|
الأسلحة النووية طوال
فترة الحرب الباردة كلِّها، أكد إيديولوجيو
الردع النووي أن "توازن الرعب" هو أفضل
ضمان لأمن الشعوب وللسلام العالمي. وحين كان
يشكَّك في منطق سباق التسلح النووي، بتبيان
أنه من غير المنطقي المجازفة بتدمير النفس في
سبيل الدفاع عنها، سرعان ما كان يكال
الاتهامُ بالـ"مُسالَمة"، أي
بالانهزامية والخيانة. وحين كان يؤكَّد أن
العمل اللاعنفي هو الطريقة المثلى التي تتيح
لمُواطِني البلدان الشرقية مقاومةَ
الاستبداد التوتاليتاري، كان لا بدَّ من
مجابهة التشكيك الساخر للـ"واقعيين". مع
ذلك، لا مندوحة لنا من الاعتراف أنه في العام
1989 لم تكن أسلحةُ الغرب النووية هي التي أسقطت
جدارَ برلين: فما حدث في الواقع هو أن المقاومة
اللاعنفية لمُواطِني المجتمعات المدنية في
أوروبا الشرقية هي التي أدت إلى انهيار
أنظمتها التوتاليتارية. جزمًا
إن العديد من الإستراتيجيين ورجال السياسة لا
يتورعون عن الادعاء بأن الردع النووي هو ما
حافظ على السلام في أوروبا وفي العالم طوال
فترة الحرب الباردة. فالحرب، بالفعل، لم تقع.
لكن من المشكوك فيه جدًّا أن هذا يجب أن يُعزى
إلى أسلحة الدمار الشامل التي كان كل معسكر
مزودًا بها. فعلى العكس، كانت الأسلحة
النووية لدى كلٍّ من المعسكرَين تلقِّم
تهديدَ الخصم وترعاه بدلاً من أن تحتويه. لقد
انتهى عصر يالطا[1]
بانهيار جدار برلين. فإبان أكثر من أربعين
عامًا، وجد العالمُ نفسه منقسمًا إلى كتلتين
متناوئتين في مقارعةٍ إيديولوجيةٍ وسياسية،
وكل منهما تزعم أن الرهان هو الهيمنة على
الأرض. واليوم، ولَّى هذا العصر فعلاً، وكل
شيء يدعونا إلى الاعتقاد بأنه ولَّى إلى غير
رجعة. بذا فإن سقوط جدار برلين قد حرض تغييرًا
جذريًّا في المشهد الإستراتيجي الدولي. وهذا
ما يجبر الحكومات على إعادة تعريف الرهانات
السياسية والدبلوماسية والعسكرية
والاجتماعية والاقتصادية لخياراتها
المتخَذة في مجال الدفاع. لا جَرَمَ في أن
الأخطار مختلفةَ الأشكالِ الجاثمة على كرامة
البشر وحريتهم أخطارٌ حقيقية في أوروبا وفي
مختلف أنحاء العالم؛ لكنْ، بكلِّ تأكيد، ليست
الأسلحة النووية هي التي ستمكِّن من مجابهتها. غير
أن المصادرة التي تقوم عليها العقائدُ
الدفاعية التي تجهر بها الدولُ المالكة
للسلاح النووي ما تزال هي هي: مازال الردعُ
النووي الضمانَ الأخير ضد تهديد المصالح
الحيوية لكلٍّ من هذه الدول، وما انفك عاملاً
حاسمًا في الحفاظ على السلام في العالم. مذْ
ذاك، يؤكد المسؤولون العسكريون والسياسيون
أن الردع النووي يحتفظ بضرورته المُلِحَّة.
ولهذا فهم لا يقولون ما هي السيناريوهات
الإستراتيجية التي يمكن لهم ضمنها النظر في
استخدام السلاح النووي – لأن التهديد الفعلي
هو بالضرورة خطر هذا الاستخدام. مع ذلك،
فالصمت عن هذه السيناريوهات يعني الانحباس في
بلاغة مجردة، تقوم أساسًا على فكرة بالية عن
العظَمة القومية. ضمن
المشهد الإستراتيجي الجديد المرتسم في
أوروبا وفي العالم بعد سقوط جدار برلين، ألم
تبطل أهمية السلاح النووي؟ إذْ لا يمكن بناءُ
أي سيناريو ذي مصداقية يتيح، عِبْرَ امتلاك
السلاح النووي، مجابهةَ أخطار العالم
والتهديدات التي ترهق السلام. فما من سيناريو
بوسعه أن يبرِّر إمكان استخدام السلاح النووي.
فإنْ لم يكن الاستخدام ممكنًا، يَصِرُ
التهديد نفسه غير ذي جدوى؛ وعندئذٍ، يفقد
السلاح نفسُه علَّة وجوده. وهنا يجد الفكرُ
الإستراتيجي نفسَه أمام فراغ مفاهيمي كبير؛
وهذا الفراغ كافٍ، في حدِّ ذاته، لنزع
الشرعية عن السلاح النووي. إن
الردع النووي عديم الفعالية تمامًا أمام
الأشكال الجديدة للحرب والتهديدات الواقعية
التي باتت تظهر اليوم. فلا مناص من الاعتراف
بأنه منذ الحرب الباردة – لا بل بالأصح كانت
الحال على ذلك إبان الحرب الباردة –، لم
تُتِحْ الأسلحةُ النوويةُ تجنب أيٍّ من
النزاعات الدموية التي اندلعت في مناطق عدة
من العالم، كما لم تسهم في حلِّ أيٍّ منها.
إضافة إلى ذلك، فمنذ الاعتداءات الدموية
المقترَفة خلال السنوات الأخيرة في العديد من
البلدان، تبيَّن لكلِّ أحد أنه أمام مثل هذه
الأعمال التي نفذتْها، بوسائل بدائية،
مجموعاتُ مغاوير إرهابية أو فِرَقٌ متعصبة،
لم يمارس السلاحُ النووي أيَّ ردع. فالسياق
الجيوستراتيجي الجديد الأوروبي والعالمي قد
أتاح الفرصة لنزع سلاح نووي عام وتام تحت
مراقبة دولية صارمة. ومادام الردع النووي لا
يقدِّم أي ردٍّ وجيه على مختلف أنماط
النزاعات التي تجد الدولُ نفسها في مواجهتها
على الساحة الدولية، لم يعد هناك من سبب مقنع
يدفع الدولَ إلى الاحتفاظ بمكانها في سباق
التسلح النووي أو اتخاذ مكان لها فيه. فهذا
الأمر يزيد من التهديد الجاثم على "الأمن
المشترك" للشعوب والأمم. لذا فمن العاجل
جدًّا أن تخفض القوى النووية العظمى الرسميةُ
الخمسُ ترساناتِها من جانب واحد وأن تبادرَ
مجتمعةً إلى مفاوضة دولية تهدف إلى إزالةٍ
متفَق عليها للأسلحة النووية. لقد باتت هذه
الإزالة ممكنةً من الآن فصاعدًا. ولا نقصد
قطعًا بذلك "إزالة اختراع" السلاح
النووي، بل نقصد، في مواجهة مخاطر الانتشار
والتعميم، السيطرةَ على المخاطر التي جلبها
على الإنسانية. ولهذا فإن صياغة معاهدة حول
حظر الأسلحة النووية، على غرار المعاهدة التي
تحظر الأسلحة الكيميائية، من شأنها أن تكون
إسهامًا قويًّا في تعزيز السلام في العالم. · الحرب ترجمة:
أكرم أنطاكي مراجعة: محمد علي عبد الجليل [1]
إشارة إلى "مؤتمر يالطا" (4-11 شباط 1945)
الذي ضم تشرتشل وروزفلت وستالين ورمى إلى
تسوية المسائل العالقة الناجمة عن وشوك
هزيمة ألمانيا – والبقية معروفة! (المترجم)
|
|
|