french arabic

نيكوس كازانتزاكيس

مؤلفاته، فكره، علاقاته مع فرنسا والمشرق

 

يورغوس ستاسيناكيس

رئيس لجنة التنسيق للجمعية الدولية

لأصدقاء نيكوس كازانتزاكيس

 

إذا ما اتفق لكم أن تسألوا أحدهم عما إذا كان يعرف نيكوس كازانتزاكيس، فإن الجواب مراراً ما يكون بالسلب. أما إذا سألتموه عما إذا كان يعرف فيلم زوربا اليوناني، فإن الجواب مراراً ما يكون بالإيجاب.

بذلك فإن شهرة نيكوس كازانتزاكيس هي في الإعداد السينمائي لكتابه حياة ومغامرات أليكسيس زوربا أكثر منها في مؤلفاته. بيد أن مؤلِّفنا يمثل، لحسن الحظ، شيئاً أعمق، قيماً روحية، إنسانية ومواطنيَّة عالمية، تجعل أفكاره ذات أهمية راهنة كبيرة.

الغرض من هذه الدراسة هو تقديم مؤلَّفاته جملةً، وتحليل فكره، وبما أننا موجودون في سوريا وفي المركز الثقافي الفرنسي، التذكير بارتباطه بالمشرق وبفرنسا ومحبته لهما.

بالرجوع المتكرر إلى مؤلفات نيكوس كازانتزاكيس، سوف أتوسع في القضايا التالية:

1.    مؤلفات نيكوس كازانتزاكيس

2.    فكره

3.    علاقاته مع فرنسا ومع المشرق

1.المؤلفات

إنها غنية، عديدة، متماسكة، وحيَّة. وبالفعل فإن نيكوس كازانتزاكيس اعتنق كل الأنواع الأدبية: الشعر، المسرح، الرواية، المقالة، أدب السَّفَر، كتب اليافعين، الترجمات، المراسلة، والسيناريوهات. ولعله يصعب علينا أن نورد اسم مؤلف آخر، يوناني أو غير يوناني، أبدع هذا الكم من المؤلفات وتخطَّى حدود بلاده تخطِّياً ما فتئ يدوم ويتوسَّع.

أ. الشعر

لقد اعتبر كازانتزاكيس نفسه دائماً شاعراً. ولا ننسى أن أعماله الروائية تعود إلى السنين الأخيرة من حياته. فقبل بضعة أشهر من وفاته، دوَّن على كتاب ذهبي في إحدى مكتبات أنتيب، في فرنسا (حيث عاش من عام 1948 إلى عام 1957): "الشعر هو الملح الذي يحول بين العالم وبين التفسخ". وقبيل وفاته ببضع دقائق، أسرَّ للأطباء: "أوتعلمون أن الشعراء لا يموتون، أو يكادون لا يموتون."

لقد كتب كازانتزاكيس ثلاث قصائد عظيمة:

-                      أولاها، وأشهرها، هي الأوذيسة. وهي عمل جسيم مؤلف من 33.333 بيتاً. وهي أساسية بنظر نيكوس كازانتزاكيس. يصف فيها مغامرة عوليس، أي مغامرته هو، ومغامرة الإنسان الحديث، عبر رحلة تنطلق من إيثاكي إلى القطب الجنوبي، مروراً بإسبارطة، وكريت، وإفريقية.

-                      ثانيتها هي ترتسينيس، وهو عمل مغمور، عبارة عن 21 قصيدة مهداة، على حدِّ ما كتب كازانتزاكيس، "إلى النفوس التي غذَّت نفسي".

-                      وثالثتها مجهولة، وهي الـسونيتا.

ب. المقالات

هذا جانب جوهري، كثيراً ما يُهمَل، من مؤلفات الكريتي العظيم. نشر منها كازانتزاكيس سبعاً:

·        مرض القرن

·        هل أفلس العلم؟

·        برغسون

·        مائدة

·        تاريخ الأدب الروسي

·        فريديرخ نيتشه في فلسفة حق المواطنية

·        رياضة [تصوُّف]، مخلِّصو الله. وهو الكتاب بامتياز فيما لو أردنا أن نفهم كازانتزاكيس

ج. المؤلفات الدرامية

هذا الجزء من أعماله معروف بوجه عام، إنما ليس في كلِّيته. وهذه الأعمال، التي تُعَدُّ 20 عملاً، ترجع إلى ثيمات تاريخية، دينية، فلسفية، وسياسية.

تراجيديات ذات ثيمات قديمة

·        بروميثيوس: 3 أعمال

·        كوروس

·        عوليس

·        ميليسا

تراجيديات ذات ثيمات مسيحية وبيزنطية

·        المسيح

·        نيقفوروس فوكاس

·        يوليانوس المرتدُّ

·        قسطنطينوس الباليولوغي

تراجيديات ذات ثيمات متفرقة

·        حتَّام؟

·        فاسغا

·        النهار يسطع

·        كوميديا

·        المعلِّم البنَّاء

·        كابوذيستريا

·        سادوم وعامورة

·        عطيل عائد

·        بوذا

·        كرستوفوروس كولومبوس

د. الروايات

إنها الجزء المعروف عالمياً من مؤلفات نيكوس كازانتزاكيس. ولقد كتب إحدى عشرة رواية:

·        النفوس المحطَّمة

·        الزنبقة والثعبان

·        كتابين بالفرنسية: تودا رابا، موسكو صرخت، يروي فيها خبرته في الاتحاد السوفييتي، وحديقة الصخور، التي يسرد فيها رحلته إلى الصين وإلى اليابان

·        حياة ومغامرات أليكسيس زوربا

·        المسيح يُصلَب من جديد

·        القبطان ميخاليس

·        الإخوة الأعداء

·        الإغواء الأخير

·        فقير أسيزي

·        تقرير إلى الغريكو

هـ. أدب الرحلات

كانت الأسفار والأحلام بنظر كازانتزاكيس بمثابة مرشدي حياته.

جال في إفريقية، في آسيا، وفي أوروبا. كان راغباً في الذهاب إلى الولايات المتحدة لأمريكا الشمالية، لكن السلطات اليونانية لم تمنحه جواز سفر.

لم تكن أسفاره مرادفة للسياحة. لقد كان عدواً لدوداً للسياحة التي تشوِّه المشهد وتضيِّع روح الشعوب. كان يريد أن يعرف العالم، البشر، حضاراتهم، والطبيعة. كتب يقول: "إن الرجاء الكبير للمسافر هو أن يجد في الأصقاع النائية الصورَ المعبِّرة عن روحه فتعينه أن يخلِّص غيره ويخلِّص نفسه. كلما سافرت شعرت أن السفر لي حاجة إلى الحرية."

كتب نيكوس كازانتزاكيس عشرات المقالات والريبورتاجات عن أسفاره في أوروربا، في إفريقية، في آسيا، جُمِع معظمها في خمسة مجلدات:

·        ما رأيته في روسيا

·        إسبانيا، إيطاليا، مصر، سيناء

·        الصين – اليابان

·        إنكلترا

·        إيطاليا، مصر، سيناء، القدس، قبرص

و. كتب الأطفال

نشر منها كتابين: الإسكندر الأكبر وفي قصر مينوس، بالإضافة إلى كتب مدرسية.

ز. السيناريوهات

هي جانب متجاهَل من مؤلفاته الهائلة. عددها تسعة، لكن ما من واحد منها استفيد منه في إخراج فيلم:

·        الوشاح الأحمر

·        القديس باكوميوس وشركاه

·        محمد

·        كسوف

·        لينين

·        بوذا

·        دون كيخوتي

·        ديكاميرون

·        كريت الأزلية

ح. المراسلات

إن مئات الرسائل المتبادَلة مع أسرته، وأصدقائه، ورجال أدب وعلم وسياسة وكهنوت تسمح لنا بأن نكتشف شخصية كازانتزاكيس ومدى اتساع أعماله.

ط. المقالات والأبحاث والدراسات

كتب كازانتزاكيس مئات المقالات والدراسات، المنشورة في مجلات أدبية وفي موسوعة إلفثيروذاكيس (اليونانية) الكبرى، في شخصيات تاريخية، في أكابر رجال العلم والأدب في العالم، بما يبيِّن سعة ثقافته المذهلة.

ي. الترجمات إلى اليونانية التي قام بها نيكوس كازانتزاكيس

حتى إذا كان هذا الجانب غير مقدَّر حق قدره، استطاع كازانتزاكيس، بفضل إلمامه باللغات الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، والإيطالية، والكاستلانية، أن يترجم أعمال جول فيرن الكاملة، ومؤلفات لألفونس دوديه، وليم جيمس، نيتشه، ميترلنك، برغسون، ماكيافيلي، دانتي، خيمينيث، بيرانديلُّو، كوكتو، هاوبتمان، غوته، شيكسبير، أفلاطون، هوميروس، ديكنز، إلخ.

2. فكر نيكوس كازانتزاكيس

هو فكر متماسك، يتصف باراهنية، مرتبط بالحياة، بالقلب وبالعقل.

سوف أقدَّمها فاحصاً على التوالي عن النقاط التالية:

1.    التفتيش عن الجوهر وعن الحرية

2.    عبادة الطبيعة

3.    أسبقية الروح

4.    ضرورة التجاوز والتأليف

إن عناصر الفكر الكازانتزاكيِّ هذه وثيقة الارتباط بعضها ببعض. لكني فصلت فيما بينها لأسباب طرائقية وحسب.

1. البحث عن الجوهر وعن الحرية

على الإنسان، بحسب كازانتزاكيس، أن يفتش دوماً عن الجوهر، فلا يضيع وقته في الجدال العقيم، في أمور زائلة، في الفسق، في الصراعات السياسية الشخصية، وفي أدب ماوردي، بل أن يتجاوز "اليومي" و"العادي"، لأن كل هذا يقود إلى ضياع الإنسان نفسه ويحوِّله إلى شخص "نكرة". عليه، بالحري، أن يفتش عما يرشد إنساناً ومجتمعاً، عن الخيوط القائدة، للمضي أبعد فأبعد أيضاً، بدون توقف، نحو تجاوز الذات.

كتب في تقري إلى الغريكو مخاطباً مواطنه الذائع الصيت دومينيكوس ثيوتوكوبولوس: "كلانا لم يطارد طوال حياته إلا شيئاً واحداً، رؤيا قاسية، دموية، لا تموت، الجوهر… لم أحدِّثك قط عن تفاصيل الحياة اليومية، إذ ما هي إلا أصداف فارغة."

وفي مقطع آخر من الكتاب نفسه، كتب: "صار الوقت بنظري هو الخير الأسمى. عندما أرى البشر يتنزهون، يتسكعون، أو يبددون وقتهم في نقاشات عقيمة، تنتابني رغبة في مد يدي في زوايا الشوارع كالمتسول:

- صدقة لله يا محسنين، تصدقوا عليَّ بقليل من الوقت الذي تضيعونه، ساعة، ساعتين، ما تريدون."

إن أسس كل مصير هي بنظر كازانتزاكيس الشعلة والخيط الأحمر. هاكم شاهد:

ليست روسيا التي تهمني بل الشعلة التي تتأكَّل روسيا. تحسين مستوى العيش، السعادة، العدالة، الفضيلة – طُعوم شعبية لا تغريني. شيء واحد يهمني: أفتش عنها في كل مكان وأتعقبها بناظريَّ، بخوف وسعادة: الخيط الأحمر الذي يثقب ويخترق، كالسبحة، الجماجم والبشر. لا أحب سوى هذا الخيط الأحمر، وسعادتي الوحيدة هي أن أشعر به يثقب جمجمتي ويخترقها مبعِّضاً. كل شيء آخر زائل، سخيف، مِبَرِيٌّ، ونباتي، لا قيمة له بنظر نفس منعتقة من كل أمل.

على الإنسان، عندما يكتشف الشعلة والخيط الأحمر، أن يتكلم، أن يصرخ. الصرخة بنظر كازانتزاكيس أساسية. في عام 1949 دوَّن:

أنا أبسط إنسان موجود، لكني عندما أشعر بـ""صرخة" لا أقبل، لكي أرضي البكم والمفأفئين، أن أحوِّلها إلى "صوت خافت".

وفي تقرير إلى الغريكو كتب:

لكل إنسان صرخة يطلقها في الأجواء قبل أن يموت، هي صرخته هو؛ على المرء أن يعجِّل حتى يتسنى له الوقت أن يطلقها. ربما تبددت هذه الصرخة، هباءً، في الأجواء، ربما عدمت أذناً مصغية إنْ على الأرض وإنْ في السماء، ما همُّك. أنت لست خروفاً، أنت إنسان: وكونك إنسان يعني أنك شيء ليس مكتفياً بالجلوس في مقعد وثير بل يصرخ. ألا اصرخ إذن!

ترمز الشعلة والخيط الأحمر والصرخة إلى التطور الخلاق للحياة التي ينبغي على الإنسان أن يتصالح معها باستعمال كل قواه، كشرط لا غنى عنه لتعزيز الكفاح من أجل الحرية.

الحرية بنظر كازانتزاكيس تعني أولاً غياب الخوف والأمل. على الإنسان ألا يخشى التكامل الشخصي والحياة الآخرة. عليه ألا يرجو شيئاً من البشر، وألا يسعى إلى الجوائز والأمجاد. فكما كتب الفيلسوف المسلم ابن رشد محقاً: "إن أخلاقاً تقوم على طلب الثواب والخوف من العقاب لهي أخلاق لا تليق بأولياء الله؛ إذ هي غير أخلاقية."

ذلكم هو الوجه الأهم من وجوه فكره وليس من قبيل المصادفة إذا كانت شاهدة قبره في هيراكليون، في كريت، تحمل العبارة التالية مدوَّنة عليها: "لا أرجو شيئاً، لا أخشى شيئاً، أنا حر." وهذا يعني أنه لا يخشى المستقبل، وأنه قد تخلص من كل أنوع التطيُّر، أنه حرٌّ وأنه قد وصل إلى "إلهه". هي إذن عبارة عن رسالة انعتاق وحرية.

ولبلوغ الحرية، على الإنسان أن "يصعد" دائماً. فـ"الصعود" بنظر كازانتزاكيس هو دوماً السبيل الأعلى. العروج المتواصل، الكفاح في كل لحظة لبلوغ درجة. وعندما يتم بلوغها، مواصلة العروج أعلى. ما يهم، بحسب كازانتزاكيس، ليس الحرية بل الكفاح من أجل الحرية.

هاكم بضعة شواهد تسمح بإدراك مدى هذه التأكيدات:

في مقابلة مع بيير سيبريو على أمواج الإذاعة الفرنسية عام 1957، أشار بخصوص أبطال رواياته: "ليس الأمر عبارة عن نصر نهائي بل عن كفاح لا ينتهي."

وفي تقرير إلى الغريكو دقق:

فيما يتعدى مشاغلنا الشخصية، فيما يتعدى عاداتنا المريحة، وفيما يفوقنا، على عاتقنا يقع واجب أن نضع نصب عينينا غايةً، وأن نجاهد في سبيل بلوغها، ليل نهار، غير عابئين بالضحك، بالجوع، وبالموت. لا بل ليس لبلوغها؛ إذ إن النفس العزيزة، ما إن تبلغ غايتها حتى تضعها أبعد فأبعد. فهذا هو السبيل الأوحد لإضفاء النبل والوحدة على الحياة.

وفي عام 1952 كتب إلى كنوس، الصديق والمترجم السويدي:

إن الموضوع الرئيسي، الذي يكاد يكون وحيداً، لكل أعمالي هو: صراع الإنسان مع "الإله"، الصراع المستميت للدودة التي تدعى "الإنسان" ضد القوى القديرة والمظلمة الموجودة فيه ومن حوله؛ العناد، والكفاح، واستماتة الشرارة الضئيلة التي تحاول الاختراق والانتصار على الليل الأزلي الشاسع. الصراع والجزع من أجل تحويل الظلمة إلى نور، والعبودية إلى حرية.

كل ما كتبت إبان الاحتلال، عن غير وعي مني، كان على الحرية، والتعطش، والتوق العميق إلى الحرية: بروميثيوس، زوربا، قسطنطينوس الباليولوغي، إلخ... عندما سأل أهل الكومونة رينوار عمَّا كان يفعل إبان الكومونة أجابهم: - "كنت أرسم أزهاراً." أما أنا فكنت أرسم الحرية!

هذه الحرية التي تتعلق بكلية الفرد والمجتمع: الحرية الشخصية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية، هي أساس مسار كازانتزاكيس السياسي.

تأثر كازانتزاكيس، مثله كمثل غيره من المفكرين اليونان والأجانب، بتيارات عصره السياسية الكبرى: القومية، الشيوعية، الاشتراكية، المسيحية الاجتماعية. لكنه لم يناضل قط، بمعنى الالتزام الحقيقي والمستديم في حزب سياسي بعينه. لم يكن بوسع إنسان حر أن يفعل غير ذلك.

بيد أن هذا لم يَحُلْ، عند الضرورة، بينه وبين اتخاذ مواقف علنية للدفاع عن المقموعين، ضد الجوع، ضد الحرب، ومن أجل السلام. كانت مواقفه تستضيء بهموم إنسانية وأخلاقية، لكنْ ليس أبداً بمشاغل سياساتية شخصية. ففي عام 1957، في مقابلة على الإذاعة الفرنسية، صرَّح: "أومن اليوم أن رسالة الكاتب "النذير" لا غنى عنها لكل البلاد التي يسودها الظلم، وأعنى الأرض كلَّها على وجه التقريب."

هذا التصريح، والتصريحات التي تليه، تبين مدى التبصر والعمق في تحليلاته السياسية.

حتى عام 1923، عرَّجت، يستهلكني الانفعال واللهب، على القومية... ... ومن 1923 إلى 1933 تقريباً، اجتزت، بالانفعال ذاته واللهب ذاته، صفوف اليسار (لم أصر قط شيوعياً؛ كما تعلمون). والآن أجتاز الشوط الثالث – أويكون الأخير؟ - الذي أدعوه الحرية. ما من ظلٍّ. وحده ظلي، المترنِّح، الأسود القاتم، صاعداً. لقد تخلصت من الأحمر ومن الألوان الأخرى، وكففت عن المواحدة بين مصير نفسي – خلاصي – وبين أية فكرة مهما كانت.

في عام 1928، سافر إلى آسيا السوفييتية. ولقد بَهَرَتْه صروح سمرقند وبخارى. كتب: كلاهما بكل أسف سائرتان نحو انحطاطهما: لقد بدأتا بالتمدُّن، أي بإضاعة روحهما وبمحاكاة موسكو التي تحاكي أوروبا، التي بدورها تحاكي أمريكا.

2. عبادة الطبيعة

كان كازانتزاكيس عابداً وثنياً للطبيعة. أحب الطبيعة ووصفها دوماً في أعماله. وقد خصَّها في تصوف بفصلين. وهو يجد في الطبيعة بعداً إلهياً. وقد أذهلته الأرض إلى حد أنه أسف على الاضطرار إلى فراقها.

شمل كازانتزاكيس في الطبيعة المشهد، والأرض، والماء، والبحر، والريح، والجبل، والريف، والنبات، والثمار، والحيوان، والسماء، والشمس. كل شيء عنده مترابط. ففي أليكسيس زوربا، سأل: "ليتنا كنا ندري ما تقوله الحجارة، والزهور، والمطر! ألعلها تنادينا، ونحن لا نسمع. متى تنفتح آذان الناس؟ متى تنفتح أعيننا فنبصر؟ متى نفتح أذرعنا لنعانق كل شيء، الحجارة، والأزهار، والمطر، والبشر؟

كان يطلب الطبيعة حتى يستمدَّها، حتى يلتقي بالناس البسطاء. وإن وَصْفَه للقاءاته مع البدو ومع الكريتيين بالغ الروعة.

وهو يعبد المشهد الطبيعي. ويرى أن الناس لا يبصرون، وأنه ليس ثمة، على حدِّ ما كتب، "أي تقابُل بين المشهد وبين الإنسان." وهو ينتقد استباحة الطبيعة. ففي تودا رابا، طلب من الناس: كونوا بسطاء طيبين! حِبُّوا البشر، حِبُّوا الحيوان والنبات. حِبُّوا الطبيعة، لا تنتهكوها!

وهو لا يحب المراكز المدنية، ويختنق في المدينة حيث يسود الافتعال. وطبيعية الحقول تناسب حيويته وشهيَّته إلى الحق كأحسن ما تكون المناسبة. "لقد استعدت في إيجينا الهدوء، والشرفة، والبحر، والجبل – ونفسي. كم هي تافهة، ومخالفة لطبيعتي، ضوضاء أثينا."

مصغياً دوماً إلى الطبيعة، يفتش كازانتزاكيس فيها عن التفاهم، عن التوافق، وعن التناغم الكامل بين كيانه وبين الكون.

كل شيء في الطبيعة ينطوي، بحسب كازانتزاكيس، على جزيء من الروح ويشارك إذن، بهذه المثابة، في الله. إن ورقة شجر بسيطة تشهد، بنظر كازانتزاكيس، مثلما يشهد الكون، على معجزة الخلق بأسرها.

إن الرواقي، "الزاهد" الذي اجتهد كازانتزاكيس أن يصيره، يعترف صراحة، وبعبارات شجية، أن الإنسان، فيما يتعدى كل تفكُّر رائق في الموت وفي الشرط البشري، يصعب عليه أن ينتزع نفسه من الأرض.

ففي تقرير إلى الغريكو كتب:

متردد [هو] عند عتبة النور. يصعب عليه أن ينتزع عينيه، أذنيه، أحشائه، من حجارة العالم وأعشابه. يقال: أنا شبعان، هادئ، لا أريد شيئاً، حققت مراميَّ، وأنا ماضٍ، لكن القلب يتعلق بالحجارة وبالأعشاب، يقاوم، يتوسل: انتظر بعدُ.

هذا الشعور، هذا الاضطراب، هو الذي يعب عنه عوليس، مع دنوِّ نهاية حياته، قرب نبع أتاه لكي يروي ظمأه:

أية أرض، صرخ، وعيناه مغرورقتان بالدموع.

كيف يمكن للنفس أن تهمَّ على المغادرة؟

3. أسبقية الروح

إن فهم فكر كازانتزاكيس "الديني" يتطلب التمييز بين عدة مستويات:

-                      مستوى الدين

-                      مستوى الكنيسة

-                      مستوى التديُّن والروحانية

يميِّز الأستاذ اليوناني لوفاريس بين التديُّن وبين الدين: "التديُّن هو اللب، والدين هو القشر؛ التدين هو الخبرة، والدين هو التعبير؛ التدين أصلي، يجري من المنبع، والدين يُشتَقُّ منه. هناك من ينبذ كل الأديان، لكن ما من أحد عديم التديُّن، لأن التدين يشكل قوام الطبيعة النفسانية للإنسان."

إن كازانتزاكيس منحاز بالكلِّية إلى جانب التديُّن والروحانية، إنما ليس على مستوى دين بعينه أو كنيسة ما، تبقى مؤسسة، بكل ما يستتبعه ذلك (تنظيم، عقائد، مناهج، إلخ).

غايته الدائمة والأسمى كانت التفتيش عن الله. وطوال حياته كلها سعى إلى "التناغم، والحرية المطلقة، والدرب الصاعدة".

كتب في تصوف:

رغبة واحدة تتملكني: رغبة فضح ما يستتر وراء المرئي، رغبة اختراق السرِّ الذي يهبني الحياة وينتزعها مني، ورغبة معرفة إذا ما كان حضور خفي سرمدي يتخفَّى فيما يتعدى الفيض المستمر للعالم.

الله بنظر كازانتزاكيس موجود في كل كائن. في فقير أسيزي كتب: "كل إنسان، حتى أشد البشر إلحاداً، يقيم الله في قرارة نفسه، في قلبه." لكن الله بنظر كازانتزاكيس ليس يقيناً، بل هو تفتيش مستمر. نحن الذين نخلق الله، نقتله، وعلينا أن نخلِّصه، مساهمين بذلك في التطور الخلاق للعالم. وإنه لذو نغزى بهذا الصدد أن نشدد على أن العنوان الفرعي لمقالته تصوف هو مخلصو الله. فإله كازانتزاكيس إله شخصي وليس إلهاً تعالى.

لقد درس كل الأديان والفلسفات، وكذلك نصوص المرشدين الروحيين، مسيحيين، مسلمين، هندوس، وبوذيين.

في أليكسيس زوربا يميز كازانتزاكيس بين ثلاثة أصناف من البشر:

-                      الذين يضعون نصب أعينهم أن يعيشوا حياتهم، كما يقولون، أن يأكلوا، ويشربوا، ويحبوا، ويغتنوا، ويشتهروا؛

-                      ثم الذين يضعون نصب أعينهم، ليس وجودهم الخاص، بل وجود البشر أجمعين؛ يشعرون بأن البشر ليسوا إلا واحداً، فيجتهدون في تنويرهم، وفي محبتهم بقدر ما يستطيعون، وفي صنع الخير لهم؛

-                      وأخيراً الذين يضعون نصب أعينهم أن يحيوا حياة الكون بأسره: الجميع، بشراً، وحيوانات، ونباتات، ونجوماً، لسنا إلا جوهراً واحداً ينهض للكدح الرهيب نفسه. أي كدح؟ تحويل المادة إلى روح.

4. ضرورة التجاوز والتأليف

إن منطلق أعمال كازانتزاكيس برمتها هو كريت. فالأرض، واللغة، والتقاليد الكريتية، ماثلة في أعماله كلِّها. هوِّيته كريتية.

فهل لنا عندئذٍ أن نصف كازانتزاكيس بالكاتب "الإقليمي"؟ قطعاً لا. لقد كان كازانتزاكيس كريتياً بعمق، كان يربطه بكريت "هوى يكاد يكون صوفياً". لكن حياته، وأعمال، وفكره تتجاوز كريت. جذوره كريتية، لكن وعيه كلِّي. كتب عن كريت، لكنه تجاوزها ليهتم بالمشكلات المتعلقة بكل كائن إنساني أينما عاش. هاكم ثلاثة أمثلة ذات مغزى:

1.    بحسب عزيز عزَّة، أحد خيرة كتَّاب سيرته، "كرر كازانتزاكيس مراراً أن أعظم اهتمامات حياته كان الثنوية الملازمة لكل شيء والتناوئ غير المفهوم بين عناصر الوحدة العظمى. كانت بنظره المصالحة بين العمل والمشاهدة، بين الخير والشر، بين الظلمة والنور، بين الجسد والروح، هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للإنسان لتجاوز نفسه والوصول إلى الله.

2.    إن الحرب بين الأتراك واليونان التي يأتي على ذكرها في أعماله تتخذ أبعاداً أخرى، فتصير الخير والشر، الظلمة والنور، الله وإبليس. كان القبطان ميخاليس يقاتل المحتل العثماني، بينما كان نيكوس كازانتزاكيس يقاتل محتلاً آخر، الخبث، والجهل، والخوف، والأفكاء البراقة والخاطئة للأوثان.

3.    في مقابلة للإذاعة الفرنسية عام 1957، دقق على فكرة التجاوز هذه. وبالفعل فقد ميز بين ثلاثة أنواع من الرواية:

·        الرواية من نمط "الحانوت الكبير". هذه الرواية تتنصل من الأمكنة والأزمنة لأنها تعوم في الهواء، بلا جذور؛ وهي مطبوخة ببراعة وفقاً لوصفات دولية؛

·        الرواية الإقليمية أو القومية؛ ولهذه جذور في موطنها؛ وهي تعبِّر عن الطريقة في التفكير، والإحساس، والحياة والموت الخاصة بشعب بعينه. وهذه الروايات أشبه بالصروح المحلية لبلد من البلدان؛ وهي ثمينة لأن من شأنها أن تثري عقلنا وحساسيتنا؛

·        عندما تتمكن هذه الروايات المحلية من تخطي الحدود القومية وبلوغ الإنسان من كل الجنسيات، نصل إلى النوع الثالث من الرواية، الذي هو أرفعها.

تعمق المرء في إنسان بلده حتى يبلغ الإنسان بلا تسميات، فرنسي، يوناني، أو صيني، الإنسان بكل بساطة، ذلكم ما ينبغي أن يكون المطمح الأسمى للروائي.

ولنضف هذه الفكرة الهام جداً: لا يقدر المرء أن يبلغ إنسان كل البلاد إلا بالانطلاق من إنسان بلده.

في نصوص أخرى، يمضي كازانتزاكيس أبعد من ذلك. فعلى المفكر، بحسبه، أن يسعى إلى "التأليف" بين جذوره، وموروثه، وبين العالم الراهن والمستقبلي.

كتب عزيز عزة:

كانت مغامرة نيكوس كازانتزاكيس الكبرى في أنه حاول تحقيق تأليف بين المشرق والمغرب، بين التأمل والعمل، بين البوذا وأفلاطون، أو أيضاً بين المسيح ولينين. فإذا كان دوستويفسكي قد صنع عهداً قديماً جديداً، فإن كازانتزاكيس قد صنع عهداً جديداً ثانياً، العهد الجديد لإنسان اليوم الذي ينطوي على ممكنات إنسان الغد كلَّها.

ولكن فلنترك كازانتزاكيس يفصح عن هذه النقطة في ثلاثة نصوص ذات مغزى:

1.    لا يمكن أن نرفض لا المشرق ولا المغرب. هاتان القوتان المتضادتان متجذرتان عميقاً في قرارة نفوسنا وهما غير قابلتين للفصل. ذلكم هو واجبنا. نحن مضطرون إما إلى التوصل إلى استقطار المشرق مع المغرب، أي إلى النجاح إلى إجراء تأليف عسير، وإما إلى الاحتضار كالعبيد.

2.    إن الرؤيا المركزية التي توقع في هذه السنوات الأخيرة حياتي وأعمالي لم تأتني "من فوق"، من معارف علمية وشطحات ميتافيزيائية، إنما "من تحت"، من أعماق أرضي.

كريت... هي التأليف الذي حاولت دائماً تصوره: التأليف بين اليونان والمشرق. ففيَّ لا أشعر لا بالمغرب ولا باليونان الكلاسية كـ"إكسير" صرف. ولا بالشواش الفوضوي، ولا بالخنوع العديم الإرادة للمشرق. على العكس، أشعر بتأليف؛ الأنا تشاهد هاوية العدم بدون أن تفنى؛ بل أكثر بكثير، هذه النظرة الشاخصة إلى الحياة وإلى الموت معاً أدعوها كريتية.

3.    وفي نص أخير دقق:

التحلي بالنظرة الكريتية لا يعني البتة نبذ حضارات المغرب والمشرق واليونان القديمة. هذا يعني القيام بتأليف كل هذا بدون تناسي إسهام الجديد، والحياة عندئذٍ حياة جديدة، أوسع، أكثر بطولة، وأكثر وعياً.

يبيِّن كازانتزاكيس بذلك ببصيرة أن على الإنسان أن تكون له جذور، ولكن أن عليه، في آنٍ معاً، أن يهتم بالشعوب وبالحضارات الأخرى، بالقيم الحقيقية، بـ"تحرره الروحي"، كما كتب، وبالطبيعة. الخصوصية الثقافية القومية والعالمية، تلكما هما الخاصيَّتان الرئيسيتان لفكره، وهما خاصيَّتا تحتفظان براهنيَّتهما كلها في العالم الراهن وفي عالم الغد.

3. علاقة نيكوس كازانتزاكيس مع فرنسا

1. فترات الإقامة

تعود رحلته الأولى إلى فرنسا إلى عام تشرين الأول 1907. وصل نيكوس كازانتزاكيس إلى باريس لدراسة الحقوق، وله من العمر أربعة وعشرون عاماً. هاكم كيف يصف، في تقرير إلى الغريكو، انطباعاته الأولى:

كان رذاذ المطر ينهمر، والنهار يطلع. كنت ألمح، ووجهي ملتصق بزجاج السيارة، من وراء الشبكة الشفافة للمطر، باريس تستعرض نفسها، باسمة بين دموعها، وتستقبلني. كنت أرى الجسور تمر، البيوت ذات الطوابق العديدة، وكلُّها مُسْوَدٌّ، والحدائق، والكنائس، وأشجار الكستناء، مجردة من أوراقها، والسابلة المسرعين في الشوارع العريضة البراقة... كل وجه باريس الفاتن اللعوب، كنت أراه، من خلال خيوط المطر المدلاة، يبتسم في بصيص محتجب، كما يرى المرء، من خلال خيوط نوله، وجه النساج ينسج.

ظل في باريس حتى شباط 1909 وتردَّد على الكوليج دوفرانس حيث حضر دروس برغسون. وقد اختلف أيضاً إلى السوربون. كتب عدة مقالات للصحف اليونانية. وفي باريس كان لقاؤه الأول بفكر نيتشه.

وفي العصمة الفرنسية كتب عدة روايات ومقالات ومسرحيات. تشكل إقامته كطالب في باريس "لقاءه" الأول بفرنسا والشعب الفرنسي. ولقد تعلَّم الكثير في مجالات عديدة وأعجِب أيما إعجاب بهذا البلد الذي أقام فيه من بعدُ عدة مرات. في عامي 1947 و1948، عمل في اليونسكو، في باريس. وهناك التقى شخصيات عديدة، وبخاصة ليون بلوم، روجيه غالوا، جان بول سارتر ودوق برولي.

في حزيران 1948 استقر نيكوس كازانتزاكيسس في أنتيب حيث بقي مدة تسع سنوات، حتى وفاته. كان يحب حياته فيها. ففي رسائله، يكرَّر ذلك مراراً. وزوجه إيليني تتكلم على ذلك بانفعال شديد في كتابها المنشق. إن رواياته، في معظمها، مكتوب على التوالي في أنتيب.

في أنتيب أيضاً استقبل رجالات الأدب، والفن، والموسيقى، والشخصيات السياسية، كما ومترجمي لأعماله القادمين من عدة بلدان أوروبية، آسيوية، وأمريكية لاتينية. لقد كان الكاتب يتعشق التنزه على طول الضفة (بعد أن يتوارى السياح)، في غابات الغاروب، أو حتى أيضاً على مرتفعات أنتيب وكان؛ وبما أنه كان كثير السفر، فقد كان كل مرة يجد لذة في الإياب إلى داره، "شرنقته" ("كوكولي") في أنتيب.

2. حبه للثقافة الفرنسية

تجلى هذا الحب في صور عديدة:

أ. دراساته في جزيرة ناكسوس:

في عام 1897، بسبب من القمع التركي في أعقاب انتفاضة الكريتيين، سجَّلته أسرته في المدرسة الكاثوليكية الرومانية الفرنسية في ناكسوس. كان عمره آنذاك 14 عاماً! كان تلميذاً ممتازاً. وهو يصف في تقرير إلى الغريكو إقامته على تلك الجزيرة وفي تلك المدرسة. كان ذلك تماسه الأول مع الثقافة الفرنسية. وقد تعلم الفرنسية، وقرأ كتَّاباً فرنسيين، وبخاصة الشعراء منهم.

ب. استعمال اللغة الفرنسية:

كان يحب النطق بالفرنسية. ففي مراسلاته باليونانية أو الإنكليزية، كان كثيراً ما يورد عبارات أو كلمات بالفرنسية. فلنفحص عن هذه النقطة فحصاً مفصلاً.

نصوص مكتوبة رأساً بالفرنسية

-                      تودا رابا

-                      موسكو صرخت

-                      حديقة الصخور

-                      الأب، نص مكتوب عام 1929. وقد أتلفه، لكنه استلهمه لكتابة القبطان ميخاليس (الحرية أو الموت).

نصوص ترجمها نيكوس كازانتزاكيسس إلى الفرنسية

-                      يوليانوس المرتد

-                      ميليسا

-                      ثيسيوس

إعداد بالفرنسية قام به نيكوس كازانتزاكيسس

في عام 1932 أعدَّ مأساته نيقفوروس فوكاس وملهاة الكاردينال بيبيينا كالاندريا، راجياً أن يخرجها للمسرح لوي جوفيه (الذي كان تعرف إليه).

ترجمات إلى اليونانية لمؤلفين فرنسيين وفرانكوفون

كوكتو، ك. أ. ليسَّان، هـ. برغسون، م. ميترلنك (كاتب بلجيكي)، أ. دوديه، ج. فيرن (ثمانية كتب).

ج. كتابات (باليونانية) عن كتَّاب وعلماء فرنسيين

في عام 1913 عرَّف الجمهور اليوناني إلى برغسون وفلوبير.

بين 1927 و1931، نشر في موسوعة إلفثيروذاكيس اليونانية عدداً مؤثراً من المداخل عن علماء وكتَّاب وشعراء فرنسيين. وهو عمل لا يستهان به على الإطلاق!

كان مولعاً بالكتَّاب الفرنسيين. ولنورد منهم، بخاصة، برغسون، كامو، شاتوبريان، كلوديل، هوغو، لامارتين، مالرو، مارتن دوغار، مورياك، مونترلان، موسِّيه، راسين، روسُّو، سارتر، وبخاصة الشاعر فاليري.

هاكم آراء لكازانتزاكيس في عدد من الكتَّاب والشعراء الفرنسيين:

-                      في جيد: "كان أسلوبياً عظيماً، معلِّما كاتباً، إنما ليس كاتباً عظيماً. كان أثره الخلقي على الشبيبة الفرنسية مؤذياً. أعماله تامَّة من حيث الشكل. لكني لا أحب المحتوى على الإطلاق."

-                      في كلوديل: "مازال كلوديل في فرنسا شيخاً كبيراً. وبعد وفاته... لن يبقى منه غير الأتباع."

-                      في مورياك: "دائماً في الخندق الأول للجهاد من أجل الإنسانية."

في مالرو: "لم يكتب روايات جميلة جداً وحسب، بل هو نسيج وحده."

في مقابلة مع صحيفة شبيبة فرنسا الأدبية (خريف 1955)، صرَّح:

من تحبون بالأخص بين كتَّابنا؟

- لا تستغربُنَّ خياراتي بعض الشيء... الشاذة ربما. لكني ألتذُّ بالتناقضات. بذلك فإني أحب مونتيني وبسكال حباً جماً. إنهما أسلوبيان مدهشان. وبالمثل، سان سيمون، مونتسكيو. والواقع هو أني أحب القرن الثامن عشر الفرنسي برمَّته، بكل رشاقته وحذاقته. إنه، بنظري، المعجزة الفرنسية. وهو، برأيي، لحظة خارقة من لحظات تاريخكم. بحسب ذوقي الشخصي، على الأقل.

هذا الخيار يشرِّفك. ومن بين المعاصرين؟

- أنا شديد الإعجاب بمالرو، سانت إيكزوبيري، مونترلان. وأحب مورياك بالأخص: أي روائي خارق هو! وفي الشعر، أقدم فروض عبادة خاصة لفاليري. إنه قمة، نهاية حضارة. ولعلَّه مفرط في الحذاقة وفي التهذيب. إنه زهرة بدون بذرة. وعلى الصعيد الإنساني المحض، هناك رجلان أضعهما بلا تحفظ في منزلة أسمى من جميع الآخرين. إنهما أينشتاين وشفايتسر.

وبخصوص هنري برغسون، كتب – وإني أختم عند هذه النقطة:

برغسون هو الذي أعطاني الجواب على أسئلة عديدة طرحتها على نفسي في شبابي. لذا فأنا شديد الامتنان له، ولفرنسا التي عتقت حياتي الفكرية من عدة مشكلات كانت تؤرِّقني.

3. تعلق كازانتزاكيس بالمشرق

لقد شكَّل المشرق بنظر كازانتزاكيس ضرباً من الانبهار. وهو يتكلم عليه بمحبة وإعجاب. والمشرق، بنظره، كان يشمل إفريقية، والشرقين الأدنى والأوسط، روسيا وآسيا.

بمساعدة كتاباته وشهاداته، سوف أحاول أن أقدم هذه المحبة، متوسعاً في النقاط التالية:

1.    الروابط الوراثية

2.    الأسفار

3.    الكتابات

4.    دواعي الانجذاب

5.    أهمية المشرق ومستقبله

1. الروابط الوراثية

كان كازانتزاكيس على قناعة أن له أصولاً عربية وإفريقية.

هو ذا يصف أصوله في كتابه تقرير إلى الغريكو:

تتحدر أسرة ابي من قرية تبعد ساعتين عن ميغالو كاسترو، تدعى البرابرة. عندما استرجع الإمبراطور البيزنطي نقفوروس فوكاس كريت من العرب في القرن العاشر، احتجز كل مَن نجا منهم من المذبحة في بضعة قرى، فأُطلِق على هذه القرى اسم البرابرة. في واحدة من هذه القرى ضرب بجذورهم أسلافي من أبي، وهم يتحلون جميعاً بخصائص عربية: أُباة، عنيدون، قليلو الكلام، قليلو الكتابة، لا مرونة فيهم. فهم يراكِمون في أنفسهم طوال سنوات الغضب أو الحب، سراً، وعلى حين غرة يستولي عليهم الشيطان فيتفجرون جامحين. الخير الأسمى ليس في نظرهم الحياة، بل الهوى. ليسوا طيِّبين، ولا هم ليِّنوا العريكة، حضورهم ثقيل؛ وهم يطلبون الكثير، ليس من الآخرين، بل من أنفسهم... ...

في 1927، إبان رحلة إلى جبل سيناء، كتب:

يلذُّ لي أن أفكر أن دمي ليس إغريقياً محضاً وأنني أتحدَّر قليلاً من البدو. فلعل أحد أسلافي الأقدمين، المشايع لهلال النبي ورايته الخضراء، ركب متن أحد القوادس العربية الماضية من إسبانيا غازية الجزيرة التي يتدفق فيها اللبن والعسل: كريت.

2. الأسفار

-                      كانت أول مرة سافر فيها كازانتزاكيس في بلد مشرقي إلى القوقاز من تموز إلى آب 1919. فبوصفه مديراً عاماً لوزارة المعونة العامة، أرسله رئيس الوزراء اليوناني إلفثيريوس فينيزيلوس إلى جورجيا وأرمينيا لكي يعيد إلى الوطن اليونانيين الذين طردهم البلشفيون والأكراد. في كتاباته ومراسلاته، قلما يقدم وصفاً للمشاهد، للصروح، وللشعوب القوقازية. فلعل الشدة التي كان يعاني منها اليونانيون الذين التقى بهم صدمته صدمة بالغة، فصار كل ما تبقى ثانوياً في نظره.

-                      بين 1925 و1929، زار الاتحاد السوفييتي (روسيا، أوكرايينا، القوقاز، آسيا الوسطى).

-                      في عام 1929، زار فلسطين، مصر، وجبل سيناء. أذهلته هذه الرحلة. شعر بنفسه في موطنه.

-                      في عام 1935، مضى إلى اليابان والصين. وفي عام 1957، قام بالرحلة الأخيرة في حياته في الشرق الأقصى: اليابان والصين.

كان يود إن يذهب إلى التيبت وإلى الهند، بدعوة من نهرو نفسه. لكنه لم يستطع تحقيق هذا الحلم لأسباب صحية.

3. الكتابات

نجد في كتاباته عدداً كبيراً من المراجع عن المشرق.

-                      الشعر: - الأوذيسة: إن عدداً من أجزاء هذا العمل الضخم مستلهَم من المشرق أو مكتوب في بلد آسيوي أو إفريقي؛ - ترتسينيس: حيث نجد أناشيد مرفوعة إلى بوذا، جنكيز خان، والنبي محمد.

-                      الروايات: تودا رابا، موسكو صرخت، حديقة الصخور

-                      المسرح: بوذا

-                      السيناريو: النبي محمد

-                      الأسفار: إبان السفر: إيطاليا، مصر، سيناء، أورشليم، موريا، اليابان والصين

-                      المراسلات

وفي رسائل عديدة إلى أقربائه وأصدقائه، يصف بوضوح حبَّه للمشرق.

4. أسباب انجذابه إلى المشرق

ما الذي كان يجذب كازانتزاكيس إلى المشرق أكثر من غيره؟ هل كان الأمر عبارة عن خيار إيديولوجي، أدبي شعري، وعاطفي؟ بناءً على مقتطفات من مؤلفاته ومراسلاته، أظنني أستطيع أن أقدم أطرافاً من الجواب.

الطبيعة والشعوب

العطور، الفاكهة، الماء، الملح، النار، النور، الصحراء، الأقوام الملتقاة، هاكم عدد من المراجع المتكررة في مؤلفات نيكوس كازانتزاكيسس. إليكم بضعة شواهد:

... ... وعندما دخلت يوماً من صحراء العربية، راكباً متن جمل، والتقيت المدى اللانهائي، المقنِط، من الرمل الأصفر، الوردي، الأزرق، نحو المساء، الذي كان يتماوج أمامي بدون أن يحمل أدنى أثر بشري، تملَّكني سُكْرٌ عجيب وأطلق قلبي صرخة، مثله مثل الباشق العائد، بعد سنوات، ملايين السنوات، إلى عشه.

تبيَّنت فيما بعد آثاراً أخرى على الرمل، سمحت لي، باقتفائها، أن أصل إلى جَدَيَّ: النار والماء. عندما أرى ناراً تحترق سدى، أقوم منتفضاً، قلقاً، ولا أريدها أن تتبدَّد؛ وعندما أرى صنبوراً يجري بدون أن تكون ثمة جرَّة يملؤها، ولا امرأً يستقي، أو حديقة تُروى، أهرول لإغلاقه.

... ... ...

آه، يا إلهي، متى نستطيع أن نقوم معاً بتلك الرحلة الرائعة إلى مصر؟ ذلك هو المشرق، كما نحبه، مليئاً بالنور، والعطور، ورماد أجيال سابقة لا تحصى، تعذَّبتْ، أحبتْ، وتوارت.

وككل المشرقيين، يؤالف السُّود بين المفارقات التي يصعب على العقل الغربي أن يتقبلها: حب الحياة، الولائم الباذخة، المداعبات الخاملة، والجنون الوحشي بالحرب.

الشعراء والعلماء المشرقيين

مراراً ما يرجع كازانتزاكيس إلى علماء ومفكرين مشرقيين، مسلمين وهنوداً. فهو يحب، بخاصة، ميرزا عبد البديع، غاندي، طاغور، وبوذا.

الصروح والمدن

دوَّن كازانتزاكيس، وهو مسافر في روسيا السوفييتية وفي القوقاز:

دخلنا إلى كازاخستان. الثلوج – لكني أبصرت فارساً راكباً جواداً أسود يعدو كما لو في صحراء من الرمل. وفجأة، في قرية، على يميني، لمحت قبة مسجد خضراء. تقافز قلبي فرحاً – كنَّا في دار الإسلام.

... ... ...

سمرقند: "أنا موجود في مدينة من مدن قصص الجان، مدينة من ألف ليلة وليلة. فجراً فتحت نصف فتحة سِتارة المقصورة. السهل في الخارج، وأشجار اللوز المزهرة! شمس، دفء، أشجار متبرعمة، جنَّات ومياه، ومسلمون في جلابيبهم العديدة الألوان، ذات الأغطية الملونة هي الأخرى، حمير صغيرة وديعة، جِمال. إنه الظُّهر وأنا شارد – البازار رائع، إسلامي الطابع، والحشد ملون، وجوه مغولية، نساء ذوات براقع كتيمة، وحول ذلك كله أوابد رائعة، كلها من الخزف الأخضر المايوركي والأزرق من ساكس، كما في يريفان. ضريح تيمورلنك وبيبي هانم في مركز المدينة على مقربة من البازار. تنتأ أحياناً مئذنة بديعة، أو قبة من اللازورد. وحول كل ذلك رجال في أطمار ملونة، وجلبة، ووحل، وعطر عابق من شجرة اللوز المزهرة، وفي الوقت نفسه نتانة لا تطاق منبعثة من الماء الراكد والبول... ... المدينة، بلونها الآسيوي، أجمل بما لا يقاس من أورشليم. هنا قلب المشرق. صارت سمرقند بنظري الكشف عن مشرق دافئ، ملون.

لـبخارى "شيء مشرقي كلاسي: الخط، اللون، التكتم. وهي مثلَّثة الفتنة في عين نفس تتعشق الصحراء."

5. أهمية المشرق ومستقبله

... ... لست منذوراً لأوروبا... ، كتب كازتنتزاكيس، بل للشرق! نزهة حول دجلة والفرات، عروج إلى التيبت، رحلة إلى أواسط إفريقية. هناك توجد الكنوز الكبرى، هناك توجد آلاف الأبيات وتبقى مصفوفة كالموز. يجب، يجب عليَّ أن أذهب إلى هناك.

... ... ...

لقد شاخت أوروبا. ويجب علينا ألا نصغي إليها.

وفي تودا رابا كتب كازانتزاكيس:

لكن هذه الراقصة الشابة المسلمة من باكو، برقصتها الساكنة، كانت تمنحه اللذة القصوى، ماهية الرقص، قمة اللهب الساكنة. استدار؛ وإلى جانبه بكت آزاد؛ يبتسم الأوروبيون، ساخرين وسئمين. للمرة الأولى شعر جيرانوس بهذه الحدة بالهوة الفاصلة بين الروح المشرقية وروح الغرب. رجلان يرتجفان ويبكيان من أجل الرقصة عينها هما أخوان؛ الآخرون جميعاً كفارٌ وأعداء.

وبمناسبة لقاء مع كاتب جيورجي، كتب كازانتزاكيس:

- في الوعي الغربي يهيمن العنصر الفردي؛ أما في الوعي المشرقي فيهيمن الإحساس بالوحدة العميقة مع الكون. الغربي منفكٌّ عن الكل الأعظم؛ الحبل السري بينه وبين الكون مقطوع؛ ومن فرط الافتقار والعنجهية، صار مونادة عاقلة، أيْ تخط خنادق من حولها وتعزل نفسها. أما المشرقي، على العكس، فهو هجين؛ يحيا ويختلج، مشدوداً إلى الكل. الأب يسود عند المشرقي، والابن عند الغربي. بيد أن الزواج المقدس بات وشيكاً بين الآسيوي الضائع في الكل وأوروبا الفردية العاقلة.

كان كازانتزاكيس يرى مستقبل العالم المشرقي، وبخاصة المسلم، بعين التفاؤل. وكان منطلقه في ذلك عدة معاينات:

·        حتى يضمنوا مشايعة شعوب المشرق لهم، علَّم الأوروبيون هذه الشعوب أن لها حقوقاً، وأنها، إذا ساعدتهم، فإنها ستنال حريتها.

·        بترددهم على الأوروبيين استطاع المشرقيون أن يعرفوا عاداتهم ونقاط ضعفهم أكثر. فزال عنهم الخوف منهم.

·        وبالعودة إلى بلادهم، بعد أن تعلَّموا، بدأوا يطالبون بحقوقهم.

ولهذا المعاينات أضاف كازانتزاكيس واقعتين جوهريتين أخريين:

·        أولاً: لكل حَدَث، من أينما حصل على الأرض، عواقب في كل مكان من العالم، بما في ذلك في العالم المشرقي.

·        ثانياً: كانت روسيا تؤثر في الغليان الثوري في البلدان المشرقية والمسلمة.

انطلاقاً من هذه المعطيات، هاكم كيفية توقُّع كازانتزاكيس لمستقبل العالم المشرقي:

بدأت الشعوب تستثمر كنوزها، وتفتح أبواب التجارة، وتبني المصانع، ونفتح المصارف. بورجوازية جديدة هي في طور الإنشاء، وتصير حذرة، لا بل مناوئة للغرب.

ولنترك لكازانتزاكيس كلمة الختام:

المستقبل ملك للشعوب التي تمتلك هذين الرأسمالين في آن معاً: وسائل تقنية حديثة، والإيمان. ولا أريد بذلك ديناً بعينه، بل شعور جوهري وعميق عموماً.

أوروبا تملك الوسائل التقنية. والمشرق يملك الإيمان. لقد بدأ المشرق، بعد الحرب، يتعلَّم التقنية وينظِّم نفسه. أما أوروبا فهي تتفكك وتفقد إيمانها أكثر فأكثر. ولا ريب أن الحرب العالمية الجديدة التي تتحضر سوف تُجهِز عليها. وعندئذٍ سوف يغير قَدَر العالم موقعه من الغرب إلى المشرق.

*** *** ***

(محاضرة ألقِيَت في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق

في 20 تشرين الأول 2001)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود