|
خربشات في جسد الوقت 3
فؤاد رفقة
على حافة
شيخوخته، تفاجئه الدعوات إلى قراءة الشعر. لكن خارج بلاده، ولكي ينضج الوقت،
خيرٌ له، مع سراجه وأوتاره، أن يسكن الكهوف ويعتمر الصمت. *** في
مدينة مُولدِه النرويجية افتتحت أميرة البلاد مهرجان الأدب
العالمي. وصلتْ كالنعاس، لا مصفَّحات، لا
حرَّاس، ولا سيارات دخانية. وصلتْ في الوقت
المحدد.
صعدتْ إلى المنبر في كل بساطة – بساطة في
اللباس، في الحركات. وفي كل جدِّية
أصغتْ إلى كلمة موجزة ترحيبية. لا معلَّقات ولا
ملاحم. وفي النهاية – نهاية
الوقت المرسوم – على أنغام كلاسيكية، خرجتْ الأميرة مارتا لويزة كما
دخلتْ،
زارعة في قلوب الحاضرين وروداً غزيرة
المياه. *** في بلاد
النرويج يتسرب المحيط الأطلسي إلى داخل المدينة، ربما ليوقظ العابرين على
السفن كلِّها في اتجاه واحد، على محيط بلا محيط. *** سئم
الوجود النهاري، عالم "القيل والقال"، فركب القارب وأبحر إلى جزيرة شمالية
خالية من لهاث البشر. وتحت أشجارها أقام كوخه حتى مغيب العمر. لم
يكن أكاديمياً ولا بحاثة، ولا غابة من النظريات. كان شفايتسر رساماً، في سفر
دائم إلى منابع الإبداع، تاركاً للعيون على هذه الأرض رسوماً أقوى من رياح
الأزمنة. ونحن؟
نحن أهل "الابداع" في العواصم والفنادق والسياحات، ماذا نعرف عن هذا المبدع
وعن عزلته البدائية في جزيرته النرويجية؟ *** أرسطو:
الإنسان كائن عاقل. ما أبعده عن الحقيقة! العقلانية قشرة بخارية على براكين
الغرائز والأنياب. *** أكثر
الأفكار سطحية تلك التي نجيئها، وخلفها نلهث؛ وأعمقها تلك التي تجيئنا. هكذا
غفلة تجيء، تبرق، من خَدَر النهار تنتشل الوجوه. *** في
نهاية عمره أدرك سقراط أن العقل لا يؤدي إلى المعرفة
فقال: "أعرف أني لا أعرف شيئاً." في نهاية العمر أدرك سقراط أن الطريق إلى المعرفة تعبُر جسر
الحدس.
عندها فهم أشياء كثيرة: فهم لغة الآلهة، لغة
الحقيقة، فرَجَمَتْه الجماهير –
وفي مقدِّمها أهل السياسة والحكم. *** مأساة
سقراط بعيدة عن وضعه العائلي، عن "قطعيَّة" الجماهير. مأساته في ذاك التمزق
الكياني بين العقل والحدس. *** بعد
غيابٍ أشعَّتْ أمام
بابه تحت العتبة مساميرُ
العزلة. إنها
الكاهنة القاتلة، إنه
الكاهن القتيل. *** يعرف أن
الرَّاحة الوسيعة في أن يكون قريباً منها. آه... ومع ذلك، كل صيف يبتعد، كما
الغيوم عن البحار، كما السواقي عن المنابع. أبداً
مسمار العزلة. إنها قدره، الجرح الذي يفصله عن شعلة الحياة. *** يومية:
ينهض باكراً، يتناول القهوة، ويبدأ في
الكتابة. أحياناً يكتب الشعر حين تقرع
الكلمة الباب، وأحياناً يكتب الرسائل. وعند الظهيرة يدرج إلى مقهى
فينيسيا:
فنجان إسبرسُّو. يعود بعد ذلك إلى الغداء
والاستراحة. وفي الثالثة بعد الظهر
يبدأ في العمل من جديد، يقرأ قصائد الآخرين – من زمان ما عاد يقرأ سوى
الشعر.
وآخر النهار يتمشى في شوارع مدينة شترالن. يعود إلى غرفته ويسجِّل خواطر
النهار على الورق. وفي العاشرة إلى فراشه، وإلى
الأرق. *** الشعب
الألماني يحتفل. مناسبة الاحتفال مرور مئتين وخمسين سنة على ولادة الشاعر
غوته. بعده عروش هَوَتْ، شعوب زالت، جبال سقطت، بحار جفَّت... وبقي غوته
شعلةً تتوهج في غابة الأيام. إنه
الشعر. *** في
مدينة شترالن الألمانية شجرة تتكئ على نافذته، جذوعها سطور، أغصانها كلمات،
أوراقها حروف، ثمارها نقاط، تجاعيدها فواصل، عصافيرها نغم يوقظ الفضاء عند
الفجر، يمدُّ له الفراش عند المغيب. *** مساء
البارحة كان يقرأ من قصائده. عيونهم، آذانهم، قلوبهم كانت تتوهَّج من شعلة
الجرح في الحروف. *** مقهى
إيطالي. يدخله. في زاوية يجلس، يطلب فنجان إسبرسُّو، يضيع في غابة الأحاسيس
والأفكار. وقت
يمضي. فجأة تدخل امرأة شقراء مكتنزة الجسم. تجلس إلى مسافة أمتار منه، ترمقه
بين الحين والآخر، بينما ترشف فنجانها الكابوتشينو. بعد
الانتظار تنهض، تتقدم منه وتنضم إليه مستأذنة. تقول إنها رأت صورته البارحة
في الجريدة. عرفت أنه من الشرق الذي يسحرها بأساطيره. أسئلة
تركَّزت في النهاية حول المرأة وحضورها في بلاده. تلحظ أنه يتلعثم، غير قادر
على إعلان الحقيقة. تقوم، تحاسب النادل، وتخرج إلى سماء حريَّتها كنسمة،
تاركةً وراءها في المقهى حطام شرقي في مسامعه رنين قصيدة عنوانها: "الشَّرف
الرفيع"! *** كلَّ مساء
يقول في نفسه: إنها المرة الأخيرة، لا كتابة بعد الآن. وفي الصباح يتناول
القلم ويكتب. في
فضاء القلب دائماً يتجمع الغيم، يسقط المطر، يغتسل الجرح. *** الشاعر خادم
في كنيسة الأسرار. إنها رغيفه وخمرته في الطريق إلى الشمس الكونية. *** حين
ينعدم الغيم في سمائه، لا برق، لا رعود، ولا رياح، يتحول الشاعر إلى حكواتي،
إلى نجمة تضيء المسرح، إلى مسرحية للتسلية. يومه
الأخير في مدينة شترالن الألمانية. أنسام باردة، سماء تنذر بالمطر، على غصون
الأجاصة خلف النافذة طائر كبير أسود ينقر الثمر. يتمنى لو كان مثله، لا ذكرى
تعذِّبه ولا غد يقلقه. لكن الوقت... ها ساعة الكنيسة تعلن الوقت. غداً،
في مثل هذه الساعة، يكون في القطار إلى بلاده، حيث العيون أقرب إلى العيون من
الدمع. *** في
مدينة كيفالا الألمانية كان الاحتفال بذكرى ولادة السيدة العذراء. حشود من
الحجاج، تراتيل دينية، أنغام كنسية، شموع، صلوات في الشوارع. يفاجأ
بهذه الذكرى في بلاد الرَّين، ويتذكر كلمة نيتشه التي تعلن موت... الله. ما
أبعده عن الواقع! كيف يموت الله والإنسان يعرف أنه كائن للموت؟! *** بروغه
مدينة بلجيكية. متاحف، كاتدرائيات حتى الغيم، معابر قديمة على قنوات بحرية
بين البيوت، وعند أطرافها السياح والمقاهي والصفصاف والحور. في شوارعها
مركبات الخيل، وفي ساحاتها وجوه العشق. بروغه
لا كالمدن، سواها حانات، مصارف، مطارات، قطارات. سواها
يرميك في عالم الشتات، عالم القشور والأقنعة والنسيان الكبير. بروغه
تنتشلك من عالم الآخر وتشدك إلى عالم الذات. إنها جزيرة ليِّنة الجسد في هذا
الوجود المعدني. قبل رؤيتها أنت شيء، وبعد رؤيتها أنت شيء آخر. بروغه
رائعة كالمطر الذي يتراخى الآن على البساتين. *** في ساحة
للمشاة رجلٌ في منحنى العمر يعزف أغاني إيطالية. من الحلقة حوله تخرج امرأة
ليِّنة الجسد، ترقص كما لو كانت وحدها، غائبة عن الآخرين، في شبه غيبوبة. وفي
النهاية، من غير أن تلتفت هنا وهناك، تتقدم من العازف تغمره حتى الارتعاش،
وتمضي في طريقها بين الجماهير. لا أحد يعرف إلى أين، ولا هي تعرف. وأنتَ
– يا ألله – لماذا اخترتها؟ لماذا منحتها وحدها نعمة الجنون الكبير؟ ماذا
لو...؟ *** يتعلَّم
الرؤية: فالجالس على ذلك المقعد الحجري في طرف الحديقة العامة يتأمل الإوزات
في الحوض هارب من الوحدة وخائف منها؛ والرجل المتمدد على العشب خلف السياج مع
امرأة هارب من الوحدة وخائف منها؛ والمرأة مع كلبها تحادثه كأنه رفيق قديم
هاربة من الوحدة وخائفة منها؛ والعجوز القابع في زاوية المقهى كأنه ميت هارب
من الوحدة وخائف منها؛ وكاتب هذه السطور هارب من الوحدة وخائف منها. الجميع يهربون من
الوحدة لأنها، أبداً ودوماً، تومئ إلى الأبعد والأعمق. إلى العبور. *** قريباً يجمع
أوراقه، يحزم حقيبته، وفي الطائرة إلى بيروت، إلى بلاد الشمس والوجوه
الأليفة. بعد
عزلة أقسى من إلهة عمياء يعود إلى ترابه، إلى هوائه وعيون مائه، إلى مقعده
تحت العتبة والى المسبحة، إليها، إليهم يعود. وداعاً، أيها
البرج المقدس، يا صفصاف الفكر ويا أناشيده! إنها المرة الأخيرة. فالجسد
خريفي، وفي سماء القلب باردة حجارة الأجراس. رائعة
هنا البحيرات، رائعة هنا شواهق الألب وأودية الرَّين، رائعة حتى الدمع. ولكن
هناك، في اتجاه الشروق، في اتجاه الأراضي الجريحة، هناك في الظل يستريح
الجريح، يستريح ويشفى. *** في جبال
الأرز عيناه على سحب الرَّين. في ظلال الرَّين عيناه على شموس الأرز. بينهما
تتقاذفه رياح لا تهدأ. *** -
مجنون؟ -
لماذا؟ -
لأنك
تضحك! -
ومتى كان الضحك
علامة الجنون؟! -
أبداً، غير أنك
الآن تضحك وأنت وحدك. -
صحيح. -
لماذا؟ -
لأني
أتذكر. -
مثلاً؟ -
تعرف أن في بيروت
شوارع متقاطعة. -
أعرف
ذلك. -
وتعرف أن بعضها
يزدان بإشارات المرور، للعجلات وللمشاة. -
أمر رائع، كما في
كل المدن المتحضِّرة. -
ولكن عندنا الأمر
يختلف. -
ماذا
تعني؟ -
غالباً ما أكون
المنتظر الوحيد عند أحمر الإشارة. -
والآخرون؟ -
تعرف الجواب،
فلماذا تسأل؟ -
لهذا السبب
تضحك؟ -
لهذا السبب. ألا
تذكر ما قال المتنبي؟ -
ماذا
قال؟ -
المتنبي، شاعر
العرب، يقول في إحدى قصائده: "يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم." -
هذا في الماضي.
أما في وقتنا الحاضر فالأمور مختلفة. بعد
سماعه هذه الكلمات سكت بيدر، تحوَّل إلى همسة في سرِّه: "مسكين هذا الرجل! لا
عيون له ولا آذان!" *** مِنَ
السَّحَر على
حافة البحر يعدُّ
نقاطه، في كل
نقطة ملايين
النقاط يُطبِق
جفنيه، رغوة
التخوف بين أصابعه. *** -
ما بكَ؟ -
لا
شيء. -
عيناك
غيمتان. -
أتألَّم. -
كيف
أساعدك؟ -
في البقاء إلى
جانبي، وعلى وجهك ابتسامة الجرح. -
مستحيل! -
لماذا؟ -
وحده صديق
الجلجلة قادر على هذه الابتسامة. *** أيام
الشعر كان الهمُّ اكتشاف أطُرٍ وسيعة تستوعب واقع العالم الحديث. والآن بعدما
تركَّزت هذه الأطر في التربة الشعرية يبقى السؤال: ماذا فعل شعراء
الخليج/المحيط بتلك الحرية التي منحها لهم الشعر؟ هل بقيت الأطُر براويز من
دون رسوم، من دون عالم داخلي؟ أم اكتنزت بحقائق ما رأتها عين من قبل ولا سمعت
بها آذان؟ *** يستشيرون
الآلة لتحديد أحوال الطقس، لا يقرأون كتاب الطبيعة: دفَّتاه الهواء، سطوره
الشجر، حركاته تهويمة الطير، نقاطه الثمر. يقرأون الكتب
السهلة، كتب المدارس والجامعات. أما كتاب الطبيعة فأمر آخر – هذا إن كان
للطبيعة حضور في مدنية البراغي والنفايات. *** نوافذ
مفتوحة، سيول بشريَّة. يتساءل: كيف تتسع الآخرة لهذه الأجساد من بداية الوجود
إلى نهايته، حتى لو كانت السماء بلا حدود! شيء
مرعب لقاءُ هذه الوجوه كلِّها يوم القيامة. *** ما هو
الإيمان المسيحي؟ جواب: في جمرة العذاب أن يهمس القلب: "لتكن مشيئتك".
من
مئات السنين، تحت جمرة المسامير قالها السيِّد، فاهتزت الأعمدة، وعن مسارها
تحوَّلت الأفلاك. إنه
المسيحي الأول والأخير. *** على شريط
أمام شبَّاكه عصفور. قلقاً يتحرك، أشد غربة من كاتب هذه الكلمات في المدينة
المعدنية هذه. يطير،
يطير حتى انكسار الأجنحة، فيسقط على الأسلاك بين الدخان والريح. *** من جروح
الشاردين عن القطيع أبداً يغتني الوجود: نقرأ بودلير وننسى جحيمه، نقرأ
هولدرلن وننسى جنونه الإلهيَّ، نقرأ المعرِّي وننسى عزلته المقدسة. *** طوال
حياته كان قاسياً على من يحب. عزاؤه أنه هو نفسه ضحية السفر الدائم إلى
النجمة الواحدة. رغم ذلك يبقى السؤال: ماذا ينتفع الإنسان لو "ربح" الشعر
وخسر الحب؟ بين
الفن والحياة أبداً هذا الصراع! *** في يوم
الآخرة، سيكون كاتب هذه السطور وحيداً، كما في حياته على الأرض. لن يعرفه
أحد. وحده
الذي تسمَّر قادر على رؤيته، على الاقتراب منه، على الجلوس معه
واحتضانه. *** قديماً،
كانت الأرض سرير الآلهة والبشر. فكان الجميع عائلةً واحدة. في أجوائها قداسة
البراءة. في
أحد الأيام تمرَّد الأبناء، فهجرها الآلهة وثار عليها البشر، جرَّحوها،
فجَّروا أعماقها، لوَّثوا ينابيعها، صحَّروها، وجعلوا منها امرأة شاردة. لم
تغضب، لكن حزنها تكاثف حتى الاختناق. في زمن الأحزان تكون الدمعة نعمة. منذ
أيام بكت الأرض. بكت كأرملة بلا أبناء، بلا وطن، بلا بيت، فكان عويلها هزَّة
جنونية، ضحاياها وجوه تحت أنقاض بلا أجساد. لكنها الأم الدافئة، أبداً
ودائماً، تغسل الجرح، تهزُّ السرير. *** كما
الأنهار في مجاريها إلى البحر، هكذا ينحدر الشاعر، من دون إرادته، إلى مصيره،
إلى شروق الليل تاركاً خلفه عتمة النهار. *** حياته سفر
مستمر إلى الأبعد من اليد، من البصر، من الأفق. لن يصل. لا بأس. المهم هو
السفر، لا النتيجة. النتائج كلها خاسرة. *** لماذا
نقرأ؟ الكتابات كلها خربشة في الظلام. بعد قراءته مئات الكتب والمجلَّدات
يكتشف هذه الحقيقة. كتاب
واحد يستحق القراءة: إنه الشجرة في تحولاتها الكونية. *** على
الصخور وقتَ
جنونِ الأفلاك لماذا
يضحك الموج، أبداً
يضحك، عندما
يتحطَّم؟ *** عن النهار، 23 ت 1/15 ك 1 2001، 5 ك 2/13 شباط/16 آذار/20 آذار 2002
|
|
|