الصفحة السابقة                    

عودة إلى الذات 4
في البدء كان العلاقة٭

On the Lookout

طائر الليل

... والكلمة كان عند الله، والكلمة كان هو الله...
إنجيل يوحنا 1: 1

1

حين نطق التلميذ الحبيب بعبارته القائلة أن: "في البدء كان الكلمة..." أتراه كان يدرك البعد اللامتناهي الذي أعطاه لعلاقة الإنسان بالـأنت الداخلية التي في أعماقه؟ إن لم نقل، لعلاقة الإنسان بذلك السر الأعظم الذي هو الألوهة؟ لا شكَّ بالنسبة لي أنه كان يدرك ما يقول، لأن من كان ينطق بلسانه كان ابن الكلمة أولاً، ولأن ما نطق به كان الكلمة الأساسية أنا–أنت المعبرة عن التواصل الحقيقي بينه وبين ذاته ثانيًا. وأيضًا...

فقد كان بتواصله العميق هذا يعبِّر عن حاجة تجاوزت بمراحل الخوف البدئي والغريزي للإنسان من ذلك المجهول الذي ندعوه مجازًا بالموت. ذلك الناجم عن إمكانية الانقطاع الكامل عن التواصل مع الحياة عمومًا ومع الذات الداخلية الخاصة تحديدًا. فقد كان ينطق بلسان المحبة الحقيقية الشاملة لمن أضحى جزءًا لا يتجزأ من ذاته من خلال القلب والعقل و... العلاقة.

إنها العلاقة! دائمًا العلاقة!

2

وأتفكر بذلك السر الأعظم من هذا المنظور العلائقي. ليس لأنه لا يمكن لأحد في الحقيقة أن يبين بالتحديد و/أو بالبرهان العلمي والحسي الملموس والمباشر ماهيته وحقيقة وجوده أو عدمه. فالبعض يعتقد أن بوسعه ذلك؛ وأنا أحترم قناعات هذا البعض وخبرته. ولكن...

لأني أبحث عن نفسي، فإني سأحاول من منظوري، وانطلاقًا من تجربتي الحياتية المتواضعة، ومن علاقتي مع ذاتي ومع العالم المحيط، أن أتلمس، من منظور علائقي، ما انطبع في عقلي وقلبي وما فهمته من تلك الذات الداخلية. وقد تطلب الأمر مني حياةً بكاملها لأتوصَّل إلى بعض فهم شبه متماسك بهذا الخصوص.

قلت حياةً بكاملها، وأنا الآن على مشارف النهاية أسترجع من خلال ذكرياتي كيف كانت تجربتي بهذا الخصوص. لأني والحقُّ يقال، ورغم أني قضيت طفولتي وسنيَّ شبابي الأولى في مدارس دينية مسيحية[1]، إلا أن ألوهتكم لم تكن يومًا ذلك الموضوع الذي كان يؤرقني كثيرًا في تلك المرحلة المبكرة من حياتي. والسبب في هذا يعود، لحسن حظي ربما، إلى الجو المتحرر الذي كان سائدًا في عائلتي التي لم تكن معروفة بتدينها الشديد. فقد كانوا يعلِّمونا في المدرسة، وبشكل كثيف، مبادىء الدين المسيحي والأخلاقيات ذات العلاقة بتلك الألوهة، ولكن المناخ السائد في العائلة، والذي لم يكن يعبأ كثيرًا بهذه الأمور، كان دائمًا يعدل الكفَّة.

وتعود إلى ذهني بهذا الخصوص هذه القصة الطريفة: جاءنا ذات يومٍ إلى المدرسة، وكنت يومها في الصف الثالث الإبتدائي، كاهن مبشِّر قضى معنا ساعتان طويلتان لقننا فيهما أمورًا تتعلق بالدعوة الإلهية. وخاصةً، عبَّر لنا ببلاغة عظيمةٍ ومؤثرة عن حاجة الألوهة، وتحديدًا من ثالوثها المقدَّس الربُّ يسوع، إلى من سمعوا صوته من أجل خدمته.

لم أعد أتذكر اليوم بدقة ما الذي قال، ولكني أتذكر بشكلٍ جيد أني تأثرت يومئذٍ إلى حدٍّ كبير بما سمعت، ما جعلني أعتقد آنذاك أن نداء الألوهة قد اخترق قلبي الذي اقتنع بأنه مدعو للخدمة. وقد اقتنعت إلى حدِّ إني حين عدت بعيد ظهر ذلك اليوم إلى المنزل، توجهت فورًا إلى والدي الذي كان جالسًا إلى مائدة الطعام مع أمي وجدي وعمي، وقلت له بحماس كبير:

-       بابا، أريدُ أن أصبح كاهنًا.

فضحك الجميع، وعلى رأسهم والدي الذي أجابني مباشرةً وهو يضحك:

-       كول .... ولكْ!

ما قضى فورًا، وبشكل كامل، ومن خلال الضحك، على تلك الدعوة التي كان تتملكني قبل لحظات. وأيضًا...

أتذكر كيف كنت أشعر بالملل وبالنعاس خلال أوقات القدَّاس أو في تلك الساعات التي كانوا يحاولون فيها تلقيننا، ونحن ما زلنا أطفالاً ومراهقين، مبادئ الدين والصلاة والتأمل.

ما يعني أنه لم يكن للألوهة، كما حاولوا تلقيننا إياها في تلك الأيام، وربما تحديدًا لهذا السبب، أي تأثير مباشر على حياتي. ألهم، إلا من خلال العلاقة والتأثير المباشر لبعض الأشخاص على مساري في تلك المرحلة، كالأخت كارلا في تلك المراحل المبكرة من طفولتي والتي ما زلت أتذكَّر إلى الآن طيبتها وتفانيها ووجهها المشرق الجميل؛ ووالدي الذي كنت أراقبه كل ليلة حين كان يصلي أمام أيقونة السيدة العذراء قبل أن ينام، فأعجب لصدق انفعاله في تلك اللحظات؛ والأخ بيرناردوس من مدرسة الأخوة المريمين وطيبته وتفانيه؛ وجدَّي الذي تأثرت كثيرًا حين توفي وكان عمري يومها 14 عامًا – وأتذكَّر أني بكيت كثيرًا آنذاك لأني فقدت إنسانًا كنت شديد التعلق به –؛ والأب يوسف معلولي، من مدرسة الآباء العازريين، الذي رعى بتفانيه وطيبته اللامتناهية شبابي ومراهقتي، والذي ما زلت أتذكَّر كيف استوقفني ذات مرة في الطريق وكنت يومها في صفِّ البكلوريا، وكنت في حينه على وشك أن أصبح شيوعيًا، ليقول لي:

-       أكرم، يا أكرم لقد كان ماركس على حقٍّ حين ثار في وجه الظالمين!

وأتذكر الأب الشاب جورنياك الهارب من الخدمة العسكرية في الجزائر والذي كان أول من بدأ يمرر لي كتبًا ونشرات تتحدث عن أفكار جديدة كان بعضها يتحدث عن العدالة وبعضها الآخر عن الإلحاد. وأتذكر الأب ميشيل عطالله مدير المدرسة وأستاذنا لمادة الفلسفة لتسامحه. وأتذكر كيف أني في ذلك الحين، وكان عمري يومها سبعة عشر عامًا، وكنت قد تأثرت جدًا بما قرأت من أفكار جديدة لم تكن تدرَّس لنا مباشرةً في المدرسة، رفضت الألوهة التي كانت تقدم لنا وأديانها وقررت، بعقل وحماس طالبٍ مراهق، أني غير مؤمن.

من تلك الأيام، وبهذا السياق، يعود إلى ذهني شخصان بالتحديد: الأستاذ ندره اليازجي الذي كان يومها أستاذًا شابًا يدرِّس مادة الأخلاق في مدرستنا، والذي حاول أن يناقشني بمبادىء فلسفته المثالية، فأتذكر أنه سحرني بلطفه ومحبته رغم أني رفضته بشدة لاعتقادي في ذلك الحين بتعارض المبادىء التي كان يدعو إليها مع مبادئي؛ كما يعود إلى ذهني تحديدًا الأب ميشيل عطاالله، فأتذكَّر أني، وقد كنت في الصف الحادي عشر، طلبت ذات يومٍ لقاءه كي أحدثه بأمر هام يؤرقني.

"تفضل يا أكرم، ماذا عندك وما الذي تريد إخباري به..." هكذا قال لي يومها مرحِّبًا بعد أن دعاني إلى الدخول إلى مكتبه وإلى الجلوس أمامه. وأتذكَّر كيف شعرت في تلك اللحظة بالارتباك قليلاً، ولكني سرعان ما استجمعت شجاعتي وقلت له:

-       لقد جئت لأطلب منك طلبًا خاصًا يا أبونا... أن تعفني من حضور القدَّاس الأسبوعي ومن دروس الديانة...

فنظر إليَّ بتعجبٍ وسألني:

-       ولماذا لا تريد حضور القداس ودروس الديانة يا أكرم؟

فأجبته، وبكلِّ جلافة:

-       لأني لم أعد مؤمنًا يا أبونا. لأني الآن ملحد ولم أعد أؤمن بوجود الله!

فابتسم بحزنٍ، وقال لي ببساطة:

-       كما تشاء...

وأتذكر كيف خرجت بسرعة من مكتبه، وأنا أتمنى في تلك اللحظة، ومن شدة خجلي من نفسي، لو أن الأرض قد ابتلعتني، متسائلاً ذلك السؤال الذي ظلَّ يؤرقني لفترةٍ طويلة: "لماذا، لماذا فعلت ما فعلت؟ ولماذا جرحت مشاعره؟"، متفكرًا أني لو كنت مكانه لكنت طردت ذلك الطالب المتعجرف والمغرور فورًا من مدرستي. لكنه لم يفعل. إنما ظلَّ، وبكل طيبة، يرعاني كأحد أفضل طلاب المدرسة. لا بل إنه، وحين انتسبت إلى كلية الهندسة، دعاني لكي أدرِّس مادة الرياضيات لطلاب الصفِّ السابع في مدرسته التي كانت أيضًا مدرستي. وأتفكر بأنها ذكريات قد تبدو بسيطة لكنها علَّمتني، ومن خلال العلاقة، وجهًا آخر وأعمق من ذاتي الإنسانية، الذي هو وجه التسامح ووجه المحبة، إن لم أقل الوجه الحقيقي لما نفترض أنه الألوهة.

إنها العلاقة! إنها دائمًا العلاقة!

3

تلك العلاقة التي حين تكون مع ذاتنا – وفي قلب العالم المحيط – تجعلنا نحلِّق فرحًا لشدة غبطتنا و/أو، في الوقت نفسه أو في أوقات أخرى ربما، تجعلنا نبكي لتعاستنا اللامتناهية. لأنها...

تلك التي تشعرنا بعمق حين نكون سعداء، بأن الـأنا، التي هي ذاتنا، على انسجام وتناغم تام مع ذاتها، هذه الذات التي هي الـأنت الكلِّية التي في أعماقنا... يا إلهي.

تلك التي حين نكون تعساء، ونمتلك الشجاعة والجرأة على مواجهة أنفسنا، تجعلنا نبكي بصمتٍ لشعورنا بالعار وبالخجل من نفسنا، التي هي أيضًا ذاتنا، أي تلك الـأنا التي انقطع تواصلها مع نفسها، وهذه النفس ما هي إلا تلك الـأنت الكلِّية التي في أعماقنا... يا إلهي.

وهكذا، عن طريق العلاقة، والفكر، والحياة، والفعل، تتعمق الخبرة، ويتعمق التواصل مع الذات؛ بمعنى تتعمق علاقة الـأنا الخاصة بي بالـأنت الخاصة بها. أو ربما قد ينقطع الشعور بهذه العلاقة أحيانًا لأنها لم تكن عميقة ولا صادقة بما فيه الكفاية. وهذه العلاقة – أو اللاعلاقة – هي دائمًا بيني أنا وبين تلك الـأنت الكلِّية التي في أعماقي... يا إلهي.

وأتفكَّر في نفسي وفي حياتي. فأتذكَّر كيف تعمقت قراءاتي وتعمق فهمي من خلال الحياة ومن خلال العمل. فقد كنت ما زلت أقرأ الكلاسيكيات والكتب الماركسية، إلا أني أصبحت أستمتع أكثر بالقراءات العلمية والفلسفية وخاصةً، ووجدتني أعيد قراءة العهد القديم (التوراة) وتحديدًا منه أسفار التكوين والمزامير وأشعيا... وأيضًا، أقرأ العهد الجديد وتحديدًا منه خطبة الجبل التي من إنجيل متّى، كما أصبحت أستمتع خاصةً بقراءة إنجيل يوحنا.

وبدأت، من خلال هذا التعمق أو بسببه، أشعر ببعدٍ آخر لم أكن أشعر به من قبل. بعدٌ كان يتجذر باستمرار في نفسي مترافقًا مع ازدياد خبرتي الحياتية ومسؤولياتي المباشرة تجاه من أحب.

وتجدني لأول مرَّة في حياتي أحاول قراءة القرآن الكريم، فأفشل في المرة الأولى لضعف تمكني من اللغة العربية في ذلك الحين، ثم أتمكن من قراءته في المرة الثانية.

وأيضًا، على ضوء هذه الخبرة، تعمقت في ذهني وفي قلبي، أبعاد التساؤلات التي كانت تطرحها تلك الكتب التي أصبحت أستمتع بقراءتها. وخاصةً منها، تلك المتعلقة بذلك الموضوع الأساسي الذي هو الألوهة التي أجدني أحاول اليوم، ومن خلال مراجعتي لنفسي، ومن خلال العلاقة، تبيان ما أتلمس من حقيقتها.

4

لأني بهذا الخصوص، وكالكثيرين، كنت وما زلت أتعامل مع ذلك الموضوع من مستويين:

-       أولهما، ذلك الذي أتواصل فيه مباشرة مع نفسي ومع العالم المحيط عن طريق العقل والعلم والتجربة الإنسانية الحسِّية المباشرة وغير المباشرة للعالم الذي نعيش فيه بأجسادنا وعقولنا ونختبره بحواسنا وفكرنا.

-       وثانيهما، ذلك المستوى الذي لا يمكن فصله عن الأول لأنه يتشابك معه، فيستوعبه ويتملَّكه و/أو يخضع له من خلال الذات وعن طريق العلاقة.

وتراني في المستوى الحسِّي الأول أجرِّب وأختبر وأفكر بعقل يحاول أن يكون باردًا. بينما في المستوى الثاني أعيش في علاقة حميمية مع ذاتي. وما بين هذين المستويين هناك دائمًا تلك الصلة التي لا تنقطع إنما تتفاعل في أعماق النفس بين الأفكار والأحاسيس عن طريق العقل والقلب معًا.

وتراني في المستوى الأول، وحين أتفكر بعلوم نشأة الكون Cosmogony مثلاً، ما زلت أتوقف أمام إحدى آخر وأكثر النظريات رواجًا واحتمالاً – ألا وهي نظرية الانفجار الكبير Big Bang. فأتفكر من منظور عقلي أن هذه النظرية العظيمة والمدعَّمة بالتجربة العلمية قد بيَّنت أمور كثيرة من أهمها:

-       أن للكون المادي الذي نعيش فيه لحظة بداية – ما يعني أنه كما نعرفه لم يكن موجودًا منذ الأزل. وأيضًا...

-       أن هذا الكون، ووفقًا للنظرية التي وضعها عالم الفلك إيدوين هوبل Edwin Hubble (1889 – 1953) عام 1929 الذي رصد تلك الظاهرة، يتمدد بسرعة تتناسب مع مدى ابتعاد عناصره. ما يعني أنه ليس ثابتًا. وأيضًا...

-       أن هذا الكون يتبرد، حيث كان وكما افترضته نظرية الانفجار نفسها، حارًا جدًا في بداياته. وقد رصد العلماء أرنو بينزيا وروبرت ولسن[2] عام 1965، بقايا ذلك الانفجار، من خلال رصدهم وقياسهم لإشعاعات كونية عالية الحرارة[3] ومن بقايا تلك اللحظات الكونية الأولى. ما يعني أنه يتطور، وأنه مما يبدو وكأنه مادة صماء، نشأت الحياة. خاصةً وأخيرًا...

-       قد تمَّ اكتشاف وفرة من العناصر الخفيفة كالهيدروجين والهيليوم، الأمر الذي يدعِّم نظرية الانفجار الكبير التي ما زالت إلى الآن من أكثر النظريات المتعلقة بنشأة الكون احتمالاً.

وأجدني بهذا الخصوص، وبعين عقلي وقلبي، أقف أمام العديد من التساؤلات التي طرحتها تلك الاكتشافات العلمية العظيمة. وهي تساؤلات يتداخل فيها العلم بالفلسفة وباللاهوت، وتقودنا إلى أخرى فلسفية منطقية جدًا حول احتمال أن يكون نشوء الكون من فعل قوة خارقة غير طبيعية. وهنا تتعمق التساؤلات وتتشابك...

حيث الاعتقاد السائد في الوسط العلمي بأنه لا يمكن أن يوجد شيء خارج نطاق مملكة الطبيعة الكونية والمادية للأشياء التي تتكون كلُّها من مادة ومن طاقة. وهو أمر أكدته حتى تاريخه أعمق وأعظم النظريات التي درست الخواص الأساسية للمادة، والتي كان أهمها وأعمقها حتى الآن النظرية الكوانتية التي حاولت أن تتلمس تفسيرًا أكثر عمقًا للعلاقة بين الجزيئات المادية وبين الإشعاعات، وما انبثق عن هذه النظرية من فرضيات أخرى كان أهمها مفهوم الريبة الذي لفرنر هايزنبرغ؛ ذلك المفهوم الذي أعاد، نسبيًا ومقارنةً، وإن قرن بالنظرية الكوانتية التي انبثق عنها، طرح مدى محدودية علومنا الأرضية. لأن الإنسان الذي ما زال...

... يطوف على سطح الأشياء فيجرِّبها، ويستخلص منها معرفة تركيبها: يكتسب منها خبرة. ويجرِّب ما تمتلكه الأشياء.

لكن العالم لا يقدَّم إلى الإنسان من خلال التجربة فقط. فالتجربة تقدِّم للإنسان عالمًا مؤلفًا من هو وهي فقط...[4]

وأجدني هنا تحديدًا، وبشكل طبيعي، أمام تساؤلات جديدة تتداخل فيها أيضًا علومنا الأرضية مع روحانياتنا، وخاصةً منها تلك الروحانيات والفلسفات التي منشأها الديانات والفلسفات الشرقية القديمة، كما بيَّن ذلك بشكل ملفت للنظر عالم الفيزياء فريتيوف كابرا Fritjof Capra، في كتابه تاو الفيزياء، الذي تبين العمق الفلسفي للتساؤلات التي طرحتها تلك الديانات والفلسفات الشرقية القديمة ومدى تطابقها الكبير مع تلك التي تطرحها اليوم الفيزياء الحديثة.

لأنه دائمًا، وبشكل طبيعي، تنبثق من أعماق عالم الأشياء، الذي كان وما زال وسيبقى خاضعًا للتجربة الإنسانية عن طريق الإنسان المتفاعل معه والذي يحاول سبر أغواره، تلك الشرارة التي تعيد جميع تلك التساؤلات إلى أعماق الذات الإنسانية – إن لم نقل إلى أعماق العلاقة الحيَّة والأزلية بين ذاتنا وبين أعماقها، أو لنقل بين الـأنا وبين الـأنت كما عبَّر عنها مارتن بوبر.

وتجدني في هذا المجال أتفكر بالألوهة من منظور علاقتي بذاتي. وهنا، بكلِّ صدق أقول إن هذه العلاقة، التي لم تكن يومًا نابعة، بالنسبة لي، من خوف من إله يحاسب و/أو يدين، أصبحت مع الأيام أكثر عمقًا وأكثر حساسيةً.

وأجدني بكلِّ هدوء أصبح عقليًا (أي من الناحية الفلسفية) وفي أعماق قلبي (أي من الناحية الروحية) مؤمنًا بوجود سرٍّ عظيم يتجاوزني ويستوعبني وليس بوسعي تحديده.

لذلك، تجدني في هذه المرحلة المتقدمة نسبيًا من حياتي أعاود بأعين جديدة قراءة الكتب المقدسة لدياناتنا الأرضية، كسفر التكوين الذي أصبحت أتوقف عنده، ويقول:

-        في البدء خلق الله السموات والأرض [...] وقال الله: ليكن نور [...] وفصل بين النور والظلام [...] وكان مساء وكان صباح يوم واحد.

-        وقال الله: ليكن جَلَد وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه [...] وكان مساء وكان صباح يوم ثان.

-        وقال الله: لتجتمع المياه التي تحت السماء إلى موضع واحد وليظهر اليبس فكان كذلك [...] وقال الله: لتنبت الأرض نباتًا وعشبًا يبذر بذورًا وشجرًا [...] وكان مساء وكان صباح يوم ثالث.

-        وقال: الله لتكن نيِّرات في جَلَد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين [...] وكان مساء وكان صباح يوم رابع.

-        وقال الله: لتفضِ المياه زاحفات ذات أنفس حية وطيورًا تطير فوق الأرض وعلى وجه جَلَد السماء [...] وكان مساء وكان صباح يوم خامس.

-        وقال الله: لتُخرِج الأرض ذوات أنفس حية بحسب أصنافها بهائم ودبابات ووحوش أرضٍ بحسب أصنافها [...] وخلق الله الإنسان على صورته وخلقه ذكرًا وأنثى [...] وكان مساء وكان صباح يوم سادس.

لأني أصبحت أتلمَّس البعد الروحي للرموز المنبثقة عن تلك المحاولة الإنسانية السحيقة التي حاولت فهم أسرار الخليقة. وأجدها محاولة في منتهى العمق والصدق وتعبِّر عن علاقة فعلية صادقة بين الإنسان القديم وعالمه.

ومن هذا المنطلق أيضًا، تجدني اليوم، مع فريتيوف كابرا، وعن طريق عقل أصبح أكثر تفاعلاً مع أعماقه، أحاول تلمُّس أبعاد تلك الديانات والفلسفات الشرقية القديمة التي تتقاطع كتاباتها ربما مع آخر ما توصلت إليه علومنا الحديثة. فيستوقفني بشكل خاص نصٌّ بوذي يقال إنه بمنتهى القدم، وهو النص الذي استندت إليه السرَّانية الكبيرة هيلينا پ. بلافاتسكي حين قدَّمت عملها الخالد العقيدة السرِّية. ذلك الذي جاء في بعض منه، وفيما يتعلق بما قبل الخليقة، أن:

كانت الوالدة الأزلية، متسربلةً بأثوابها المستترة أبدًا، قد هجعت من جديد لسبع أبديات.

الزمن لم يكن؛ إذ إنه كان يرقد هاجعًا في الحضن اللانهائي للدهر.

العقل الكلِّي لم يكن؛ إذ لم تكن كائنات سماوية موجودة لتحتويه.

الطرق السبعة إلى الغبطة لم تكن. وعللُ الشقاء العظيمة لم تكن؛ إذ إنه لم يكن من أحد يتسبَّب فيها أو يقع في حبائلها.

وحدها كانت الظلمة تملأ الكلَّ غير المحدود.

وأجدني مرةً أخرى أمام محاولة إنسانية أخرى، لتفسير نشوء الكون ونشوء الحياة والإنسان.

وكل هذا من خلال علاقتي الحيَّة بهذا الكون الذي أنا منه وأعيشه كإنسان من خلال العلاقة. لكن...

5

بيني وبين نفسي، بعين عقلي وبعين قلبي، ما زلت أتساءل عن حقيقة وماهية الوجود الملموس لذلك السر الأعظم الذي يتجاوزني والذي يسمونه بالألوهة. وجوابي على هذا التساؤل يقول: "نعم، وبكلِّ تأكيد، هناك سرٌّ حقيقي عظيم وحيٌّ يتجاوزنا ويستوعبنا معًا..."

لأنه، إن كنا على صعيد الكون مجرَّد مادة تتألف من ذرات ومن طاقة، أي مجرَّد غبار لا يذكر مقارنة بسعة كوننا وعظمته، فإننا، وهنا تكمن المعجزة الكبرى، غبار يفكر ويحلم ويحب ويتألم، إن لم نقل غبار ألوهة.

وهذا ما أشعر به فعلاً، لا بل هذا ما أصبحت مقتنعًا به تمامًا، ويقول إن هناك شيء من هذا ويتجاوزنا. إن هناك ذاتًا، إن لم نقل بعدًا حقيقيًا يتجاوز الإنسان الذي يشعر به. وبالتالي، فإني أصبحت مقتنعًا بأنه من الضروري السعي إلى التعرف على تلك الذات وفهمها إن كنا نرغب فعلاً في معرفة أنفسنا. وهذا البعد هو...

الكون. وهو المطلق والعدم. ومن خلاله...

هو ذلك الكمون، إن شئتم، وتلك الحركة والمادة والطاقة. وأيضًا...

هو ذلك الألم الذي في قلوبنا، وتلك السعادة، وتلك المحبة...

(أي في اختصار)

هو كل ما نعلم وسنعلم. وخاصة، هو كل ما نجهل وسنبقى جاهلين...

وهذا بالنسبة لي هو البرهان الوحيد والأساسي على حقيقة هذا الذي يتجاوزنا ولا نستطيع تحديده وندعوه بالألوهة.

وهذا ما أصبحت أؤمن به بكل عقلي ومن كلِّ قلبي. تلك الألوهة التي، بكل صدقٍ وسذاجة، أتوجه إليها أحيانًا حين أختلي بنفسي مرددًا:

أبانا الذي في السموات، ليتحقق اسمك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض...

مع التأكيد أنه ستبقى بالنسبة لي، كما ستبقى حتى النهاية بالنسبة لإنسانيتنا، تلك التساؤلات العميقة المتعلقة بطبيعة ذلك "الكائن" وأبعاده.

ولكن هذه التساؤلات أمور تتعلق بالعرفان الحقيقي أو الغنوص الذي سبق وتطرقت له في الفصل السابق.

وأنا كالكثيرين منكم، ما زلت أحاول، من منظوري المتواضع، تلمس أبعاد ذلك العرفان. لأني...

أريد معرفة نفسي.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010.

[1] مدرسة راهبات الفرانسيسكان، مدرسة الأخوة المريميين، مدرسة الآباء العازريين.

[2] حاز العالمان أرنو بنزيا وروبرت ولسن على جائزة نوبل للفيزياء عام 1978 بسبب اكتشافهما هذا.

[3] 2.725 degree Kelvin (-454.765 degree Fahrenheit, -270.425 degree Celsius)

[4] مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود