
الثياب العتيقة" ذاك، وهو يتبختر متأنقاً
مع زوجته وبناته، فيحييني بكل فخر مبتسماً،
وأرد له التحية. وانتهت
هذه الصيفية الاعتيادية التي قضيت معظمها في
دمشق، حيث كنت ألعب في الشارع أمام منزلنا،
وعدت إلى المدرسة طالباً في الصف السابع. وجاء
العام الدراسي (1957-1958) الذي كان أيضاً غير عادي
من حيث أحداثه. "في
نهاية عام 1957 تزوج خالك ألبير من فتاة حمصية
من عائلة الشغري، واسمها ناديا...". وأتذكر
جو النقاشات الحادة والتعليقات الساذجة و/أو
العميقة في أوساط عائلتي، وفي المدرسة، وفي
المنزل بين أبي (580) وعمي جورج
(581) ومن كان يأتي
لزيارتنا من الأصدقاء والأقارب، كآل أتاسي
وآل رزق الله، وغيرهم... كانت
آراء أبي (582) وعمي جورج
(583) مؤيِّدة عموماً للخط
العام السائد، ولمواقف الرئيس عبد الناصر (584)
تحديداً، ومستنكرة لمواقف بعض السياسيين
السوريين الموالين للغرب، ومنهم في تلك
الأيام قريبنا السياسي الحلبي من "الحزب
الوطني" ميخائيل ليان (585) الذي اتُّهم آنذاك
بالاشتراك في مؤامرة مؤيِّدة للعراق تهدف إلى
قلب نظام الحكم في سورية. بينما كانت مواقف
البعض الآخر، كعمي رزق الله (586)، أكثر تحفظاً
تجاه ما كان يُطرَح. ووسط هذا الخضم من الآراء
المتصارعة كنت أقف حائراً. فعواطفي كانت مع
الموقف العام الذي كان يؤيِّده أبي (587) وعمي جورج
(588).
بينما كنت أجد الكثير من المنطق في الآراء
المتحفظة والتعليقات اللاذعة لعمِّي رزق
الله (589) – تلك التي كنت استمع إليها باهتمام حين
كان يزورنا أو نزوره، أو حين كنَّا نلتقيه في
"مقهى البرازيل"، حيث كان يأتي ليجتمع مع
بعض أصدقائه من السياسيين وغير السياسيين. وأتذكر
ذلك المقهى الطريف الشهير الذي كان ملتقى أهل
السياسة ورجال الفكر في دمشق التي كانت تعيش
خريف ديموقراطيَّتها؛ ذلك الذي عرفته عن طريق
أبي (590) وعمي جورج
(591) اللذين كانا أحياناً يصحبانني
إليه معهما في أيام العطل. كان مقهى البرازيل،
الذي يقدِّم فقط قهوة الإسبرسو، ملكاً لشخص
مسيحي من عائلة دياب ويقع في زاوية مواجهة
لمقهى الهافانا الذي ما زال قائماً إلى يومنا
هذا. وقربه كانت تقع إحدى أفضل مكتبات دمشق
آنذاك التي كانت تدعى بـ"المكتبة العمومية"؛
وكانت تقع مواجهها، ملاصقة لـ"مقهى
الهافانا"، سينما روكسي (سينما الأهرام
اليوم) ومكتب رزق الله (592)... وحيث
جرى حديث طريف بيني (593) وبين أبي
(594): -
من هذا الشخص الجالس هناك
على تلك الطاولة يا بابا؟ -
إنه أكرم الحوراني (595). (وكانت
تحيط به شلة من أصدقائه وأتباعه.) فهززت
رأسي وكأني كنت أدرك في حينه ما كان يمثِّله
أكرم الحوراني (596) بالنسبة للبلد... -
ومن هذا الطويل لابس القنباز الجالس على
الطاولة المجاورة والذي يناقشه ضاحكاً؟ ضحك
أبي (597) وأجابني: -
هذا رئيس حزب "يصطفلوا"!"
سألت أبي (598) مندهشاً: -
وما هذا الحزب؟! أجابني: -
ربما كان صاحبه أفهم إنسان
في هذه البلد! وانقطع
حديثي "السياسي" مع والدي مع دخول عمِّي
رزق الله (599) الذي حيَّا أكرم الحوراني
(600) وبعض
الجالسين في المقهى ثم جلس معنا... وسأل
أبي (601) أخاه رزق الله
(602): -
كيف الحالة يا رزوق (603)؟ فأجابه
هذا الأخير متبسماً: -
أكل هوا يا أريس (604)... "أكل
هوا"... ربما – وإن كان من الطبيعي والمنطقي
جداً أن تنعكس الأجواء والمصالح الداخلية
والمحيطة آراء ومصالح تتصارع على حلبة الساحة
السياسية في بلدنا وفي المنطقة، كما في أي بلد
وأية منطقة. ولكن... الذي
جرى ويتعلق بنا، ولم نفهمه إلا لاحقاً، كان أن
الصراع الداخلي لم يكن نزيهاً، ولا اللعبة
الديموقراطية محترمة، وأن الجيش نصَّب نفسه
وصياً على البلد، وأن الأحزاب العقائدية لم
تكن عقائدية إلا بمقدار تفكيرها بالتسلُّط
على غيرها وعلى البلد. وحين كاد كل شيء يضيع من
خلال الفوضى التي وصلنا إليها، فرضوا تلك
الوحدة الاندماجية مع مصر، هروباً إلى أمام،
من جهة، ومحاولة متسرعة واعتباطية لإنقاذ ما
يمكن إنقاذه، من جهة أخرى. فالبلاد كانت أصبحت
في مهب الريح، منعزلة وممزقة... وأفكر
أن السبب الحقيقي لتمزُّقها وانعزالها كان
أنها لم تعرف كيف تحافظ على توازنها وسط
محيطها... وكان
هروب إلى الأمام، وتصعيد من "الشارع"
بالدعوة إلى الوحدة مع مصر – تلك الوحدة التي
فرضها الجيش ورحَّب بها الجميع... تقريباً. *** *** *** ملاحظة
هامة: يقول السيد باتريك سيل في
كتابه الصراع على سورية "... وبعد يوم واحد
استقال نظام الدين من منصبه كرئيس للأركان
العامة وحلّ محله عفيف البزري الذي وصفته
صحيفة النيويورك تايمز في السابع عشر من آب
بأنه شيوعي منظم وضابط مؤيد للسوفييت علناً..."
وعن هذا الأمر كانت تتحدث أيضاً الأقاويل
التي كانت تملأ البلد في حينه. ولكن، شكنا
بصحة تلك الأقاويل هو الذي دفعنا على وضع
أهلتين على تلك الصفة التي نسبت في حينه إلى السيد
البزري الذي لم يكن شيوعياً كما تؤكد عائلته
التي يفترض أن تكون الأعلم بالموضوع
|
|
|