|
ماهيَّة المقدس
يخبرنا التعريف التقليدي (الثيولوجي أو الميتافيزيقي) للمقدَّس أنه يتمحور حول فكره الإله بمسارين يختلفان في المصدر: مسار نابع من الإله نفسه أو يجسده (أثر)؛ ومسار نابع من الإنسان يكرس لذلك الإله ويمجده (قربان مثلاً أو معبد). وبنظرة أكثر عمقًا إلى طبيعة المقدس نجد أن القيمة الأكثر تمييزًا له عن بقية القوالب الإعلائية الأخرى هي التحصين التام ضد النقد، أي عدم المساس به سواء ماديًا أو فكريًا، وهو ما يؤدي بالطبع إلى تحقق الصفة الثانية الأبرز (والتي تشغلني في الأساس) وهي الجمود وعدم القدرة أو الرغبة في التطور، والذي لا يكتفي في أغلب الأحيان بدور المدافع عن هويته بل يتعداها إلى ممارسات مضادة يرى من يتبناها أنها تكرس وتخدم عزل المقدس عن التغيير أو التشويه أو النقد، وهو خط غالبًا ما يكون محكومًا بتوحد مصيري أو وجودي ما بين المقدَّس والمقدِّس بتشديد وكسر الدال. تساؤلات ضرورية هل القدسية هي صفة للشيء بذاته (جوهره) أم هي لنظرة أو موقف الناس منه؟ مثلاً عندما نقول "الكعبة المقدسة" فهل يعني هذا أنها، كبناء، مقدسة بذاتها؟ بنفس المعنى الذي يقول به المسيحيون: "الروح القدس"؟ أم أنها مقدسة لعلاقة المسلمين (عاطفيًا وفكريًا) التقديسية لها كما مثلاً كلمة "مدينة كربلاء المقدسة" لتقديس الشيعة لها عاطفيًا وضمن منهج فكري إيديولوجي؟ المهاتما (الرجل المقدَّس) غاندي، هل هو مقدس أم لا؟ تحليل بنية المقدس إذا ما أقصينا الأصداء الميتافيزيقية جانبًا فإن المقدس هو مجرد حكم تقوم باسباغه الجماعات البشرية على موضوعات تكسبها صفة التعال والحصانة وأحيانًا المفارقة. وهو برغم كونه منتوجًا إنسانيًا للشعور الجمعي إلا أنه يتميز بالجمود والتراكم أيضًا والذي لولاهما لما استطاع المقدس الصمود أو الاستمرار في شغل المكانة نفسها التي يحتلها، لكنه أيضًا يتميز بالنسبية في الإجماع، بمعنى أن المقدس لدى المسلمين مثلاً لا يعني أي شيء لدى الهندوسي، وبالمقابل وهكذا، وفي الأغلب الأعم، تنظر المنهجية العقلانية إلى كل أطياف وأنواع المقدسات على أنها مرجعيات تراثية استقرت في الوجدان الشعبي واكتسبت قوتها بالتراكم والتحصين. وباختصار وبساطة لا وجود أصلاً للمقدس في ذاته. ذلك أنه فعل يستلزم بالضرورة وجود من يسبغ القداسة على الموضوع محل التقديس. ولكن، ماذا يحدث عندما تنتهك المقدسات؟ وعندما تسقط هالة القدسية والتقديس لهذه "المقدسات" في نفوس البشر الذين آمنوا سبقًا بقدسيتها؟ من وجهة نظري، تمر مرحلة (نزع القدسية) عن المقولات المحصنة بمرحلتين: مرحلة الصدمة، ثم مرحلة الرفض أو الموائمة والتكيف. والصدمة هنا تكون فكرية بالأساس، وغالبًا أيضًا ما تكون ذاتية (إلا في بعض حالات التحول الاجتماعي) يكون سببها الأول هو زعزعة دفء الارتكان على مقولات ومسلمات تم بناء النسق المعرفي والحياتي للفرد عليها بما يتم التعاطي معه من قبل الوعي الفردي أو الجمعي على أساس أنه عنصر هدم أو تشتيت. الرفض غالبًا ما يسانده الرضوخ للجماعة أو الحفاظ على مكاسب وامتيازات فردية أو حتى عدم القدرة على احتواء مرحلة الصدمة عقليًا. ولكنني أعتقد أيضًا أن الوعي لا يعود ليسير في حالته نفسها من التحصين التام بل قد تمتد مرحلة الرفض لتكون (شكًا) أو تطويرًا للصدمة، وهي بالتأكيد مرحلة مؤرقة. التكيف والموائمة هما تنظير لمرحلة التحرر الفكري وعقلنة الوجود والمقولات المقدسة بما يعريها ويكشف زيف إدعائها للحصانة والمفارقة ويدفع بها إلى مكانها الطبيعي كأحد صور خلل تعامل الوعي البشري مع الكون والمآزق الوجودية التي واجهته طوال خط تطور حضارته الطويل. *** *** *** |
|
|