نحن والحداثة والعولمة*

 

بول شاوول

 

- I -

مشروع الحداثة الغربي الذي بدأ أساسًا من عصر التنوير الأوروبي قد انتهى. وإننا ننتقل الآن إلى مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية في مرحلة "ما بعد الحداثة". ومشروع الحداثة الغربي قام على أساس عدة عمد رئيسية، أهمها على الإطلاق الفردية والعقلانية، والإيمان بفكرة التقدُّم الإنساني المطرد، والحتمية في التاريخ وفي الطبيعة[1].

غير أن المؤلف البارز الذي أصدر البيان الخاص بما بعد الحداثة ونعى موت عصر الحداثة هو الفيلسوف الفرنسي ليوتار في كتابه الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة. فالحداثة بحسب الرأيين الأول والثاني، محددة التاريخ والمعالم والقسمات. أي أنها كما يرى الاثنان ومعهما كثيرون، من صنع الحضارة الغربية، وتحديدًا الأوروبية، والتنويرية. أنا شخصيًا، لا أعرف حتى الآن ما معنى الحداثة، أقصد أني لا أعرف لها تحديدًا. ما هي الحداثة؟ ولماذا تستعمل "الـ" الإطلاقية هنا التعريفية؛ بدلاً من قول "حداثة". كما أني لا أعرف متى بدأت هذه الحداثة؟ في أي عصر؟ في أي اختراع؟ في أي اجتراح؟ أو في أي معجزة؟ هل بدأت الحداثة مع اختراع "الدولاب"، أو في العصر البرونزي، أم مع الورق، أو مع الكهرباء، أو في المجتمع الزراعي، أو الصناعي؟ هل بدأت مع الفراعنة، أو حضارة ما بين الرافدين، أو الفراعنة أو الأغريق أو الرومان أو المسيحية أو الإسلام، أو مع الثورة الفرنسية...

فعندما تقول إنها بدأت مع عصر التنوير (وهو فترة حداثية بامتياز) فيعني ذلك أنها "فكرة" غربية، ويعني أن الحضارات القديمة أو المخضرمة الشرقية وغير الشرقية، هي فترات قحطاء. أي أنه تم اقتطاع تواريخ البشرية بإنجازاتها عن المساهمة في صنع هذه الحداثة. كما أنني لا أعرف ما هو تحديد الحداثة؟ ما هي الحداثة؟ هل هي مضمون؟ هل هي طريقة تفكير، أو طريقة عمل، أو سلوك، وماذا يعني أن يكون هذا الأمر حديثًا أو غير حديث، إذا قيست الأمور بالزمنية أو بالإنجاز أو بالمضمون أو بالشكل أو بالأمر؟

إن محاولة ربط الحداثة بالعصر التنويري يقع في ما يسمى فكرة "الاقتطاع" أو الاجتزاء التي روَّج لها الغرب في مرحلته الاستعمارية الكبرى، وكأن التاريخ سلسلة مراحل منقطعة عن بعضها، أو منفصلة في تجلياتها وسيرورتها. بل وكأن هذه الحداثة (التي لا نعرف لها تاريخًا ولا تحديدًا) من صنع جهة واحدة، طلعت من العدم، وليس من التراكمات التاريخية. بل كأن التاريخ لحظة تضيء لدى شعب ما ثم تنطفئ، ليبدأ شعب آخر من الصفر. أي كأن التاريخ مجموعة أصفار تتلاغى وتتناكر دون لقاء أو تفاعل أو جدلية أو حوار. ونظن أن الغرب في بعض مراحل قوته وهيمنته اتبع، عبر سياسة الاقتطاع هذه، نوعًا من مصادرة التاريخ وإنجازات الحضارات الأخرى، تمامًا كما كان يصادر ثروات البلدان التي كان يسيطر عليها بالقوة، وبالتفوُّق، أو بالغزو.

ونذكر أنه منذ الخمسينات (وما قبل) بدأت في الغرب نفسه أوراق نعي الحداثة لتعلن موتها. فهي التي بدأت في الغرب ها هي تموت في الغرب. والذي لا يعرف تاريخ ولادة الحداثة من المستحيل أن يحدد تاريخ المراثي: "موت الانسان"، "موت الفكر"، "موت الإيديولوجيا"، "موت الله"، "موت الدولة"، "موت ماركس"، "موت الفن"، "موت السينما"، "موت المسرح"، "موت الرأسمالية"، "موت أوروبا"، إلى آخر هذه الميتات المفاجئة. هذه الفكرة "العدمية" بامتياز استكملت مسيرتها لتعلن عصرًا "انبعاثيًا" جديدًا: "ما بعد الحداثة"، ولتضيف الـ"ما بعد" إلى جملة من الظواهر والجواهر: "ما بعد الفن"، "ما بعد الفلسفة"، "ما بعد الدولة"، "ما بعد الإيديولوجيا"، "ما بعد القصيدة"، "ما بعد الدراما"، "ما بعد الرواية"؛ انقلاب شامل، موصول، على كل ما اعتقد أنه جزء من التنوير أو ثقافة التنوير.

من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. من مشروع إلى نقيضه. وكما حددت مهل الحداثة حدد ما بعدها. وكما عينت النهاية، عينت البداية. هكذا كرد فعل. كثورة مضادة، ومن جديد، ومن المنطلق "الغربي" نفسه (يحكى اليوم عن موت الغرب) مورست فكرة الاقتطاع. والإلغاء، موت بلا قيامة، ولا إرث. والسجال الأساسي، بقي في الأساس سجالاً غربيًا أيضًا. الغرب يلغي نفسه، ثم يعيد تركيبه بأدوات وأفكار "جديدة" غير مسبوقة.

- II

يحدد الـ"ما بعد الحداثيين" معالم مرحلتهم الراهنة بسقوط "النظرية الكبرى وعجزها عن قراءة العالم"، أي سقوط "الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة التي تتسم بالجمود، والتي تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع ومن نماذجها البارزة الإيديولوجيا" (لا سيما الماركسية)، وسقوط "فكرة الحتمية سواء في العلوم الطبيعية أو في التاريخ الانساني" إذ ليس هناك، كما يرى "الما بعد الحداثيين"، حتمية في التطوُّر التاريخي من مرحلة إلى مرحلة. لكن على العكس فالتاريخ الانساني "مفتوح على الاحتمالات المتعددة" ومن هنا رفض "فكرة التقدُّم" الكلاسيكية التي كانت تتصوَّر تاريخ البشرية "وفق نموذج خط صاعد من الأدنى إلى الأعلى". فالتاريخ الانساني، بحسب الرؤية الما بعد الحداثية، قد يتقدَّم لكنه قد يتراجع أيضًا. وأحد الأمثلة: عجز فكرة التقدم عن منع الحرب العالمية الثانية، وظهور النازية والفاشية، إلخ.

وتدعو الحركة، في "جانبها التشكيكي"، إلى رفض الثنائية بين "الذات والموضوع"، بعدما دعت إلى إلغاء "الذات الحديثة" لأنها من اختراعات الحداثة، وربيبة "عصر التنوير والعقلانية". وتمضي هذه الحركة في محاولة تحطيمها الحداثة إلى رفض كل زعم لاحتكار "الحقيقة" لأن في ذلك "إرهابًا فكريًا غير مقبول"، وتقليص دور النظرية واستبدالها بحركة الحياة اليومية، والتركيز على ديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية، ما يؤدي إلى إلغاء "الفروق النوعية وإلغاء صور التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية"، أي إرادة هدم المبادئ التي قام عليها "مشروع الحداثة الغربي" برمته.

هذه الثورة "الشمولية" الرافضة، المدمرة، التي رأى بعضهم فيها "عدمية خالصة" وتعبيرًا عن إفلاس "الرأسمالية الغربية"، وشكلاً من أشكال "الحتمية" المتجدِّدة، أثارت سجالاً عنيفًا، وردودًا من جانب عدد من المفكرين الذين تسألوا: وهل دخلنا في عالم الحداثة حتى نهتم بحركة ما بعد الحداثة؟

ومن المنطلق "الغربي" بالطبع (نكرر أن السجال الحقيقي كان غير عربي)، رد الفيلسوف الألماني هابرماس، وارث تقاليد المدرسة النقدية الشهيرة بمدرسة فرانكفورت (ومن أعلامها ادورنو وهوركلهيامر، وماركوز)، لينسف بدوره الفكرة المركزية لحركة ما بعد الحداثة، الزاعمة نهاية عصر الحداثة.

ولا يغيب الماركسيون، في هذا الخضم الوعر، الذين وقفوا موقفًا نقديًا عنيفًا أيضًا ضد هذه الحركة كفريديرك جميسون والانكليزي تيري إيجلنون، الذين رأوا أن الأفكار التي تدعو إليها حركة ما بعد الحداثة "أشبه ما تكون ببنية فوقية تقوم على بنية تحتية هي علاقات الإنتاج الرأسمالية الاحتكارية"، وإن رؤيتها العدمية للحياة ليست إلا "إفلاسًا سياسيًا وفكريًا واقتصاديًا للرأسمالية المعاصرة".

بين هذين السجالين نعيد السؤال بطريقة أخرى: الما بعد الحداثة هل هي في عمقها، وحتى في منحاها التدميري القاطع، جزء من الحداثة، أو خروج كلي عليها؟

المسألة الأساسية في رؤيا الما بعد الحداثيين، تكمن في اعتبار أن الحداثة كتلة تاريخية مغلقة (مدرسة أو إيديولوجيا) بلا شقوق ولا تناقضات، وأنها امتداد للتنوير الحديث. لكنها لا ترى، من خلال ما حاولت تهديمه في الحداثة وما دعت إليه، أن معظم ما هدمه أو كله تتضمنه الحداثة نفسها. فما بعد الحداثة كأنه إحياء للحداثة، أو استنبات "حقائق" ومفاهيم من متونها، أو جزء منها. فنفي "الحقيقة"، و"اللايقين"، والبنى التاريخية والمعطيات الجاهزة والتفاعل، وتنوُّع حركة التاريخ...(وما أشرنا إليه) ما هي كلها إلا من تجليات الحداثة نفسها أو من متونها أو من احتمالاتها. وهل يقول الما بعد الحداثيين جديدًا عندما يعلنون موت العقلانية مثلاً؟ الدادائية والسوريالية وقبلهما المستقبلية، وما قبل الكل الصوفية، (وصولاً إلى جوانب من الفكر الشرقي والإغريقي)، وكذلك الرومانطيقية، والاتجاهات الغريزية والحدسية والماورائية، كلها تنفي العقلانية، أو تنفي أولوية العقلانية، لكنها وبرغم ذلك جزء من الحداثة التي تتميز (ولو ما زالت ناقصة باعتماد نماذجها "الغربية") بأنها تتكون أصلاً من التناقضات. وإذا كان لا بد من الإشارة أيضًا إلى نقد للإيديولوجيات المغلقة (الماركسية بمشتقاتها الرأسمالية المتوحشة أيضًا) فقد كانت الحروب الفكرية مندلعة بين اليمين والليبرالية (الأوروبية) واليسار حول هذا الشأن منذ قيام الاتحاد السوفياتي على أساس الايديولوجيا الماركسية-اللينينية، ليطول ذلك الإيديولوجيا الأخرى الرأسمالية والليبرالية التي لم توفر هي أيضًا قيام دكتاتوريات أو تتصرَّف كدكتاتوريات (إيديولوجية) في كثير من مراحلها المعاصرة. والنقد الموجه للشيوعية السوفياتية بأسسها ومكوناتها قام به أصلاً (من باب النقد الذاتي وغيره) الشيوعيون الأوروبيون أنفسهم في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، في الستينات من القرن الماضي، باعتبار أن الايديولوجيا الشيوعية يمكن أن تعدل من بنيتها "المغلقة" وتنفتح على الأفكار الحرة الجديدة، لتلغي بعض الأسس الشيوعية كدكتاتورية البروليتاريا... معنى هذا أنه ليس هناك حداثة واحدة، ولا حداثة مكتملة أيضًا. وقد أشار هابرماس إلى ذلك عندما قال في إحدى مقالاته الشهيرة: "الحداثة مشروع لم يكتمل". والحداثة باعتبارها مشروعًا غير مكتمل يعني أنها، بشكل أو بآخر، مستوعب لكل المفارقات والإمكانات بتراكماتها وبناها (التي رأى فيها الما بعد الحداثيين أنساقًا مغلقة) وشذورها، وفجواتها، وهشاشاتها الكثيرة. صحيح أنه لا يبقى كل شيء من أي شيء، بفعل الزمن والتطوُّرات والفجاءات غير المنتظرة، لكن الصحيح أيضًا أنه لا يطلع أي شيء من اللاشيء. وفكرة الما بعد حداثة، في سياقها الصادم، كأنما تريد أن تقول إنها، وفي تهديمها للحداثة، ونفيها، لم ترث شيئًا منها.

هذا المنطق "الانقلابي" العسفي يوقع الما بعد حداثيين في نوع من الإيديولوجيا التي ينكرونها، وتهديمهم "المنهجي" يصبح تهديمًا قائمًا على جهوزية، وقبلية، افتراضيين، بالمنحى التجريدي للعبارة، بل ويقعون في ما ينفونهم، أي، ومن خلال زعمهم تحطيم الأنساق المغلقة (من قيم وإطلاقية وجواهر) يسقطون في منطق هذه الأنساق. وادعاؤهم محاولة فهم الظواهر والتواريخ فهمًا "تفكيكيًا" واستخلاص الأدوات من طبيعة هذا الفهم، إلا أنهم، وعبر هذا المنحى الانقلابي الشامل، أو فلنقل هذا المنحى "الاستعلائي"، أو هذا الانسلاخ التبريري، يقعون في "المحظور" الذي رفضوه (ولو افراضيًا)، أي نوع من اللازمنية التي تجعل العديد من مقولاتهم ضربًا من الميتافيزيقيا، أو التجريد، أو اليوتوبيا.

فهل يمكن القول مع هابرماس إن المشروع الحداثي لم يكتمل، وتاليًا إن المشروع الما بعد حداثي هو فرع "متمرد" من فروع الحداثة؟

- III -

إذا كانت الحداثة ما زالت مشروعًا مفتوحًا والما بعد حداثة فرعًا من فروع هذا المشروع، فكيف نتعامل مع "العولمة"؟ أين نقف من هذين "المشروعين" آنيًا على الأقل، ومن خلال كل هذه الالتباسات النظرية المتعددة؟

إن ما قلناه من أن الحداثة التنويرية جزء من الحداثة الكبرى المتمثلة بحركات التطوُّر عبر الإنسانية كلها، نقوله في العولمة، فهي ليست "مشروعًا" جديدًا. والتاريخ مشروع عولمة مشرع منذ بداياته. وإذا كانت العولمة تعني ما في ما تعنيه، ومن دون تحديدات نهائية، أنها مجموعة من القنوات والأدوات المتحوِّلة التي تمت عبرها معظم الانتقالات الكبرى في الحضارات، فيعني أن العولمة لا تقتصر على تاريخ معين، أو على طريقة عمل معينة، أو بطبيعة معينة، أو حتى بأمكنة معينة: إنها ملازمة لمشاريع التاريخ كله، منذ أقدم العصور وحتى اليوم.

لكن، وكما ربطت الحداثة بزمنية معاصرة، وبفعل الهيمنة والقوة والظروف، أي بزمنية التنوير "الغربي"، فإن العولمة اليوم، كأنما حدد ميلادها بمواعيد عديدة: منهم من يرى أنها بدأت منذ خروج أوروبا واهنة من الحرب العالمية الثانية، ودخول أميركا كقطب جديد في المعادلة الدولية؛ ومنهم من يرى أن هذه العولمة قد تكرَّست أو تعززت (أو قامت) بعد سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين وانهيار الاتحاد السوفياتي؛ ومنهم يرى أن تطوُّر المعلوماتية ووسائل الاتصال، بهذه الوتيرة المذهلة هو حد من الحدود الفاصلة في بروزها.

بمعنى آخر، ربطت العولمة (حديثًا) بالأمركة، أو كما يقال "بالقطب الواحد"، و"بالقوة الأحادية" والهيمنة الأحادية، وكأنها ابنة القرن الماضي، وابنة أميركا تحديدًا. عدنا من جديد إلى منطق "الاقتطاع" و"المصادرة" والتجزئة. وكما سُلخت الحداثة عن تواريخها الحضارية والثقافية السحيقة، سُلخت العولمة بحيث لم تعد مشروعًا تاريخيًا متصلاً بمشروع الحداثة إلى حد كبير، بل مجرد ظاهرة آنية محكومة بالعناصر السياسية والإيديولوجية والعسكرية والاقتصادية الراهنة. إنها كانت كذلك منذ فجر التاريخ. ولهذا نقول إن المعرفة كلها ظاهرة معولمة. والحضارات والإنجازات والحداثات (والما بعد حداثة)، وكل المواصفات التي تعلق على العولمة القطبية اليوم، هي مواصفات تاريخية رافقت كل القوى والأمم والامبراطوريات والأنظمة التي مثلت الامتلاك والسيطرة والتفوُّق، أي أن كل قوة تظهر في التاريخ هي قوة تسعى إلى عولمة قيمها (بما في ذلك من قيم الشعوب المغلوبة أو السائدة)، وعولمة مصالحها، وعولمة سيادتها. فالفراعنة، وممالك الرافدين، والفينيقيون، والإغريق، والرومان، والمسيحية، والإسلام، والعرب، وأوروبا... كلها كانت ظواهر معولمة. والاستعمار الحديث المتمثل ببعض الامبراطوريات الحديثة كإنكلترا، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال... هو استعمار اتخذت فتوحاته، بكل محمولاتها السياسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية، منحى معولمًا، والانتقالات الحضارية (وانتكاساتها أيضًا) الكبرى عبر الأزمنة، وما خلفتها من تحوُّلات أصابت البشرية، تمت بفعل هذه القنوات المعولمة التي تطوَّرت بتطوُّر الحاجات والضرورات المتصلة بتلك الظواهر.

فالعولمة (كالحداثة) فعل متصل. ويعني أنها ليست من صنع أمة واحدة، أو شعب واحد، بتراكماتها وإنجازاتها، لكنها، مع هذا، تتلوَّن وتتكوَّن وتتهيكل بأحوال هذه التحوُّلات والمراكز والانتقالات. وهذا ما نراه اليوم. "العولمة" المدموغة بالأمركة، بالسطوة الامبراطورية، تتلوَّن وتتكوَّن وتتهيكل لسمات هذه الامبراطورية، لتحمل في ما تحمل، القيم المفترضة أو المعدلة أو المصوغة، لتتناسب وطموحات هذه الجهة المهيمنة وأطماعها وأهدافها. فهي تصبح إفرازًا "آليًا" لتلك القيم المرشحة لاختراق العالم، بحيث تصبح آلة إيديولوجية معممة تنشر مضامينها وأفكارها وبضائعها، فتستوعب ما تستوعبه من القيم الأخرى، أو تحارب ما تحاربه من الشعوب والأمم. وكأن "الامبراطوريات" لكي تبرر انتشارها، وتختبر تفوقها، وتغذي نرجسيتها التي تتجسد عنصرية، تجعل الحداثة آلة من آلاتها الخاصة، تبرمجها، أو تعيد صياغتها بما يوائم تصوُّراتها وتطلعاتها ومصالحها. تجعل من الحداثة ومشتقاتها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية والثقافية، مستوعبًا لها، وذريعة، لا لمصادرة الثقافات الأخرى، بل أيضًا لمصادرة الحداثة، وقولبتها وتشويهها، بل وتجعلها "معطى" خاصًا، تستولي، عبره، على المنجزات، وتنسبها إلى نفسها، وتفصل من الحضارات ما تريد تفصيله على مقاسها، ولهذا رأينا الامبراطورية الأميركية "تنهي" التاريخ، وتخترع ما سمي "صراع الحضارات" أو "صدام الحضارات"، لتجعل من الحضارات الأخرى تبريرًا لما تهدمه منها. أحادية الثقافة وأحادية القوة، وأحادية التفوُّق. وعندما نسمع من يقول إن العالم بات "قرية كونية" بفعل تنامي وسائط الاتصال والمعلومات، نكتشف بفعل "الاجتراحات" الامبراطورية أن هذه القرية صغرت واحترقت بمن فيها، واندلعت من نيرانها الحروب الإثنية والطائفية والدينية والقومية. وعندما نسمع بأن زوال الايديولوجيات المغلقة (كالماركسية) سيسمح بعالم تنتشر فيه الحريات والبحبوحة واليسر لا سيما عند الشعوب المغلوبة نجد بفعل انتهاب الامبراطورية خيرات العالم لا سيما الجنوب منه، عالمًا يضج بالفقر، والجوع، والأمراض، والحروب، والخوف، والتشرد، والهجرات، والعنف. لتصبح العولمة المتأمركة عولمة السيطرة والتخلف وتنامي المشاعر الدفاعية عن الذات والهوية، والخصوصية، كمتاريس أخيرة للدفاع عن آخر ما تظن الشعوب المقهورة أنها تمتلكه، لتتحقق مقولات "صراع الحضارات" و"الشعوب المختارة"، التي تقابلها الحضارة الأميركية (لا الغربية) المتفوقة. ولهذا، نجد اليوم هذه النزعة الاحتجاجية العالمية على العولمة لا سيما أوروبا، وخصوصًا فرنسا. فهذه الدول هي أصلاً من ميراث الاستعمار القديم. ويعني أنها كانت مصادر العولمة في القرون الماضية. ولهذا أيضًا نجد أن الحركة الاحتجاجية ليست على "العولمة" كإطار وقنوات ورؤيا مشتركة بين الشعوب، بل على العولمة المتأمركة.

وهكذا نرى أن الأمم المغلوبة على أمرها، والأمم المتقدمة في حداثاتها، تجتمع على محاربة العولمة التي صادرتها الامبراطورية. وتلتبس هنا الحداثة (وما بعدها) بالعولمة هذه. فيزدوج العداء لهما عند الشعوب المغلوبة، وينمو حذر شديد لدى الدول المتقدمة ومؤسساتها وأنظمتها من هذه الحداثة المتأمركة المعولمة التي تغزوها، بثقافاتها، ومصادرها، وحتى "هويتها": من صراع الحضارات، إلى الفنون، إلى التكنولوجيا، إلى درجة أنه بات يحكى اليوم عن "غربين" لا عن غرب واحد: الغرب الأميركي، والغرب الأوروبي، وعن صراع "حضاري" بين هذين الغربين، وبين حروب ثقافية بينهما. إزاء كل ذلك ماذا يمكن أن نفعل، نحن العرب؟

- IV -

إلتباس العولمة بجوهر الحداثة، واستيعابها لها، وجعلها مسألة (وبضاعة) خاصة تستخدم، في كل مستوياتها وتعابيرها وأشكالها، لقهر الشعوب، وفرض القيم الاستنسابية عليها، وتهديد مصائرها، أحدثت في شرائح كثيرة من العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث هواجس ومخاوف خطرة، جعلتها ترتد إلى مواقع النقيض في علاقتها بهذه العولمة "الأحادية"، وجعلتها تلجأ إلى ينابيعها الأولى القومية والدينية والطائفية والإثنية. فالعولمة العنصرية (التوتاليتارية) تستدعي ما يشبهها. والعولمة ذات الامتدادات الثقافية الأصولية (التعصب، ومشاعر التفوُّق والنرجسية الدينية)، والانحياز إلى الخطأ والظلم (القضية الفلسطينية، غزو العراق...)، تستحضر الأصولية، والتطرُّف يستسقي التطرُّف، ومنطق الفسطاطين يستدعي منطق الفسطاطين، والثنائية المانوية (خير-شر، أبيض-أسود) تستدعي شبيهتها. لكن المشكلة، عندنا، كشعوب أصبحت مغلوبة ومسبوقة ومهمشة ومهزومة أن هذه الهواجس المشروعة خلطت بين أمور كثيرة: الحداثة كمشروع كوني مفتوح، والحداثة (المعولمة أحاديًا) كمشروع هيمنة ومصادرة؛ الغرب كمرجعية خصبة في ثقافته المتراكمة والمتقدمة، والغرب كصورة مستعمرة؛ العولمة كوسيلة تكسر الأسوار وتزيل العوائق، وتقرب الشعوب، وتلغي المسافات، وتؤدي إلى تبادلية غنية بين الأمم والثقافات، وعولمة تفرض بضاعتها وإيديولوجيتها وخصوصياتها. كل هذا عائد إلى أننا جمعنا الغرب كله وأميركا كلها (هناك أميركا الأخرى الإبداعية التي اطلعت عظماء في العلوم والثقافة والآداب والفنون) والعولمة كلها (كمبدأ) في سلة واحدة، وتراجعنا إلى المقاعد الخلفية، متحصنين بالرفض والانكفاء والخوف والعزلة. وإذا اعتبرنا، لأننا خارج لعبة "الحداثة" التي نسميها غربة (وهي ليست غربية)، لوهن أوضاعنا، وقصورنا عن المشاركة في صنع هذه الحداثة، وقمنا بردود فعل آنية، مباشرة، عاطفية، أو لاعقلانية، أننا خارج التاريخ والحضارة والعولمة، فإننا نرتكب بذلك الخطأ الذي تريد "الامبراطورية" وسواها أن نرتكبه: أي السقوط في القوقعة، والتعصب، والانغلاق الإثني والديني والمذهبي والقومي، للتحصن في ما يسمى الخصوصية والسعي إلى استرداد الهوية والمحافظة عليها، وتقويمها، والعودة إلى الوراء لمقاومة الحاضر والمستقبل، كبديل من المشاركة في هذه الحداثة، أي النقاء الأول بديلاً من الحاضر المتعدد.

من الطبيعي أن نقول إن كل الثقافات كانت ثقافات إثنية، (وربما ما زالت كذلك حتى اليوم)، ولكن، وعبر تراكمات عشرات القرون من التحديث تم ما يمكن أن نسميه "الخروج"، أو مغادرة هذه "الإثنيات" بأشكال متفاوتة بين الشعوب، إلى أن أدت هذه الحداثات المتراكمة إلى نظرة جديدة للعالم، تحاول الخروج من الخصوصيات التقليدية إلى ما هو مشترك بين الناس، وإلى ما هو "إنساني" عام (لا إلى ما هو نقي خاص)، وإلى ما يدفع خارج الذوات المغلقة، لقيم، وإن انطلقت منها، فإنها تتجاوزها إلى ما هو أبعد؛ أو بالأحرى تستنبش ما هو كوني في هذه الذوات، وصولاً إلى ما يتقاسمه البشر أينما كانوا، بصرف النظر عن أعراقهم ولغتهم وخصوصياتهم الإثنية.

فالعولمة القطبية التي صادرت إنجازات الحضارات، وتريد أن تخترع صراعات "حضارية" هي التي صادرت (سياسيًا واقتصاديًا) وحاولت مصادرة "الحداثة" الكونية هذه، التي صنعت كل الشعوب على امتداد ألوف السنين، ونسبتها في مرحلة قوة وتفوُّق وطغيانية معينة من التاريخ إلى ذاتها النرجسية المغلقة، لرفضها تقاسم "الحياة" و"المخيِّلة" و"العقل" والتنوير والابداع مع غيرها، إنها الأحادية. كأنها سطو على كنوز البشرية الألفية والمليونية، وعملية إخضاع مبرمجة لسيادة الصوت الواحد، والأنا الذاتية المضخمة.

وماذا يمكن أن نفعل، عندما يلتبس، عندنا وعبر ردود الفعل، مفهوم الثقافة "بالإثنية"، أو العرقية، أو بالأصولية، أو بهوية "نقية" جد مختزلة؟ والذي يؤدي إلى المجازفة بتضخيم الفروقات والتمايزات الثقافية بيننا وبين الثقافات الأخرى. هذا التضخيم يعزل كل الشعوب ليس عن العالم وإنجازاته، وتجلياته، وعن التواريخ وصناعتها، بل عن تلك الذوات المتفتحة التي لا ترى أملاً في إخصابها، سوى بما يمكن أن نسميه الآخر. (والآخر هو الذات في النهاية، لكي لا نقع في هذه الثنائية). إذ إن أخطر ما نواجهه حاليًا في العالم، ولدى الشعوب المغلوبة بأيدي العولمة الامبراطورية، والحداثة الامبراطورية، والسطوة الامبراطورية، أنها، في ارتداداتها الدفاعية إلى الوراء، وإلى القيم والأمجاد والهويات البائدة، منها، وغير البائدة، أنها تسهل أكثر فأكثر توسع "الأمركة"، وأشكال الهيمنات الأخرى عليها وعلى العالم.

فتضخيم الفروق يصب في مصلحة "القوى" العظمى، أقصد قوى السيطرة والاستغلال، ويؤدي إلى أنظمة غير متنوعة من العنصرية، تمامًا كما هي الحال، اليوم، لا عند بعض شعوب العالم الثالث فقط بل وقبلها وربما بعدها، مع أميركا الجديدة (التي خرجت حتى على دستورها) ومع الصهيونية العدوانية، إحدى الظواهر الظلامية التي خلفتها شقوق الحداثة الاستعمارية.

إن مكتسبات الحداثة (الكونية المتراكمة) هي التي، عبر تنوُّعها، وتنويريتها وقيمها الإنسانية، ما يجب التمسك به. فالعقل التنويري (كعولمة تبادلية عادلة)، كأنه الينبوع المحايد الذي يمكن أن نستفيد منه، وتستفيد منه كل البشرية، (مقاومة العولمة والحداثة المتأمركة لا تعني استقالة العقل الحداثي التنويري). هذه الاستفادة خارج كل اعتبار ديني أو إيديولوجي أو إثني أو عرقي، بحيث إننا، كعرب، وعبر هذا "العقل" يمكن أن نفضي إلى نوع من "الأفكار العالية" قابلة، وبنسب ما، للتحقيق في هذه المستويات الإثنية (المفتوحة) والسياسية والاقتصادية. ويعني هذا، في ما يعنيه، التمسك بالقيم العقلانية التي من إنجازاتها الحداثية الديموقراطية، والفردية، والمجتمعات المدنية، واحترام حقوق الإنسان... فأي سلاح أفعل، في مواجهة أشكال التعصب الدوغماتي الذي يفيض حاليًا من كل جهات العالم، غير التفكير (العقلاني) النقدي (من أسس الحداثة المعولمة الكونية)، الذي يملك القدرة على الخروج من ذاته، وكسر "المركزية الذاتية"، وإدراك قيم إنسانية عالمية محايدة.

إن هذه "القيم العالمية "المحايدة" إيديولوجيًا" (كما يقول المفكر الإيراني المتنوِّر درويش شايفانا في إحدى مقالاته)، المتحررة من كل لون طائفي، أو عنصري، تكون في حد ذاتها مشروع "هوية" مستقبلية، (والهوية مشروع مفتوح) خاصة، لأنها ليست إثنية أو دينية ولا وطنية (بالمعنى الشوفيني)، هوية تنتمي إلى العقل (التنويري) ذاته، وهذا لا يعني، بالضرورة، أن يفضي إلى نوع من "الاقتلاع"، أو الانسلاخ، بقدر ما يعني الانخراط في الذات للخروج منها إلى ما هو أشمل. وهذا لا يعني الاستكانة إلى ما هو نظري فحسب، ولا إلى ما هو "عمومي"، ولكن يعني أيضًا الانخراط في فعل الحداثية التنويرية (العقلانية في المقدمة)، للعمل على إقامة نظم عادلة، ومفتوحة، تتجاوز تحايل الأنظمة الاستبدادية التي تحاول، قدر استطاعتها، تغييب هذه العقلانية النقدية عند الناس خصوصًا أن اللجوء إلى الغيوب وأوهام الهوية، والتمسك بخصوصيات مكتفية، تصب كلها عند هذه الأنظمة سواء كانت إيديولوجية أو دينية أو طائفية.

فالمطلوب إذًا، لمواجهة العولمة "الموجهة"، و"الحداثة" "المصادرة" من قبل الاستبداد والاستعماريين، والامبراطوريين، الانخراط في "عولمة" (عالمية)، ذات قيم تسبق حدود الانقسامات الإثنية، بدلاً من أن نلجأ إلى تهويمات الانغلاق والعصبية والذات النرجسية، والهلوسات اليوتوبية المجنونة، و"المقدس"، والثابت.

إذا كان علينا الخروج من هذه الأزمات التي تتصل بالعولمة وما آلت إليه، وبالحداثة وما آلت إليه، (والما بعد الحداثة) وما آلت إليه ولو كفرع من فروع الحداثة، لا بد لنا من العودة إلى ينابيع التنوير بكل ما تضمنته، وإلى مقاومة كل ظاهرة تخرج على هذه التنويرية، ومواجهة الاستبدادية الآتية من "العولمة المتأمركة"، وكذلك مواجهة الاستبدادية الداخلية المتمثلة، في العالم الثالث؛ بالنظم الطغيانية، وعنف هذه الأنظمة القمعية، وكذلك عنف، ما يسمونه، اليوم "المقدس" الطالع من أعماق العصور والقبور الظلامية.

*** *** ***


 

horizontal rule

* قدمت في المؤتمر الدولي بدعوة من معهد سرفانتس بعنوان "الحداثة والعولمة.

[1] التحوُّل الثقافي، كتابات مختارة في ما بعد الحداثة، فريدريك جيمسون، ترجمة محمد الجندي، صادر عن أكاديمية الفنون، القاهرة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود