|
بحثًا عن الحلِّ: آ – الكارما أو نظرة أولية إلى الجغرافيا السياسية والاجتماعية السورية
حين سنصل إلى زمن قطاف الكرز
. بصراحة... ليكن حديثنا منذ البداية، كالبساط الأحمدي، صريحًا وبلا مواربة. لأن أول تساؤل يواجهنا حين نفكِّر بحلٍّ و/أو بمخرجٍ من المأساة التي نعيش هو: ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟ فجميعنا يعرف جيدًا، أن لا شيء ينبع من فراغ. لا شيء يحدث على أرض الواقع، وليست له مسببات. وهذه المسببات، من منظور فلسفي، هي ما يدعوه الهندوس والبوذيون بالكارما[1]. وأيضًا، لأنه من دون صراحة وبلا وضوح، لن يكون بوسعنا معالجة مشاكلنا وأمراضنا وأخطائنا، كما لن يكون بوسعنا الخروج من النفق المظلم الذي نحن فيه. وهو نفق مظلم فعلاً، لنعترف بهذا، رغم صعوبة الاعتراف. ليس فقط لأن شعبنا يمرُّ اليوم بأصعب أيامه، إنما أيضًا لأن المستقبل المنظور أمامنا ما زال ضبابيًا إلى أقصى الحدود، وأيًا كانت الآفاق التي ستتمخض عنها الأوضاع الحالية. هو نفق مظلم حقيقةً، ليس فقط لأن من هم على رأس السلطة في بلدنا ما زالوا متشبثين بها رغم فشلهم الذريع في إدارة الأزمة الراهنة، ورغم كل الدمار الذي ألحقوه بالبلد. ما يعني أنه لا بدّ لنا من بذل المزيد من التضحيات كي نقنعهم بالتنحي. لا بل أيضًا وخاصةً، لأن في بلدنا المتنوع الطوائف والإثنيات، مشاكل بالقوة وقديمة، مشاكل لم نكن نتحدث عنها صراحةً فيما مضى، لا بل كنا نتجاهلها و/أو نتجنب التطرق إليها وحتى التفكير بها. لأن ما نعيشه اليوم ليس فقط، كما عبَّر الصديق حسَّان عبَّاس، في مقالته الرائعة[2]، مشكلة سوء إدارة لتنوعٍ قائم، إنما سببه أيضًا أننا لم نتمكن حتى الآن من بناء مشروع مواطنة حقيقي يحقق العيش المشترك بين مختلف مكونات شعبنا. وهذا الفشل يعني، في أحد أعمق جوانبه، وكما نتلمَّس اليوم، مشاكل طائفية وإثنية واجتماعية عميقة، الأمر الذي يدفعنا إلى المزيد من التعمُّق في هذا الموضوع الشائك والمتشعب. 2. في تعقيدات الفسيفساء الإثنية والطائفية السورية لأن الكلُّ يعرف أن في سورية إثنيات متعددة أهمها العرب الذين يشكلون ما بين الـ75% إلى 80% من سكان البلد، يليهم الأكراد الذين تتراوح نسبتهم ما بين الـ 10% إلى الـ15%. كما أن هناك سكان من إثنيات أخرى قديمة أو وافدة استقرت في البلد على مرِّ السنين، كالشركس والتركمان والآشوريون والأرمن،... إلخ، الذين يشكلون الـ5% المتبقية. والجميع يعرف أيضًا، أن في بلدنا مذاهب وأديان مختلفة. لأنه، وكما عبَّر محقًا الصديق حسَّان عبَّاس: إذا كانت منطقة شرق المتوسط غنية في أقلياتها القومية (فـ)لأنها، بالدرجة الأولى، منطقة استقطاب وعبور لأقوام جاءتها من محيطها الجغرافي، فهي غنية جدًا بالتنوع الديني لأنها المنطقة التي عرفت ولادة الديانات السماوية الثلاث، وعايشت تاريخ الصراعات والانقسامات والتغيرات التي عرفتها هذه الديانات. وقد ورثت سورية النصيب الأكبر من آثار ذلك التاريخ لأن أرضها كانت الحاضن الأكثر تأثرًا به، ولا تزال تلك التأثرات ماثلة حتى يومنا هذا سواء في مشيداتها المادية الثابتة أم في الحياة اليومية لمواطنيها. هذا ويشكل المنتمون إلى الإسلام السنِّي ما يقارب الـ75% من هذه المذاهب، يليهم أبناء الطائفة العلوية الذين تتراوح نسبتهم اليوم ما بين الـ12 إلى الـ15% من سكان البلد، فالمسيحيين، على اختلاف طوائفهم، الذين تبلغ نسبتهم اليوم ما بين الـ5 إلى الـ7% من السكان. كما ويوجد أيضًا، إلى جانب هؤلاء، طوائف أخرى كالدروز والاسماعيليين والشيعة الإثنى عشرية واليزيديين الذين يشكلون الباقي[3]. وهذا التنوع، بمقدار ما يمكن أن يعكس الغنى الثقافي الكبير للبلد، لو أتيح له أن يدار بشكل جيد وحكيم من قبل نظام حكم مدني وديمقراطي اجتماعي التوجه، سرعان ما يتحول إلى أرضيةِ خصبةِ للفتنة إن أسيء التعامل معه، كما هي حالنا اليوم. حيث، على سبيل المثال، ينظر قسم لا يستهان به من الأكراد بعين الريبة إلى أخوتهم من ذوي الأصول العربية، وخاصةً منهم أصحاب التوجهات القومية الراديكالية. لأن هؤلاء ساهموا، وتحديدًا منذ مجيء البعث إلى السلطة عام 1963، في حرمانهم من أبسط حقوقهم القومية والثقافية. أو كما هي حال قسم لا يستهان به من المسيحيين الذين يقفون اليوم موقفًا متحفظًا، إن لم نقل معاديًا، من الثورة، خوفًا من أصولية دينية إسلامية مفترضة يمكن أن تطال بعضًا من حقوقهم المدنية أو أن تمسَّ بعضًا من رخائهم الاجتماعي. وأيضًا وخاصةً، كما هي اليوم حال القسم الأكبر من الفقراء والمعدمين من أبناء الطائفة العلوية، الذين ما زالوا حتى الساعة معادين للحراك الشعبي لإخوتهم من الفقراء والمعدمين السنَّة، فيقفون إلى جانب النظام الجائر القائم انطلاقًا من نفس المخاوف التي ساهم هذا النظام في ترسيخها على مرِّ السنين، ثم في تأجيجها من خلال إدارته الفاشلة للأزمة الراهنة واعتماده على الحلِّ الأمني طريقًا وحيدًا للتعامل معها. تلك المخاوف الموجودة أصلاً في الخافية الجمعية لكلِّ تلك المجموعات. ما يعني أن في بلدنا العديد من المشاكل ذات الخلفية الإثنية و/أو الطائفية، مشاكل سنحاول تسليط المزيد من الأضواء عليها مبتدئين بـ... آ. المشكلة الكردية: لأنه إذا كان صحيحًا القول بأن المجتمع الكردي السوري، كمكون أساسي من مكونات البلد، قد تمَّ دمجه (شكلاً) في النظام السياسي والاجتماعي للدولة السورية الفتية، خلال النصف الأول من القرن الماضي حين لم يكن هذا المكون يعكس مشاكل تذكر. فإن التمايز القومي والإثني الكردي بدأ بالظهور مع مجيء البعث إلى السلطة، ومشاركة قوات سورية في حينه في قمع التمرد الكردي في شمال العراق. ثم أخذ هذا التمايز بالتجذر مع تفاقم المشكلة الكردية في جنوب تركيا وبدء نشوء شبه كيان كردي مستقل في شمال العراق. فالأكراد السوريون، الذين هم بغالبيتهم من السنَّة، رغم وجود نسبة لا بأس بها من العلويين بينهم وخاصةً في جنوب تركيا، موزعين بين مختلف بلدان المنطقة وخاصةً منها تركيا وإيران والعراق وطبعًا سورية التي يشكلون ما بين الـ 10% إلى الـ15% من تعداد سكانها. ونلاحظ أن هؤلاء، هم من حيث الولاء المفترض للدولة السورية – التي يؤسفنا القول إنها لم تثبت أي نجاح في التعامل معهم حتى تاريخه، إن لم نقل إنها حاولت خلال العقود الأخيرة الماضية تصدير مشكلتها معهم إلى دول الجوار – (هؤلاء) موزعين بين أقلية ميسورة نسبيًا من الموالين من سكان المدن الرئيسة الذين لا يعرفون حتى الكلام باللغة الكردية، وبين أكثرية فقيرة متمركزة في شمال البلاد، وخاصةً في محافظة الحسكة التي باتوا يشكلون فيها الأكثرية العددية. كما ويتمركز الأكراد أيضًا في الأحياء الفقيرة للمدن السورية الرئيسة كدمشق وحلب. والنتيجة هي أن معظم الأكراد السوريين يطالبون اليوم بحق الاعتراف بهم كقومية ضمن إطار الدولة السورية، وبحق استعمال لغتهم القومية ونشر ثقافتهم الخاصة. مشيرين في الوقت نفسه إلى وجود أقلية منهم (قد تتحول مع الأيام إلى أكثرية إذا تفاقمت الأوضاع) ذات طموحات انفصالية وتطمح بإقامة كيان كردي مستقل. وأكتفي الآن بهذا القدر لأنتقل إلى ما يدعوه البعض بـ... ب. مشكلة الأقلية المسيحية: لأنه إذا كان يبدو للوهلة الأولى أن لا وجود في العمق لأية مشكلة تتعلق بهذه الأقلية السورية العريقة التي تشكل نسبتها اليوم ما بين الـ5 والـ7% من مجموع سكان البلد (كانت نسبتها تتجاوز الـ 20% عند الاستقلال)، والتي تعايشت غالبًا بشكل جيد جدًا مع وسطها الإسلامي المحيط والحاضن. فإن لدى هذه الأقلية، التي تعيش بمعظمها في المدن السورية الرئيسة، كما يعيش قسم لا بأس من أبنائها في وادي النصارى في وسط سورية، هواجس بالقوة باتت تظهر على السطح في الآونة الأخيرة. ومسببات، إن لم نقل خلفيات هذه المخاوف هي: - أولاً اجتماعية حيث ينتمي معظم أبناء هذه الطائفة إلى ما يتعارف على تسميته بالطبقة الوسطى و/أو ما فوق الوسطى. وهؤلاء، كإخوانهم من نفس المستوى الاجتماعي في الطوائف الأخرى، يتجنبون عمومًا التدخل في السياسة. ولكن، يقفون بمعظمهم، وخاصةً مؤسساتهم الدينية، إلى جانب الحكم القائم في البلد، أيًا كانت طبيعة هذا الحكم. الأمر الذي يقودنا منطقياً إلى المشكلة التالية المتعلقة بـ... - ثانيًا بنظام الحكم القائم حاليًا في البلاد، وتحديدًا منذ أربعة عقود. هذا النظام – الذي وصفه حسان عبَّاس محقًا بالنظام الطائفي – الذي ألغى كلَّ مظهر من مظاهر الحياة السياسية السليمة. الأمر الذي حوَّل المسيحيين الذين كانت لهم، كغيرهم من مكونات البلد في بدايات القرن الماضي، نخبهم السياسية، من مواطنين فاعلين إلى مجرد رعايا مؤيدين لنظام أقنع القسم الأعظم منهم بأنه يؤمن لهم الحماية الاجتماعية من أصولية "افتراضية" كامنة في أعماق المجتمع السنِّي الحاضن. ونخص بالذكر ضمن هذا السياق... - ثالثًا بعض النخب السياسية المسيحية الحالية: لأن من ساهم في تكريس هذه الأوضاع القائمة الآن ومنذ عقود، كان التواجد على الأرض لأقلية نخبوية من أبناء هذه الطائفة الذين استقطبتهم تقليديًا الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية ذات "القشرة" العلمانية كالحزب القومي السوري، والحزب الشيوعي، وحزب البعث. لأن هذه الأحزاب التي انحطت فتماهت مع السلطة القائمة، قد تخلت بمعظمها عن المبادىء الديمقراطية التي كانت تدَّعيها في النصف الأول من القرن الماضي، وتحولت إلى أحزاب أضحت بمعظمها (حيث لكلِّ قاعدة شواذها) مؤيدة للسلطة القائمة. وأيضًا... - رابعًا نلاحظ أنه في الآونة الأخيرة، وبسبب الأحداث الراهنة، بدأت المؤسسات الدينية لهذه الأقلية تتمايز في مواقفها عن مواقف السلطة، من خلال رفض محاولات هذه الأخيرة تسليح أبناء هذه الطائفة والتأكيد على أن الدين المسيحي هو دين سلام ومحبة[4]. وأخيرًا، فإن هذا التصنيف الذي هو اجتماعي وسياسي، قبل أن يكون ديني وعقائدي، يقودنا منطقيًا إلى التطرق إلى وضع مشابه وأهم يتعلق بـ... ج. الأكثرية العربية السنِّية ومشاكلها: لأن أول ما نلحظه بهذا الخصوص هو أن هذه الأكثرية التي تشمل ما بين الـ60% إلى 65% من سكان البلد في معظم المناطق – والتي تحتضن جميع الطوائف الأخرى – لا تختلف من حيث تركيبتها الاجتماعية وبالتالي من حيث مواقفها الاجتماعية والسياسية عن الطوائف الأخرى التي تحضنها. حيث... - أولاً: يتوزع العرب المسلمون السنَّة بين أولئك الذين يقطنون في المدن الكبرى، وأولئك الذين يقطنون في الأرياف أو في ضواحي المدن الرئيسة والمحافظات الأقل أهمية. فأبناء محافظات درعا ودير الزور والرقَّة الذين هم بغالبيتهم من الفلاَّحين، ما زالوا متمسكين بأصولهم وتقاليدهم العشائرية التي تربطهم بأخوتهم في الأردن والعراق وشبه جزيرة العرب. وكذلك الأمر فيما يتعلق بسكان ريف حلب وإدلب. بينما نجد أن قسمًا كبيرًا من العرب السنَّة في دمشق وحلب وحمص وحماه ومعظم مدن الساحل يتعاطون التجارة والصناعة والمهن الليبرالية. الأمر الذي يجعل مواقفهم من الحكم القائم أكثر ليونةً ومرونةً. وبالتالي... - ثانيًا: كان من الطبيعي جدًا أن تختلف المواقف السياسية للعرب السنَّة في سورية حسب مناطقهم وحسب أوضاعهم الاجتماعية. حيث نلاحظ أن العرب السنَّة من أبناء محافظات درعا ودير الزور والرقة الذين كانوا حتى الأمس القريب من أشدِّ المؤيدين لحزب البعث، سرعان ما أصبحوا من أشدِّ المعارضين لهذا الأخير وللسلطة القائمة بسبب فجور هذه الأخيرة وعسفها وبسبب تدهور أحوالهم المعاشية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سكان الأرياف في باقي المناطق السورية. ما يعني... - ثالثًا: وبشكل عام أن العرب السنَّة الذين يشكلون الأغلبية السكانية والحاضنة للبلد، وهذا أيضًا أمر طبيعي جدًا منطقي جدًا، ليس لديهم موقف موحد ومتجانس مما يجري. حيث اختلفت مواقفهم من السلطة انطلاقًا من أوضاعهم الاجتماعية وطبيعة مناطقهم. ولكننا نلاحظ في المقابل، أنه ومع تطور الأحداث... - رابعًا: بدأ معظم العرب السنَّة في سورية في الآونة الأخيرة، وبسبب تعسف وفجور السلطة القائمة وسوء إدارتها للأزمة، وخاصةً بسبب طائفيتها، بالميل إلى جانب الحراك الشعبي للفقراء من أبناء ملَّتهم. كما أن مواقفهم المذهبية بدأت تتجذَّر. الأمر الذي يوصلنا منطقيًا في النهاية إلى المشكلة الأخيرة والأهم في أوضاعنا السورية، أقصد إلى ما يصطلح على تسميته بـ... د. المشكلة العلوية: لأنه كما بالنسبة لجميع الطوائف والمكونات الأخرى، لا توجد في بلدنا فعليًا مشكلة طائفية علوية كما لا توجد مشكلة طائفية مسيحية. إنما توجد في الواقع مشكلة تماه لهذه الفئة الاجتماعية والمذهبية، بسبب ظروف اجتماعية معينة، مع مؤسسات معينة (أقصد الجيش والأمن)، الأمر الذي أدى بالتالي إلى التماهي مع السلطة الحالية. لأن جذور هذه المشكلة ليست قطعًا في المعتقدات الخاصة[5] لهذه الأقلية الريفية التي تتراوح نسبتها ما بين الـ12 إلى الـ15% من سكان البلد والتي موطنها الأساسي تلك الجبال المطلة على الساحل السوري، المعروفة بجبال العلويين. هذه الطائفة التي لها أيضًا امتداداتها في الدول المجاورة لسورية شمالاً وغربًا، أقصد تركيا ولبنان. وإنما تعود جذور هذه المشكلة إلى عدة مسببات هي: - أولاً أسباب تاريخية قديمة: تمتد إلى فترة الحكم العثماني حيث عانى أبناء هذه الطائفة من الاضطهاد، الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء إلى الجبال للاحتماء. كما أنهم عانوا خلال تلك الفترة من الأهمال من قبل السلطات القائمة الأمر الذي أدى إلى أوضاع اجتماعية تعيسة في تلك الأيام. وقد ترك هذا الواقع الأليم، على ما يبدو، أكبر الأثر في خافيتهم الجمعية التي كانت الكاتبة الكبيرة سمر يزبك أفضل من عبَّر عنها[6]. - ثانيًا أسباب تاريخية أقل قدمًا: وتعود إلى أيام الانتداب الفرنسي، لأنه وكما عبَّر بمنتهى الوضوح المؤرخ فيليب خوري في مؤلفه سورية والانتداب الفرنسي: ثمة عامل آخر ظهر خلال الانتداب وساهم كثيرًا في تجذير المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، وهو تركيبه المتبدل. فوفقًا للتخطيط الفرنسي، طور الجيش تركيبًا ريفيًا وأقلويًا قويًا، كان للعلويين فيه موقعًا مرموقًا. وقد صحَّ هذا بصورة خاصة في صفوف الجنود وضباط الصف. وفي نهاية الانتداب، كانت عدة كتائب في القوات الخاصة مؤلفة بكاملها تقريبًا من العلويين... وقد فضَّل الفرنسيون المجندين من الأقليات ومن سكان الأرياف لسبب واضح هو أن أولئك المجندين كانوا بعيدين جدًا عن أيديولوجيا سورية السائدة: القومية العربية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع الاجتماعي المتردي في مجتمعات سورية الريفية والأقلوية جعل الجيش واسطة لحراكها الاجتماعي. وبهذه الطريقة، أصبحت الرتب الأدنى في الجيش، بما فيها رتبة ضباط الصف، حكرًا على العلويين والدروز وسنَّة المناطق الريفية. ولما كان العلويون أكبر تلك الأقليات، وربما أفقرها في البلد، فإنهم كانوا الأكثر عددًا في الجيش. إلا أنه لم يكن لهم تأثير ملموس مدة جيل كامل بعد الاستقلال. فالضباط السنَّة كانوا ممسكين بنقاط القوة في الجيش خلال الأعوام التالية للاستقلال، ولم يسيطر العلويون على الجيش إلا في الستينات، بعد أعمال تطهير متتالية جرَّدت المراتب العليا في الجيش من الضباط السنَّة... - ما يعني ثالثًا: أن المشكلة العلوية الأساسية اليوم، إن شئنا أن نسميها بالمشكلة، تكمن في السيطرة شبه الكاملة للنظام من خلال أبناء هذه الطائفة على المؤسسات العسكرية والأمنية. وقد ترسخ هذا الأمر وتعمق بشكل كبير منذ مجيء حافظ أسد إلى السلطة عام 1970، فأصبح للعلويين بشكل عام فرقهم العسكرية شبه الخاصة كسرايا الدفاع، وسرايا الصراع، ثم الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة... إلخ. وهي ظاهرة جديرة بالاهتمام درست بعمق في حينه من قبل العديد من الباحثين الغربيين[7]. 3. في محاولة للتفكير بما حصل... وبحلٍّ داخلي للأزمة... الثورة اليوم في شهرها الثامن عشر، ولا يبدو أن مأساتها قد قاربت من نهايتها، لا بل كلَّ الدلائل تشير إلى أنها ما زالت تتصاعد وتتفاقم، وقد تستمر لبعض الوقت في التصاعد. وأيضًا... لم يعد الحراك الشعبي اليوم سلميًا ولاعنفيًا كما كان في بداية الأحداث، إنما تحول إلى ثورةً عنيفةً ودموية عمَّت كلَّ أنحاء البلاد. والثورات كما يعلم كلُّ عاقلٍ، ليست بالشيء الجميل ولا بالأمر المستحب. لأنها انفجار من الأعماق يدفع إلى السطح بكلِّ القذارات التي كانت في الماضي كامنةً ومستورة في أعماق المجتمع. تلك الأمراض والمشاكل الاجتماعية التي بات الجميع يعرفها والتي لم تعد خافية على أحد. وقد تحول الحراك الشعبي الذي كان لاعنفيًا وسلميًا في البداية، إلى صراع مسلحٍ دامٍ تتصارع فيه الجيوش. وهذه الجيوش، إن شئنا أن نكون أكثر تحديدًا هي: الجيش النظامي وكتائبه الرئيسة ومن يسانده من عناصر أمن وميليشيات فئوية من جهة، ومن انشقوا عن الجيش السوري وشكَّلوا ما بات يعرف بالجيش الحرِّ الذي يغلب على القسم الأعظم من كتائبه طابع فئوي مقابل، ومن التفَّ حوله أيضًا من ميليشيات، من جهةٍ أخرى. ونتفكَّر أن هذا الصراع الذي تعتبر السلطة الحاكمة المسؤول الأول عنه، قد أدخل البلد في دوامة تجاذبات دولية باتت تهدد وحدتها وكيانها. كما أنه ألحق حتى الآن ما ألحق من قتل ودمار في مختلف أنحاء البلاد: - أي ما يزيد عن 25000 قتيل حتى تاريخه وفقًا لمصادر الثورة، وما لا يقلُّ عنهم (أي ما يضاعف هذا العدد) وفقًا لمصادر الحكومة. إضافةً إلى مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين والجرحى والمشردين والمهجرين الذين باتت أعدادهم اليوم تقارب الـ 2.5 مليون في داخل البلاد، ومئتي ألف في الدول المجاورة. وأيضًا... - أدت هذه الأحداث إلى خراب في البنية التحتية للمدن والأرياف التي دُمِّرت إلى حدٍّ كبير. كما هي الحال اليوم، في محافظات حمص وإدلب ودير الزور ودرعا... وحاليًا حلب وريف دمشق. وأيضًا... - أدت هذه الأحداث إلى شلل شبه كامل في اقتصاد البلد منذ ما يقارب العام والنصف. وأيضًا وهذا الأهم... - أدت إلى تلك الجراح التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها لا يمكن أن تندمل. فالكلُّ يعرف أن ما ولدته هذه الحرب في القلوب والنفوس من أحقاد ستستغرق معالجتها وقتًا طويلاً بعدما تهدأ الأوضاع وتصلح الأمور. وأتفكر كلاعنفي وكإنسان فيما يمكن استنتاجه من هذا الواقع الأليم وفي آفاقه. فأتلمَّس ما يلي: - أولاً: إن الأوضاع القديمة التي كنَّا نعيشها، والتي أدت إلى اندلاع الثورة، لم يعد من الممكن أن تستمر. لأنها وبكل بساطة هي التي ولَّدت الثورة. كما أنه لم يعد بالإمكان أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل انفجار الثورة، وكأن شيئًا لم يكن. وهذا يعني... - ثانيًا، إن شئنا أن نكون أكثر صراحةً، أنه لم يعد مقبولاً بأي شكل من الأشكال استمرار نظام الحكم الأمني القائم اليوم، والذي لا يخضع لأية مساءلة. كما لم يعد مقبولاً ذلك النظام الرئاسي الذي يعطي رئيس البلاد صلاحيات ملكية مطلقة وغير محدودة. وأتفكر أيضًا... - ثالثًا: أن الوصول إلى تغيير هذا الواقع الذي يعني في الحقيقة تحقيق الحرِّية والكرامة للجميع، يتطلب التوصل إلى تسويةٍ تاريخية بين مختلف مكونات المجتمع السوري من دون استثناء. سواء أكانت هذه المكونات معارضةً للنظام القائم و/أو مؤيدةً له. لأنه لا يفترض – لا بل لا يجوز بأي شكل من الأشكال – أن يهزم، ولا أن يبعد، أي مكون اجتماعي بسبب مواقفه واصطفافاته الماضية، إنما من يفترض أن يهزم ويبعد هو العسف والفجور والظلم الذي أوصل البلد إلى هذه الحال. لأن ما هو مطلوب اليوم هو أن تنتصر البلد بكلِّ مكوناتها الإيجابية، وأن يسود الاعتدال ويبعد التطرف، وأن يتم الحفاظ على هيكلية الدولة ومؤسساتها التي يفترض أن تصبح دولة مواطنة لجميع أبنائها. وإلاَّ فلا معنى للثورة، ولا معنى لكلِّ تلك التضحيات التي قدِّمت. الأمر الذي يعني في النهاية وكمحصلة حاصلٍ... - رابعاًً: أنه في قلب هذه الفوضى العارمة وهذا الفلتان السائد يبقى مطلوبًا من الجميع تحكيم العقل، وإيقاف العنف والسعي الحثيث لإيجاد مخرج يؤمّن بدء حوار وطني حقيقي وتغيير فعلي في السلطة. وأتفكر في النهاية... إن تحقيق هذه الأمور هو وحده الكفيل بأن يحافظ على وحدة البلاد، وأن يجنبها أخطار ومضار التدخلات الخارجية من جميع الجهات. وأكتفي حاليًا بهذا القدر... *** *** ***
[1] http://www.maaber.org/philosophy/karma.htm [2] حسان عباس، إدارة التنوع في سورية، http://www.maaber.org/issue_july12/spotlights1.htm. [3] من الجدير أن ننبه هنا إلى أنه لا يوجد إحصاء رسمي دقيق ومعلن بهذا الخصوص. [4] نسجل بهذا الخصوص البيان الأخير الصادر عن بطريركية الروم الكاثوليك وقبل ذلك البيان الصادر عن الشبيبة الأورثوذوكسية موقعًا من سكرتير البطرك هزيم. [5] لمن يهمه معرفة المزيد عن معتقدات هذه الطائفة يمكن مراجعة كتاب عبد الرحمن بدوي بعنوان مذاهب الأسلاميين – المجلد الأول: المعتزلة، الأشاعرة، الإسماعيلية، القرامطة، النصيرية على الرابط التالي: http://www.maaber-new.com/books/Badaoui04.pdf. [6] راجع بهذا الخصوص رواية سمر يزبك لها مرايا المتوفرة، على حدِّ علمي، في مكتبات دمشق. [7] لعل من أهم الكتب بهذا الخصوص كتاب الصراع على السلطة في سورية لنيقولاوس فان دام، السفير الهولندي السابق في دمشق، والذي يمكن الحصول عليه بنسخته العربية من المكتبة الإلكترونية لمعابر على الرابط التالي: http://www.maaber-new.com/books/Syria-Vandam.pdf . وكناب المؤرخ حنَّا بطاطو باللغة الإنكليزية: Syria's Peasantry, the Descendants of its Lesser Rural Notables, and their Politics. وكتاب المؤرخ الإسرائلي موشي ماعوز: Assad the Sphinx of Damascus: A Political Biography. |
|
|