|
منقولات روحيّة
توطئة إذا كانت علاقة الشيخ أبي مدين شعيب بمن بعده وبمن قبله من الشيوخ والأولياء قد فككت ونوقشت وطرحت على مشرحة التحليل والبحث، فإن علاقة أبي مدين شعيب بالصوفي والشاعر الجزائري الشعبي الكبير الأخضر بن خلوف لم تطرح ولم تشرح ولم يسلط عليها الضوء بما فيه الكفاية، لكونها، ربما، علاقة روحية صرفة تتجاوز أحداث التاريخ المادية. وثقافة التأريخ التاريخي لدي مؤرخينا تشكو من الاختزالية والانتقائية وافتقاد النسقية والرؤية الكلية، فهي تتركز وتتمركز في أكثرها حول التاريخ السياسي والعسكري والأدبي للذوات وللشخصيات الكبيرة، متجاهلة تاريخهم الروحي، لا سيما إذا كانت هذه الشخصيات تنتمي إلى طائفة الأولياء والمتصوفة.
ليست الصوفية مذهبًا إسلاميًا مستقلاً كالسنة والشيعة، بل هي نزعة من النزعات، أو طريقة إيمانية فيها رجال من السنة، والشيعة، كما أنها لا تقتصر على المسلمين فحسب، فهي نزعة مارسها المؤمنون في شتى الأديان. وإن كان للصوفية الإسلامية تميزها الخاص، فهو تعلقها بمرجعيتها الإسلامية، وارتباطها بهموم الحياة الثقافية الاجتماعية للجماعة العربية-الإسلامية. رأى فيها ابن خلدون: طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيها. فالصوفية تضرب بجذورها إلى ظاهرة (الزهد)، التي انتعشت في منتصف القرن الأول الهجري، زهدًا في الدنيا التي يتصارع عليها المسلمون. وبدأت حركة الزهد سلبية انكفائية، كموقف أخلاقي ضد ما يجري، ثم تمضي في تطورها، في المنتصف الثاني للقرن الأول للهجري، لتظهر في مسلك زهاد الكوفة، والبصرة ومصر موقفًا احتجاجيًا على واقع العلاقات الاجتماعية-السياسية، وعلى ثراء البلاط وعلى التخلي عن تمسك الجماعة الأولى بالدين... إذ بقيت العدالة الاجتماعية أمرًا حاسمًا في تقواهم.
حين نطق التلميذ الحبيب بعبارته القائلة أن: "في البدء كان الكلمة..." أتراه كان يدرك البعد اللامتناهي الذي أعطاه لعلاقة الإنسان بالـأنت الداخلية التي في أعماقه؟ إن لم نقل، لعلاقة الإنسان بذلك السر الأعظم الذي هو الألوهة؟ لا شكَّ بالنسبة لي أنه كان يدرك ما يقول، لأن من كان ينطق بلسانه كان ابن الكلمة أولاً، ولأن ما نطق به كان الكلمة الأساسية أنا–أنت المعبرة عن التواصل الحقيقي بينه وبين ذاته ثانيًا. وأيضًا... فقد كان بتواصله العميق هذا يعبِّر عن حاجة تجاوزت بمراحل الخوف البدئي والغريزي للإنسان من ذلك المجهول الذي ندعوه مجازًا بالموت. ذلك الناجم عن إمكانية الانقطاع الكامل عن التواصل مع الحياة عمومًا ومع الذات الداخلية الخاصة تحديدًا. فقد كان ينطق بلسان المحبة الحقيقية الشاملة لمن أضحى جزءًا لا يتجزأ من ذاته من خلال القلب والعقل و... العلاقة. إنها العلاقة! دائمًا العلاقة!
|
|
|