|
مفتاح
الثيوصوفيا
هيلينا
ب. بلافاتسكي
الباب
الخامس
التعاليم
الأساسية للثيوصوفيا
_____ الله
والصلاة
السائل:
هل
تؤمنون بالله؟ الثيوصوفي:
هذا
يتوقف على ما تعنيه بهذه الكلمة. السائل:
أعني
بها إله المسيحيين، أبا المسيح، والخالق:
باختصار إله موسى الكتابي. الثيوصوفي:
نحن لا نؤمن بمثل هذا الإله. نحن نرفض فكرة إله
شخصي أو مفارق للكون وعلى صورة البشر، ليس إلا
ظلاً هائلاً للـإنسان – وليته كان ظلاً
له في أحسن أحواله. إننا نقول – ونبرهن على ما
نقول – إن إله اللاهوت جملة من التناقضات،
وهو تعذُّر منطقي. لذا فنحن لا نمت إليه بصلة. السائل:
فهات
أسبابكم من فضلك. الثيوصوفي:
هي
كثيرة، ونحن لا نستطيع بسطها كلها. ولكن هاك
بضعة منها. إن عباد هذا الإله يدعونه
لانهائياً ومطلقاً، أليس كذلك؟ السائل:
أظنُّه كذلك. الثيوصوفي:
إذن
إذا كان لانهائياً – أي لا حدود له –، وبخاصة
إذا كان مطلقاً، كيف يمكن أن يكون ذا شكل
وخالقاً لأي شيء؟
إن الشكل ينطوي على التحديد
وعلى بداية ونهاية. على الكائن حتى يخلق أن
يفكر ويخطِّط. فكيف لنا أن نحسب المطلق يفكر –
أي أن تكون له علاقة ما مع ما هو محدود ومنتهٍ
ومشروط؟
ذلك ضرب من العبث الفلسفي
والمنطقي. وحتى القباله العبرية ترفض مثل هذه
الفكرة، ولذا تجعل من المبدأ الواحد، الألوهي
المطلق، وحدة لانهائية تدعى أين صوف.[1] على الخالق لكي
يخلق أن يصبح فعَّالاً؛ ولما كان هذا
مستحيلاً على المطلقية كان لابدَّ من
تمثيل المبدأ اللانهائي بوصفه يصير علَّة
التطور (وليس علَّة الخلق) تمثيلاً
غير مباشر، أي عبر فيض السفروت[2] من نفسه (وهو
عبث آخر يُعزى هذه المرة إلى مترجمي القباله). السائل:
فماذا
عن أولئك القباليين الذين، على كونهم كذلك،
ما يزالون يعتقدون بـيهوه، أو بـالرابوع؟ الثيوصوفي:
لهم
أن يعتقدوا بما يحلو لهم، من حيث إن اعتقادهم
أو عدمه لن يغير أمراً واقعاً واضحاً بذاته.
اليسوعيون يقولون لنا إن اثنين واثنين لا
يساويان دوماً أربعة يقيناً، بما أن الله
يقدر إذا شاء أن يجعل 2 ×2
= 5. فهل هذا يسوِّغ قبولنا لسفسطتهم؟ السائل:
فأنتم
ملحدون إذن؟ الثيوصوفي:
ليس
على حد علمنا!
اللهم إلا أن يكون نعت "ملحد"
يُطلَق على جميع الذين يكذِّبون بإله بشري
الصورة. إننا نؤمن بمبدأ كلِّي إلهي، أصل الكل،
يصدر منه كل شيء وإليه يُرجَع كل شيء عند
نهاية دور الوجود الكبير. السائل:
لكن
هذا هو الادعاء القديم للحلولية. فإذا كنتم
حلوليين لا يمكنكم أن تكونوا ألوهيين؛ وإذا
لم تكونوا ألوهيين ينبغي أن تُدعَوا ملحدين. الثيوصوفي:
ليس
بالضرورة. فمصطلح "حلولية" كذلك واحد من
مصطلحات كثيرة يساء استعمالها، شوَّه معناها
الحقيقي الأصلي
تعصب أعمى ورؤية
أحادية الجانب. فإذا قبلتم
بالاشتقاق المسيحي لهذه الكلمة المركَّبة
وشكَّلتموها من παν،
"كل"، و θεος،
"إله"، ثم تصورتم وعلَّمتم أن هذا يعني
أن كل حجر وكل شجرة في الطبيعة إله، الإله الواحد،
فأنتم عندئذٍ بالطبع على حق، وبذلك تجعلون من
الحلوليين عبدة أصنام، بالإضافة إلى ما يعنيه
اسمهم الشرعي. لكن سيصعب عليكم أن تُفلِحوا
مثل هذا الفَلاح إذا اشتققتم كلمة حلولية
اشتقاقاً باطنياً كما نفعل نحن. السائل:
فما
هو، إذن، تعريفكم بها؟ الثيوصوفي:
دعني
أطرح عليك بدوري سؤالاً. ماذا تفهم من كلمة
بان، أو الطبيعة؟ السائل:
الطبيعة،
على ما أظن، هي حاصل مجموع الأشياء الموجودة
من حولنا؛ ومحصِّلة العلل والمعلولات في عالم
المادة، الخلق أو الكون. الثيوصوفي:
ومن
هنا المجموع أو النظام المشخَّص للعلل
والمعلولات المعروفة؛ حاصل كافة العوامل
والقوى بوصفها غير متَّصلة بالكلِّية بخالق
أو خالقين عاقلين، وربما "متصوَّرة كقوة
واحدة ومنفصلة" – كما جاء في بعض موسوعاتكم؟ السائل:
نعم،
أظن ذلك. الثيوصوفي:
طيب، فنحن لا نأخذ بالاعتبار هذه الطبيعة
الموضوعية المادية التي ندعوها وهماً
زائلاً، ولا نحن نعني بـ πάν الطبيعة، بمعنى اشتقاقها المقبول من
اللاتينية natura
(الصيرورة، من nasci،
الولادة). عندما نتكلم على الألوهة ونجعلها
مماثلة، وبالتالي مزامِنة للطبيعة، فإن
المقصود من ذلك هو الطبيعة الأبدية غير
المخلوقة، وليس جملة ظلالكم الهاربة
وأوهامكم المنتهية. إننا نترك لمؤلفي
الأناشيد أن يسمُّوا السماء أو الفردوس
المرئي عرش الله، وأرضنا الترابية موطئ قدميه.[3]
إلهنا ليس في فردوس، ولا هو في شجرة، أو بناء،
أو جبل معيَّن: إنه في كل مكان، في كل ذرة من
ذرات الكوسموس، المرئي وغير المرئي على حدٍّ
سواء، في، فوق، وحول كل ذرة غير مرئية وكل
جزيء قابل للانقسام؛ ذلك أن ذاك هو قدرة
الانفتاح والانغلاق السرِّية، والكمون
المبدع المالئ الكل، القادر على كل شيء، وحتى
العليم بكل شيء. السائل:
قف! إن العلم بكل شيء هو من اختصاص شيء يفكر،
وأنتم تنكرون على مطلقيَّتكم القدرة على
التفكير. الثيوصوفي:
إننا ننكر ذلك على المطلق، بما أن الفكر
شيء محدود ومشروط. لكنك على ما يبدو نسيت أن
اللاوعي المطلق في الفلسفة هو عينه الوعي
المطلق، لأنه بغير ذلك لن يكون مطلقاً. السائل:
فمطلقكم يفكر إذن؟ الثيوصوفي:
لا، ذاك لا يفكر، لسبب بسيط هو أنه الفكر
المطلق عينه. ولا هو بموجود، للسبب نفسه،
حيث إنه الوجود المطلق، والكينونة، وليس
كائناً. اقرأ قصيدة سليمان بن يهوذا جبريل
القبالية البديعة في قطر الملكوت، ولسوف
تفهم: "أحدٌ أنت، أصل الأعداد طرَّا، لكن
ليس كعنصر تعداد؛ إذ الوحدة لا تقبل التكثُّر
أو التغيُّر أو الشكل. أحدٌ أنت، وفي سرِّ
أحديَّتك يضيع أحكم الحكماء، لأنهم لا
يعرفونه. أحدٌ أنت، وأحديَّتك لا نقصان فيها
أبداً، ولا زيادة، ولا تغيُّر. أحدٌ أنت، وما
من خاطر من خواطري يمكنه أن يحدَّك، أو
يعيِّنك. أنت هو الكائن، ولكن ليس ككائن
موجود، لأن أفهام البشر ونظرهم لا قدرة لها
على الإحاطة بوجودك، ولا على تعيين أينك أو
كيفك أو لماذك،" إلخ، إلخ. باختصار فإن
إلهنا هو باني الكون الأزلي، الذي لا يني يتطوَّر،
وليس خالقه؛ ذلك الكون عينه المتفتِّح
عن ماهيَّته، وليس المصنوع. إنه، في
رمزيَّته، دائرة لا محيط لها، ليس لها إلا صفة
واحدة فاعلة أبداً تحيط بكل الصفات الموجودة
أو المعقولة الأخرى – هو. إنه القانون
الأوحد، الذي تنبثق عنه القوانين
المتجلِّية، الأبدية، والثابتة، ضمن ذلك القانون
غير المتجلِّي أبداً، لأنه القانون
المطلق الذي يكون في فترات تجلِّيه الصيرورة
الأبدية. السائل:
سمعت ذات مرة واحداً من أعضائكم يلحظ أن الإله
الكوني، بما هو في كل مكان، يوجد في الأوعية
الخسيسة مثلما يوجد في الأوعية الشريفة،
وبالتالي يوجد في كل ذرة من ذرات رماد سيجاري!
أليس هذا من قبيل التجديف الفاحش؟ الثيوصوفي:
لا أحسبه كذلك، بما أن المنطق البسيط يصعب أن
يُعَدَّ من قبيل التجديف. لو اتفق لنا أن
نستبعد المبدأ المالئ الكل من نقطة هندسية
واحدة من نقاط الكون، أو من قُسَيْم مادي يشغل
أي فضاء قابل للتصور، هل يظل بوسعنا أن نعتبره
لانهائياً؟ هل
الصلاة ضرورية؟
السائل:
هل تؤمنون بالصلاة، وهل تصلُّون أصلاً؟ الثيوصوفي:
لا نصلِّي، بل نفعل بدلاً من أن نتكلم. السائل:
أفلا ترفعون صلوات حتى إلى المبدأ المطلق؟ الثيوصوفي:
ولماذا نفعل؟ بما أننا قوم مشغولون جداً فنحن
تصعب علينا إضاعة الوقت في رفع صلوات لفظية
إلى تجريد محض. فالذي لا يُعرَف ليس قادراً
على إقامة علاقات غير علاقات أجزائه فيما
بينها، لكنه معدوم فيما يتعلق بأية علاقات
منتهية. فالكون المرئي يعتمد في وجوده
وظواهره على أشكاله المتبادِلة الفعل وعلى
قوانينها، وليس على الصلاة أو الصلوات. السائل:
ألا تؤمنون مطلقاً بفاعلية الصلاة؟ الثيوصوفي:
ليس بالصلاة كما تُعلَّم في هذا الكمِّ
الكبير من الكلمات وكما تكرَّر تكراراً
شفهياً – إذا ما كنت تعني بالصلاة الاسترحام
الخارجي، المرفوع إلى إله مجهول بوصفه
المخاطَب، الذي افتتحه اليهود وروَّج له
الفريسيون. السائل:
فهل ثمة نوع آخر من الصلاة؟ الثيوصوفي:
جزماً؛ ونحن ندعوه صلاة الإرادة، وهو
أقرب إلى الأمر الداخلي منه إلى الاسترحام. السائل:
لمن، إذن، تصلُّون عندما تفعلون؟ الثيوصوفي:
لـ"أبينا الذي في السماوات" – بمعناه
الباطني. السائل:
وهل ذاك المعنى مختلف عن الذي يضفيه عليه
اللاهوت؟ الثيوصوفي:
مختلف بالكلِّية. فالعالم الغيبي أو
الثيوصوفي يرفع صلاته إلى أبيه الذي في
السرِّ (أقرأ وحاول أن تفهم نص متى 6: 6)، وليس
إلى إله خارج الكون وبالتالي منتهٍ؛ وذلك "الآب"
هو في الإنسان نفسه. السائل:
فأنتم، إذن، تجعلون الإنسان إلهاً؟ الثيوصوفي:
بل قُلْ، أرجوك، "الله" ولا تقل إله.
فالإنسان الباطن، بالمعنى الذي نقصد، هو
الإله الأوحد الذي بوسعنا أن نتعرَّف إليه.
وكيف للأمر أن يكون على غير ذلك؟ إذا سلَّمنا
بأن الله مبدأ كلِّي الانبثاث، لانهائي، كيف
يمكن للإنسان وحده عندئذٍ أن يُستثنى من
التشرُّب بـالإله وفيه؟ إننا ندعو
"أبانا الذي في السماوات" تلك الماهية
الألوهية التي نتعرَّف إليها في أنفسنا، في
قلبنا وفي وعينا الروحي، والتي لا تمتُّ بصلة
إلى التصور البشري الهيئة الذي قد نشكِّله
عنها في دماغنا الجسماني أو في شطحات
مخيِّلتنا: "أما تعلمون أنكم هيكل الله،
وأن روح الله (المطلق) حالٌّ فيكم؟"[4]
فلا يسوِّلنَّ لامرئ أن يؤنِّس تلك الماهية
فينا. ولا يقولنَّ ثيوصوفي، إذا كان يستمسك
بالحقيقة الإلهية، وليس البشرية، إن هذا "الإله
في السرِّ" يصغي إلى أيٍّ من الإنسان
المنتهي أو الماهية اللانهائية، أو يتميَّز
عنهما – إذ إن كلَّهم واحد. ولا يقولنَّ، كما
ألمعنا لتوِّنا، إن الصلاة استرحام. إنها
بالحري سرٌّ؛ سيرورة غيبية تُترجَم بها
الخواطر والرغبات المنتهية والمشروطة التي
يتعذَّر على الروح المطلق غير المشروط أن
يستوعبها إلى إرادات روحية وإلى المشيئة؛
ومثل هذه السيرورة يدعى "التجوهُر الروحي".
إن شدة أشواقنا المضطرمة تحوِّل الصلاة إلى
"حجر الفلاسفة"، ذاك الذي يجوهِر الرصاص
إلى ذهب خالص. وتصير "صلاة إرادتنا"، بما
هي الماهيَّة المتجانسة الواحدة، القوة
الفاعلة أو الخلاقة التي تصنع النتائج بحسب
مشيئتنا. السائل:
هل تعني بقولك أن الصلاة سيرورة غيبية تفتعل
نتائج مادية؟ الثيوصوفي:
أجل. إن قوة الإرادة تصبح قدرة حيَّة. ولكن
ويل لأولئك الثيوصوفيين والغيبيين الذين،
بدلاً من أن يسحقوا رغبات الأنيَّة
الشخصية الدنيا أو الإنسان الجسماني،
ويقولون، مخاطبين أنيَّتهم العليا
الروحية المغمورة بنور آتما–بودهي، "لتكن
مشيئتك، لا مشيئتي"، إلخ، باثِّين موجات من
قوة الإرادة لأغراض أنانية أو منكَرة! إذ إن
هذا من قبيل السحر الأسود والرجس والشعبذة
الروحية. وبكل أسف، فإن هذه هي الشغل الشاغل
المفضَّل لرجال دولتنا وقادتنا العسكريين
المسيحيين، ولاسيما عندما يرسل هؤلاء جيشين
ليقتتلا. كلاهما ينخرط قبل الفعل في شيء من
هذه الشعبذة برفع صلوات، كلٌّ منهما إلى إله
الجنود نفسه، يتوسل كل منهما عونه على ذبح
أعدائه. السائل:
داود صلَّى لربِّ الجنود ليعينه على قهر
الفلستيين وعلى ذبح السوريين والمؤآبيين،
وقد "صان الرب داود أنَّى توجَّه". في ذلك
لا نتبع إلا ما نجد في الكتاب. الثيوصوفي:
بالطبع تفعلون. ولكن بما أنكم تبتهجون بتسمية
أنفسكم مسيحيين، وليس إسرائيليين أو يهوداً،
على حدِّ ما نعلم، لماذا لا تتبعون بالحري ما
يقوله المسيح؟ وهو يأمركم بما لا لبس فيه بعدم
اتباع ما قال "الأوَّلون" أو الشريعة
الموسوية، بل يحثُّكم على أن تفعلوا ما يقول
هو لكم، ويحذِّر أولئك الآخذين بالسيف، أنهم،
هم أيضاً، سوف يهلكون بالسيف.[5] لقد أعطاكم
المسيح صلاة واحدة جعلتموها صلاة شفاه ومحلَّ
تباهي، لا يفهمها إلا الغيبي الحق وحده.
فيها تقولون، بمعناكم الحرفي الميت: "أعفنا
مما علينا، فقد أعفينا نحن أيضاً من لنا عليه"،[6]
الأمر الذي لا تفعلونه أبداً. كذلك أمركم بأن تحبوا
أعداءكم وتصنعوا الخير لمضطهديكم.[7] وحتماً ليس "نبي
الناصرة الوديع" هو الذي علَّمكم أن تصلوا
لـ"أبيكم" لكي يذبح أعداءكم وينصركم
عليهم! لهذا نرفض ما تسمُّونه "صلوات". السائل:
فكيف تفسرون الواقع العالمي أن كل الأمم
والشعوب صلَّت وتعبَّدت لإله أو لآلهة؟ بعضها
عبد شياطين وأرواح مؤذية واتَّقاها، لكن
هذا لا يثبت إلا عالمية الاعتقاد بفعالية
الصلاة. الثيوصوفي:
يمكن
تعليل ذلك بذلك الواقع الآخر أن للصلاة معاني
أخرى عدَّة غير التي يضفيها عليها المسيحيون.
إنها لا تعني فقط توسلاً أو استرحاماً، بل
لقد عَنَتْ في قديم الزمان، أكثر ما عَنَتْ،
الابتهال والتعزيم. إن للـمنترا، أو صلاة
الهندوس المنشَدة الموقَّعة، مثل هذا المعنى
بالدقة، إذ إن البراهمة ينزِلون أنفسهم منزلة
أعلى من منزلة سواد الـديفا أو "الآلهة".
فالصلاة قد تكون توسلاً أو تعزيمة لاستنزال
اللعنة، ونقمة (كما في حالة جيشين يصليان في
وقت واحد من أجل تدمير واحدهما الآخر) بقدر ما
هي نعمة. فلما كانت غالبية الناس شديدة
الأنانية، لا يصلُّون إلا من أجل أنفسهم،
سائلين أن يُعطَوا "خبزهم كفاف يومهم"
بدلاً من أن يكسبوه بعملهم، ويتوسلون إلى
الله ألا يدخِلهم "في التجربة" بل أن
ينجِّيهم (الذاكرين وحدهم) من الشرير،[8]
فإن النتيجة هي أن الصلاة، كما تُفهَم الآن،
ضارة من وجهين: (أ) إنها تقتل في المرء الاتكال
على النفس؛ (ب) إنها تنمِّي فيه أثرة وأنانية
أشرس أيضاً مما سبق للطبيعة أن حَبَتْه. أكرر
أننا نعتقد بـ"الوصال" مع "أبينا الذي
في السرِّ"[9] وبالفعل الآني
المتساوق معه؛ وفي لحظات نادرة من الغبطة
الوجدية، بامتزاج نفسنا العليا – المجذوبة
بما هي كذلك نحو أصلها ومركزها – مع الماهية
الكلِّية في حالة تدعى إبان الحياة بـسمادهي،
وبعد الموت بـنيرفانا. إننا نرفض الصلاة
لكائنات مخلوقة – من نحو الآلهة
والقديسين والملائكة إلخ – لأننا نعدُّ هذا
من قبيل الوثنية. كذلك لا يمكننا الصلاة للـمطلق
لأسباب شرحناها آنفاً؛ لذا نحاول أن نستبدل
بالصلاة العقيمة والعديمة النفع أفعالاً
فاضلة وصانعة للخير. السائل:
المسيحيون يدعون ذلك غروراً وتجديفاً. هل هم
على باطل؟ الثيوصوفي:
تماماً. بل إنهم، على العكس، هم الذين يبدون
غروراً شيطانياً باعتقادهم أن المطلق أو
اللانهائي – حتى إذا وُجِد شيء مثل إمكانية
وجود علاقة ما بين غير المشروط والمشروط –
سوف يطأطئ للاستماع إلى كل صلاة حمقاء أو
أنانية. وإنهم هم أيضاً الذين يجدفون في
الواقع بتعليمهم أن الإله العليم القدير
يحتاج إلى صلوات منطوقة ليعرف ما ينبغي عليه
فعله! هذا – مفهوماً فهماً باطنياً – ما
يصدِّقه كلٌّ من بوذا ويسوع. فقد قال الأول:
"لا تلتمسوا الآلهة العاجزة – لا تصلُّوا! بل
بالحري اعملوا؛ إذ إن الظلمة لن تشرق أبداً.
لا تطلبوا شيئاً من الصمت، لأنه لا يتكلم ولا
يسمع." والآخر – يسوع – يوصي: "فكل شيء
سألتم باسمي (اسم خريستوس) أعمله."[10]
وبالطبع فإن هذا المقبوس، إذا أُخِذَ بمعناه الحرفي،
يتعارض مع حجَّتنا. أما إذا قبلناه باطنياً،
عالمين علماً تاماً معنى مصطلح "خريستوس"،
الذي يمثل بنظرنا آتما–بودهي–مَنَس، "الذات"،
فإنه يُفسَّر كما يلي: الإله الأوحد الذي
علينا أن نعترف به ونصلي إليه، أو بالحري نعمل
بالتساوق معه، هو روح الله تلك التي جسدنا هو
منها الهيكل والتي تقيم فيه. الصلاة
تقتل الاتكال على النفس
السائل:
ولكن ألم يصلِّ المسيح نفسه ويوصي بالصلاة؟ الثيوصوفي:
هكذا ورد في الكتاب، لكن تلك "الصلوات"
هي بالدقة من غرار الوصال ذاك الذي ذكرناه
لتوِّنا مع "الآب في السرّ". على غير ذلك،
إذا رأينا في يسوع الإله الكلِّي، فإن
النتيجة التي سنخلص إليها حتماً ستكون مفرطة
اللامنطقية في لامعقوليَّتها، ومفادها أن
"الإله بذاته" صلَّى لنفسه وفصل
إرادة ذلك الإله عن إرادته! السائل:
اسمح لي أن أسوق حجَّة أخرى؛ حجَّة، فوق ذلك،
كثيراً ما يسوقها بعض المسيحيين. إنهم يقولون:
"أشعر بأني غير قادر على قهر أي من أهوائي
والضعف في قوتي. لكني عندما أصلي ليسوع المسيح
أشعر بأنه يعطيني القوة وأني بقدرته أقدر أن
أقهر." الثيوصوفي:
لا عجب في ذلك. إذا كان "يسوع المسيح" هو
الله، وكان إلهاً مستقلاً ومنفصلاً عن المرء
المصلِّي، فكل شيء بالطبع ممكن – ويجب أن
يكون كذلك – لـ"إله قوي". ولكن، عندئذٍ،
أين الفضل، أو حتى العدل، في مثل هذا القهر؟
ولماذا يثاب القاهر الكاذب على شيء مفعول لم
يكلِّفه غير الصلوات؟ أتدفع – وأنت الإنسان
الفاني البسيط – لعاملك أجرة يوم كامل إذا
قمت عنه بمعظم عمله، بينما كان هو يجلس طوال
الوقت تحت التفاحة ويسألك أن تفعل ذلك؟ إن
فكرة صرف المرء حياته بأسرها في كسل معنوي،
جاعلاً غيره – أكان إلهاً أو إنساناً – يقوم
عنه بأشقِّ عمله وواجبه، لتبدو شديدة الإغاظة
لنا، وشديدة الحطِّ من الكرامة الإنسانية. السائل:
لعل الأمر كذلك. لكن فكرة الوثوق في مخلِّص
شخصي لاستمداد العون والقوة في معركة الحياة
هي مع ذلك الفكرة الأساسية في المسيحية
الحديثة. ولا شك أن مثل هذا الاعتقاد، ذاتياً،
ناجع؛ أي أن المؤمنين به يشعرون بأنفسهم
فعلاً مستمدِّين العون والقوة. الثيوصوفي:
مثلما أنه لا ريب أيضاً أن بعض مرضى "العلماء
الذهنيين" و"العلماء المسيحيين" – "المنكرون
الكبار"[11]
– يُشفَون أحياناً أيضاً؛ ومثلما أن
التنويم، والإيحاء، وعلم النفس، وحتى
الوساطة، من شأنها أن تنتج مثل هذه النتائج
مراراً بالمثل، إن لم نقل أكثر. إنك تأخذ لا
بالاعتبار إلا النجاح ولا تنسج حجَّتك إلا
بخيطه وحده. فماذا عن الإخفاق الذي يفوق بعدد
مرَّاته النجاح عشر مرات؟ قطعاً لن تتجاسر
على القول، حتى بوجود اكتفاء الإيمان الأعمى،
بأن الإخفاق مجهول بين المسيحيين
المتزمِّتين؟ السائل:
ولكن كيف يمكنك أن تفسر تلك الحالات التي
يحالفها النجاح التام؟ أين يلتمس الثيوصوفي
القدرة على إخضاع أهوائه وأنانيَّته؟ الثيوصوفي:
في ذاته العليا، الروح الإلهية، أو الإله
فيه، وفي كرماه. حتَّام سنضطر إلى
الإعادة، مراراً وتكراراً، بأن الشجرة
تُعرَف من ثمارها، وطبيعةَ السبب من نتائجه؟
أنت تتحدث عن إخضاع المرء أهواءه، وصيرورته
خيِّراً عبر معونة الله أو المسيح وبها. ونحن
نسأل: أين تجدون أناساًَ أكثر فضيلة وبراءة،
يعفُّون عن الخطيئة والإجرام، أفي العالم
المسيحي أم في البوذية – في البلدان المسيحية
أو في البلاد "الوثنية"؟ والإحصاءات
متوفرة لإعطاء الجواب وتأييد ما نذهب إليه.
