الفصل الثاث: طفولة وسياسة... - ب:مدرسة الآباء العازريين1 الفصل الثاني: أقاصيص الأهل - ب:ابن الأمير أو ابن الفقير

ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الفصل الثالث

طفولة وسياسة...

(1954-1958)

آ

وأمور أخرى...

طائر الليل: لأنها مجرَّد محاولة ساذجة لإعادة تقويم أيام مضت... ولأن صاحبها ما زال، إلى اليوم، يحب "السياسة"؛ فهو ابن عائلة أحبت "السياسة" وتعاطتها... في قلب بلد كان، وما زال، رغم مصائبه، يحب "السياسة"...

لقد بقيت فترة طويلة لا أفهم كيف التقى أبي (345) وعمِّي جورج (346) مع عمِّي رزق الله (347) حول ذلك التقويم السلبي جداً لتلك الحقبة الهامة من تاريخ سورية، الممتدة من عام 1954 حتى عام 1958، والقائل: إن ما جرى في حينه كان ما أجهز على الديموقراطية السورية الفتية...

فحتى فترة قريبة، كان فهمي وتقويمي لتلك السنين هو نفس ذلك الفهم العامي الذي كان (وما زال) سائداً لدى بعض الأوساط والقائل: إنها كانت الأمثل في تاريخ الدولة السورية الفتية. ولكن الحياة جعلتني أعيد النظر...

عقب سقوط أديب الشيشكلي (348) في 25 شباط 1954 عاد السيد هاشم الأتاسي (349) في الأول من آذار 1954 رئيساً للجمهورية، وتم استدعاء البرلمان الذي سبق للدكتاتور أن حلَّه غداة انقلابه الثاني...

وألغى البرلمان (الذي عاد مؤقتاً) الدستور الذي وضعه الشيشكلي (350) عام 1953، وأعاد العمل بدستور عام 1950، كما كلَّف الرئيس الأتاسي (351) السيد صبري العسلي (352) بتشكيل الحكومة... وكانت الحكومة التي شكَّلها هذا الأخير عبارة عن ائتلاف من "الحزب الوطني" و"حزب الشعب" و"المستقلين"؛ إلا أنها لم تدم طويلاً، فسقطت بضغط من "الشارع السياسي"...

ذلك "الشارع" الذي أضحى، في حينه، متمثلاً – بشكل خاص – بأنصار تلك الأحزاب "القومية الراديكالية" و"الشيوعية" التي طفت على السطح غداة سقوط الديكتاتورية. وكانت هذه الأحزاب المزاوِدة على الجميع في مواضيع "الوحدة" و"فلسطين" و"الاشتراكية" و"العداء للإمبريالية" تتمتع آنذاك ببعض النفوذ في أوساط الطلاب وضباط الجيش، وإن لم تكن تشكل سوى أقلية صغيرة على صعيد البلد...

وجاءت حكومة السيد سعيد الغزي (353) (المحايدة) لتشرف على الانتخابات النيابية التي تَقرَّر أن تجري في 20 آب 1954...

في أوائل صيف 1954 تزوجت خالتي ثريا(354) من مهاجر سوري–أمريكي، أصله من قرى حمص، يدعى عيسى الخوري (355).

"جاءت إلينا عشية زفافها لتتجهَّز من دمشق. ثم ذهبنا معها إلى حمص لحضور حفل الزفاف، وبقينا هناك أسبوعاً كاملاً...".

كانت أوضاع أهل أمي قد بدأت تتحسن إثر عودة إميل (356) الذي عُيِّن مهندساً لدى بلدية حمص، وافتتح لنفسه مكتباً مقابل مقهى وحديقة الروضة. كان يأخذني معه غالباً إلى مكتبه، حيث كنت أقضي الوقت متأملاً إياه منكباً بقامته الطويلة على المرسم، يرسم أو يدقِّق مخططاته التي غالباً ما كان يشرح لي مضمونها؛ الأمر الذي جعلني مولَعاً منذ الصغر بالهندسة التي أضحت مع الأيام مهنتي...

خلال الفترة التي قضيناها هناك، والتي تزامنت مع الانتخابات النيابية، غالباً ما كنت أراقب مندهشاً تلك العراضات التي كانت تجري أمام المقهى المواجِه لبيت جدي في حيِّ الحميدية، مهلِّلة للحزب الشيوعي، لمرشَّحيه عامة، ولزعيمه خالد بكداش (357) خاصة. فـ...

الانتخابات كانت شاغل البلد، والجميع كان يسعى جاهداً لإيصال جماعته، وخاصة في دمشق التي حُمِل إليها من ملجئه في مصر في 7 آب 1954 (أي قبل الانتخابات بأقل من أسبوعين) السيدُ شكري القوتلي (358)...

كان القوتلي (359) وجماعتُه ميَّالين إلى السياسة المصرية–السعودية (الأقرب من حيث العمق إلى التوجُّهات الأمريكية)؛ بينما كان "حزب الشعب" ميالاً إلى التقارب مع العراق (الأقرب في حينه إلى التوجُّهات البريطانية). وإلى جانب الاثنين، كان البعثيون، الذين أضحوا قوة فعالة نتيجة اتحادهم مع أكرم الحوراني (360) وجماعته "الاشتراكية" من ريف حماه، ميَّالين بشكل عام إلى توجُّهات السياسة المصرية. بينما كان بكداش (361) وجماعته يدعون مباشرة إلى السياسة الروسية...

وقد نجح في هذه الانتخابات عن دمشق من الدورة الأولى السيدان خالد العظم (362) وخالد بكداش (363). كما نجح رزق الله أنطاكي (364) عن "حزب الشعب" في حلب. كانت توجُّهات البرلمان تعكس نسبة القوى الحقيقية في البلد؛ ولكنها – وهذا هو الأهم – كانت تعكس خاصة ما كان يدور حولها من صراعات وتفاعلات...

لأنه لا يمكن لأي بلد أن يكون مستقلاً مائة بالمائة – بمعنى أن يكتفي بذاته ولذاته، فينعزل عن سواه حين يشاء، ويتصرف على هذا الأساس ومن هذا المنطلق فقط...

-       من انتخبت آنذاك يا أبي؟

-       يومها قررنا، أنا وعمك جورج، أن ننتخب خالد العظم (365) وخالد بكداش (366) .

-       لماذا؟

-       كنَّا معجبين بشخصية خالد العظم (367) الذي كان ابن عمِّه تحسين (368) من أصدقائنا المقربين. وكنَّا نفضله على جماعة عمك رزق الله(369). كما كنَّا، من الناحية المبدئية، نحلم ببرلمان تتصارع فيه الأفكار؛ وكان خالد بكداش (370) يمثل، في حينه، تياراً سياسياً وفكرياً هاماً...

-       ولكن... ألم يغضب عمِّي لأن شقيقاه لم ينتخباه؟

-       بلى، غضب قليلاً، وانتقدنا أمام والدي (371) الذي ذهب مع فلاديمير (372) إلى حلب لانتخابه. لكن جدَّك رطَّب خاطره ولم يدعه يجعل من القضية مشكلة. ثم كان نجاحه الذي غطى على الموضوع أصلاً.

-       هل تعرَّفت إلى خالد بكداش (373) يا بابا؟

-       لا... لكني أتذكر أنه قبل الاستقلال بقليل حاول كامل عيَّاد (374) – وهو من أصدقائي الشيوعيين – أن يستميلني إلى حزبه، كما عرض أن يقدمني إلى بكداش (375). لكن هذا لم يحصل.

وكانت أول حكومة تشكَّلت بعد الانتخابات برئاسة فارس الخوري (376)؛ وكان رزق الله أنطاكي (377) فيها وزيراً للمالية...

"في تلك السنة (1954) نجحتَ يا أكرم (378) إلى صف "السرتفيكا"، الشهادة الابتدائية، وقضينا الصيف مع خالتك أوديت (379) في بكفيا بلبنان...".

وتلك الصيفية كانت من أجمل الصيفيات التي قضيتها في طفولتي، حيث كنَّا نلعب أنا (380) وإكرام (381) معظم الوقت مع أولاد خالتنا: نبيل (382) الذي كان من سنِّي، وشقيقته ميمي (383) التي كانت من سن إكرام. وكان ابن خالتي مُجِداً ومتفوقاً، يقضي الصباح كاملاً في كتابة وظائفه الصيفية؛ الأمر الذي كان يدفعني إلى التشبُّه به...

وكان هناك في ذلك الصيف "مهرجان للزهور"، حضره وديع الصافي (384) للغناء في ربوعه، وجاء كميل شمعون (385)، رئيس جمهورية لبنان، لتدشينه.

"وحين كان يأتي بابا (386) أو عمُّو جورج (387) لقضاء بعض الوقت معنا كنا نذهب جميعاً للتنزه في الجبال، وتحديداً في غابات بولونيا، وفي حريصا حيث كان (وما زال) يوجد تمثال كبير للسيدة العذراء مطلٌّ على البحر...".

ثم انتهت العطلة الصيفية وعدنا إلى دمشق.

"ولكن... مع خالتك أوديت (388) وعائلتها الذين جاءوا معنا لحضور حفل افتتاح المعرض الدولي الأول. أمَّن والدك (389) وعمُّو جورج (390) بطاقات دخول لنا، وذهبنا جميعاً إلى المعرض لحضور الافتتاح...".

وأتاح لنا الحظ أن نشاهد فيه عن قرب الرئيسين هاشم الأتاسي (391) وكميل شمعون (392) وهما يسيران جنباً إلى جنب ويفتتحان معاً الجناح اللبناني. وزرنا الجناح الأمريكي الذي كان في حينه من أجمل الأجنحة، حيث عُرِضَت – لأول مرة في دمشق – تلك العلبة الغريبة التي أدهشتنا يومذاك: "التلفزيون"! ثم عدنا إلى المعرض في اليوم التالي لمشاهدة السينيراما ومدينة الملاهي...

لأن العالم، حين لا يكون مترابطاً بمساحاته وأراضيه، يكون مترابطاً ومتداخلاً بمصالحه وأفكاره؛ وتلك لا بدَّ من أن تتفاعل، فتتصادم و/أو تتلاقى؛ وبالتالي، تُفترَض مراعاتُها حين لا تُفترَض مجابهتُها. هكذا كان الأمر منذ قديم الزمان، وبالنسبة للجميع...

"وذهب رزوق (393) إلى السعودية ليطلب من حكومتها قرضاً لسورية...".

"أُدخِلتُ – على حد قوله؛ وكان يتحدث، نقلاً عن والدي (394)، في جلسة عائلية وحميمة مغلقة – إلى قاعة كبيرة، حيث كان حاضراً الملك سعود بن عبد العزيز (395) وشقيقه الأمير فيصل (396) وعددٌ من أفراد الحاشية...

وبعد التحية وتقديم الاحترامات سألني جلالته:

-       ماذا تبغون؟ أجبته:

-       قرضاً لسورية بثلاثة ملايين دولار يا طويل العمر. أجابني وهو يخاطب أيضاً حاشيته:

-       كيف تطلبون قرضاً جديداً وأنتم لم تسدِّدوا بعد القرض القديم؟ أي متى ستسددون لنا القرض الأول؟ أجبته ضاحكاً:

-       لن نسدِّده يا طويل العمر! فضحك الملك، وقد أعجبته الإجابة، وقال لي:

-       ألن تسدِّدوه حقاً؟! هذا زين! والقرض الثاني، إن وافقنا على تسليفكم إياه، هل ستسدِّدونه أم لا؟ أجبته:

-       لن نسدِّده أيضاً يا طويل العمر. فهذه من أفضالكم على سورية، والأفضال لا تعاد كما تعلمون. ضحك الملك وقال لي:

-       أنت زين! وافقنا على منحكم مبلغاً قدره ثلاثة ملايين دولار للحكومة السورية. هل أنت راضٍ؟ أجبته:

-       ليس بعد يا طويل العمر. فضحك أيضاً وأجابني:

-       إنشاء الله، لن تغادرنا إلا وأنت راضٍ.

ويضيف والدي (397) أنه "في تلك الجلسة سأل أحد الأصدقاء رزق الله (398) حول انطباعه عن الملك سعود بن عبد العزيز (399)، فأجاب أنه لم يترك لديه أي انطباع؛ بينما ترك لديه الأمير فيصل (400) الانطباع بأنه الشخص الأهم في المملكة...".

"حين عاد رزوق (401) من مهمَّته إلى السعودية كان في استقباله في المطار جدُّك (402) وعدد من زملائه الوزراء والنواب. وكان أن اتَّجه رزوق، الذي كان يحمل معه سيفاً مذهَّباً ومرصَّعاً أهداه إيَّاه الملك سعود (403)، فور نزوله من الطائرة إلى والده (404)، وقبَّل يده قبل أن يتَّجه ليحيي باقي مستقبليه من المسؤولين – مما جعل أبي يطير فرحاً...".

"كان جدك (405) في تلك الأيام غالباً ما يتذكر تلك الواقعة فيخاطبني قائلاً: "أنظر كيف تصرَّف معي شقيقك الأكبر، بينما أنت لم تقبِّل يدي ولا مرة!" ودائماً كنت أجيبه: "أنت تعلم يا بابا أن رزوق (406) سياسي، وأن ما فعله معك بحضور الآخرين هو السياسة بعينها!" وكان يتأمَّلني في كل مرة وهو يتبسَّم ثم يجيب: "على كل حال، سياسة أو غير سياسة، أنا كنت راضياً عن سلوكه في حينه... هيك الأصول..."."

"وقد تكررت نفس الحادثة معي مرة أخرى في مضمونها مع مجيء "سيرك ميدرانو" إلى البلد. دعا رزوق (407) والده (408) إلى السيرك وأجلسه في الصفِّ الأمامي، مما أفرح جدك كثيراً. وكان جدك يقول لي: "أنظر ما أحسن رزوق الذي عزمني إلى السيرك وأجلسني في الصف الأول!" وكنت أجيبه مازحاً أنه فعل هذا ليتخلص منك! فهذا الموقع، حيث جلستَ، كان الأقرب إلى النمور... ألا تذكر؟" وكان جدك يضحك ويقول: "أحقاً؟! يا له من ملعون هذا الرزق الله...".

لقد كان قدوم سيرك ميدرانو إلى البلد حدثاً كبيراً بحدِّ ذاته. وقد ذهبنا أنا وشقيقتي، كلٌّ عن طريق مدرسته، لمشاهدته. وأتذكر النمور، والفيلة، والثعبان الضخم من نوع البُوا، والألعاب البهلوانية الرائعة. حقاً، هناك أحداث في حياة الطفل لا يمكن أن تُنسى...

ثم سقطت حكومة فارس الخوري (409) في 7 شباط 1955 نتيجة ضغط "الشارع السياسي"... لأنها لم تكن من وجهة نظر المعارضة وشارعها (ومعهما الجيش الذي عاد من خلف الستار إلى حلبة السياسة) حازمة تجاه ما كانوا يسمونه بالأحلاف الاستعمارية...".

" في تلك الأيام، كانوا يتحدثون عن حلف بغداد الذي رَعَتْه الولايات المتحدة، وسعت إليه بريطانيا، ولم تحبِّذه إسرائيل (لأنه كان يرتكز إلى العراق، بينما كانت هي تطمح لأن تكون الركيزة الأولى للغرب في المنطقة)، وعارضته روسيا، كما عارضه أيضاً غلاة الوطنية في بلادنا...".

ومنطقُهم كان يردد أن سورية، في حينه، كانت محاصرة... وأن التآمر الاستعماري الغربي عليها على أشده... مما تطلب تجنيد "إرادة الشعب"، عبر المظاهرات، للوقوف في وجه ذلك التآمر الاستعماري وإفشال مخططاته. ولكن...

"التساؤل الذي يبقى هو: من قال إن ما افترضوا تجنيده في تلك الأيام كان يعبِّر فعلاً عن إرادة الشعب؟!"

"خاصة وأن تلك الإرادة كانت تبدو، من خلال تركيبة المجلس النيابي آنذاك، أقل تطرفاً مما كانوا يدَّعون. فالمجلس النيابي هو الذي يفترض أن يمثِّل الإرادة الشعبية في الدولة الديموقراطية، وليس الغوغاء، ولا مظاهراتها...".

"ثم لنفترض نظرياً أن تلك كانت فعلاً إرادة الشعب في حينه. إن أول ما تعنيه الديموقراطية، من خلال مؤسَّساتها، هو حق الأقلية في التعبير عن رأيها الذي كان يفترض أن يُحترَم ويصان؛ كما يفترض أن يُحترَم ويصان، من خلال الديموقراطية، حقُّ الأكثرية في الحكم وتسيير شؤون البلاد وفق برنامجها الذي انتُخِبت على أساسه...".

والأكثرية في بلادنا – ونقصد بها تلك الحشود الصامتة التي بدأ التطاول على حقوقها منذ الانقلاب الأول – كانت دائماً أقل تطرفاً من الغوغاء وأحزابها ومن العسكر، وأكثر اعتدالاً تجاه ما كانوا يسمونه بالمؤامرات الاستعمارية التي نعيد اليوم التساؤل حول حقيقتها ومداها.

كانت الصحافة ما تزال حرة (عموماً)؛ وكانت الحريات العامة ما تزال محترمة عموماً. كما كان ما يزال بوسع "معظم" الآراء أن يعبِّر مبدئياً عن نفسه وأن يتصارع على صفحات الجرائد وتحت قبة البرلمان الذي كان ما يزال، من حيث تركيبته، برلماناً حقيقياً، فيه نواب حقيقيون، يمثلون أحزاباً وتيارات حقيقية. كان اليسار وأحزابه شبه مسيطرين على "الشارع السياسي" – أو هكذا كانوا يتوهمون – لأنه...

"كانت هناك، في كل يوم تقريباً، بمناسبة وبلا مناسبة، مظاهرات من أنصار الأحزاب الراديكالية أمام المجلس النيابي للضغط على النواب. ولكن، رغم كل هذا، كانت الأجواء في البلد متسامحة وديموقراطية نسبياً...".

وشكَّل صبري العسلي (410) حكومته التي رفضت الانضمام إلى حلف بغداد وضمَّت وزيراً بعثياً كان السيد وهيب الغانم (411)؛ وكان خالد العظم (412) فيها وزيراً للخارجية وللدفاع الذي...

"كان العقيد عدنان المالكي (413) من أهم ضباطه نفوذاً. فقد كان نظيف اليد وشجاعاً، على ما يقال؛ كما كان سُنِّياً من عائلة دمشقية محترمة. لكنه سرعان ما واجه مصرعه...".

حدث هذا في ربيع عام 1955 الذي كان عاماً حاسماً في حياتي. فقد كان عام تقدمي للشهادة الابتدائية التي جعلتني أقضي السنة الدراسية منهمكاً في التحصيل بمساعدة عمِّي جورج (414). فقد كان عليَّ أن أحفظ برنامجين، كما كان عليَّ أن أتقدم بشهادتين (الفرنسية والسورية). وكانت هذه السنة الدراسية أيضاً هي آخر سنة لي في مدرسة الفرير المريميين...  

السنة الأخيرة في مدرسة الأخوة المريميين

كانت هذه السنة صاخبة، حيث كثرت فيها التظاهرات التي غالباً ما كانت تطرق باب مدرستنا وتجبر الرهبان على إخراجنا (حدث ذلك عدة مرات خلال العام). ولكن أهمها كان ذلك اليوم الذي عمَّت فيه دمشق مظاهرات صاخبة، واعتدى أحد المتظاهرين بالضرب على الراهب برناردوس (415) من مدرستنا لأنه تجرأ وناقشه معترضاً على إخراج الطلاب من المدرسة – وجميعهم أطفال في المرحلة الابتدائية...

كان ذلك غداة 22 نيسان 1955، يوم تمَّ اغتيال العقيد المالكي (416) على يد الرقيب يوسف عبد الرحيم (417)، الذي كان من الحزب السوري القومي الاجتماعي، و...

جرت محاكمات واعتقالات واسعة للقوميين السوريين ولأنصارهم، وسادت أجواء متوترة، استغلَّتها الأحزاب الراديكالية الأخرى وبعض الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة لتدعيم مواقعها على حساب معارضيها...

وكان خالد العظم (418)، في حينه، من أهم شخصيات البلد؛ فرشح نفسه في آب 1955، معتمداً على نفوذه وعلى تحالفاته، لانتخابات رئاسة الجمهورية التي كان يجريها البرلمان. لكنه سقط في هذه الانتخابات التي فاز فيها شكري القوتلي (419) برئاسة الجمهورية...

وكان بكداش (420) الشيوعي، الذي دعم العظم (421) في ترشيحه أيضاً، في حينه، من أبرز وجوه البلد، وكان الكثيرون يرهبونه...

"ما عدا عمك رزق الله (422) الذي لم يكن يتعامل معه بجد، إنما بطرافة...".

"كان عمك يرسل إلى أبي – والحديث هنا لعمار (423) بن خالد بكداش – عن طريق الآذِن في القاعة قصاصات ورق تتضمن نكاتاً غير لائقة من أجل إضحاكه. وكان أبي يتقبل هذه النكات بروح طيبة...".

"لأن عمك رزق الله (424)، الذي لم يكن يقبض لا اليسار ولا الشيوعيين، كان يجد بكداش (425) المقتنع بنفسه طريفاً...".

ثم كُلِّف سعيد الغزي (426) برئاسة الوزارة التي جاءت أقرب إلى "حزب الشعب". وكان رزق الله (427) أنطاكي فيها وزيراً للمالية، ثم أصبح وزيراً للاقتصاد...

"كانت تلك الأيام بالنسبة لعائلة رزوق، ولجدك خاصة، أيام عز. أما نحن فلم يلحقنا شيء على الإطلاق من ذلك العز." فقد...

"كان أخي رزق الله (428) حريصاً جداً، كنائب وكوزير، على ألا يتَّهمه أحد بتنفيع أقربائه؛ وكان محقاً في هذا. ولم نكن نحن على استعداد لإحراجه. ففي تلك الأيام كانت ما تزال هناك مبادئ وقيم...".

"وكان رزوق هو المتكفِّل، في حينه، بالمصروف الشخصي لوالده الذي كان ما زال مصاحباً لبهيجة التي..."

"كان من روَّاد منزلها. ولكن هذه الأخيرة ما كانت لتعتمد فقط على جدك، حيث قامت في تلك الأيام بتحويل ذلك المنزل إلى "بانسيون" تؤجر فيه غرفاً للطلاب ولغير الطلاب. وقد أمَّن لها جدك أحد أهم زبائنها: ابن عمنا كميل (429) الذي تحوَّل مركز عمله إلى دمشق. وقد عَلِقَ كميل بابنة بهيجة التي أضحت عشيقته، وطلَّق زوجته من أجلها!"

-       كميل هو الشقيق الأصغر لجودت (430) الذي تخرج مهندساً من الجامعة اليسوعية في بيروت.

-       ولكن ماذا عن نعيم (431) وعن عائلته؟

"كان نعيم (432) قد قاطع السياسة منذ بدايات الاستقلال وانشقاق الكتلة الوطنية، وانصرف إلى عمله كمحامٍ لامع لعدة شركات، كانت من أهمِّها "شركة نفط العراق" I.P.C.. وكان يسكن مع عائلته (أي زوجته لويزيت (433) وابنه نبيل (434) وابنته سامية (435)) في الطابق الثاني من تلك البناية الجميلة التي بناها في حي أبو رمانة (وأضحت اليوم بناء وزارة النقل). أما والده تيودوري ووالدته فكانوا يسكنون في نفس البناء، ولكن في الطابق الأول. وغالباً ما كنا نزورهم. وغالباً أيضاً ما كانوا يأتون عندنا ليردوا الزيارة...".

"في تلك السنة استقال والدك (436) من عمله لدى البريد والبرق والهاتف، إذ وجد وظيفة أفضل – تلك التي بقي فيها حتى تقاعده – لدى "مصرف سورية ولبنان" الذي كان مديره آنذاك هو السيد بيير المقنِّص (437). وكان ابن عمنا نعيم (438) هو الذي ساعد أريس على إيجاد هذه الوظيفة...".

كذلك ترك عمي جورج وظيفته في الميرة وبات يعمل مع (صديق عائلتنا) زياد الأتاسي في إحدى وكالات السيارات (سكانيا وب.م.ف. اللتين كان لهما وكيل واحد). وأيضاً...

كان من بين أصدقائي في تلك الأيام أبناء تاجر الأثريات المعروف جورج نعسان (439) أقرباء آل مقنِّص (440) من جهة الأم. وكان سليم وسمير نعسان (441) يرسلون إليَّ في كل يوم عطلة سيارتهم الكاديلاك لإحضاري إلى منزلهم الذي كان واقعاً في حي أبو رمانة لنلعب معاً. وكنت أيضاً ألعب خلال هذا العام في الحارة خارج المدرسة مع أبناء وبنات الجيران. أما في المدرسة فقد كان أصدقائي في ذلك الحين هم كميل (442) وكارلو (443) وأنطون (444). وكنت أحب كميل للطفه ولجدِّيته، واستمتع باللعب مع قريبنا "الإيطالي" كارلو، وخاصة مع أنطون الشجاع، لكن المهووس في تعصُّبه لمسيحيَّته...

"وفي 13 كانون الثاني 1956 رُزِقنا طفلة مباركة أسميناها ريما (444)..."  

أنا وإكرام وسمير وريما التي تحتضنها هنا في الصورة الخادمة.

التي ولدت أيضاً في مشفى الدكتور نخمن (445) والتي كانت ولادتها ليلاً؛ وقد غاب عنها والدي (446) الذي كان في سهرة خارج المنزل...

"لما لم أتمكن من الاتصال بوالدك (447)، رافقتني جارتنا ماري الحلياني (448) إلى المشفى، حيث تمَّت ولادتي بريما (449)...".

وقد تركتْ هذه الواقعة بعض الأثر النفسي السلبي لدى والدتي التي كانت تستذكرها في كل مرة تختصم فيها مع أبي...

"ثم خُطِبَت أختي إفيو (450) (تصغير إفدوكيا) إلى مهاجر سوري–أمريكي آخر يدعى توفيق عفيش (451)، وجاءت (كخالتي ثريا (452) قبلها) إلى عندنا لتتجهز. ثم سافرت مع خطيبها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتزوج هناك...".

"وكانت في تلك السنة بدايات تعقيد من الحكومة الأمريكية فيما يتعلق بمنح تأشيرات دخول للسوريين المسافرين إلى الولايات المتحدة. وقد واجهت إفيو بعض المصاعب للحصول على تأشيرتها؛ وما كان بوسعها أن تسافر مباشرة مع "خطيبها" لو لم يساعدها والدك (453) ويؤمِّن لها التأشيرة...".

-       والدي؟!

-       نعم والدك (454). كان، في حينه، من أفضل لاعبي البريدج في البلد. وكانت تقام آنذاك مباريات ودِّية في هذه اللعبة في نادي الشرق، وكان والدك يشارك بها. وهناك التقى ببعض موظفي السفارة الأمريكية الذين أضحوا، من خلال البريدج، من أصدقائه.

"وانقطعت بالنسبة لوالدك (455) تلك "الصداقات الإمبريالية" نتيجة تصاعد الأجواء المعادية لأمريكا في البلد...".

"لم أكن أريد وجع رأس يا بابا. فقد أضحى كلُّ من يتحدث إلى أجنبي، وخاصة من أولئك العاملين في السفارات الغربية، موضع شبهة واتهام. وأنت تعلم كم من السهل توجيه الاتهامات في بلدنا...".

وسادت أجواء سياسية متوترة في المنطقة. جرى التوقيع على معاهدة دفاعية بين سورية ومصر والسعودية. ووقع هجوم إسرائيلي على المواقع السورية في منطقة بحيرة طبريا. ثم "أسبوع التسلح" الذي استجاب فيه الناس عموماً لطلب الحكومة بالتبرع لتسليح الجيش. حتى أُبرِمَت صفقة الأسلحة بين مصر وتشيكوسلوفاكيا، وبدأ تدفق السلاح السوفييتي على سورية...

وكان الجميع يتحدث عن "تحرير فلسطين" من الصهاينة الذين أقاموا على أرضها "دولة إسرائيل المزعومة"، التي لم تكن أية حكومة سورية أو عربية تتجرأ على مجرَّد التفكير بأية تسوية معها – تلك التسوية التي كانت الولايات المتحدة من أنشط دعاتها – والتي لم تكن إسرائيل الطامحة إلى المزيد من التوسع تحبِّذها في حينه. ولكن، بحكم كون سياسييها أكثر حنكة من سياسيينا، لم تكن إسرائيل ترفض التسوية علناً؛ إنما كانت تكتفي بالتستر وراء الرفض العربي...

وبقيت وزارة الغزي (456) حتى شهر حزيران 1956. ثم استقالت نتيجة " قضية بيع الحبوب إلى فرنسا" وما نجم عنها من تظاهرات صاخبة هاجم المتظاهرون فيها مبنى وزارة الاقتصاد...

"اقتحموا يومها مكتب رزوق (457) الذي كان خارج الوزارة. فعمُّك كان الوزير الذي أبرم تلك الصفقة مع فرنسا. وفرنسا كانت، في حينه، على "لائحتنا السوداء" بسبب حربها في الجزائر وصداقتها الحميمة مع إسرائيل...".

وعاد العسلي (458) ليشكل الوزارة الجديدة التي أريد لها أن تكون وزارة وحدة وطنية. وقد ضمَّت وزيرين بعثيين هذه المرة، هما السيدان صلاح البيطار (459) (زميل عفلق (460)) وخليل الكلاس (461) (من جماعة أكرم الحوراني (462)). ولكن...

"كان الصراع بين القوى السياسية على أشده. وكان دور سفير مصر لدى سورية محمود رياض (463) يزداد أهمية، إلى حدِّ أن بعضهم بات يسميه تندراً "المفوض السامي". وبدأ البعثيون يدعون إلى الوحدة مع مصر. وكانت دعوة متأخرة جداً من الرئيس القوتلي (464) لـ"ميثاق وطني" يلتزم به جميع العاملين في الحقل السياسي...".

"كان النفوذ الروسي يتزايد في تلك الأيام. ولكن الدوائر الغربية أخذت تبالغ في تصويره؛ فهوَّلت من صفقات السلاح مع روسيا، وضخَّمت تصوير نفوذ الشيوعية المحلِّية...".

واستقال رئيس الأركان الزعيم شوكت شقير (465) (الذي كان درزياً من أصل لبناني)، وحلَّ محله توفيق نظام الدين (466) (الذي كان كردياً سُنِّياً من القامشلي). وبدأ الحديث يتزايد عن النجم العسكري الصاعد، رئيس "المكتب الثاني"، عبد الحميد السراج (467)...

في نهاية هذا العام الدراسي نجحت في صفي، وحصلت على شهادتي الدراسة الابتدائية السورية والفرنسية، وانقطعت علاقتي بمدرسة الفرير المريميين التي فضَّل القائمون عليها إبقائها مدرسة ابتدائية...

وأتذكر لقائي الأخير في هذه المدرسة مع الراهب فيانيه (468) الذي كنت أكره. كان ذلك حين جئت مع والدي (469) لأتبلَّغ نتيجة نجاحي في الشهادة الابتدائية الفرنسية من مكتب الأخ إيزيدور (470) (مدير المدرسة). والتقت نظراتُنا حين كان إيزيدور يقول لأبي إن أكرم (471) هو من أفضل الطلاب الذين رآهم خلال حياته المهنية الطويلة. فنظرت إلى فيانيه متحدِّياً، ضاحكاً وفرحاً بنجاحي. وأشاح بناظره عني، وكأن نجاحي كان يمسُّه، أو كأن شيئاً في ضميره كان يؤنِّبه قائلاً إن هذا الطالب كان من أعاره أقل الاهتمام خلال مسارنا المشترك...

وتأكدت من خلال عقلٍ كان ما يزال بريئاً أن شعوري تجاهه كان مبرَّراً بعض الشيء... ولكني...

أعترف اليوم أن هذا الشعور كان مبالغاً فيه، حيث لم أكن أدرك آنذاك أن "رجال الدين" هم مثلنا تماماً: مجرد بشر...  

أنا وشقيقي سمير

"ثم ذهبنا في هذا العام لقضاء الصيف في لبنان مع عائلة أختي أوديت... ولكن كانت صيفيتنا هذه المرة في عاليه...".

***

 

الفصل الثاث: طفولة وسياسة... - ب:مدرسة الآباء العازريين1 الفصل الثاني: أقاصيص الأهل - ب:ابن الأمير أو ابن الفقير
 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود