|
إضاءات
لماذا لم ننجح نحن العرب، حتى اليوم في بناء مجتمع مدني، تكون فيه المواطنة أساس الانتماء، بديلاً من الدين (أو المذهب) ومن القبيلة (أو العشيرة والعائلة)؟ فالحق أن ما نطلق عليه اسم «مجتمع»، ليس إلا «تجمعات» من عناصر متناقضة تتعايش في مكان واحد، يُطلق عليه اسم «وطن». وليست السلطة هنا إلا «نظامًا» للغلبة والتسلط في حلف «يجمع» بين مصالح المتسلطين. والصراع السياسي هنا، هو أيضًا، صراع لتغيير السلطة، وليس صراعًا لبناء مجتمع جديد. وهكذا كانت السلطة في المجتمعات العربية عنفًا مركبًا في بنيتها ذاتها، وكانت ممارستها نوعًا من التأرجح بين العنف «الطبيعي»، والعنف الآخر المموَّه، ثقافيًا، والذي يسمى «التسامح». من الحاكم؟ تلك هي المسألة الأولى، عند العرب. وهي ترتبط، على نحو عميق، بالمسألة الدينية. مسألة «تطبيق للإسلام» أو «لمبادئ الإسلام الصحيحة»، إشارة إلى أن هناك «إسلامًا» غير صحيح، أو «مبادئ إسلامية غير صحيحة». وهذه طامة دينية-سياسية كبرى نرزح في سلاسلها، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. واليوم نمارس التنويع الحديث على الأسئلة القديمة: هل الإسلام الصحيح هو كما يراه عليّ، أم كما يراه معاوية؟ هل هو في القول بأن «القرآن مخلوق»، أم «غير مخلوق»؟ هل هو في الإيمان بالجنة والنار، حرفيًا أم رمزيًا؟ هل هو في العقل أم في النقل؟ هل هو في المساواة الكاملة، حقوقًا وواجبات، بين الرجل والمرأة، أم هو على العكس، في أفضلية الرجل وأوليته؟ هل هو في التسنُّن، أم في التشيُّع؟... إلخ، إلخ.
من الأشياء التي كانت تمارس في موسم الحج قبل الإسلام ما سمي بـ"متعة الحج" التي أشار غالبية المؤرخين وفقهاء الإسلام إلى أنها نوع من الزواج يتم أثناء أداء شعيرة الحج. وقد ربطه هؤلاء بالغريزة الجنسية والحاجة لإشباعها كما سنرى. إلا أن هذا الرأي تنتابه بعض نقاط الضعف لأنَّ إشباع الغريزة الجنسية هو شأن فردي لا حاجة لأنْ يحدد بممارسة جماعية وفي موسم ديني مثل الحج، إلا أن يكون مرتبطًا بأحد طقوسه. وقد اختلف المسلمون بشأن هذه الشعيرة من قائل إنها شعيرة إسلامية أو مقرة من قبل الإسلام إلى قائل إنها شعيرة وثنية، إلا أن الإسلام لم يشأ معارضتها لأسباب لها علاقة بظروف الدعوة آنذاك. ويستدل أصحاب الرأي الأول على رأيهم بدلالة النص القرآني الذي يقول: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاث أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب.
مشروع الحداثة الغربي الذي بدأ أساسًا من عصر التنوير الأوروبي قد انتهى. وإننا ننتقل الآن إلى مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية في مرحلة "ما بعد الحداثة". ومشروع الحداثة الغربي قام على أساس عدة عمد رئيسية، أهمها على الإطلاق الفردية والعقلانية، والإيمان بفكرة التقدُّم الإنساني المطرد، والحتمية في التاريخ وفي الطبيعة[1]. غير أن المؤلف البارز الذي أصدر البيان الخاص بما بعد الحداثة ونعى موت عصر الحداثة هو الفيلسوف الفرنسي ليوتار في كتابه الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة. فالحداثة بحسب الرأيين الأول والثاني، محددة التاريخ والمعالم والقسمات. أي أنها كما يرى الاثنان ومعهما كثيرون، من صنع الحضارة الغربية، وتحديدًا الأوروبية، والتنويرية. أنا شخصيًا، لا أعرف حتى الآن ما معنى الحداثة، أقصد أني لا أعرف لها تحديدًا. ما هي الحداثة؟ ولماذا تستعمل "الـ" الإطلاقية هنا التعريفية؛ بدلاً من قول "حداثة". كما أني لا أعرف متى بدأت هذه الحداثة؟ في أي عصر؟ في أي اختراع؟ في أي اجتراح؟ أو في أي معجزة؟ هل بدأت الحداثة مع اختراع "الدولاب"، أو في العصر البرونزي، أم مع الورق، أو مع الكهرباء، أو في المجتمع الزراعي، أو الصناعي؟ هل بدأت مع الفراعنة، أو حضارة ما بين الرافدين، أو الفراعنة أو الأغريق أو الرومان أو المسيحية أو الإسلام، أو مع الثورة الفرنسية...
ما علاقة الثورة بالأحذية؟ ومن أصحاب الثورة: حُفاة الأقدام أم أصحاب الأحذية اللامعة؟ وحينما ندخل رحاب الكتابة هل على كل امرئ أن يخلع نعليه أم بوسعنا أن نفكِّر بأحذيتنا، فيها وانطلاقًا من الطابق السفلي لأنفسنا حيث تقيم الأحذية باستمرار؟ إنها هذه الأحذية، أحذيتنا كلٌّ على قياسه، وبصرف النظر عن جلدها ولونها وثمنها وبصرف النظر عن جنسيتها وعن المغازات أو "الفريبات" التي سوَّقتها، هي عين الأحذية التي حملتنا في شوارع المدن وثنايا الأرياف الشوكية أو الجبلية أو البحرية، هي عين الأحذية التي حملت أجسامنا ودفعت بها نحو حلم كبير... لأول مرَّة تصير الأحذية جماعية، ولأول مرَّة تنهزم الأحذية اللمَّاعة بحامليها، ولأول مرَّة تستوي كلُّ الأحذية لأنها تدخل ههنا رحاب الكتابة. لن تكون الأحذية هذه المرَّة أسلوبًا شخصيًا أو فرديًا في اللباس، ولن تكون موضة أو بهرجًا اجتماعيًا. أحذيتنا التي ندخل بها بهو الكتابة ليست ليبرالية ولا نسوية ولا دينية... سوف لن تخلع نعليك وأنت تكتب عن الأحذية، ولا أحد يضطرك إلى تركها خارجًا، لأنك لن تُصلِّي هنا لأحد.
لأن "... الأمن حاجة أساسية للنفس..." كما قالت الفيلسوفة الفرنسية سيمون ﭭايل، ولأن المرء يشعر بالخوف حين يُهدد أمنه، ولأنه "... حتى وإنْ لم يكن الخوفُ سوى حالةٍ كامنة، بحيث لا يشعرُ به المرءُ عذابًا إلاَّ نادرًا، فإنه دائمًا مرَض. إنه نصفُ شللٍ للنفس..." تراني أعود إلى الموضوع مرة أخرى. لكن، تحديدًا هذه المرّة، من منطلق الأوضاع الاستثنائية التي نعيشها اليوم في سورية. فبلدنا يعيش، ومنذ أكثر من أربعة أشهر، حالة حراك شعبي عميق، إن لم نقل حالة ثورة. ثورة شعب لم يعد بوسعه أن يحتمل جور سلطة حكمته لأكثر من 48 عامًا؛ وأزمة سلطة لم يعد بوسعها اليوم أن تحكم، بنفس الطرائق القديمة، شعبها الذي تمرَّد على عسفها. الأمر الذي ولَّد هذه الحالة التي أصبح فيها الأمن الإنساني في البلد مهددًا، ما جعل الجميع فيه يعيشون في حالة خوف حشوي من مستقبلٍ قريبٍ يبدو اليوم غامضًا.
يخبرنا التعريف التقليدي (الثيولوجي أو الميتافيزيقي) للمقدَّس أنه يتمحور حول فكره الإله بمسارين يختلفان في المصدر: مسار نابع من الإله نفسه أو يجسده (أثر)؛ ومسار نابع من الإنسان يكرس لذلك الإله ويمجده (قربان مثلاً أو معبد). وبنظرة أكثر عمقًا إلى طبيعة المقدس نجد أن القيمة الأكثر تمييزًا له عن بقية القوالب الإعلائية الأخرى هي التحصين التام ضد النقد، أي عدم المساس به سواء ماديًا أو فكريًا، وهو ما يؤدي بالطبع إلى تحقق الصفة الثانية الأبرز (والتي تشغلني في الأساس) وهي الجمود وعدم القدرة أو الرغبة في التطور، والذي لا يكتفي في أغلب الأحيان بدور المدافع عن هويته بل يتعداها إلى ممارسات مضادة يرى من يتبناها أنها تكرس وتخدم عزل المقدس عن التغيير أو التشويه أو النقد، وهو خط غالبًا ما يكون محكومًا بتوحد مصيري أو وجودي ما بين المقدَّس والمقدِّس بتشديد وكسر الدال.
من المعروف أنَّ جهازنا المنطقي هو عبارة عن آلة ناقصة وعاجزة. فالكلمة، تلك
الأداة التي لا غنى عنها، كانت دائمًا لديها الميل لخداعنا وتضليلنا بإظهارها
البرَّاق للحقيقة اللامعة والمباشرة، وكلما ازداد اهتزاز ميزان الزمن أو الوقت،
كلما عظمت مخاطر الكلمات التي تدَّعي انضواء الحقيقة بين حروفها. من جهةٍ أخرى،
يجب أن يكون نقاشنا بسيطًا قدر الإمكان. إذ أننا سنترك مهمة الدراسة العميقة
للآخرين. دين عَلماني تنتمي الديانات المدنية والسياسية إلى ظاهرة أكثر عمومية وشمولية: "الدين العلماني" Secular Religion. ويستخدم هذا المصطلح لوصف نظام متطور بدرجة أكبر أو أقل من المعتقدات، الأساطير الطقوس، والرموز التي تخلق هالة من القداسة حول كينونة تنتمي في الأصل إلى هذا العالم، وتحوِّلها إلى طائفة وموضوع للعبادة والتكريس. والسياسة ليست وحدها في هذا الأمر، فأي نشاط إنساني من العلم حتى التاريخ أو من التسلية والترفيه حتى الرياضة يمكن أن يُستثمر في مجال "القداسة الدنيوية أو العلمانية" Secular Sacredness، وأن يصبح موضوعًا للعبادة والتقديس عند طائفة علمانية معينة، وهذا ما يدعى "دينًا علمانيًا". في مجال السياسة، غالبًا ما يؤخذ مصطلح "الدين العلماني" كمرادف لمفهوم الدين المدني أو الدين السياسي.
إنَّ ظاهرة الانكسار réfraction هي ظاهرة فيزيائية تتمثَّل في انحراف موجة (وخاصةً في البصريات والصوتيات) عندما تتغيَّر سرعتُها بين وسطين مختلفين. فنرى مثلاً قلمَ الرصاص مكسورًا نتيجةَ انحراف الضوء عندما يجتاز من وسط الهواء إلى وسط الماء. قياسًا على ذلك، يحصل الانكسارُ على مستوى الفكرة، إذْ تنكسرُ الرسالةُ اللغويةُ عندما تنتقل من شخص إلى آخر ضمن الوسط الواحد أو من وسط ثقافي إلى وسط ثقافي آخر أو من بيئة إلى أخرى. تشبه الرسالةُ اللغويةُ موجةً "دلالية" قائمةً على أمواج سمعية وبصرية تمرُّ عبْرَ موشور prisme (réflecteur) قناعات السامع ووعيِه فتنعكس عن هذا السامع مختلفةً قليلاً أو كثيرًا أو مقلوبةً. وهنا يمكننا الكلام عن انكسار دلالي réfraction sémantique. وهو غيرُ الانحرافِ الدلالي أو الانزياحِ (الزلقِ أو الانزلاقِ) الدلالي glissement sémantique والعدولِ والتجاوزِ والتحويلِ. فالانحرافِ الدلالي هو الميل المقصود عن المعنى الذي وُضِعَت له الكلمةُ في التصنيف اللُّغوي الذي وضعَه النحويون إلى معنىً ثانٍ له دلالة تشير إلى معنى آخر يتَّضح فيه السِياق. الزلقُ الدلالي هو تقنية تقوم على استبدال كلمة أو عبارة بكلمة أو عبارة أخرى بهدف التخفيف أو التلطيف من حدَّتها euphémisme أو زيادتها، كأنْ نقولَ: "لفظ أنفاسَه الأخيرةَ" بدلاً من "مات" و"بيت الأدب" بدلاً من "المرحاض" أو نستخدمَ النفيَ litote كأنْ نقولَ: "عمله ليس هينًا" بدلاً من "عمله عظيم".
|
|
|