فبحسب الإحصاء في سيلان والهند، في الجدول
المقارن للجرائم التي اقترفها مسيحيون،
مسلمون، هندوس، أوراسيون، بوذيون، إلخ، إلخ،
في عيِّنة من مليونين من السكان المأخوذين
عشوائياً من كل من الفئات السابقة، والمغطي
لمخالفات عدة سنوات، نجد أن نسبة الجرائم
التي اقترفها المسيحيون تساوي 15 مقابل 4 جرائم
ارتكبها السكان البوذيون. (أنظر لوسيفر،
عدد نيسان، 1988، ص 147، مقالة "محاضرون
مسيحيون في البوذية".) ما من مستشرق، ولا من
مؤرِّخ مرموق، أو رحَّالة في بلاد البوذيين،
من الأسقف بيغانديه والأب هوك، حتى السير
وليم هَنْتر وغيره من الرسميين ذوي الإنصاف،
سوف يتردد في منح وسام الفضيلة للبوذيين قبل
المسيحيين. ومع ذلك فإن الأوائل (ليس أتباع
الملَّة البوذية السيامية الأصيلة، على كل
حال) لا يؤمنون لا بالله ولا بثواب مقبل خارج
هذه الأرض. إنهم لا يصلُّون، لا كهنتهم ولا
علمانيوهم. وإنهم ليهتفون مستغربين: "نصلِّي!
لمن، وماذا؟" السائل:
إذن فهم ملحدون حقاً. الثيوصوفي:
بما لا ريب فيه. لكنهم أيضاً أكثر الناس حباً
للفضيلة وصوناً لها في العالم أجمع. تقول
البوذية: احترِمْ أديان غيرك من الناس وابقَ
وفياً لدينك؛ لكن مسيحية الكنيسة، في
دينونتها لكل آلهة الأمم الأخرى بوصفها
شياطين، تقضي على كل غير مسيحي بالهلاك
الأبدي. السائل:
ألا يفعل كهنوت البوذية الشيء نفسه؟ الثيوصوفي:
أبداً. إنهم من شدة الاستمساك بالوصية
الحكيمة الواردة في الـدهَـمَّـبَـدا
بحيث يعفُّون عن ذلك، إذ إنهم يعرفون أنه "إذا
اعتبر امرؤ ما، متعلِّماً كان أم غير
متعلِّم، نفسه من الكبر بحيث يحتقر غيره من
البشر، فهو أشبه بأعمى يحمل شمعة – ينير
الآخرين ويبقى أعمى." أصل
النفس الإنسانية
السائل:
كيف، إذن، تعلِّلون أن الإنسان موهوب روحاً
ونفساً؟ ما مصدرهما؟ الثيوصوفي:
من النفس الكلِّية. وهما قطعاً ليسا هبة من
إله شخصي. ما مصدر العنصر الرطب في قنديل
البحر؟ البحر الذي يحيط به، الذي يعيش فيه
ويتنفس ويوجد، والذي إليه يُرجَع عندما يتحلل. السائل:
فأنتم ترفضون تعليم أن النفس هبة الله، أو
نفخته في الإنسان؟ الثيوصوفي:
نحن مضطرون لذلك. فالـ"نفس" التي جاء
ذكرها في سفر التكوين (الإصحاح 2، الآية 7) هي،
كما ورد في الكتاب، "النفس الحية" أو نفش
(النفس الحيوية، الحيوانية) التي يهبها
الله (أو لنقل "الطبيعة" والقانون
السرمدي) للإنسان ككل حيوان. إنها ليست
بتاتاً النفس المفكرة أو الذهن؛ وهي قطعاً
ليست الروح الخالدة. السائل:
طيب، لنُعِدْ طرح السؤال على نحو آخر: هل الله
هو الذي يهب الإنسان نفساً بشرية عاقلة
وروحاً خالدة؟ الثيوصوفي:
مرة أخرى تضطرنا طريقة طرحك للسؤال إلى
الاعتراض عليه. بما أننا لا نؤمن بأي إله شخصي،
كيف لنا أن نعتقد بأنه يهب الإنسان أي شيء؟
وحتى إذا سلَّمنا جدلاً بإله يأخذ على عاتقه
المجازفة بخلق نفس جديدة لكل مولود جديد، فكل
ما يقال في مثل هذا الإله هو أنه يصعب اعتباره
هو نفسه متحلِّياً بأية حكمة أو علم سابق.
وبعض المصاعب الأخرى وتعذُّر التوفيق بين خلق
نفس لكل مولود وبين ادعاءات ذلك الإله الرحمة
والعدل والإقساط والعلم الكلِّي إنْ هي إلا
جروف قاتلة تتكسر عليها هذه العقيدة
اللاهوتية كل يوم وكل ساعة. السائل:
ماذا تعني؟ عن أية مصاعب تتحدث؟ الثيوصوفي:
تخطر ببالي حجَّة لا تُردُّ جاء بها بحضوري
مرة كاهن سنهالي بوذي، هو إلى ذلك واعظ مشهور،
ردَّ بها على مبشِّر مسيحي – مبشِّر ليس
جاهلاً قطعاً أو غير مستعد للمناظرة العلنية
التي قُدِّمت الحجة في أثنائها. جرت المناظرة
قرب كولومبو، وكان المبشِّر قد تحدى الكاهن
ميغاتِّفاتي أن يقدم له ما يرى من أسباب لعدم
قبول "الوثنيين" للإله المسيحي. طيب، لقد
خرج المبشِّر من تلك المناظرة المشهودة إلى
الأبد مغلوباً، كالعادة. السائل:
أودُّ جداً أن أعلم كيف؟ الثيوصوفي:
ببساطة هكذا: استهل الكاهن البوذي بسؤال الأب
إن كان إلهه قد أعطى لموسى وصايا ليعمل بها
البشر، بينما يحق لله وحده خرقها. فأنكر
المبشِّر هذا الزعم أنِفاً وساخطاً. فقال
خصمه: "طيب، أنت تقول لنا بأن الله لا
يستثني أحداً من هذه القاعدة، وبأنه لا يمكن
لنفس أن تولد بدون مشيئته. بيد أن الله يحرِّم
الزنا، في جملة أشياء أخرى، ومع ذلك تقولون في
نفس الوقت أنه هو الذي يخلق كل طفل يولد، وأنه
هو الذي يهبه نفساً. أنفهم عندئذٍ من هذا أن
ملايين الأطفال المولودين بالخطيئة والزنا
هم من صنع الله؟ أن يحرِّم إلهكم خرق شرائعه
ويعاقب عليه، ومع ذلك، يخلق كل يوم وكل ساعة
نفوساً لمثل هؤلاء الأطفال؟ إلهكم، بحسب
أبسط قواعد المنطق، متواطئ في الجرم، مادام
لا يمكن لأبناء الزنا هؤلاء أن يولدوا بدون
مساعدة منه وتدخل. أين العدل في الاقتصاص ليس
من الآباء المذنبين وحسب، بل ومن الطفل
البريء، على ما فعله ذلك الإله عينه، الذي
تعفونه هو مع ذلك من أي ذنب؟" نظر المبشِّر
عندئذٍ إلى ساعته ووجد فجأة الوقت متأخراً
جداً على متابعة في النقاش. السائل:
إنكم تتناسون أن كافة الحالات التي لا تفسَّر
على غرار هذه هي أسرار، وأن ديننا يحرِّم
علينا الفحص عن أسرار الله.[12] الثيوصوفي:
لا، نحن لا نتناسى، بل نرفض ببساطة تعذُّرات
كهذه. ولا نحن كذلك نريدك أن تؤمن بما نؤمن به.
نحن فقط نجيب على الأسئلة التي تطرحها. غير أن
عندنا اسماً آخر لما تسمونه "أسراراً". التعاليم
البوذية حول ما ورد أعلاه
السائل:
فماذا يعلِّم البوذيون بخصوص النفس؟ الثيوصوفي:
هذا يتوقف على أي البوذيتين تعني: البوذية
الظاهرية، الشعبية، أم تعاليمها الباطنية.
فالأولى تفسر نفسها في التعليم الديني
البوذي على هذا النحو: "النفس تعتبرها
كلمة يستعملها الجاهل للتعبير عن فكرة مغلوطة.
فإذا كان كل شيء عرضة للتغيُّر فإن الإنسان
غير مستثنى وكل جزء مادي منه ينبغي أن يتغير.
وما هو عرضة للتغيُّر ليس دائماً، وبالتالي
لا يمكن أن يكون ثمة بقاء خالد لشيء متغيِّر."
هذا يبدو جلياً ومحدداً. لكننا عندما نصطدم
بمسألة أن الشخصية الجديدة في كل ولادة جديدة
تالية هي تجمُّع من "سكندها"، أو
صفات، الشخصية القديمة، ونسأل إن كان
تجمُّع الـسكندها الجديد هذا هو بالمثل
كائن جديد لم يبقَ فيه شيء واحد من الكائن
الأخير، نقرأ أنه "بمعنى من المعاني كائن
جديد، وبمعنى آخر ليس كذلك. فإبان هذه الحياة
تتغير الـسكندها تغيُّراً متواصلاً،
بينما الرجل أ. ب. البالغ الأربعين مطابق من
حيث الشخصية للشاب أ. ب. في سن الثامنة عشرة،
على كونه كائناً مختلفاً من حيث بِلى جسمه
وترميمه وتغيُّر ذهنه وطبعه باستمرار. ومع
ذلك، فإن الرجل في شيخوخته يحصد عدلاًً
الثواب أو القصاص الناجم عن خواطره وأفعاله
عند كل مرحلة سابقة من مراحل حياته. بذا فإن
الكائن الجديد للولادة الجديدة، كونه الفردية
السابقة عينها (وليس الشخصية عينها)،
مزوداً فقط بصورة جديدة، أو بتجمُّع جديد من
الـسكندها، يحصد عدلاً عواقب أفعاله
وخواطره في العمر السابق." هذا من قبيل
الميتافيزياء العويصة، لكنه لا يعبِّر بأي
حال من الأحوال عن تشكيك بوجود النفس كما
هو بيِّن. السائل:
ألا يرد شيء كهذا في كتاب البوذية الباطنية؟ الثيوصوفي:
أجل، إذ إن هذا التعليم ينتمي إلى كلا البودهية
الباطنية أو الحكمة السرية، وإلى البوذية
الظاهرية، أو فلسفة غوتاما بوذا الدينية. السائل:
لكننا يقال لنا صراحة بأن غالبية البوذيين لا
يؤمنون بخلود النفس؟ الثيوصوفي:
ولا نحن نؤمن به، إذا كنت تقصد بالنفس الأنيَّة
الشخصية، أو نفس الحياة – نفش. لكن كل
بوذي متعلِّم يؤمن بـالأنية الفردية أو الإلهية.
وأولئك الذين لا يؤمنون بها يضلُّون في
حكمهم، وهم لا يقلون خطأً حول هذه النقطة عن
أولئك المسيحيين الذين تلتبس عليهم
المدسوسات اللاهوتية للمحررين اللاحقين
للأناجيل حول الدينونة ونار جهنم بالعبارات
التي تفوَّه بها يسوع. فلا بوذا ولا "المسيح"
كتبا يوماً أي شيء، بل تكلم كلاهما مجازاً
واستعملا "عبارات مبهمة"، كما فعل جميع
المسارَرين، وسيفعلون لفترة طويلة مقبلة. إن
كلا الكتابات المقدسة البوذية والمسيحية
تعالج المسائل الميتافيزيائية من هذا الغرار
كافة بحذر شديد، وكلا السيرتين، البوذية
والمسيحية، يأثم بذلك الإفراط في الظاهرية،
حيث الحرف الميت يغالي في كلا الحالتين. السائل:
هل تقصد التلميح إلى أن تعاليم البوذا
والمسيح جميعاً لم تُفهَم حقَّ فهمها إلى
الآن؟ الثيوصوفي:
ما أقصده هو ما تقول بالضبط. فالبشارتان،
البوذية والمسيحية، كلاهما بُشِّر به من أجل
الهدف المقصود نفسه. والمصلِحان كلاهما كانا
محبَّين للإنسان متَّقدين وغيريين
عمليين – بشَّرا بما لا لبس فيه بـ"اشتراكية"
من النمط الأنبل والأرفع، هي التضحية بالنفس
حتى الرمق الأخير. فالبوذا صاح: "لتقع عليَّ
خطايا العالم قاطبة حتى أخفف من بؤس الإنسان
وشقائه!" ... "ما كنت لأترك صرخة ألم واحدة
بوسعي أن أوفِّرها!" هتف أيضاً الأمير
المتسول، المسربل بحثالة الأسمال المتروكة
على أراضي الدفن. نداء "تعالوا إليَّ
جميعاً أيها المرهقون المثقلون، وأنا أريحكم"[13]
هو نداء "رجل الآلام"، الذي ليس له موضع
يضع عليه رأسه، إلى الفقراء والمستضعفين.
قوام تعاليم كليهما محبة لا حدَّ لها
للإنسانية، والإحسان، ومغفرة الإساءة،
ونكران الذات، والرأفة بالجماهير المضلَّلة؛
كلاهما يبدي الازدراء عينه للثروات، ولا يميز
بين ما هو لي وما هو لك. وقد كانت رغبتهما،
بدون أن يكشفا أسرار المسارَرة المقدسة للجميع،
أن يقدموا للجاهلين وللضالين، الذين كان
عبؤهم في الحياة أثقل من أن يحتملوه، ما يكفي
من الرجاء وتلميحة إلى الحقيقة تكفي لدعمهم
في أحلك ساعاتهم. لكن غاية كلا المصلحين
أُحبِطَت من جراء فرط حماسة أتباعهم اللاحقين.
لقد أسيء فهم كلمات السيدين وتأويلها، ودونك
العواقب! السائل:
ولكن لابد أن بوذا أنكر خلود النفس إذا كان
جميع المستشرقين وكهنتُه يقولون ذلك! الثيوصوفي:
بدأ الأرهوات باتباع سياسة سيدهم وغالبية
الكهنة اللاحقين لم يكونوا مسارَرين، كما حصل
في المسيحية؛ وهكذا، شيئاً فشيئاً، كادت
الحقائق الباطنية الكبرى أن تضيع. والبرهان
بهذا الصدد هو أنه، من أصل المِلَّتين
الموجودتين في سيلان، يعتقد السياميون أن
الموت هو الفناء المطلق للفردية والشخصية،
بينما تفسِّر المِلَّة الأخرى النيرفانا كما
نفعل نحن الثيوصوفيين. السائل:
ولكن لماذا، والحالة هذه، تمثل البوذية
والمسيحية القطبين المتعارضين لمثل هذا
المعتقد؟ الثيوصوفي:
لأن الشروط التي أحاطت بالتبشير بهما لم تكن
هي عينها. ففي الهند دفع البراهمة، الغيورون
على معرفتهم العليا، والنابذون منها كل طائفة
ما عدا طائفتهم، بملايين البشر إلى عبادة
الأوثان وإلى ما يكاد يكون فِتِشية. كان على
البوذا أن يجهِز على شطحات مخيِّلة معتلَّة
وعلى الطيرة المتزمتة الناجمة عن جهل نادراً
ما عُرِف قبلئذٍ أو بعدئذٍ. فالإلحاد الفلسفي
خير من مثل تلك العبادة الجاهلة لأولئك – الذين يرفعون
عقيرتهم نحو آلهتهم ولا يجابون، أو لا يبالي بهم أحد
– والذين
يعيشون ويموتون في يأس ذهني. كان عليه أن يوقف
أولاً سيل الطيرة الطيني هذا كلَّه، ويجتث الأغلاط
قبل أن يفصح بالحقيقة. ولما لم يكن بوسعه أن
يصرِّح بكل شيء للسبب عينه الذي حدا بيسوع
أن يفعل ذلك – يسوع الذي يذكِّر تلاميذه
أن أسرار ملكوت السماوات ليست للجماهير
البطيئة الفهم، بل للمختارين وحدهم، ولهذا
"كلَّمهم بالأمثال" (متى 13: 10-13) – فإن
حذره قاده إلى الستر أكثر مما ينبغي. حتى
إنه رفض أن يصارح الراهب فاكشاغوتَّا بوجود
أنيَّة في الإنسان أو بعدم وجودها. وعندما
أُلِحَّ أن يجيب، "لزم المغبوط الصمت".[14] السائل:
هذا يشير إلى غوتاما، فكيف يمسُّ الأناجيل؟ الثيوصوفي:
اقرأ التاريخ وتفكَّر فيه. ففي الزمن الذي
يُزعَم أن الأحداث المروية في الأناجيل وقعت
فيه كان ثمة اختمار عقلي مشابه يجري في العالم
المتمدِّن بأسره، إنما بنتائج متعاكسة في
الشرق والغرب. كانت الآلهة القديمة تحتضر.
وبينما كانت الطبقات المتحضِّرة في فلسطين
تنقاد في قطار الصادوقيين المنكرين إلى النفي
المادي ومجرد الحرف الميت للشريعة الموسوية،
وإلى الانحلال الأخلاقي في روما، فإن الطبقات
الأدنى والأفقر كانت تنجرف في الشعبذة
والآلهة الغريبة، أو تنضم إلى المنافقين
والفريسيين. لقد كان الأوان قد آن لإصلاح روحي.
فكان على إله اليهود القاسي، البشري الصورة،
والغيور، بشريعته الدموية في "العين
بالعين والسن بالسن"، وفي إهراق الدم
والقربان الحيواني، أن يتنحَّى إلى المرتبة
الثانية ويُستبدل به "الآب في السرِّ"
الرحمن. وكان على الأخير أن يُظهَر ليس كإله
خارج الكون، بل كمخلِّص إلهي لإنسان الجسد،
مكنون في قلبه ونفسه عينهما، في الفقراء كما
في الأغنياء. وكما في فلسطين كذلك في الهند،
لم يكن بالوسع إذاعة أسرار المسارَرة، لئلا
يعطى ما هو مقدس للكلاب، وتطرح اللآلئ قدام
الخنازير، فيوطأ الكاشف والأشياء
المكشوفة جميعاً تحت الأقدام.[15]
من هنا قاد تكتُّم كلا بوذا والمسيح – سواء
عاش الأول في الفترة التاريخية المنسوبة إليه
أو لم يعش، وامتنع على حدٍّ سواء عن الكشف
التام عن أسرار الحياة والموت – في الحالة
الأولى إلى نفي بوذية الجنوب الصريح، وفي
الحالة الثانية إلى الأشكال الثلاثة
المتناوئة للكنيسة المسيحية وإلى النِحَل
الـ 300 في إنكلترا البروتستانتية وحدها. *** *** ***
1
أين صوف، אין
סיף = τό πάν = έπειρος، الذي لا نهاية له،
أو غير المحدود، في الطبيعة ومعها، المعدوم
الذي هو الكائن، لكنه ليس من الكائنات. 2
كيف يمكن للمبدأ الأزلي عديم الفعل أن يفيض
أو يبثَّ؟ إن بَـرَبـرَهْـم الفيدنتيين لا
يفعل شيئاً من هذا القبيل؛ ولا أين صوف
القباله الكلدانية. إن قانوناً أزلياً
دورياً هو الذي يجعل قوة فاعلة وخالقة (اللوغوس)
تفيض من المبدأ المستتر أبداً وغير القابل
للفهم عند بداية كل
مَهامَـنْـفَـنْـتَـرا، أو دور جديد من
أدوار الحياة. 3
إشعيا 66: 1-2. (م) 4
1 كورنثوس 3: 16. (م)
كثيراً ما يقع المرء في الكتابات
الثيوصوفية على تصريحات متناقضة عن مبدأ
الخريستوس في الإنسان. بعضهم يدعوه المبدأ
السادس (بودِّهي)، وبعضهم الآخر السابع
(أتمن). فإذا شاء الثيوصوفيون المسيحيون
أن يستعملوا مثل هذه التعبيرات،
فليصحِّحوها فلسفياً باتباع مقايسة رموز
دين الحكمة القديم. نحن نقول إن خريستوس ليس
واحداً من المبادئ الثلاثة العليا وحسب، بل
الثلاثة جميعاً معتَبَرة كثالوث. وهذا
الثالوث يمثل للروح القدس، للآب، وللابن،
كما يشير إلى الروح المجرَّد، الروح
المتمايز، والروح المتجسِّم. كرشنا
والمسيح هما فلسفياً المبدأ نفسه تحت مظهره
المتجلِّي المثلَّث. ففي الـبهَـغَـفَـدغيتا
نجد كرشنا يدعو نفسه، على حدٍّ سواء، أتمن،
الروح المجرَّد، كشترجنا، الأنيَّة العليا
أو المتقمِّصة، والذات الكلِّية، كل
الأسماء التي، إذ تنتقل من الكون إلى
الإنسان، تشير إلى أتما وبودِّهي ومَنَس.
والـأنوغيتا مشبعة بالعقيدة نفسها. 5
متى 26: 53. (م) 6
متى 6: 12. (م) 7
متى 5: 44. (م) 8
متى 6: 11، 13. (م) 9
متى 6: 6. (م) 10
يوحنا 14: 13. (م) 11 مِلَّة
الشافين الجديدة الذين بتنصُّلهم من وجود
أي شيء غير الروح – الروح التي لا تعرف
الألم ولا المرض – يزعمون أنهم يشفون كل
الأمراض، على أن يؤمن المريض بأن ما يُنكِر
لا وجود له. نوع جديد من التنويم الذاتي. 12 هذا
غير صحيح البتة لأن بولس الرسول يقول: "الروح
يفحص عن كل شيء حتى عن أعماق الله. فمن ذا
الذي يعرف أسرار الإنسان غير الروح الذي في
الإنسان؟ وكذلك ما من أحد يعرف أسرار الله
غير روح الله." (1 كورنثوس 2: 10-11) فإذا كانت
الروح في الإنسان من طبيعة إلهية، وكانت
الروح الإلهية لا تتجزأ، يلزم عن ذلك أن
ينطوي الإنسان على قدرة معرفية لانهائية
تتناهى إلى العلم الإلهي الكلِّي. (م) 13 متى
11: 28. (م) 14 يقدِّم
بوذا لأنندا، التلميذ المسارَر الذي
يتقصَّى سبب هذا الصمت، جواباً صريحاً لا
لبس فيه في الحوار الذي ترجمه أولدنبرغ عن
الـسميوتَّاكا نيكايا: "لو أني، أيا
أنندا، عندما سألني الراهب الجوَّال
فاكشاغوتَّا: "هل الأنيَّة موجودة؟"،
أجبت: "الأنيَّة موجودة"، لكان ذاك،
أيا أنندا، أكَّد صواب عقيدة السَمَنا
والبراهمة الذين يعتقدون بالبقاء. ولو أني،
أيا أنندا، عندما سألني الراهب الجوَّال
فاكشاغوتَّا: "هل الأنيَّة غير موجودة؟"،
أجبت: "الأنيَّة غير موجودة"، لكان
ذاك، أيا أنندا، أكَّد صواب عقيدة الذين
يعتقدون بالفناء. ولو أني، أيا أنندا،
عندما سألني الراهب الجوَّال فاكشاغوتَّا:
"هل الأنيَّة موجودة؟"، أجبت: "الأنيَّة
موجودة"، هل كان هذا سيخدم غايتي، أنندا،
بإيجاد المعرفة فيه: كل الوجودات (دهامَّا)
هي لاأنيَّة؟ ولكن لو كنت، أيا أنندا، أجبت:
"الأنيَّة غير موجودة"، لما كان لهذا
أن يسبب، أيا أنندا، غير إغراق الراهب
الجوَّال فاكشاغوتَّا من حيرة إلى حيرة
أخرى: "أنيَّتي، ألم توجد من قبل؟ لكنها
الآن لم تعد موجودة!"" هذا يبيِّن،
خيراً من أي شيء، أن غوتاما بوذا ضنَّ على
الجماهير بمثل هذه العقائد الميتافيزيائية
العويصة من أجل ألا يزيدهم حيرة. ما قصده
كان الفرق بين الأنيَّة الشخصية المؤقتة
والذات العليا التي تضيء بنورها الأنيَّة
التي لا تفنى، "الأنا" الروحية
للإنسان. 15 إشارة
إلى ما جاء في متى 6: 6. (م)
|
|
|