الصحراء رمز الانعتاق والحرية

إبراهيم الكوني في رواية التبر

 

فيصل المتني

 

إذا كانت الصحراء القاحلة قاسية بطبيعتها وطقوسها، فقيرة بإنتاجها – إذ لا شجر ولا ثمر – فهي غنية بقيمها، بعالمها، بفضائها الواسع، بطهرها الذي يسمو على الدنس المادي ويبتعد عنه... فالصحراء، على بساطتها وبدائيتها وخلقتها الأولى وبدائية مجتمعها، تحمل الكثير من الرموز والقدسية للإنسان، لقيمه، للأصالة، للصدق، للوفاء، للمروءة... أي أنها تتمسك بإنسانية الإنسان، وبأقصى ما تطمح وتدعو إليه قوانين الإنسانية المتحضرة في عصرنا... أضف إلى ذلك معاناة الفرد داخل المجتمع الصحراوي البسيط الذي لا يخلو من مشكلات ومغريات.

لكن الإنسان هو الإنسان – سواء كان في الصحراء أم في أرقى مدن الحضر والحضارة – تتنازعه قواه الجسدية والروحية. والصحراوي يبقى متمسكاً بعرفه وتقاليده وعلاقته بصحرائه، من واحة وراحلة وقطيع ماشية وجِمال. لكن هذه العناصر المكوِّنة للصحراء، إضافة إلى مناخها القاسي، تجعل للعيش فيها طعمه ونكهته التي ربما لا توجد في أرقى بقاع العالم حضارة وراحة. وحنين الإنسان الصحراوي لبيئته ربما يدفعه لينطلق مرة أخرى للعيش بين أحضان صحرائه الدافئة، القاسية، الحنون، التي فيها كل المتناقضات، كما إنسانها المملوء بالمتناقضات.

 

والصحراء عند الأديب الليبي إبراهيم الكوني هي الانتماء، والأصل، والانبعاث، والتجدد، والاستمرار؛ هي القداسة مقابل "التبر" – رمز المجتمع المادي الذي يطغى بقيمه الاستهلاكية التي تفرض على الإنسان الكثير من الانحناء، والتخلِّي عن الكثير من القيم التي قد لا يحيا بدونها.

والصحراء، عند الكوني، هي على النقيض تماماً من التبر، عنوان روايته. فوجود التبر هو الرجس الذي يدنس طهر الصحراء – وهي الرمز للحرية والتحرر والانعتاق من قيود التبر وحضارته. فإذا كان الذهب يخطف العيون ويستعبد النفوس فإن أوخيِّد، ابن شيخ قبيلة أمنغساتن وبطل رواية التبر، من خلال علاقته بـ"مهريِّه" الأبلق، يجسد حالة معاكسة تبتعد عن مغريات التبر وتتمسك بقيم الصحراء: الصدق والوفاء – وإن كان يُحمِّل مسؤوليةَ الانحراف في الحياة التبرَ والأنثى على الصعيد الإنساني، أو حتى الحيواني، من خلال ربط مسيرة أوخيِّد، بطل الرواية، بمصير "مهريِّه" الأبلق، هذا الحيوان الذي يصيبه الجَرَب لتردده على النوق وانغماسه في ملذاته.

يحاول أوخيِّد أن يشفي مهريَّه بأي شكل، لكن الحيلة تعييه. يلجأ إلى الشيخ موسى، الرمز الديني في القبيلة، الذي لا يُعرَف سببُ بقائه مع القبيلة والإقامة فيها. ينصح له الشيخ موسى بعشبة "آسيار" من "قرعات ميمون" – هذا المكان الذي يُنهى عن الذهاب إليه لأن أعشابه تصيب بالجنون. وأمام حالة المهري المزرية لا يطيق أوخيِّد صبراً، فلا يجد بداً من ركوب المصاعب، فيذهب ومهريَّة، محاولاً شفاءه، إلى قرعات ميمون، ويتذوق وإياه طعم الموت، فتوهب لهما الحياة من جديد. يقول معاتباً ربَّه:

ولكن يا ربي: هل من الضروري أن يمرَّ الشفاء عبر الجحيم؟ هل يعدم الخلاص إلا في أقصى الألم؟ هل ثمن الإثم فادح إلى هذا الحد؟

رحلته وآلامه وآلام مهريِّه معاً، وظمؤه وإنقاذ مهريِّه له من بئر الماء، بانتشاله له، يمثل قمة الوفاء بين الحيوان والإنسان. يُشفى المهري، ويعود أوخيِّد منتصراً ليزهو من جديد. ولكن عصر الإخصاء لم ينته بعد. فلا يستعيد المهري لونه الأبلق الجميل إلا بإخصائه وفق مشورة الشيخ موسى. وبالفعل يغادر أوخيِّد القبيلة كي يخصى مهريه ويستعيد لونه. لكن المهري لا يغفر لصديقه تخلِّيه عنه، فيخذله في حلبة الرقص.

ثم يتزوج أوخيِّد من أيور الحسناء، القادمة من تمبكتو، دون موافقة والده الذي يرسل له جملة واحدة: "لا بارك الله لك بها." وبعد أن تنجب له ولدين ويرحل عن القبيلة، يأتي ابن عمها التاجر ويزورهم. ولكن الفقر يجعل السلاطين تركع. يقول:

السلاطين أيضاً تركع على الأرض إذا جاعت وتزحف ذليلة كالعبيد.

يرهن أوخيِّد مهريَّه الأبلق لابن عم زوجه، مقابل جَمَل يسدُّ رمق عياله. ولكن المهري لا يطيق البعاد. يعفيه ابن عم زوجه من الرهن، شرط أن يطلِّق أيور. يطلِّقها ليحصل على المهري، وفوقه كيس من التبر يعطيه ابن العم إياه، رغم رفض أوخيِّد لذلك. وتنتشر قصةُ من باع زوجَه بكيس من التبر في الصحراء. ويعود أوخيِّد ويقتل ابن عم زوجه وهو يتجهز للزواج من أيور. يتجمع أبناء القبيلة من تمبكتو للأخذ بالثأر كي يحصلوا على المال. فموت أوخيِّد هو ثمن المال. وبعد مطاردتهم له يصطادون مهريَّه ويبدؤون بتعذيبه حتى ينزل لهم. ينزل أوخيِّد ليعلِّقوه بين جملين يشطرانه إلى نصفين.

تنتهي الرواية بهذا الشكل نهاية مأساوية. فالتبر لوثة الصحراء: يموت صاحبُه بسببه، ويموت أوخيِّد ومهريُّه أيضاً بسببه. ولو عدنا لرموز الرواية، لوجدنا الرمز الموحي، لا الغامض، يكتنفها، ابتداءً من الأسماء الملاصقة للبيئة. فاختيار موسى للنصح والمعجزة بشفاء المهري لم يكن عبثاً؛ فكأنه أراد أن يعيد قصة النبي موسى صاحب المعجزات. ثم العبارات التي جاءت على لسان أوخيِّد، وحبه للانعتاق، حتى من الزوجة والأولاد، والتمسك بالمهري، لها دلالتُها البعيدة؛ فكأنه أراد أن يؤكد على فكرة الأنثى المذنبة، الأنثى نفسها كانت سبباً في بلاء الأبلق. فالأنثى هي سبب جَرَب المهري، وهي سبب بُعده عن القبيلة وتشتتها وضياعها فيما بعد. ولا يخلو الأمر من العبارات التي تشير إلى الواقع الذي نعيشه، وإن كانت موظَّفة لصالح الرواية. يقول:

لو تشتَّتت كل القبائل في الصحراء الواسعة لاندثرت الخلافات حول المشيخة، ولما تقاتل الأشقاء للفوز بالزعامات.

وتتناثر الحِكَم بين دفتي الرواية:

في الشباب ينفتح الطيش ولا تحل الحكمة والمعرفة إلا في العجز والشيخوخة. فما فائدة الحكمة بدون شباب، وما فائدة معرفة بدون حياة؟

الصبر تعويذة ضد القدر، الصبر هو الحياة.

ولا تخلو الرواية من الإشارة إلى قتال الاستعمار الإيطالي، وإلى الأساطير والسحر. ولكن ابتعاد أوخيِّد عن الحَضَر، والعودة إلى الصحراء، وتخلِّيه عن زوجه، إنما يؤكد خط الشخصية منذ البداية إلى الميل للانعتاق والحرية – هذا الخط الذي كلَّفه حياته. فهو لم يتخلَّ عن مبادئه وعن مهريِّه. وحين تأكد أن الأنثى والأولاد قيد، أراد أن يتحرر منه... وتحرَّر. وكأن الكاتب أراد أن يقول إن الحياة تفرض شروطها وضغوطها، وربما تجعل الإنسان يتخلَّى عن كثير من مبادئه بسبب الأبناء والزوجة ومتاع الدنيا. فلا خلاص إلا بالخلاص منهم أولاً. والخلاص بالصحراء يكون.

الرواية مملوءة بالرمز الموحي: الرمز بالعبارات، بالأسماء... مقولتها الأساسية أن الصحراء هي الطهر والقداسة، وما تبقى – التبر والأنثى – هو ما يدنس الصحراء. فالأنثى هي السبب في نزول آدم من الجنة. وكأني بالكوني يقول: لا يكون الإنسان حراً إلا إذا ابتعد عن المال والأنثى.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود