|
بذور مفاهيم حقوق الإنسان في التصوف الإسلامي
ليست الصوفية مذهبًا إسلاميًا مستقلاً كالسنة والشيعة، بل هي نزعة من النزعات، أو طريقة إيمانية فيها رجال من السنة، والشيعة، كما أنها لا تقتصر على المسلمين فحسب، فهي نزعة مارسها المؤمنون في شتى الأديان. وإن كان للصوفية الإسلامية تميزها الخاص، فهو تعلقها بمرجعيتها الإسلامية، وارتباطها بهموم الحياة الثقافية الاجتماعية للجماعة العربية-الإسلامية. رأى فيها ابن خلدون: طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيها. فالصوفية تضرب بجذورها إلى ظاهرة (الزهد)، التي انتعشت في منتصف القرن الأول الهجري، زهدًا في الدنيا التي يتصارع عليها المسلمون. وبدأت حركة الزهد سلبية انكفائية، كموقف أخلاقي ضد ما يجري، ثم تمضي في تطورها، في المنتصف الثاني للقرن الأول للهجري، لتظهر في مسلك زهاد الكوفة، والبصرة ومصر موقفًا احتجاجيًا على واقع العلاقات الاجتماعية-السياسية، وعلى ثراء البلاط وعلى التخلي عن تمسك الجماعة الأولى بالدين... إذ بقيت العدالة الاجتماعية أمرًا حاسمًا في تقواهم. فلجأوا إلى الاعتكاف والزهد "احتجاجًا على ما ينكرونه من حكومة ونظام". وكان أبرز زُهَّاد هذا الدور حسن البصري (ت728هـ). ثم أصبحت النظم السلوكية "=المجاهدة" التي اتبعها الصوفية، فيما بعد، امتدادًا للسلوك الزهدي، وتحولت "الاجتهادات" الزهدية نواة لمنهج "التأويل" الصوفي، الذي يتشابه وطرائق أهل "الباطن". وغدا الحب هو نزعة الصوفية، والمعرفة هدفها وغايتها، والوجد خبرتها العليا. فمع رابعة العدوية (ت801م) ومعروف الكرخي (ت815م) دخل بعض الزهاد عتبات التصوف، حيث قدمت رابعة مفهوم "الحب الإلهي"، وقدم الكرخي مفهوم "المعرفة الذوقية" التي تقود إلى الله. وتحول التصوف إلى حياة روحية منظمة مؤسسة على قواعد وعلى أساليب من الرياضيات والمجاهدات وعلى دراسة أحوال النفس. امتزجت الفلسفة بالتصوف، في القرن الثالث الهجري، وتأسست لها مدارس ذات مناهج مختلفة، وإن كان لها مقاصد مشتركة: الاتحاد، أو الفناء، أو التوحد مع التعالي. وأهم تلك المدارس: مدرسة بغداد المحاسبي (243هـ)، والسراج (286هـ)، والسقطي (253هـ)، ومدرسة نيسابور (حمدون القصار 271هـ)، مدرسة الشام ومصر (ذو النون المصري 245هـ). أول من حدد نظريات الصوفية، وبوبها، أبو القاسم الجنيد (298هـ)، الذي شرحها وبوبها ونشرها. ثم بلغت فلسفة الاشراق والإلهام ذروتها القصوى مع الحسين بن منصورالحلاج (921م)، والسهروردي (1191م)، وابن عربي (1240م). إعلاء شأن الإنسان تميزت الصوفية بالإعلاء الروحي لمقام الإنسان ورفعته، وذلك عن طريق الاتصال المتصاعد مع الله، وقد تجلى هذا الإيمان برفعة الإنسان بمظاهر مختلفة. إذ دشنت الصوفية تجربة روحية وجودية فريدة، أقامت فيها الحجة على قدرة الإنسان الخارقة على الاتصال المباشر بالتعالي. حبذ الإسلام التواصل مع الله بدون وساطة، إلاَّ أن التصوف ذهب في هذا القصد إلى حده النهائي مدفوعًا بشوق اللقاء الحميمي مع الله، "وكانوا يأملون معرفة الله كما عرفها محمد عندما تلقى الوحي". استخدم الصوفية المعرفة على الطريقة (العرفانية) لهدم الجدار الفاصل بين الله والإنسان. وقد أعطت الصوفية الإنسان دورًا عظيمًا في الوجود، إذ عظَّم الصوفيون دور الإنسان، وكرموا صورته، ووظيفته الكونية، فجعلوه أصل العالم، بحيث حق للعالم كله أن يُسمى "الإنسان الأكبر"، ويُسمى الإنسان "العالم الأصغر". ويمجد ابن عربي الإنسان، بمثل ما ذهب إليه إخوان الصفا، على اعتبار أن الإنسان الفرد ملك سماء الدنيا، والشمس خليفة الله في السماوات والأرض. بل إن مذهب ابن عربي جعل الإنسان مركز الكون، إذ يقول: خلق الله الإنسان مختصرًا شريفًا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة لما في العالم الكبير. أما عند الإيجي (756هـ) فالإنسان جامع لطبيعة الموجودات، من جماد ونبات وحيوان وشياطين وملائكة. وقد أشار الحسين بن منصور الحلاج، من قبل، إلى أن الإنسان صورة الله، وأن لهذه الصورة طبيعتان: ناسوتية، ولاهوتية. ويُبرز ابن عربي فكرة: إن العالم عندما خلقه الله كان شبحًا لا روح فيه، فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة. فالإنسان قد غدا عند ابن عربي أصل الموجودات، ومبدأ صلة العالم مع الله، وصورة الله التي استحق من أجلها الخلافة على الأرض. التسامح الديني ومحبة الإنسان وقف المتصوفة الكبار إزاء التنوع الديني والمذهبي موقفًا تسامحيًا عميقًا، مطورين التصور القرآني لوحدة (الوحي) إلى مداه الأخير، ناظرين إلى هذا التنوع كسبل مختلفة لاكتشاف الحق. فهذا الحلاج بدأ دعوته، ينشد ويريد أن يجد كل إنسان الله في أعماق نفسه، وكان يتجنب انتقاد التسميات المميزة بين الفرق الدينية، فهو يريد أن يعود بالناس إلى الأساس الأول، مصدر الأفكار العليا ومصدر كل فهم، متعاملاً مع الشعائر المختلفة كوسائط يجب تجاوزها إلى الحقيقة الإلهية. ونوه في شعره بالأصول الواحدة لكل الأديان، فكتب: تَفَكَّرت في الأديان جِدَّ مُحقِّقِ فألفيتُها أصلاً له شُعب جمَّا وقد عبَّر الحلاج في المرحلة الأخيرة لتطوره الفكري – كما يقول ماسينيون – عن "رغبة أساسية في توحيد طرق العبادة عند بني الإنسان". كما صاغ السهروردي أيضًا نظامًا بالغ التعقيد، حاول فيه ربط جميع الرؤى في العالم في دين روحي واحد. وكانت أكثر الصياغات دقة وبقاء هي تلك التي عبر عنها ابن عربي (1165-1240م)، الذي حاول في الفتوحات المكية وأعماله الأخرى التعبير عن رؤية العالم كتدفق لا نهائي من الوجود الذي يبدأ من الذات العليا ويعود إليها، وقد طور ابن عربي موقفًا إيجابيًا تجاه الأديان الأخرى لأن الله يقول: "فأينما تولوا فثم وجه الله". وبذلك نادى بالتسامح الديني، وفتح قلبه مشرعًا على العالم، بكل تنوعاته: بأشيائه، ومخلوقاته ودياناته. فأنشد:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان المستقبل، الأربعاء 1 كانون الأول 2010، العدد 3845، رأي وفكر، صفحة 19 |
|
|