|
كريشنامورتي لنفسه[1] من "اليوميات الأخيرة"
الأربعاء 30 آذار 1984
كان نزولُ الطريق المستقيم في أحد أصباح الربيع البديعة، والسماء كانت خارقة الزرقة؛ لم تكن فيها غيمة واحدة، وكانت الشمس دافئة وحسب، وليست حارقة. وهذا كان يبعث إحساسًا لطيفًا. أوراق الشجر كانت تلتمع وثمة تلألؤ في الجو. كان ذلك الصباح صباحًا خارق الجمال حقًّا. الجبل الشامخ كان هناك، منيعًا، والتلال في الأسفل خضراء ورشيقة. وبينما كنت تمشي والطريقَ في هدوء، من دون كثير فكر، رأيت ورقة ميتة، صفراء ذات حمرة لامعة، ورقة من الخريف. لكم كانت هذه الورقة جميلة، على غاية من البساطة في موتها، حية، ممتلئة بجمال الشجرة برمَّتها وحيويتها وبالصيف. كان غريبًا أنها لم تذبل. وحين نظر المرءُ إلى الورقة عن كثب، رأى عروقها وساقها وشكلها جميعًا. هذه الورقة كانت هي الشجرة كلها. لماذا يموت البشر تلك الميتة البائسة، التَّعِسة، من جراء المرض، أو الشيخوخة، أو الهرم، وقد انكمش جسمُهم، وهَزُل، وقَبُحَ؟ لماذا لا يمكن لهم أن يموتوا ميتة طبيعية في مثل روعة ميتة هذه الورقة؟ ما هو الخلل فينا؟ على الرغم من جميع الأطباء، والأدوية والمستشفيات، والعمليات، وكَرَب الحياة ككل، وعلى الرغم كذلك من الملذات كلِّها، لا نبدو قادرين على الموت ميتة كريمة، في بساطة، وابتسامةٌ على وجهنا. ذات مرة، بينما كان المرءُ يسير وأحدَ الدروب، سمع خلفه نشيدًا شجيًّا، موقَّعًا، تنبض فيه قوةُ السنسكريتية القديمة. توقف المرءُ ونظر حواليه. كان ابنٌ – الابن البكر – عاريًا حتى الخصر، ينقل إناءً من الفخار تتقد فيه نار. كان يحمل هذا الإناء في وعاء آخر، وخلفه رجلان ينقلان والده الميت، مغطًّى بكفن أبيض، وكان الجميع ينشدون. كان المرء يعرف هذا النشيد وكاد أن يصاحب الآخرين في إنشادهم. وهكذا مروا فتبعهم. نزلوا الطريق منشدين، وكانت عينا الابن البكر مغرورقتين بالدموع. كانوا ينقلون الوالد نحو الضفة حيث كانوا قد جمعوا كومًا كبيرًا من الحطب؛ وقد وضعوا الجثمان فوق هذا الكوم من الحطب وأشعلوا فيه النار. ذلك كله كان على غاية من الطبيعية، على جانب خارق من البساطة: لم تكن هناك زهور، ولا نعش، ولا سيارات سوداء تجرها جياد سود. كان ذلك كلُّه شديد الهدوء وممتلئًا بالكرامة إلى حدٍّ فائق. وكان المرء ينظر إلى هذه الورقة وإلى ألف من الأوراق الأخرى للشجرة. كان الشتاء قد فصل هذه الورقة عن غصنها المرضع ليرمي بها على هذه الدرب، وسرعان ما تيبس تمامًا وتذوي؛ وإذ تمضي، وتنقلها الرياح بعيدًا، فإنها تضيع. مثلما تعلِّمون الأطفال الرياضيات والكتابة والقراءة وطريقة اكتساب العلم كلَّها، ينبغي كذلك تعليمهم كرامة الموت العظيمة، ليس كشيء سقيم، تَعِس، لا بدَّ أن يواجهه المرءُ في آخر المطاف، ولكن كشيء من صميم الحياة اليومية – هذه الحياة اليومية التي تُرصَد فيها السماءُ الزرقاء والجرادةُ على ورقة شجر. فهذا جزء لا يتجزأ من التعليم، مثلما حين تنبت لكم أسنان وحين تعانون من أمراض الطفولة. يتصف الأطفال بفضول خارق. إذا كنت ترون طبيعة الموت، لن تشرحوا لهم بأن كلَّ شيء يموت، وبأن التراب يعود إلى التراب، إلخ، بل تشرحون لهم في لطف، من غير أدنى خوف، وتجعلونهم يشعرون بأن الحياة والموت هما الشيء الواحد ذاته – ليس عند نهاية أجَلِ أحدهم، بعد خمسين، ستين، أو تسعين سنة، بل بأن الموت مشابه لهذه الورقة. انظروا إلى هؤلاء الرجال المسنِّين والنساء المسنات، كم يبدو عليهم الهرم، كم يبدو عليهم الضياع والتعاسة والقبح. أهذا لأنهم لم يفهموا الحياة ولا الموت حقَّ فهمهما؟ لقد استخدموا الحياة، وهم يضيِّعون حياتهم في نزاع لا يتوقف، ليس من شأنه إلا أن يُعمِلَ الذات، الأنا، الأنيَّة، ويعزِّزها. إننا نصرف أيامنا في معمعة كهذه من النزاع والتعاسة، يتخلَّلهما شيءٌ من الفرح وشيءٌ من اللذة، شاربين الخمر، مدخنين، آوين إلى الفراش متأخرين، نعمل، نعمل، نعمل. وفي خاتمة حياته يواجه كلٌّ ذلك الشيء المسمَّى بالموت، فيرتعب منه. يظن بأنه يمكن له أن يفهمه دومًا، ويشعر به شعورًا عميقًا. الطفل، في فضوله، يمكن مساعدته على فهم أن الموت ليس فقط اجتياح المرض، أو الشيخوخة، أو حادث ما غير متوقَّع للجسم، بل بأن نهاية كلِّ يوم هي كذلك نهاية المرء نفسه كلَّ يوم. ليس هناك من قيامة – فهذا من قبيل الخرافة والتعصب العقائدي. كل شيء على الأرض – على هذه الأرض الجميلة – يحيا، يموت، ينوجد ويذبل، ثم يذوي. من أجل حدس حركة الحياة الكلِّية هذه، لا بدَّ من وجود فطنة: لا فطنة الفكر، أو الكتب، أو المعرفة، بل فطنة المحبة والرحمة، مع حساسيتها. ونحن مستيقنون جدًّا من أن المربي، إذا فهم المغزى من الموت وكرامته، بساطة الموت الخارقة – إذا فهم ذلك، ليس فكريًّا بل عمقيًّا – عندئذٍ يستطيع أن يُفهِم الطالب أو الطفل بأن الموت – هذه النهاية – يجب عدم تجنبه، ليس شيئًا مثيرًا للفزع لا محالة، وذلك لأنه جزء لا يتجزأ من حياتهما نفسها، بحيث إن الطالب أو الطفل، حين يكبران، لن يفزعا أبدًا من نهايتهما. لو أن جميع البشر الذين عاشوا قبلنا، أجيالاً بعد أجيال، مازالوا أحياء، لكم كان الأمر حينئذٍ رهيبًا! البداية ليست النهاية. والمرء يود أن يساعد – لا، فهذه الكلمة في غير محلِّها! – يود، في صدد التربية، أن يزجَّ بالموت في نوع ما من الواقعية، أو الراهنية، ليست راهنية محتضر آخر ما، بل راهنية كلٍّ منَّا، شيبًا وشبانًا على حدٍّ سواء، حين يضطر إلى مواجهة هذا الشيء حتمًا. الأمر ليس عبارة عن قضية دموع حزينة، وحدة، انفصال. فنحن نقتل في سهولة شديدة، ليس الحيوانات من أجل طعامنا، ولكن أيضًا بالمشاركة في هذه المجزرة العبثية الهائلة، في هذه المجزرة من أجل التسلية، المسماة رياضة – كقتل وعل لأنه موسم الصيد! إذا قتلت حيوانًا بريًّا فكأنك قتلت جارك. أنتم تقتلون الحيوانات لأنكم فقدتم الصلة مع الطبيعة، مع الأشياء الحية على هذه الأرض قاطبة. أنتم تقتلون في الحروب في سبيل كلِّ هذا العدد من الإيديولوجيات الخيالية والقومية والسياسية. وباسم الله قتلتم الناس. فالعنف والقتل يسيران يدًا بيد. بينما كان المرء ينظر إلى هذه الورقة الميتة، في جمالها ولونها كلِّه، لعلَّه كان يريد أن يفهم فهمًا عميقًا جدًّا، ويعي ماهية ما ينبغي عليه أن يكون موتُنا، ليس عند النهاية فقط، بل بدءًا من البداية. الموت ليس شيئًا مرعبًا، شيئًا ينبغي تجنبه، شيئًا يجب أن يؤجَّل إلى وقت لاحق، بل بالحري، شيء يجدر بالمرء أن يكونه يومًا بعد يوم. ومن ذلك ينبثق إحساسٌ خارق بالشساعة. *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس [1] من كتاب كريشنامورتي لنفسه: يومياته الأخيرة، 1987. |
|
|