frencharabic 

الأخلاق

يعي الإنسان، في مواجهته مع غيره من البشر، أن العنف – ليس العنف الذي يكابده ويتعذب من جرائه فقط، بل والعنف الذي يمارسه ويعذب به غيره – قد يظهر مباغتًا في كلِّ لحظة. إذ ذاك يختبر الاختبار المأساوي بأن إنسانيته يهددها العنفُ الذي خاصيته الأساسية لاإنسانيته. إن فريضة "أخلاق القناعة"[1] تفرض نفسها عندئذٍ عليه: لا يمكن له أن يضفي معنًى على وجوده إلا برفض كلِّ تسوية مع لاإنسانية العنف.

في جميع المنقولات الحِكَمية traditions sapientiales، يرتكز القانونُ الأخلاقي الذي ينبغي على كلِّ إنسان عاقل أن يتصرف بمقتضاه على "القاعدة الذهبية". ويعبَّر عن هذه القاعدة تعبيرًا سالبًا وموجبًا في آنٍ معًا. إذْ يعبَّر عنها، في شكلها السالب، على هذا النحو: "ما لا تريد أن يفعله الآخرُ بك، لا تفعله بالآخر." ماذا لا أريد أن يفعله الآخرُ بي؟ لا أريد بالتحديد أن يعنِّفني. أما بالطريقة الموجبة، فيعبَّر عن القاعدة الذهبية بهذه الصيغة: "ما تريد أن يفعله الآخر من أجلك، افعله أنت من أجله." وماذا أريد أن يفعل الآخر من أجلي؟ أن يفعل الخير، وأن يحترمني أولاً. هكذا تدعونا القاعدةُ الذهبية إلى اللاعنف بثنيها إيانا عن خبث النية وبنصحها لنا بعمل الحسنى.

يرفض الإنسان الأخلاقي كل شَرْعَنة للعنف لأنه يعي أنه بعدم رفضه يتنازل عن إنسانيته نفسها. فالحكم الأخلاقي، إذ يُعلي حقَّ المطلب الأساسي للروح، يطعن في جميع التلفيقات العقلانية التي تريد دمج العنف في مجال الإنساني. وبهذا تتطلب القناعةُ الأخلاقيةُ من الإنسان، في المنقولات الفلسفية والروحية الأكثر أصالة، أن يرفض التورط في العنف.

لكن الإيديولوجيين التفُّوا على هذه الفريضة الأساسية للفلسفة وللروحانية بالتأكيد على تعذر التوفيق بين "أخلاق القناعة" و"أخلاق المسؤولية". مذْ ذاك فإن مَن يريد أن يبقى مخلصًا لقناعته الأخلاقية يجد نفسه، برأيهم، محكومًا برفض العمل في العالم، لأن هذا يضطره إلى اللجوءُ إلى وسيلة العنف السياسية؛ في المقابل، قد يُضطر مَن يعتزم تحمل مسؤولياته في التاريخ على أكمل وجه إلى مخالفة فريضة الأخلاق لكي يتورط في العنف.

أما في الواقع، فإن تكريس تعارُض كهذا بين القناعة الأخلاقية – التي تتطلب من المرء أن يكون لاعنفيًّا – وبين المسؤولية السياسية – التي تجبره أن يكون عنيفًا – من شأنه أن يُفسِد الأخلاقَ والسياسةَ جميعًا. إن الإعراض عن الفريضة الأخلاقية لحظةَ القيام بالعمل السياسي لا يعني إنكارها فحسب، بل نفيُها بكلِّ بساطة؛ إذ إن مسؤولية الإنسان الأخلاقية هي تحديدًا إخلاصه لقناعاته في عمله في العالم. ولا يجوز للالتزام السياسي أن يتهرب من الفريضة الأخلاقية بما أن وظيفتها هي بالضبط تحديد معنى عمل الإنسان بين غيره من البشر.

إن الفريضة الأخلاقية هي أحد المعايير التي ينبغي أن تتحدد بمقتضاها الفعاليةُ السياسية. إن نفي عملٍ ما للفريضة الأخلاقية يسيء إلى فعالية هذا العمل. وإن القول بأنْ ليس للإنسان من خيار، في العمل السياسي، إلا بين وسائلَ أخلاقيةٍ لكنها غير ناجعة عمومًا وبين وسائل ناجعة لكنها على العموم غير أخلاقية يعني رفض كلِّ معنى للتاريخ بإخضاعه لحتمية العنف. تهدف استراتيجيةُ العمل اللاعنفي إلى التوفيق بين "أخلاق القناعة" و"أخلاق المسؤولية"، وذلك بالبحث عن الفعالية السياسية باستخدام وسائل أخرى غير وسائل العنف القاتل. عندئذٍ يمكن للإنسان أن يأمل بإخضاع التاريخ لمقتضيات عقله.

للفريضةُ الأخلاقية وجهان: الأول يدعو إلى عدم ارتضاء الشر، والآخر يدعو إلى العمل في سبيل الخير. ولا يجوز لرفض التواطؤ مع الشر أن يكون قعودًا عن العمل. صحيح أن المطالبة بالفريضة الأخلاقية، المتعلقة بالقناعة وبالمسؤولية في آنٍ معًا، هي التخلِّي أولاً عن وسائل العنف اللاأخلاقية، لكنها، أيضًا وخاصة، التفتيش عن وسائل اللاعنف الفعالة. كذا فلا يجوز للإنسان الأخلاقي نفسه أن يتيقن من إيجادها في جميع الظروف. فمن العبث طرح مسلَّمة مجردة تقول بأن هناك، دائمًا وفي كلِّ مكان، وسائلَ لاعنفيةً عملانية تتيح للمرء تحمل مسؤولياته تجاه الحدث. إذ يمكن للمرء أن يختبر تنازعًا بين أخلاق الاعتقاد وأخلاق المسؤولية؛ وإذ ذاك قد يُخفِق في التوفيق بينهما دون أن يطعن، بسبب من ذلك، في صحة أيٍّ منهما. إن ضرورة العنف التي قد يجد الإنسانُ الأخلاقي نفسَه في مواجهة معها لا تلغي فريضة اللاعنف، بل تجعلها أكثر إلحاحًا أيضًا.

إن الإنسان الأخلاقي، في المحصلة، ليس مَن يؤكد على ضرورة أن يكون المرء لاعنفيًّا دائمًا، بل مَن يسعى جاهدًا، في كلِّ موقف، إلى البحث عن وسائل العمل اللاعنفي العملية الأكثر ملاءمة. فاللاأخلاقية الملازمة لإيديولوجيات العنف التي تسيطر على مجتمعاتنا تكمن تحديدًا في كونها تستبعد، بشرعنتها الوسائلَ العنفية، أيَّ بحثٍ عن وسائل لاعنفية وتغيِّبه وتستثنيه. ولكثرة تخلِّينا عن البحث عن الوسائل التي يقدِّمها اللاعنف، يؤول بنا الأمرُ إلى عدم العثور عليها أبدًا. فإذا قدَّرنا حجمَ الاستثمارات التي توافق عليها مجتمعاتُنا للتحضير لإعمال وسائل العنف، من جهة، وحجمَ الاستثمارات غير الموافَق عليها للتحضير لإعمال وسائل اللاعنف، من جهة أخرى، سنتمكن عندئذٍ من تقدير حجم اللاأخلاقية الجماعية التي نجازف بالانغلاق فيها.

إن البُعد الأخلاقي ليس فرديًّا فحسب، بل هو جماعي أيضًا. فهناك أخلاق سياسية تقدِّم معاييرَ لتقدير شرعية الخيارات والقرارات والالتزامات التي يضطلع بها المجتمع. ويتبدى اللاعنف كفريضة فلسفية أساسية ينبغي لها أيضًا أن تُنعش حياةَ المجتمع السياسية وتوجِّهها.

·        السياسة

·        الفعالية

·        الفلسفة

·        الوسائل

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

تدقيق: ديمتري أڤييرينوس

return to the index


horizontal rule

[1] المقصود بـ"أخلاق القناعة" هنا إعلاء المبادئ الأخلاقية النابعة من الاعتقاد الشخصي العميق فوق أخلاق الإجماع ذات الطابع الاجتماعي المتغير. (المدقق)

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني