|
ب
ابن
الأمير أو... ابن الفقير...
طائر
الليل: ليس من الممكن عرض كل شيء. كما أنه
ليس من الممكن، بعد مضي تلك السنين الطوال،
تذكُّر كل شيء. ثم إنه لا يجوز، فيما يتعلق
بالآخرين، تجاوز حدود معينة قد يُلحِق
تجاوزُها إساءة أو أذى. فهذا ليس من حقِّك،
ولا من حق أحد... ولكن... المقصود
هنا شيء آخر... شيء كان بعضه (وما زال، أصعب ما
في الأمر، و)يقول إنه... في
عام 1950 تمَّ تسجيلي المبكر في صف الحضانة في
مدرسة الفرانسيسكان التي كانت تقع قرب منزلنا، والتي كانت توصلني إليها و/أو تعيدني
منها عموماً "أم حنا"، التي كانت امرأة
مسيحية عجوز من "وادي النصارى"، عملت
لدينا آنذاك خادمة... "بقيت
أم حنا بضع أعوام في خدمتنا؛ ثم تركتنا
بعد ذلك لتسكن مع ابنها الذي كان جدك قد ساعد
على توظيفه...". "لأنها،
وقد تحسنت أحوالها المادية، لم تعد تتعرف
إلينا. هذا حال الدنيا، مع الأسف: أن يتنكَّر
الفقير، حين يصبح غنياً، لمن ساعده في أيام
عوزه...". "كنت
أرسلك كل يوم إلى المدرسة، وقد ألبستُك أجمل
الثياب، وكأنك ابن أمير. وكان مظهرك الجميل
يتناقض مع مظهر أولاد [...] "المشرشح". فـ
[...] لم تكن تعتني بأطفالها كما كنت أعتني أنا
بكم، إلى حدِّ أن الراهبة سألتني ذات يوم وهي
تشير إلى أولاد [...]: "هل والدهم فقير الحال؟"!" وتستعيد
ذاكرتي من أيام تلك المدرسة الأولى الملامح
المشوَّشة لبعض مَن أشرف على رعايتنا من
الراهبات، كالأخت العجوز كارلا (251)، ذات الوجه
البشوش، التي كان يحبُّها الجميع، والأخت آني
كارمن (252)، العصبية ذات القلب الطيب
معاً... وأتذكَّر
كيف تعرفت لأول مرة على ذلك الفارق (العظيم!)
بين الأرثوذكس والكاثوليك. كان ذلك حين رفض
أهلي السماح لي بالاشتراك مع رفاقي بـ"المناولة
الأولى"، بحجَّة أننا أرثوذكس وأن هذا لا
يخصُّنا. فبقيت أتأمل بحسرة، وحيداً ومنعزلاً، تلك الطقوس الجميلة التي أتذكر أنه
شارك بها ابن عمي كريم (253) (الذي كانت والدته
كاثوليكية) وأصدقائي الكاثوليك، بينما
أبعدني أهلي عنها لأني "أرثوذكس"! ثم
اكتشفت، من بعدُ، فارقاً آخر؛ حيث كان الكهنة
الأرثوذكس يطوِّلون شعورهم، بينما كان مظهر
الكهنة الكاثوليك من هذه الناحية أكثر حداثة. "في
تلك الأيام كنا كثيراً ما نزور بيت عمك رزق
الله. فقد كان ابن عمك كريم (254) من أصدقائك
المقرَّبين...". ولدى
إحدى زياراتي لبيت عمي، تعرَّفت على ابن
جيران لهم من سنِّنا، وأضحى من بعدُ أحد أعز
أصدقائي ولم يزل. كان اسمه [ش. ك.] (255) و... "كانت
أمه تدعى ماري (256)، وكانت تعمل خياطة وتؤجِّر بعض
غرف منزلها للطلاب. فقد كانت متواضعة الحال،
لكنها كانت إنسانة عظيمة. وقد قامت منفردةً
بتربية ابنها. فوالد [...]، كما يقولون، كان
عسكرياً فرنسياً، هجرها مع الاستقلال حين عاد
إلى بلاده...". أما
"في
23 أيار 1950 [فقد]
رُزِقنا
طفلاً مباركاً أسميناه سمير (257)
، وهبه الله طول
العمر والتوفيق...". كانت
ولادته أيضاً في مشفى الدكتور نخمن (258). ولكن
سميراً (259) كان ضعيف
البنية، عليلاً منذ الصغر.
وسرعان ما أضحى مبعث قلق وعذاب دائم للأسرة
عموماً، ولوالدتي خاصة... "شيئاً فشيئاً بدأتُ أتأكد أنه كان متخلِّفاً من الناحية العقلية. كما كان مريضاً دائماً، وكان طبيب العائلة في حينه، الدكتور جميل سالم (260)، مداوماً في منزلنا...". "ترك
والدك "الميرة" بعد أن تشاجر مع زميل
له
عرض عليه تقاسم الرشوة. إنه [...]، وهو الآن غني
ويعيش أفضل عيشة. بينما، كما ترى، بقي والدك
الذي رفض الرشوة طوال حياته مستور الحال. آه،
يا ماما، طول عمري كنت أحلم بأن نكون أغنياء
مثل عائلة عمك!" وأتذكر
كيف كنت أشعر بالنقص أمام الآخرين نتيجة ضيق
حالنا المادية – ذلك الشعور الذي حاولتُ
جاهداً تجاوزه من خلال تفوُّقي الدراسي... "يومها
جاءت خالتك أوديت (261) من بيروت لزيارتنا. وكان من
أسباب زيارتها لنا استقبال أقارب لزوجها
جاءوا من أمريكا لزيارة الوطن. فذهبنا جميعاً، أقصد خالتك وزوجها وابنها نبيل (262) وأنا
وأنت ووالدك إلى المطار، الذي كان واقعاً في
آخر المزة، لاستقبالهم. وكانت تلك هي المرة
الأولى، يا ماما، التي رأينا فيها أنا وأنت
ووالدك طائرة عن قرب. وكنت أنت منفعلاً جداً
بما رأيت. لذلك، حين عدنا إلى المنزل وحدنا،
بعد أن سافرت خالتك أوديت (263) مع زوجها وأقربائه
إلى حمص، بدأت تحكي لجدك بانفعال ما شاهدت...
الطائرة، وكيف هبطت، وكيف نزل منها الركاب،
إلخ. وكان جدك في حينه يتأملك صامتاً مستمعاً،
قبل أن يعلِّق قائلاً: "إذن هكذا! لقد شاهد
هذا "الفستوك" الطيارة عن قرب، وأنا لا
أعرف، حتى هذه الساعة، كيف هي!" وفي
الصباح الباكر لليوم التالي، غادر لطف الله (264) المنزل
دون أن يقول لنا إلى أين هو ذاهب. ثم، حين عاد
ظهراً، وجلسنا إلى مائدة الطعام، أخذك في
أحضانه وقبَّلك، وقال لك ضاحكاً، دون أن يأبه
لنا: -
لقد
استأجرت اليوم عربة يا أكرم (265) وذهبت بها إلى
المطار، وتأمَّلت مثلك الطائرة وهي تهبط. حقاً إنها جميلة! "ولم
يمضِ شهر على تلك الواقعة إلا وكان جدك يقبل
دعوة وُجِّهَت إليه لزيارة أقارب لنا في مصر.
فاستقل الطائرة وذهب إلى هناك، حيث بقي شهراً
كاملاً. فكان أول من ركب الطائرة في عائلتنا...". وكان
انقلاب الشيشكلي (266) الأول (عام 1950) الذي أزاح به
الحنَّاوي (267)
، وأبعد حزب الشعب عن الحكم؛
فالثاني (عام 1951) الذي أزاح به الجميع وانفرد
بالحكم... "في
كلِّ مرة كان يقع فيها انقلاب، كانوا يعلنون
منعاً للتجول. فنبقى جميعنا في المنزل. ويجتمع
والدك (268) وعمك جورج
(269) وجدك
(270) حول الراديو ليستمعوا
إلى البيانات، وما كان يذاع حول الانقلاب...". "كان
يكفي بضعة عساكر وبضع مصفحات أو دبابات
ليحتلُّوا مبنى الإذاعة، الذي كان واقعاً ما
بين محطة القطار في الحجاز وسوق الحميدية،
فينجح الانقلاب...". "مع
كلِّ انقلاب، كان يتثبت دور الجيش في قيادة
شؤون البلد. وكان دور المدنيين يتقلَّص و...". ثم
انتقلت عائلتنا في مطلع عام 1951 من منزلنا
الواقع في شارع العابد إلى منزل مستأجر آخر،
أحدث وأكبر، يقع في حي عين الكرش... "وركَّبنا هاتفاً آلياً في منزلنا، كان رقمه 18123 على ما أذكر (؟)، واشترينا بالتقسيط برَّاداً كهربائياً ماركة فريجيدير، وغسَّالة كهربائية ماركة هوفر...". وأصبحنا
(أنا (271) وشقيقتي إكرام
(272)) نذهب إلى المدرسة (الفرانسيسكان)
بالعربة (الحنطور) مع طفلتين صغيرتين جميلتين
جداً من بنات الجيران تدعيان بتول وكوثر (273) (الملاطي؟).
وأصبح لنا في منزلنا الجديد جيران جدد؛ أذكر
منهم بعض الأسر الفلسطينية المسيحية
المتوسطة الحال، مثل آل فنان (274)، وبناتهم
الجميلات (سيلفي ودولِّي وجلوريا ويولاند
وآني)، وآل جدع (275) وآل حداد
(276). -
كنتُ
معجباً بيولا (277)، أليس كذلك؟ -
ربما... وكان
من بين جيراننا في المنزل الجديد فتى خجول
مهذب، أشقر ونحيل، اسمه فاروق... (278) أضحى، منذ ذلك
الحين، من أعزِّ أصدقائي، ولم يزل... "صديقك
فاروق (279) هو ابن فؤاد ...
(280) الذي كان ذات يوم
ضابطاً في الجيش السوري، قبل أن يصير – لسوء
حظه – شهيراً عبر قصة سفينة الأسلحة المشتراة
خلال حرب 1948 من أوروبا لصالح الجيش، وسرقها
منه الصهاينة. فكانت فضيحة سياسية استغلَّتها
الأحزاب الراديكالية لتلك الأيام (كالعادة،
بشكل رخيص) في دعايتها غير المسؤولة؛ فأحيل
إلى المحكمة التي برَّأت ساحته، رغم تسريحه
من الجيش...". "لقد
كان صديقنا فؤاد (281) تعس الحظ، لكنه لم يكن مذنباً
(كما كان يؤكد والدي)؛ إنما كانت تنقصه الحنكة
والخبرة، كجميعنا في تلك الأيام. فلو كان
مذنباً فعلاً لما عاد إلى وطنه، ولما سلَّم
نفسه؛ ولو كان مذنباً لهرب بماله واختفى في
ديار الله الواسعة؛ ولكنه لم يفعل، إنما عاد
وواجه الموقف، متحمِّلاً مسئوليته بكل
شجاعة؛ ولو كان مذنباً لما برأت المحكمة
ساحته، رغم ما حاق بالقضية في تلك الأيام من
تهويش. على كل حال، كان فؤاد ... (282) إنساناً في
منتهى الطيبة، ومن أصدقائنا الذين نعتز بهم...". وكان
فاروق (283) أول من أهداني في عيد ميلادي السابع
كتاباً ثميناً، هو المنجد في اللغة
العربية الذي ما زلت أحتفظ به إلى اليوم. فقد
