|
الرأي العام ليس للكفاح
اللاعنفي بنية ذات قطبين bipolaire، بل ذات ثلاثة أقطاب tripolaire. فهو لا يقتصر على المواجهة بين
المقاوِمين، من جهة، وبين أصحاب سلطة القرار،
أي صُنَّاع القرار، من جهة أخرى. إذ إن
إستراتيجية العمل اللاعنفي تقحم قطبًا
ثالثًا في النزاع: الرأي العام. وبذلك يتشكل
ما يمكن له أن يسمَّى بـ"تثليث" triangularisation
النزاع[1].
هناك، إذن، ثلاثة فاعلين: المقاومون، وصنَّاع
القرار، والرأي العام. و"المعركة"
الحاسمة هي تحديدًا المعركة الرامية إلى كسب
الرأي العام. إن إقناع صنَّاع القرار دومًا
أمرٌ صعب جدًّا، ولاسيما عندما يتعلق الأمر
بالسلطات العامة. فصحيح أن صنَّاع القرار هم
جزمًا رجال ونساء قادرون، ككلِّ أحد، على
تفهُّم مقتضيات العدالة، لكنْ يُخشى عليهم،
في الوقت نفسه، أن يجدوا أنفسَهم سجناء
سلطتهم، وأن يرتهنوا لنظام من وظيفتهم أن
يدافعوا عنه. فإنْ لم ينقادوا للاقتناع convaincre بعدالة قضية القائمين
بالعمل، فقد ينقادوا لإكراه contraindre ضغط الرأي العام. وبالطبع فإن
قوة الرأي العام تتناسب طردًا وديموقراطية
المجتمع. كذا
فإن أحد أهداف العمل اللاعنفي ذات الأولوية
هو إقناع الرأي العام – يعني ليس أكثرية
المواطنين ربما، بل أقلية كبيرة منهم على
الأقل – بصوابية الكفاح الذي ينخرطون فيه. إذ
ذاك ينبغي على صنَّاع القرار الخصوم أن
يأخذوا بحسبانهم التحكيم الذي ينطق به الرأيُ
العام لكي لا يفقدوا حظوتَهم لديه. فمن
مصلحتهم الظهورُ بمظهر الميالين إلى التوفيق
وقبولُ التفاوض مع حركة المقاومة. في
المقابل، إذا خسرتْ حركةُ المقاومة معركةَ
الرأي العام، وإذا انتصر الرأيُ العام هذا
للسلطة القائمة، فيمكن عندئذٍ للسلطة تلك أن
تتجاهل المطالبَ المقدَّمة لها وأن تُعمِلَ
جميعَ وسائل القمع المتاحة لها. إذ ذاك يكون
فشل المقاومة مؤكدًا فعليًّا. إن
للعمل اللاعنفي، من خلال التربية التي ينطوي
عليها، الحظوظ كلَّها في أن يتبدى أكثر
فعالية من العنف لكسب معركة الرأي العام. إذ
يُخشى كثيرًا على اللجوء إلى العنف أن يُزري
بقَدْر المقاومين لدى رجل الشارع. فالعنف
يعزل المحتجِّين ويهمِّش الاحتجاج؛ والعنف،
على وجه الخصوص، ينحِّي من كلِّ مظاهرة في
الشارع جزءًا كبيرًا من السكان، أي جميعَ مَن
يخافون، نساءً ورجالاً، من العنف أو يشجبونه
من حيث المبدأ. إذا
استخدمنا العنف، فلن نعقد نقاشًا عامًّا حول
الظلم الذي نحاربه، بل حول العنف الذي نرتكبه.
ويقينًا أن صور أعمال العنف التي نرتكبها هي
التي ستحتل الصفحاتِ الأولى في وسائل الإعلام.
فهذه تبلبل الرأيَ العام وتثير لديه ردودَ
أفعال رافضة. إذ إن العنف يرفع حاجزًا بين
القائمين بعمل المقاومة وبين الرأي العام،
وهذا الحاجز يخفي عن أعينه صوابية القضية
التي تنشب المعركةُ في سبيلها. فالعنفُ يجعل
المقاومين يظهرون بمظهر "المخربين"،
فيبرِّر قمعَهم، لأنه من المنطقي أن يدفع
المخرِّبون ثمن ما يخربون. والعنف يتيح
للسلطات القائمة "تجريم" criminaliser الاحتجاج المُواطني. فأنا
أعدم أية حجة إذا سُجِنتُ لارتكابي عملاً
عنيفًا؛ في المقابل، إذا سُجِنتُ لعلَّة عمل
لاعنفي، يكون في وسعي أن أبرر الأسبابَ التي
أدت بي إلى السجن. اللاعنف لا يتيح تجنب
القمع، لكنه يَحْرِمُه من كلِّ تبرير حقيقي.
إن عنف القمع، إذ ذاك، هو الذي يجازف بالإزراء
بالسلطات العامة. وهاهنا، ليس خيار اللاعنف
مسألة أخلاق، بل مسألة واقعية وفعالية. كذلك
ينبغي أن نعي أننا لا نتكلم على "الرأي
العام" بصيغة المفرد إلا من باب التيسير
اللغوي وحسب؛ إذ إن الرأي العام في الواقع
متعدد: فإبان حملة العمل، ينقسم الرأي العام
إلى عدة "معسكرات"، بحسب التضامن أو
التعاطف أو اللامبالاة أو العداوة التي
يكنُّها الناسُ للقضية المدافَع عنها. ولئن
كان الاتصال الجاري بواسطة وسائل الإعلام
موجهًا، في الغالب الأعم، إلى جميع قطاعات
الرأي العام دونما تمييز، ينبغي على بعض
أعمال الإعلام والتوعية والتعميم أن تكون "مسدَّدة"
بالتوجُّه، بوجه خاص، إلى هذا القطاع أو ذاك
بعينه، مع أخذ موقع القطاع المعني بالنسبة
إلى رهان الصراع بالحسبان. ترجمة: محمد
علي عبد الجليل [1]
تثليث النزاع:
إضافةُ الرأي العام طرفًا ثالثًا في النزاع.
(المترجم)
|
|
|