|
العفو لا بدَّ من
الإقرار بأن العفو لا يتمتع بسمعة
حسنة! فالمغفرة غالبًا ما تُحمَّل مدلولاً
دينيًّا يشوِّش معناها بربطها بمفهوم "الخطيئة"
الغامض. وبهذا صاغت الأديانُ التاريخية –
ولاسيما المسيحية[1]
بوجه خاص – خطابًا لاهوتيًّا تامًّا حول "مغفرة
الخطايا" لم يكن، في المحصلة، يعني تاريخَ
البشر. إنه لمشروع صعب إذًا – لكنه في الوقت
نفسه ضروري وشرعي وخصب – أن يُرَدَّ موقفُ
العفو إلى المجال الخاص به، مجال الأخلاق،
وبالتالي الفلسفة؛ وبذا يمكن له عند ذاك أن
يستردَّ بُعده السياسي. وتتوضح
الأهمية الحاسمة للفريضة الأخلاقية للعفو في
العلاقات الإنسانية من خلال ما يتضمنه نفيُه
حتمًا: سلسلة الانتقام والثأر التي لا ترحم.
الانتقام معاملةٌ بالمِثْل صارمةٌ، إذ هو محض
محاكاة لعنف الخصم. يأتي العفو أولاً ليكسر
هذه المعاملة بالمِثْل وهذه المحاكاة. ففي
حين يحبس الغلُّ والضغينةُ والكراهيةُ
الفردَ في أغلال الماضي، يأتي العفو ويحرِّره
من هذه الأغلال ليتيح له الدخول في المستقبل.
إن الانتقام يطيل النتائجَ المدمِّرة لفعل
شرير ارتُكِب في ظروف لم تعد موجودةً أصلاً
ويعكسها إلى المستقبل. الانتقام في غير
محلِّه، وفي غير أوانه، وفي غير تاريخه؛ فهو
يأتي دومًا في وقت غير وقته. إن
العفوَّ لا يتجاهل الرغبة في الانتقام، بل
يقرر التغلبَ عليها وتجاوُزَها. لا يمكن لنا
اتخاذ قرار عدم الانتقام إلا لأن رغبة
الانتقام تحديدًا موجودة وحاضرة فينا بشدة،
ولأنها تريد فرض نفسها على إرادتنا. لذا يتطلب
العفوُ شجاعةً كبيرة. فلأن العنف مرغوب فيه،
يكون العفو واجبًا صعبًا. العفو ليس ثمرة ميل،
ولا يتأصل في شعور، بل في قرار من الإرادة؛
فهو فعل، عمل، حدث يطرأ على التاريخ
ليغيِّرَ مجراه. لا
يضيِّع العفوُ قطعًا ذاكرةَ الماضي –
فالنسيان ليس فضيلة، بل سلوى وحسب –، لكنه
يتحول إلى المستقبل في عزم وتصميم. هناك جزمًا
"واجب ذاكرة" نحو الماضي، هو تيقظ
للمستقبل، ولكن ذاكرة الشر تعرقل المستقبل،
فتعكر علينا الإدراك. أما العفو فلا يهدم
الذكرى، بل هو رهان على المستقبل. من
الممكن خسارة هذا الرهان، ولكن هذه الخسارة
لا تُفقِده معناه. العفو غير مشروط، وهو بذلك
بلا ضمانة. العفو هبة. إنه كمال الهبة. فلا
يُستحَق ولا يُسترَد. ولكي يصبح قرار العفو
فعالاً في الصيرورة التاريخية، ينبغي له أن
يأخذ مجراه في الزمن. وفي حين أن الانتقام شكل
من أشكال اليأس، فإن العفو ككل يحركه رجاء
البدء من جديد. يتموضع
واجبُ العفو في القلب نفسه من فريضة اللاعنف.
فعفو المرء يعني، في المحصلة، أن يعفو دومًا
عن تعنيف. فِعلُ العفو يعني اتخاذ قرار من
جانب واحد بقطع السلسلة التي لا تنتهي من
أعمال العنف التي يسوِّغ بعضُها بعضًا، يعني
رفض الاستمرار في الحرب إلى أجل غير مسمَّى،
يعني إرادة مسالمة الآخرين كما ومسالمة النفس
أيضًا. لأن مَن يشغله همُّ الانتقام ليس في
سلام أبدًا. العفو هو إحلال السلام في مستقبل
المرء برفضه البقاء هو نفسه أسيرَ حلقة
مستديمة من أعمال العنف. الانتقام يجعل
الحياةَ متعذرةً فعلاً والموتَ ممكنًا
للغاية. غير
أن رفض الانتقام ليس من صنع العفو وحده: إذ
ينبغي عليه أيضًا إعادة بناء علاقة جديدة بين
المعتدي والمعتدى عليه. ويجدر هاهنا التمييز
بين العفو الشخصي، عندما يندرج الاعتداء
مباشرةً في علاقة بين شخص وآخر، وبين العفو الجماعي،
عندما يتموضع الاعتداء في علاقة بين جماعة
وأخرى، أي في علاقة اجتماعية أو سياسية. ففي
العلاقة الشخصية، ينبغي العفو عن القريب؛ أما
في العلاقة السياسية، فينبغي العفو عن البعيد.
وفي كلتا الحالتين، يجعل العفوُ المصالحةَ
ممكنةً أو على الأقل يجعل الصلحَ ممكنًا؛ أي
أنه يتيح إعادة استتباب علاقات عادلة أو يتيح
إقامتها. ولكنْ لكي تكون هذه العلاقات فعلية،
ينبغي أن يقرَّ مقترف الشر بمسؤولياته ويدخل
بنفسه في تاريخ العفو ويشارك في ديناميَّته. ليست
العلاقة بين فريضتَي العدل والعفو علاقةَ
تضاد. فهما لا تتعارضان، بل، على العكس،
تتلاقيان للمساهمة معًا في خلق دينامية سلام.
إذْ يعبِّد إحقاقُ العدل الطريقَ إلى العفو،
والعكس بالعكس. عندما
ينهار نظامٌ سياسي بعد أن يقترف انتهاكاتٍ
عديدة لحقوق الكائن الإنساني، ليس من المعقول
أن يُطلَب من الضحايا مباشرةً العفوُ عن
جلاديهم. فلكي يستعيد الضحايا ثقتَهم
بالمستقبل، ينبغي أن يتمكنوا من التعبير عن
معاناتهم ويحصلوا على إنصافهم. لا بدَّ،
أولاً، من إقرار الوقائع. لذا فمن المهمِّ
تشكيل "لجنة حقيقة"، برعاية هيئة وطنية
أو دولية، من أجل تسليط الضوء على الجرائم
المقترَفة. وتكاد تكون من المتعذر قطعًا
محاكمةُ جميع مقترفي انتهاكات إبان حكم
دكتاتوري أو حرب أهلية أو إبادة جماعية، لكن
لا مناص، على الأقل، من محاكمة مَن يتحملون
مسؤوليةَ جرائم مخصوصة بعينها. بيد أن
المسؤولين عن هذه الجرائم يمارسون ضغوطًا
قوية للحصول على عفو عام يبيِّض صفحتَهم حتى
قبل محاكمتهم. إن التماسَ صفح عام قد لا يتيح
التآمَ الجروح التي تكبَّدها الضحايا. فلا
يمكن النظر في إجراءات عفو ولا يمكن أن تكون
المصالحة ممكنة إلا بعد إنصافهم. إن
كبريات مجازر التاريخ لم تسبِّبها ضغائنُ
شخصية في الواقع، بل أحقادٌ جماعية. وهذه
الأخيرة هي التي ينبغي إطفاءُ نارها؛ ووحده
إعمال العفو، في المحصلة، يقدر على التوصل
إلى ذلك. يظهر العفو إذ ذاك كلحظة حاسمة في
العمل السياسي الذي يتخذ غايةً له تحرير
التاريخ من آلية العنف العمياء. · العدل · المصالحة ترجمة: محمد
علي عبد الجليل [1]
بالمثل، كثيرًا ما استخدمَت اللغةُ الدينيةُ الإسلامية
مصطلح "العفو"، كما استخدمت مصطلح "المغفرة".
فـ"الغفور" من أسماء الله؛ وقد جاء في
القرآن الكريم: "واعفُ عنَّا واغفر
لنا وارحمنا" (البقرة 286). وجاء في الحديث:
"سلوا الله العفو والعافية [...]" (رواه
أحمد والترمذي رقم 3558 عن أبي بكر، صحيح
الجامع 3632). وورد أيضًا: "اللهم إني
أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي
وأهلي ومالي [...]" (رواه أبو داود، رقم 5074
عن عبد الله بن عمر). وخير شاهد على ربط
العفو بالخطيئة ما ورد عن الشافعي: "تَعاظَمني
ذنبي فلما قرنتُه بعفوكَ
ربِّي كان عفوُكَ أعظما". (المترجم)
|
|
|