كان مولعاً بالمطالعة منذ الصغر؛ وحبُّه
للمطالعة كان من العوامل التي دفعتني منذ تلك
الأيام إلى حبِّي اللاحق لها. كان الجميع في عائلتنا محباً المطالعة. كان جدي (284) يتابع بانتظام سلسلة "الهلال" المصرية، ومن خلالها، مغامرات باردليان وقصص جرجي زيدان. وكان والدي (285) وعمي جورج (286) من عشاق قراءة القصص البوليسية وكلاسيكيات الأدب الفرنسي والعالمي. أما والدتي (287) فكانت تفضِّل كتب جدي وتتابع معه دائماً، بتلهف، ما كان يقرأ من قصص. كما كانت صحف النصر والمضحك–المبكي موجودة دائماً في منزلنا، وكان الجميع يقرؤونها. أما أنا، فكنت أقرأ المجلات والكتب المصوَّرة الفرنسية التي كان يشتريها لي والدي وعمي جورج، إضافة إلى مجلة سندباد المصرية... "في
صيف عام 1951 ذهبنا لنقضي العطلة في قرية يبرود
الواقعة في القلمون. استأجرنا هناك منزلاً
كبيراً، لكنه مفتقد لأي من الكماليات (وقد
كانت الكهرباء والماء الجاري في القرى من
الكماليات في حينه)؛ فكانوا يملئون لنا ماء
الشرب في الجرار، وماء الاستعمال في حوض كان
يقع في حديقة المنزل. وكانت صيفية جميلة، حيث
جاء الكثير من الأقارب لزيارتنا. وكان من
بينهم من حلب ابن عم والدك وليم (288). وكان والدك
ووليم يستأجرون البيسيكليت [الدراجة]
ويأخذونك أنت وإكرام معهم في رحلات طويلة حول
القرية. وكان يوجد في يبرود تلك الأيام بحيرة
ومقصف كنَّا دائماً نذهب إليه؛ فيستأجر والدك
الزورق ويقودنا في نزهة قصيرة حولها. لكنك
قطعاً لا تتذكر كلَّ هذا...". -
ما
زلت أتذكر بعضاً من هذا يا ماما... ولكن... الشيء
الذي ما زلت أتذكره من يبرود، ولم أخبر به أحد
إلى الآن، كان مشهداً ما زال يؤرقني إلى اليوم...
مشهد نحر جمل. كان ذلك صباح يوم جمعة، حين
أخذني بابا معه إلى سوق البلدة للتبضُّع.
فرأيت ما رأيت ودُمِغَ في ذاكرتي. كان مقيَّد
القوائم، ملقى على الأرض، معصوب العينين.
وكان الناس من سكان البلدة ملتفين حوله
للفرجة... ويالها من فرجة! وأتذكر كيف نحره ذاك
الجزار اللعين وهو يبسمل، وكيف نفر الدم،
وصرخ الجمل وانتفض، فكاد أن يقتل ذلك الجزار
اللعين. آه... ما زلت إلى اليوم أسمع تلك
الصرخة، وأرى ذاك المشهد المروِّع في أحلامي...
مما جعلني، إلى اليوم، لاعناً ورافضاً لتلك
الألوهة المحبة للدماء وللذبائح والتي لها
يبسملون. ثم
كان في عام 1952 انتقالي من مدرسة الفرانسيسكان
إلى مدرسة الفرير (الأخوة المريميين) التي
كانت قد أغلِقَت في دمشق قبل الاستقلال
بقليل، ثم عادت ففتحت أبوابها في منزل مستأجر
كان يقع مواجهاً لبناء "الكسم والقباني".
وكانت مدرسة الفرير، التي انتقلت إليها
طالباً في الصف الثاني الابتدائي، تتألف من
صفَّين، هما صفنا والصف الأول فقط؛ وكان عدد
طلاب المدرسة آنذاك لا يتجاوز الثلاثين
طالباً.
كان
يديرها ثلاث رهبان هم: المدير إيزيدور (289)،
يساعده الأخ برناردوس (290) – وكلاهما من أصل
لبناني – والأخ فيانيه (291) البلجيكي الأصل،
إضافة إلى أستاذ اللغة العربية، الذي كان
سريانياً من الجزيرة السورية، يدعى جاك (292).
وكانوا شديدين في تربيتنا وفي تلقيننا مبادئ
العلوم والحساب والأخلاق والدين، وخاصة
اللغة الفرنسية، إلى جانب العربية. وكان
محظوراً علينا التحدث بالعربية في باحة
المدرسة. فقد كانت هناك قطعة خشبية مسطَّحة
تدعى الـsignal
أو
"العلامة"، تعطى لأحد الطلاب لا على
التعيين عند الصباح، ثم كان على هذا الطالب أن
ينقلها إلى من يراه لا يتكلم بالفرنسية،
وهكذا دواليك، حتى نهاية الدوام، حيث كان من
يبقى معه الـ
signal
يعاقَب
بحفظ قصيدة أو نصٍّ بالفرنسية! "وسجَّل
خالك ألبير (293) في كلية الحقوق في جامعة دمشق،
وبات يأتي لزيارتنا كل شهر، وخاصة خلال فترة
الامتحانات...". كان
ذلك خلال فترة حكم أديب الشيشكلي (294) الذي حصل في
عهده تضييق على الحريات السياسية، والذي جرى
في أواخر عهده اعتقال الكثير من السياسيين
المعارضين. "وخاصة
من بينهم، ويهمنا، عمك رزق الله (295)...". وكان
حزب الشعب عموماً معارضاً بشدة للشيشكلي (296)، ومن
خلال معارضته، كان معارضاً لتدخل الجيش
بالسياسة…". وكان
عمك (297) من وجوه "حزب الشعب" الذين اعتقلهم
الشيشكلي (298)...". في
حينه، كان الجيش قد استلم السلطة في مصر
ونصَّب محمد نجيب (299) رئيساً… وكان الجيش السوري
المستلم للسلطة مؤيداً للشيشكلي (300)؛ خاصة وأنه،
بحجة فلسطين وضرورات "استعادتها"، كان
حجمه يكبر، وعدده وعتاده يزداد، مترافقاً مع
ازدياد دوره السياسي و… كان من التقاليد أن
يقوموا بعرض عسكري في كل مناسبة وطنية... "...
في
أحد العروض العسكرية – وكان آخر عرض يجرى في
عهد الشيشكلي (301) – وقع حادث مؤلم، حيث فُقِدَتْ
السيطرة على دبابة من الدبابات المشاركة في
العرض، فخرجت عن مسارها وانحرفت باتجاه
الجمهور، فأوقعت العديد من الضحايا الأبرياء
قبل أن تهوي في بردى عند جسر فكتوريا – مما
زاد النقمة على الشيشكلي (302) وعلى الجيش من خلاله...". "...
في تلك الأيام كانت الأحزاب المعارضة
للشيشكلي (303) تحاربه عن طريق التظاهر...". "لم
يكن شعبنا خنوعاً في تلك الأيام. أتذكر، يا
بابا، أنه حصل إضراب للطلاب في جامعة دمشق،
وأن الشيشكلي (304) حاول إدخال الشرطة العسكرية إلى
الحرم الجامعي لقمعه؛ ولكنه لم ينجح بعد أن
رفض رئيس الجامعة، الذي كان في حينه قسطنطين
زريق (305)، تنفيذ الأوامر، فمنع الشرطة العسكرية
من الدخول. ثم، عندما تطاول الشيشكلي (306) عليه
بكلام مهين، تقدَّم باستقالته، وكانت فضيحة
للدكتاتور مجلجلة...". ثم
كان في مطلع العام الدراسي 1954-1955 انتقالُ موقع
مدرسة الفرير – وكنت في حينه في الصف الرابع
الابتدائي – إلى بناء مستأجَر آخر كان يقع في
الجسر الأبيض. وبات الباص يقلُّنا من أماكن
سكننا إلى المدرسة صباحاً، ويعيدنا إليها
مساءً... كنت
طالباً مجداً في حينه؛ ولكني، رغم هذا، لم أكن
أحب مدرستي. كان هذا بسبب ذلك الراهب البلجيكي
فيانيه (307) الذي كان يدرِّسني خلال الفترة التي
قضيتها لدى مدرسة الفرير ماريست. كنت أكرهه،
وكان كرهي له، الذي كنت أحرص على إخفائه، يعود
إلى سلوكه "غير العادل" تجاهنا كطلاب
عموماً، وتجاهي كواحد من أبرز طلاب المدرسة (رغماً
عنه) خصوصاً. فطلاب "الدرجة الأولى"
كانوا بالنسبة له أولئك القلائل جداً من
الأوروبيين الذين كان يقدِّم لهم، على
حسابنا، كل مساعدة ممكنة... وأتذكر من بينهم
طفلاً فرنسياً لطيفاً لم أعد أتذكر اسمه.
وأتذكر من بينهم أيضاً، وخاصةً، قريبنا "الإيطالي"
كارلو (308) الذي كان فيانيه
(309)
غالباً ما يزوره في
منزله المجاور لمنزلنا في حي عين الكرش،
فيجلس عنده ساعات وهو يرتشف القهوة، متحدثاً
بالفرنسية إلى والديه... لكنه
لم يزرْ منزلي ولا مرة واحدة. وكانت سذاجتي
تجعلني أعتقد أني كنت أستحق، بحكم موقعي
المتفوق في الصف، أن أعامَل كهؤلاء الأجانب،
أو على الأقل كطلاب "الدرجة الثانية"
الذين كان أهاليهم من الأغنياء أو
المتنفِّذين. ولكن شعوري كان، مع الأسف، أنه
لم يكن يحبُّني – ولم أكن أعرف السبب –،
الأمر الذي جعلني أبادله نفس المشاعر... ولقد
تعمق "كرهي" له حين سمعته ذات يوم،
مصادفةً، يتحدث بالفرنسية إلى والدة كارلو (310)،
مقارناً بيني وبين ابنها قائلاً: -
إن
كارلو (311) أذكى منه بما لا يقاس. ولكن أكرم أكثر
كداً. إنه يكدُّ كالحمار. وهذا هو سبب تفوقه... كانا
يتحدثان بصوت خفيض، فلم يشعرا بي، لا حين دخلت
منزلهم، باحثاً عن صديقي (الذي كنت أحبُّه،
رغم أنه كان من أقل الطلاب تميزاً في صفنا)،
ولا حين خرجت منه هارباً نتيجة ما سمعته من
كلام... وبعقل
الطفل، فهمت في حينه أن من الممكن أن لا يكون
بعض رجال الدين قديسين... كنت
خجولاً جداً في طفولتي. كنت أقرب من حيث الطبع
إلى عمي جورج (312) – رحمه الله – في خوفه من مواجهة
الآخرين، ومواجهة نفسه من خلالهم. ولكني
تجاوزت هذا نسبياً الآن. كما أني لم أكن
شجاعاً جداً في ذلك الحين، كما أبدو اليوم.
وأتوقف هنا قليلاً... وأستعيد،
بالمناسبة، أنه كان من بين رفاقي في المدرسة
في تلك الأيام شخص يدعى [...] انقطعت عنه منذ
تجاوزت المرحلة الابتدائية. كان طفلاً
مغروراً لكونه ابن أسرة غنية، كما كان قوي
البنية. وكنت أخافه، وأحاول دائماً تجنبه؛
وكان هو يشعر بذلك، فيستغل خوفي منه لإذلالي
كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولكن... حدث
ذات يوم أن صدمته عن غير قصد فأوقعته أرضاً.
والتقت نظراتنا لثوان فلمست الخوف في نظراته
إليَّ... ولم أفهم في حينه ما حلَّ بي؛ إذ انفجر
كل ما تراكم في نفسي تجاهه فجأة، وهجمت لأشبعه
ضرباً وركلاً، بينما هو يبكي ويصيح. ثم جاء
الرهبان وفرَّقوا بيننا، وعاقبوني لأني كنت
أنا المعتدي. فتحملت العقوبة سعيداً لأني كنت
قد تعلَّمت تجاوز غريزة الخوف لديَّ بفهم
غريزة الخوف عند الآخرين. لكني أعترف اليوم
أني كنت شديد القسوة في حينه مع هذا الفتى
المسكين... وكان
نظام مدرستي، كما سبق وأشرت، صارماً: صباحياً
ومسائياً. كانت هناك دروس ووظائف يومية. وكان
عمي جورج (313) يساعدني يومياً على حفظ الدروس
وكتابة الوظائف. فوالداي – جزاهما الله خيراً
– كانا قد ألقيا عليه أعباء تدريسي وتدريس
شقيقتي إكرام (314)، لينصرفا إلى حياتهما
الاجتماعية... وكنَّا
نقضي معظم الليل، أنا(315) وشقيقتي إكرام
(316)، ساهرين
لا ننام، بانتظار عودة الأهل؛ فنحاول إسكات
بكاء سمير (317) (الذي كان غالباً ما يستيقظ من نومه)،
و/أو نتسامر ونتشاجر، فيما بيننا ومع الخدامة
التي أتذكر أنها كانت من "جبال العلويين"،
وتدعى دعد. وكان عمي جورج (318) أول من يعود إلى
المنزل من سهرته، فيجلس معنا مداعباً
ومحدثاً؛ ثم يليه جدي (319)؛ فوالداي أخيراً...
وكان
واقع أخي سمير (320) مصدر ألم عميق لي ولجميع
العائلة. ولكن سميراً أضحى، لهذا السبب
تحديداً، محطَّ رعاية جدي لطف الله (321) وحنانه
اللامحدود... ذلك الذي ظلَّ يرفض، ما دام حياً،
أن تُجرى له عملية استئصال اللوزتين، خوفاً
من أن لا يتحمَّلها. كذلك كان عمي جورج (322) يتحمل
العبء الأعظم من رعايته... وكنتُ
في تلك الأيام شديد التعلُّق بعمي جورج (323) الذي
كان الراعي الأول لطفولتي؛ وبجدي (324)
الذي كان
يعاملني كحفيده المفضل... "وعاد
إميل (325) مهندساً من فرنسا في مطلع عام 1954. عاد
كرزق الله (326) عن طريق البحر حيث ذهبنا لاستقباله...". "...
عُيِّن إميل (327)، فور عودته إلى حمص من فرنسا،
مهندساً لدى البلدية. وكان أول ما فعله بعد
عودته أن انتسب، هو وألبير (328)، إلى "حزب
التحرير" الذي كان حزب الشيشكلي...". وحكم
الشيشكلي (329) كان قد بدأ يتهاوى... وأتذكر
ذلك اليوم – وكنت يومئذ طالباً في الصف
الثالث – حين أخرجونا من المدرسة أبكر من
المعتاد على غير العادة؛ فركبت الباص لأعود
إلى منزلي. ولكن سرعان ما وجدت نفسي، وأنا في
قلب الباص، الذي توقف وقد أحاط به المتظاهرون
من كلِّ جانب، يهتفون بسقوط الدكتاتور. وكان
بين المتظاهرين شاب من حارتنا يدعى أكرم... في
تلك الليلة أُعلِن منع التجول في دمشق. وقضيت
السهرة وسط أهلي الذين جمعتْهم الأحداث،
والجيران الذين جاءوا لزيارتنا، أستمع إلى
أحاديثهم الممتعة تدور حول ما كان يجري في
البلاد. وكيف جاءت عناصر من "المكتب الثاني"
– المخابرات العسكرية – قبل يومين إلى
منزلنا ليستفسروا عن عمي رزق الله (330) الذي كان قد
هرِّب وباقي زملائه النوابَ والسياسيين
المعتقلين من سجن المزة... وكانت
سهرة من أطرف السهرات بالنسبة لطفل بهرتْه
مجريات الأمور، فاستمع بكل حماس وهولا يفهم
شيئاً، وسجَّل في ذاكرته صوراً لا تُنسى. كان
عمي جورج (331) يردِّد، بكل حماس، أن الشيشكلي
(332) قد
انتهى. وكان أبي يسخر من خاليَّ في حمص (إميل (333)
وألبير (334)) اللذين انتسبا قبل أسبوع من هذا
التاريخ إلى حزب الشيشكلي (335) (حزب التحرير)،
فيردد مداعباً والدتي التي كانت تضحك من
أعماقها: "حقاً إن أخويكِ المبدئيين يفهمان
بالسياسة!" وكان الكلُّ فرحاً يتأمل خيراً
مما اعتُبِر، في حينه، عودة للديموقراطية إلى
البلاد. وأتذكَّر إلى اليوم ضحكاتهم التي
كانت تعلو، وهم يرددون قصة بائع المشمش
المسكين الذي اعتقلته المباحث في الصيف
الماضي، فأشبعته ضرباً لأنه كان ينادي على
بضاعته في السبع بحرات، قرب بيت الشيشكلي (336)،
صائحاً: "آخر أيامك يا حموي!" – وكان يقصد
حمولته من المشمش الحموي..." – وهولا يعلم
أن الشيشكلي (337) كان من مدينة حماه، وأنه كان يسكن
في هذا المكان... أما
جدي (338) الذي قضى تلك الفترة الماضية مشغولاً
ومنسِّقاً مع السيد توفيق الحبوباتي (339) (صاحب
نادي الشرق آنذاك) لإيصال الطعام الطازج إلى
السياسيين المعتقلين في سجن المزة، ومنهم
ابنه رزق الله (340)، فقد كان يتحدث عما رآه هناك في
السجن... "كانت
حالتهم ممتازة. كانوا مقضِّينها ضحك وتنكيت...
تصوروا أنهم وضعوا فيضي الأتاسي (341) في غرفة
واحدة مع أكرم الحوراني (342). مسكين فيضي الذي يحب
الضحك، ولا يستطيع البقاء دقيقة بلا حكي، وهو
في غرفة واحدة مع أكرم الحوراني الذي لا يتكلم
أبداً...". ويجيبه والدي لا بل قلْ: "...
مسكين أكرم الحوراني الذي كان عليه أن
يتحمَّل كلام فيضي الأتاسي...". وكانت
تلك هي بالنسبة لي ولعائلتي ليلة الإطاحة
بأديب الشيشكلي (343)... ذلك
الذي، حين سألت والدي عنه فيما بعد، وقد مضت
الأيام، أجابني: "إنه كان دكتاتوراً... هذا
لا شك فيه. ولكن ماضيه الوطني قبل أن يستولي
على السلطة كان مشرِّفاً. فقد كان من أبطال
حرب فلسطين. كما كان محباً لبلده ولجيشه، ولا
يريد لهما الضرر. تصور أنه كان بوسعه أن يقاوم
التمرُّد الذي قام ضده، لا بل أن يسحقه.
فغالبية الجيش كانت ما تزال معه في تلك الأيام.
ولكنه لم يفعل وفضَّل أن يستقيل عوضاً عن أن
يرى قطاعات الجيش وقد اصطدمت بعضها ببعض...". وحين
سألتُه عن تلك الأحداث التي وقعت في آخر أيامه
في جبل الدروز، تنهَّد وصمت قليلاً قبل أن
يجيبني: "لا تغرَّك المظاهر في بلادنا، ولا
الأحاديث عن الوحدة الوطنية. فالطائفية
متغلغلة في الأعماق، خاصة بين العوام، وفي
الأوساط الشعبية. وهي الخطر الرئيسي على وحدة
البلاد. تصوَّر أن الدروز لحقوا بالشيشكلي (344)
حتى البرازيل ليقتلوه ثأراً، وقد مضت عشرون
سنة على تلك الأحداث. فانتماء العامي ما زال
إلى اليوم، مع الأسف، لطائفته قبل أن يكون
للبلد أو للمبدأ. والشيشكلي كان تصرَّف في تلك
الأحداث كأي زعيم بلد سحق تمرداً كان يمكن أن
يهدِّد وحدة بلاده؛ ولكنهم لم يفهموها هكذا.
على كلِّ حال، كما يقولون، يا بابا، الله
ينجِّينا من الطائفية... الله ينجِّينا منها...". ***
|
|
|