الإيكولوجيا

احترامُ الطبيعة احترامٌ يدين به الإنسانُ لنفسه. الإنسانُ جزءٌ لا يتجزأ من الطبيعة، لكن الطبيعةَ، أكثر من ذلك، جزءٌ من إنسانيته. فعندما يكبِّد الإنسانُ محيطَه البيئي "أعمال عنف"، فإنه يتكبد بنفسه عواقبَ ذلك. إذ إن تدمير "نطاق الحياة" الخاص به يصيب "نوعية حياته" إصابةً بالغة. يصير الإنسانُ "مريضًا" بالمعنى الحرفي من جراء الأضرار التي يُنزِلُها بالطبيعة؛ إذ إن تلوث الهواء والماء والتربة يمارس عنفًا ضد الإنسان، وهذا العنف قد يكون قاتلاً. بهذا فإن الحاجة إلى احترام الطبيعة وحمايتها لا تصدر عن نزعة عاطفية ما، بل عن فريضة أخلاقية تؤسِّس لإلزام سياسي.

يبدأ احترام الطبيعة بمعرفتها؛ والإيكولوجيا[1] هي التي تتيح لنا اكتساب هذه المعرفة. فالإيكولوجيا هي، قبل كل شيء، دراسة الأوساط والمنظومات الطبيعية التي تعيش فيها الكائناتُ الحية. وهذه الدراسة تتيح، فيما بعد، بسطَ القواعد والمعايير التي يجب أن تخضع لها نشاطاتُ الإنسان – وخصوصًا الاقتصادية منها – لكي تحترم الإيقاعاتِ والتوازُناتِ الطبيعية لهذه المنظومات.

لقد أذعنت المذاهبُ الاقتصاديةُ المسيطرةُ لمنطق الإنتاجية productivisme يُعميها. فهي لم تأخذ في حسبانها التناقضاتِ والمآزق التي قادنا إليها تطورٌ تقني متروك على عواهنه، فلم تفلح في التحول قبل أن يفوت الأوان عن الأوهام العلموية[2] التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر والتي أمَّلتْ الناسَ في تقدُّم اجتماعي متواصل بوصفه نتيجةً حتميةً لتقدم تقني خطِّي. علينا اليوم الاعتراف بإخفاق التصور العلموي للتقدم الصناعي. وهذا لا ينطوي على وجوب استبعاد أيِّ استحداث تكنولوجي عبر تغنٍّ مغرِّر بـ"أيام الجدود"[3]. لكن هذا يعني أن الأمر المُلِحَّ هو السيطرة على تطور مجتمعاتنا الصناعي وإعادة تحديد المعايير التي يجب علينا تبعًا لها إدارةُ هذا التطور. لقد تم اجتياز حدود وتخطي عتبات، بحيث لم يعد في الإمكان القول بأن الأمر عبارة فقط عن إسراف أو شطط محدودَين. إن منظومة الإنتاج الصناعي نفسها هي التي يجب إعادة التشكيك فيها من أجل إخضاعها لإلزامات الإيكولوجيا. فالإنتاج بشكل مختلف يقتضي العمل بشكل مختلف والاستهلاك بشكل مختلف، وفي المحصلة، العيش بشكل مختلف، أي العيش بشكل أفضل.

إبان أمد طويل – لا بل طويل جدًّا – كان على الإنسان أن يحميَ نفسَه من جميع أنواع الأخطار التي تُثقل بها الطبيعةُ عليه؛ أما اليوم فقد بات الإنسانُ، عِبرَ القدرة التقنية التي اكتسبها، هو الذي يثقل على الطبيعة بأخطار جسيمة. نتكلم هنا عن وضع جذريِّ الجِدة يتطلب إعادةَ التفكير في أسُس الأخلاق التي تنظم قدرةَ الإنسان على الفعل. لقد بتنا نعلم أن الأرض فانية. قطعًا إن الأسوأ غير مؤكد، لكنه صار ممكنًا. ينبغي، إذن، أخذُ هذا الاحتمال على محمل الجِد.

لقد بات على الإنسان أن يواجِهَ في شجاعة حالةَ الهشاشة والضعف التي تعاني منها الطبيعة من جراء قدرته على الفعل، ويجب علينا أن نستوعي أن الطبيعة أصبحت موضع مسؤوليته. فيما مضى، لم تكن مسؤولية الإنسان، عِبرَ أفعاله، متعلقةً سوى بالمستقبل القريب جدًّا؛ أما اليوم فمسؤوليتُه تمتد عِبرَ الزمان لتنصبَّ على المستقبل الأبعد. يجب عليه، إذن، التصرف بحيث تظل الحياةُ الإنسانيةُ على الأرض ممكنةً في المستقبل.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أفييرينوس


horizontal rule

[1] نشأت الإيكولوجيا (علم البيئة) Écologie في أواخر القرن التاسع عشر في سياق التشعب المتزايد للاختصاصات العلمية؛ والمصطلح مشتق من الكلمة اليونانية oikos ("منزل الأسرة")، بحيث باتت دلالتُه تشير اليوم إلى كوكب الأرض باعتباره "منزلاً" لنا نحن البشر. (المُراجِع)

[2] العلموية Scientisme: اعتقاد فلسفي يؤكد أن العلم يتيح لنا معرفة كلية الأشياء الموجودة وأن هذه المعرفة كافية لتحقيق جميع طموحات البشرية (وهي شكل من أشكال مذهب أوغست كونت الوضعي Positivisme). (المترجم)

[3] كما نقول بالعربية: "سقى الله هاتيك الأيام"! (المترجم)

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني