|
خربشات
في جسد الوقت 2
فؤاد
رفقة
تحت
سماء واسعة صغار، طائرات من ورق، حناجر في
الهواء. يجهلون أن الطائرات، مهما ارتفعت،
أبداً ودائماً تفاجئها الرعود والصواعق. من
أصابعهم تنزلق غداً الخيطان، تفترش غيوم
الذاكرة في الشتاء الكبير. *** في
"محكمة التاريخ" وديان، سهول، قمم. غير
أن الأوقات المعاصرة تلغي هذه المحكمة. فلا
أودية عميقة، ولا قمم في الضباب... وحدها
السهول المسطَّحة. زمن
التسطيح تترمَّد الأفعال الكبيرة. البطولة،
الحب، المغامرة، الموت الصديق، الانتحار
المقدس. زمن
التسطيح يهيمن على العقل الحسابي–النفعي،
فلا ترى العين أشياء هذه الأرض في
بدائيَّتها، في إيماءاتها إلى تخوم الشفق. زمن
التسطيح تتشابه الوجوه، تصير وجهاً واحداً.
فلا أفراد عمالقة، ولا قضاة في "محكمة
التاريخ". زمن
التسطيح وحدها الجماهير والرؤوس، وحدها
الساحات. *** في
الآونة الأخيرة لا يَعرِف الضجر. يترافقان:
طفولته وشيخوخته. ورغم ذلك، بينهما غشاوة
البصر ورجفة الأصابع، بينهما الرياح والرماد. *** في
خريف أيامه يكتشف أن حواره الطويل مع الموت لم
يكن خوفاً من الموت، بل حب للحياة، وأن هذا
الحب أثقله، قاده إلى صديق قديم، إلى سيزيف
وصخرته في أسفل الجبل. وفي
ذلك الزمان أراد سيزيف أن يمتحن حبَّ زوجته
له، فأوصاها عند الوفاة بإلقاء جثته في
الساحة العامة بدلاً من أن تدفنها بحسب
العادة. وهكذا فعلت. في
العالم السفلي عرف سيزيف ما فعلت زوجته،
فاستأذن الآلهة وعاد إلى عالم الأرض لتعنيفها.
فلو كانت تحبُّه لما نفَّذت وصيةً ترفضها
الآلهة والبشر. في
العالم الأرضي التحم سيزيف بالشفق، بشروق
الشمس، بالظهيرة، وفي المساء، بالنجوم
وبالأقمار. عبثاً
حاولت الآلهة استرجاعه، عبثاً كانت
الإنذارات والإشارات. فشعلة الأرض أغرقت
مسامعه وخدَّرت عينيه. وفي
النهاية، نفد صبر الآلهة، فخرج أحدهم إليه
وجرَّه إلى عالمه السفلي حيث كانت الصخرة في
انتظاره. سيزيف،
سيزيف، يا صديقي، يا صديق الحياة! رائع هو
الصراع مع الصخرة، مع الصخور، رغم كل شيء. *** -
أين صاحبك؟ -
من زمان ما رأيته، على غير
عادته. -
ربما هو زعلان. -
والسبب؟ -
تعليقاتي المتردِّدة حول
قصائده الأخيرة. -
لكنه شاعر، والشاعر سيف
الحرية وترسها. -
هذا المفترض، ولكن... -
ولكن ماذا؟ -
الجميع يطالبون بالحرية
لأنفسهم. -
والآخرون؟ -
غنم وماعز... *** مُثقَلٌ
بالأفكار، ولا قدرة على تحويل فكرة واحدة إلى
الكلمة، كجمجمة في عتمة القاع تلفظ أنفاسها
الأخيرة. *** من
جبِّ الأسُود ومن أشداق الحيتان، من هدير
الأنواء ومن جنون الزوابع، من حطام المراكب
ومن مغاور الهلاك الضيقة، من أنفاق بلا
نوافذ، من الضيق، من يباس الجسد والروح أبداً
تُنقِذُه، أبداً تمدُّ إليه الخيوط، وتحت
جذوعك الطرية تبسط له الظلال. فالحمد لك، يا
شمس الوجود. *** إلى
أهله أرجعتَ الفتى الضال من ذئاب البراري،
فاشتعلتْ حجارة البيت بالمزامير، ومن جذوع
الزيتون تدلَّى العجلُ المسمَّن. إلى
إبرهيم أرجعتَ إسحق من السكِّين، من النار
والدخان، فكانت النعجة، وكان فرح الإيمان
يملأ العيون. إلى
أيوب أرجعتَ أرزاقه، مواشيه، أبناءه وصحته،
بعدما أحْنَيْتَه كسنبلة، كحقل من القصب تسرح
بين أوراقه الرياح. وإلى
الحطاب أرجعتَ ابنه، أرجعته، يا الله، من
شباك الهلاك. فكانت المعجزة، وكان الفرح
بالولادة الثانية. *** غابة
بعد عاصفة هو الآن، يرمق أوراقه المتناثرة،
جذوعه المتكسرة, أغصانه المبعثرة بين أشواك
الوعر ويصمت. يعرف
أن الوجود مفاجآت تباغت دوماً النوافذ
والأبواب. المهم
هو القدرة على الاجتياز بعيون واسعة الأحداق. *** في
صبيحة هذا اليوم يتذكر الرفاق الراحلين. وحده
هو الآن في المحطة ينتظر القطار الأخير. *** على
هذه الأرض نمضي العمر في سجون مفتوحة
الأبواب، ولا نتحرَّر، ولا نخرج إلى سهول
الشمس والأبعاد. *** *** *** عن
النهار، 25 آب و3 تشرين الثاني 2001
|
|
|