الفصل الثاني

خربشات في جسد الوقت 1

 

فؤاد رفقة

 

 

من الظلم أن نتوقع من الكرمة ثمراً غير العنب، ومن الإنسان غير ما عنده.

***

في حفلة البارحة كان ساطع الحضور: سلامات، أحاديث، نظريات، نبيذ متعدد اللون. لكنه في الأمسية عينها كان الغائب الأكبر. بين اللحظات كانت تبرق من ثقوب العمر ملامح قديمة، متآكلة، في هدوء تتسرب إلى القلب وتصمت، كطائر في قفص، بين عينيه روائح إحراج لن تعود.

***

الحياة سلسلة من البدايات: شفق يتسرب من جدائل الليل، شمس تنحني على شفة البحر، لحن وراء نافذة، طائر يوقظ الفجر، عجوز في الشارع، غيمة، ثمرة فجة تلطم الأرض، وجه امرأة في المطار: هذه التفاصيل وسواها مفارق للرؤية الصاحية، للرؤية الواسعة الأحداق.

***

اليوم ذكرى ولادته. يخاف الالتفات إلى الخلف، يخاف أن يقوم بجرد حساب. فالغلَّة أقل بكثير من الدمع والأوجاع.

***

الطبيعة كائن حيٌّ، طاقة غير محدودة الأوتار والأحاسيس. ومع هذا، يعرِّيها الإنسان المعاصر، يجرِّدها من عباءتها، من أساطيرها وأسرارها، يحوِّلها إلى جسدٍ ميتٍ طمعاً بالمال والسلطة.

***

طويلاً تصبر، لكنها في النهاية تنفجر. فلا الصواريخ تجدي، ولا مركبات الفضاء، وقت الأعاصير وهدير البراكين.

***

للأعمال الكبيرة في الإبداع غير معنى. عشرات المجلدات ظهرت حول أفلاطون، غوته، شكسبير، نيتشه، جبران، بيتهوفن. المبدأ عينه ينطبق على كتب الوحي. بسبب شموليَّتها تحتمل هذه الكتب تفسيرات وتفسيرات، وفي غياب هذا الاحتمال تتحول إلى لغة علمية، مما يؤدي إلى إفقارها وحرمانها من أبعادها الكونية. ورغم ذلك نلاحظ هذه الأيام حركات تحصر أبعاد الوحي في اتجاه واحد، فتحرمها اتساعها، وتجرِّدها من احتمالات تغني الوجود البشري، إلى قضائها على بريق الفكر والحرية – هذا البريق الذي هو شعلة في الكائن الأرضي.

كلمة الوحي شجرة تتجذَّر، تنمو، تزهر وتثمر في بساتين مفتوحة. من يحيد عنها جزاؤه عند الله، لا سواه.

***

اجتاز مسافات العمر بين حروف النظريات وفواصلها. فما هي الفائدة؟ إنها غير قادرة على أن تسند رأسه إلى حجر زمن الشيخوخة ولحظة العبور.

***

تلقَّى دعوة للمشاركة في تأسيس جمعية فلسفية في لبنان. قرأ الدعوة مراراً وتعجَّب. ذلك أن تأسيس جمعية كهذه يستوجب وجود تيارات من الفلسفة عميقة الجذور عندنا، تيارات تحاور الفلسفات العالمية، تناقشها في الطريق إلى الحقائق المصيرية. ولكنْ، أين هي هذه التيارات، وأين أصحابها؟

من مئات السنين والعقل العربي نبتة بلا تربة وأمطار، رغم محاولات مبعثرة هنا وهناك.

***

رائع أن يتَّجه الإنسان إلى الحقيقة حتى جذورها، لكن الأروع من ذلك أن يلمح تلك الجذور، أن يفسرها بحسب رؤيته الذاتية لها، وأن يعيشها، في روحيَّتها، في حرية ترسم إنسانيته، تلوِّنها، كغيمة ترسم خرائط الإنسان.

وهكذا كلمة الوحي – وحتى ذلك الحين – تبقى غريبةً عن أهلها ويتيمة.

***

الانتحار قفزة "إرادية" من الوجود إلى العدم. لهذه القفزة أسباب ظاهرية، منها الاقتناع الكياني بأن الوجود عبثي. فلِمَ الهموم والأتعاب، ولم الأثقال؟ لكن في الوقت عينه نرى أفراداً يلتحمون بالحياة حتى الانفجار بسبب عبثيَّتها.

وسبب ظاهري آخر هو الفشل في تحقيق رغبة أو فكرة تساوي الوجود: تجربة فاشلة في الحب، تجربة فاشلة في المعركة، تجربة فاشلة في تحقيق أهداف مصيرية. إنما هناك في الوقت عينه أفراد يغرقون في الخيبات حتى قاع الظلمة من دون أن يفتحوا عيونهم على الهاوية الأبدية، ومن دون أن يتذكروها. ينطلقون أبداً ودائماً إلى البدايات.

وسبب ظاهري آخر هو حالة يسكنها الفقر أو الوجع، حالة مغلقة الأبواب والنوافذ حتى الاختناق. كذلك في حالة كهذه نرى معظم البشر يستمرون في الصراع من أجل البقاء حباً بالحياة.

وسبب ظاهري آخر هو الانجذاب إلى العالم السفلي لاكتشاف الحقيقة المصيرية التي تنتظر البشري على هذه الأرض، سعياً وراء الأسرار الكبرى، كما فعل أورفيوس الشاعر، وكما يرى أفلاطون في عدد من حوارياته. غير أن التاريخ زاخر بنفوس شديدة العطش إلى المعرفة من دون أن ترتمي في جبل النار كما فعل واحد من فلاسفة اليونان الطبيعيين.

سؤالنا من جديد: ما سبب الانتحار؟ ماذا يقود الإنسان إلى النافذة، إلى الرصاصة، إلى المشنقة، إلى الحبوب؟ لماذا الانتحار؟

يرى فرويد أن الطبيعة البشرية تتكون من غريزتين جذريتين: غريزة الموت وغريزة الحياة. وهما في نزاع مستمر، تتقاذفان الإنسان، كما السفينة في مجاري الريح والأمواج. على هذا الأساس، يكون الانتحار ناتجاً من غلبة غريزة الموت على غريزة الحياة.

لكن، لِمَ هذه الغلبة؟ لِمَ، في لحظة، يصير ما يصير؟ لِمَ، في لحظة، يتحدد المصير في القفزة الحاسمة؟ في لحظة تهيمن رغبة الموت، وإلى الهاوية تنزلق الأقدام؟

في نهاية النهايات، ربما يعود السبب إلى البنية الفسيولوجية، إلى الخلايا والعروق والأعصاب والدم، إلى كيمياء الجسد. هذه الكيمياء التي تؤدي بصاحبها إما إلى حرارة الشمس وإما إلى رطوبة الحفرة.

يبقى السؤال: ما مصدر هذه الكيمياء الجسدية؟ وما منبعها؟ هل هي وراثية؟ هل هي ناتجة من عوامل جغرافية ومناخية؟ الجواب عن هذه الأسئلة غير أساسي. الأساسي هو أن الانتحاري لا يختار عناصره. إنها مفروضة عليه. إنها في طينته وخميرته. إنها قدره.

لِمَ قدره أن يقفز من النافذة؟ أن يطلق الرصاصة؟ أن يلتهم السموم؟ لِمَ قدره أن يكون انتحارياً؟

وراء النجوم يبقى القدر أخرس، القدر لا يتكلم، القدر يفعل.

***

أبداً ودائماً تتوسع الفضاءات لاحتضان آهات البشري على هذه الأرض.

***

العقل مصنع الأفكار النهارية، بينما الجسد معبر الإشارات من نوافذ الأفق – هذا إن كان الجسد شفافاً، لا دخان فيه ولا وُحُول.

***

نجمة تسقط

في جسد الليل تفتح جرحاً

وتنطفئ.

وفي جسده؟

توقظ جرحاً لا ينطفئ.

***

في ضيعته

تحت سماء راجمة

سقطت نجمة

كانت له السرير والألعاب،

وكانت له الرَّحِم.

***

حقيقة ساطعة، أكثر سطوعاً من جزيرة تشتعل. ومع ذلك، لا تراها العيون.

منها تنحدر الفلسفة، تنحدر الأديان والعلوم. حيناً في جدال معها، وحيناً في حوار. لكنْ من دون نتيجة حاسمة. إنها الجانب الآخر من الوجود. إنها العبور الأخير.

وفي تلك الأيام يُحكى عن واحد اجترح المعجزات، "فوطئ الموت بالموت ومنح الحياة للذين في القبور".

***

تحت النافذة حديقة، عند سياجها شجرة تفاح. طويلاً يتأمل ثمارها الساقطة ولا يرتوي، ربما لأنها سترحل معه في المركب لدى اجتيازه البحيرة الداكنة إلى القاطع الآخر. إنها رفيقة السفر.

***

على طرف الغصن عصفور داكن اللون – ربما سُمُّنة – تحت غَبَشٍ صباحي خفيف يتشمَّس، يفلِّي ريشه. يغسل بأظافره منقاره من فتات الثمر البَرِّي. يتوقف، يرفع رأسه، قليلاً ينحني، يطير، لا أحد يعرف إلى أين. لا ذاكرة تثقله، ولا أفكار حالكة.

***

مناسبات شعرية، قاعات تزدحم بالرؤوس، مكبِّرات صوت في الزوايا، مسارح، قرَّاء وأنغام.

في مناسبات كهذه مقعد واحد يبقى فارغاً: إنه مقعد الشعر.

الشعر بدائي موشوم، تُجفِله الأبواق والحناجر الوسيعة.

***

في التاسع والعشرين من كانون الأول خرج من أمان الرحم إلى عالم الأمواج تحت برج الجدي. من خصائص مولود الجدي أنه قدريٌّ. قَدَرُه أن يكون دائماً على الحافة، على حافة الوعر، على حافة الأرض، على حافة الوجود، على حافة الشعر.

بين الواقع والحلم أبداً يتناثر.

***

تحت سماء رمادية صياد يلقي بصنَّارته في البحر، قبعة على رأسه، سلَّة عتيقة إلى جانبه، مطمئناً ينتظر.

في مقتبل العمر، يسحره اتساع البحر، نقاؤه، هدوؤه، بريق موجه. يجهل أن وراء هذه السكينة المغرية كمائن الحيتان التي تباغت الصياد أبداً ودائماً، توقظه من النعاس والخدر.

*** *** ***

 
الفصل الثاني
 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود