غاندي: مقدمة قصيرة جدًا 3
المعتقدات الدينيَّة
بيكو باريك
ترجمة: عدنان علي حسن
الروح الكونيَّة
كان غاندي مفكِّرًا عميق التديُّن. وعلى الرغم من
تأثُّره بالديانات الهندوسيَّة، والمسيحيَّة، واليهوديَّة، إلا أنَّ
قناعاته الدينيَّة تجاوزتها جميعًا واتخذت بذاتها نسقًا خاصًّا بها.
وكان واضحًا أنَّ الإيمان بالله يشكِّل أساسها. ومن جهةٍ أخرى، لمَّا
كان غاندي يعتقد أنَّ لفظة "الله" تحمل معنى كائنٍ أو شخصٍ، فإنه كان
يفضِّل أن يستخدم لفظةً أخرى من مثلِ المبدأ الخالد، الذكاء أو الوعيِّ
الأسمى، القدرة الكونيَّة، الطاقة، الرُّوح، أو شَكْتي
shakti.
وفي الفترة الأخيرة من حياته، كان يفضِّل التحدُّث عن ساتيا
satya
(الحقيقة المطلقة أو الواقع المطلق)، ورأى أنَّ ذلك هو "الوصف الوحيد
الدقيق والأكثر دلالةً لله". استعمل غاندي مصطلح ساتيا
satya
متَّتبعًا أثر المعارف الفلسفيَّة الهنديَّة للإشارة إلى الأساس المطلق
للوجود، ذلك الذي وحده يبقى ثابتًا وسط التغيُّر، ويحافظ على وحدة
الكون. وظلَّ يقول، لوقتٍ طويلٍ، "الله هو الحقيقة"، وهذا يتضمَّن
أمرين اثنين: إنَّ الحقيقة هي واحدة من صفات الله العديدة، وإنَّ الله
سابق للحقيقة منطقيًّا. وفي عام 1926 عكس القضيَّة وقال "الحقيقة هي
الله". ورأى أن ذلك أهمَّ اكتشافات حياته واعتقد بأنَّها صقلت بلورات
سنوات تفكُّره الطويلة. بالنسبة لغاندي، تحمل هذه القضية الجديدة مزايا
عديدة تفوق القديمة. فهي تتجاوز النظريَّة القائلة بأنَّ الإنسان مركز
الكون، وتقرُّ بأنَّ فكرة الحقيقة سابقةٌ لله وإطلاق اسم الله عليها لا
يضيف لها شيئًا. وبما أنَّ الملحد الصادق يسعى أيضًا بطريقته الخاصَّة
ليحلَّ لغز الكون ويبحث عن الحقيقة، فإنَّ الصيغة الجديدة تقدِّم له
الإطار العامَّ للحوار بينه وبين المؤمن. كان لدى غاندي العديد من
الأصدقاء الملحدين الذين يحملون مشاعر روحانيَّةٍ، وحتى صوفيَّةٍ، وكان
يساوره القلق من وضعهم خارج إطار الحوار الدينيِّ (M
i.461،566-92).
يعتبر غاندي أن الحقيقة أو الروح الكونيَّة فوق كل
الصفات بما فيها الأخلاقيَّة. وكما عبَّر عن ذلك إذ يقول: "في الأساس،
لا يمكن وصف الله بالكلمات... فالصفات التي ننسبها لله بدوافع نقيَّةٍ،
هي صحيحة بالنسبة لنا، لكنَّها خطأ في الأساس" (L
200-2).
ومرَّةً أخرى يقول: "هناك ما وراء الإله المشخصن ماهيَّةٌ لا شكل لها
ولا يمكن لعقولنا الإحاطة بها". على الرُّغم من أنَّ القدرة الكونيَّة
ليس لها صفات بما فيها الشخصيَّة، فقد طرح غاندي بأنَّ الكائنات
البشرية تجد صعوبةً في تجنُّب شخصنتها. اعتاد العقل البشريُّ كثيرًا
على عالمٍ من الأحاسيس لدرجة أنَّه يشعر بالضياع العميق عندما يحتاج
للتفكير بصيغٍ غير توصيفيَّة. وأبعد من ذلك، ليست الكائنات البشريَّة
مجرَّد كائنات مفكِّرة، بل عاطفيَّة أيضًا، وإنَّ "الرأس" و"القلب"
لهما متطلباتٍ مختلفة. القدرة الكونيَّة المجرَّدة من الصفات أو الذكاء
المحض تكفي الرأس لكنها بعيدة جدًا، ومثاليَّة، ومنعزلة، لتكفي القلب.
يحتاج القلب إلى كائنٍ يملك قلبًا، كائن يظهر المشاعر الدفينة بحيث
يمكن للمرء أن يرتبط معه عاطفيًّا من خلالها: يحتاج إلى إله شخصيٍّ.
بيَّن غاندي طبيعة الروح الكونيَّة كما يلي. كما يتوقع
المرء من رجلٍ عمليٍّ، نظر غاندي إلى الروح الكونيَّة من منظور حياة
العمل أكثر من حياة التأمُّل:
-
أولاً، إنها وعي "خالص" أو غير مجسَّد، ليست وعي كائنٍ
ما، لأنَّ هذا الأخير يجب أن يكون عندها شيئًا آخر غير الوعي، إنها،
ببساطة، الوعي.
-
ثانيًا، تعمل الروح الكونية بطريقةٍ معقولة ومنظَّمة
وليست اعتباطيَّة أو متقلِّبة.
-
ثالثًا، إنَّها فعَّالة وتمثِّل شَكْتي
shakti،
أو القوَّة، أو الطاقة اللانهائية.
-
رابعًا، إنها تعمُّ، وتكوِّن، وتبني الكون كلَّه.
-
خامسًا، إنها خيِّرة. ولأنّه يفترض بالروح الكونيَّة أن
تكون فوق الخير والشرِّ، فمن غير الواضح تمامًا ماذا قصد غاندي بإطلاق
صفة الخيِّرة عليها. على ما يبدو أنَّه كان يؤمن بأنَّه على الرغم من
كونها فوق الخير والشر بالمعنى الأخلاقيِّ المتعارف عليه، وعلى الرغم
من أنَّ أفعالها ليست عرضةً للتقييم الأخلاقي، فإنَّ الحقيقة هي أنَّ
الكون يسير بطريقةٍ متوازنةٍ ومعقولة، أدَّت الى كونٍ يناسب جميع
الكائنات الحيَّة، وأوجدت الشروط الضروريَّة لحياةٍ سليمةٍ مظهرةً أنَّ
لديها نزعة بنيويَّة نحو الخير، تنظِّمها روح مليئة بالنوايا الحسنة.
وعندما تبدو أفعالها شرِّيرة وفق الأعراف الإنسانيَّة، كما في حالة
الكوارث الطبيعيَّة والاجتماعية فيجب ألا يحكم عليها بسرعةٍ بل قبولها
على أننا لا نفهم قصدها، لكنَّه قائم على أساس الخير.
-
سادسًا، ظلَّت القدرة الكونيَّة "غامضة"، بمعنى أنَّه
حتى لو أن البشر استطاعوا اكتساب بعض المعرفة عن طبيعتها، وطريقة
سلوكها، إلا أنَّ معرفتهم تظل بالضرورة محدودة وغير نهائيَّة.
-
وأخيرًا، على الرغم من أنَّ القدرة الكونيَّة شاملة،
إلاَّ أنها عُرضة لبعض المحدِّدات التي تفرضها الذات. وحريَّة الإنسان
هي واحدة من تلك المحدِّدات، فبعيدًا عن أنَّ القدرة الكونيَّة شاملة،
إلا أنَّها لا تحتِّم على البشر أن يتصرفوا بطريقةٍ محددة. وبالتالي
فإنَّ قدرتها الكليَّة تركت للإنسان مجالًا للخطأ، والاختيار، والشرِّ.
وبالنسبة لغاندي، الشرُّ ليس مبدأ مستقلاً، بل شيء "تأذن به" أو "تسمح
به" القدرة الكونيَّة.
ولأنَّ الروح الكونيَّة ليست كائنًا حيًّا أو شخصًا،
فقد كان يشير إليها أحيانًا بـ it
(غير العاقل)، ولأنها، من جهةٍ أخرى، تمثِّل الوعي والعقل، كان يشير
إليها بـ He
(المذكر العاقل) ولم يشر
إليها قطّ بـ she
(المؤنث العاقل). تتضح
الطبيعة المميَّزة لتصور غاندي للقدرة الكونيَّة عند مقارنتها بالرؤية
المسيحيَّة المعروفة جيدًا عن الله. ففي نسختها المعيارية السائدة
تؤكِّد هذه الرؤية على ثلاث صفاتٍ للإله:
-
أولًا، إنَّ الله هو وجود أوسع من الكون وسابق له وهو
خارج الكون.
-
ثانيًا، هو الذي يخلق ويفرض القوانين على الكون ويضمن
استمرارها المنتظم.
-
ثالثًا، هو ليس محبٍّ بلا حدود فحسب، بل قويٌّ بلا حدود
أيضًا، فلكي يستطيع أن يخلق ويفرض القوانين على الشَّمس، والنّجوم،
والبحار، سيكون تجلٍّ لقدرة باهرةٍ لا لبس فيها وتشيع الرهبة والخشوع.
وترتبط هذه الصفات الثلاثة ارتباطًا وثيقًا ببعضها
البعض. لأنَّ خالق الكون، الله، هو بالضرورة أوسع من الكون، والقدرة هي
واحدة من أكثر خصائصه الملفتة للنظر بوضوح شديد.
نظر غاندي إلى الروح الكونيَّة بشكلٍ مختلفٍ. بما أنَّ
الكون، بالنسبة له، سرمديٌّ، فالمسألة لا تتعلق بالخلق بل بالتنظيم
والتكوين. فالروح الكونيَّة ليست الخالق، لكنها مسؤولة عن النظام، إنها
ذكاء أسمى يتغلغل في الكون وينظِّمه من داخله. فخلافًا للكائن الأسمى
الذي يستطيع، ولربما يجب، أن يكون خارج الكون، فإن مبدأ النظام لا يكون
في الخارج. وكأغلب المفكِّرين الهنود، لم يحيِّره العالم الماديُّ
كثيرًا بل حيَّرته الكائنات الحيَّة، ولا انتظام وتناغم حركات النجوم
والبحار، بل ظاهرة الحياة المذهلة، بأصولها، وأشكالها المتنوعة،
وآليَّاتها المحيِّرة والمعقَّدة. لم تدهشه، أو حتى لم تؤثِّر فيه، قوى
الله المثيرة للرهبة وأعماله الخارقة؛ لأنه في الحقيقة كان يعتقد بأنَّ
الوقوف عندها يعني أن يغضَّ النظر عن الطبيعة الحقيقيَّة لله ويبقي على
الرهبة والخوف في نفسه وليس الحبَّ والمودَّة. وأكَّد بدلاً من ذلك على
ذكاء، ولطف، ومهارة، وطاقة، وتهذيب الروح الكونيَّة مع طريقتها
المحيِّرة في عملها.
وافق غاندي على أن البرهنة العقليَّة غير قادرةٍ على
إثبات وجود الروح الكونيَّة، ورفض كلَّ ما تضمَّنته تلك البرهنة. العقل
بحد ذاته لا يستطيع إثبات وجود أيِّ شيء، ولا حتى الكرسي أو الطاولة؛
لذلك لو كان العقل المعيار الوحيد للوجود، لكان علينا إنكار وجود
العالم ذاته. وفوق ذلك، لم يستطع غاندي النظر إلى فكرة أنَّ ما يقنع
العقل فقط هو ما يجب أن يعتبر موجودًا. ورفض فكرة أنَّ العقل هو القدرة
الإنسانيَّة الأسمى. فإن كانت هي الأسمى لأنه هو الذي يقول ذلك، فإن
الحجة تصبح دورية. أما بالنسبة للقدرات/الملكات الأخرى فلم يقولوا عنها
مثل ذلك. من الواضح أن العقل هو مقدرة إنسانيَّة مهمة إلى أبعد حدٍّ،
ويجب تحديد مهمتها في هذه الحياة، لكن ليس بالإمكان اعتباره القدرة
المتحكِّمة بالقدرات الأخرى كلها. يجب على كلِّ معتقدٍ أن "يجتاز
اختبار" العقل، لكن هذا لا يعني بأنَّه قد لا يتعالى عليه أو يتجاوزه.
فالعقل يغلب ما هو دونه وليس ما هو أكبر منه، ويحدِّد ما يمكن، وليس ما
يجب أن نؤمن به.
ذهب غاندي إلى أبعد من ذلك سالكًا الطريق الطويل
للحكماء الهنود. جادل بأنَّ وجود الله شأن يتعلق باليقين التجريبي.
فمثل العديد من التجارب العميقة في الحياة، إنَّ تجربة الشعور بحضور
الله لا تأتي الجميع بشكلٍ طبيعيٍّ. يحتاج المرء إلى المضيِّ في تمرينٍ
روحيٍّ طويلٍ حتى يصبح روحًا نقيَّةً لكي يكون مؤهَّلاً للدخول في
التجربة، وأولئك الذين فعلوا ذلك تحدثوا بثقةٍ عن "الشعور بـ"، أو
"رؤية"، أو "سماع" الله. وادَّعى غاندي بأنَّ حياته الخاصة تؤكد حقيقة
ذلك. ولأنَّ وجود الله بطبيعته لا يمكن البرهان عقليًا عليه، فكلُّ ما
يمكن للمؤمن مطالبة المشكك به هو اجتياز التجربة المطلوبة واكتشاف
الأمور بنفسه (M i.504).
أقرَّ غاندي بأنَّ المضي أبعد من الملاحظة والعقل يعني
الدخول في عالم الإيمان، ولم يجد في ذلك أيَّ خطأ. طالما مضت الكائنات
البشرية أبعد من العقل في أكثر مجالات الحياة، ولم تستطع العيش من دون
إيمان، سواء أكان الإيمان بأنفسهم، بأسرهم وأصدقائهم، بقدراتهم على
إنجاز مهمَّاتٍ صعبةٍ، أو إيمانهم بأنَّ الشمس ستشرق والعالم لن يُفنى
غدًا. وحتى العلماء الأشدَّ عنادًا عوَّلوا على الإيمان بأنَّ الكون
تحكمه القوانين، وله بنية معقولة، مع إمكانيَّة فهمها من قبل الإنسان.
وعلى الرغم من أنَّ إيمانهم كان مبرَّرًا تمامًا، فقد كان مع ذلك فعلاً
إيمانيًّا وليس قضيَّة برهنة عقليَّة. ومع ذلك يبقى السؤال الأهم
والأكثر منطقيةً ليس هو "فيما إذا"، بل "متى" يكون الإيمان "مبرَّرًا"،
وكيف يمكن فصل الإيمان "العقلانيِّ"، عن الإيمان "الأعمى".
على الرغم من أنَّ غاندي لم يقرِّها في أيِّ موضع
بوضوح، إلا أنَّه كثيرًا ما كان يستشهد بالمعايير الأربعة التالية
ليحدِّد متى يكون الإيمان عقلانيًّا أو مبرَّرًا:
-
أولًا، يجب أن يرتبط بقضايا تقع خارج نطاق الملاحظة
والعقل. فيما إذا كان الفيل قادرًا على الطيران، أم أنَّ هناك قطَّة في
الغرفة المجاورة، مثل هذا عِرْضةٌ للتأكُّد منه تجريبيًّا وليس قضيَّةً
إيمانيَّةً.
-
ثانيًا، يجب أن لا يتعارض الإيمان مع الملاحظة والعقل.
-
ثالثًا، بما أنَّ الإيمان يتضمَّن استبعاد ما يمكن
ملاحظته وإثباته، على الإنسان أن يبيِّن أنَّ إيمانه اقتضى منه
التجربة، شريطة أن يكون لديه الأهليَّة والمبرِّر لذلك.
-
رابعًا، الإيمان مغامرة محسوبة في الحالات التي يكون
فيها الدليل المتاح غير باتٍّ، ويكون مبرَّرًا إن حصل على نتائج مفيدة.
كان غاندي مقتنعًا بأنَّ الإيمان بوجود الروح الكونيَّة
يحقق المعايير الأربعة المذكورة. تكمن الروح الكونيَّة بعيدًا عن
العالم المنظور والإثبات العقليِّ، والإيمان بها ليس فقط غير متناقضٍ
مع التجربة الإنسانيّة بل جوهريٌّ بالنسبة لها ويتطلَّبها. إنَّ ترتيب
وتنظيم الكون لا يمكن شرحهما بمفاهيم القوانين الطبيعيَّة لوحدها،
لأنَّه ليس هناك سبب واضح للقول إنَّ الكون يجب أن يكون خاضعًا
للقوانين مطلقًا، وليس هو في حالة الهيولى الأبديَّة، أو لماذا عليه أن
يكون خاضعًا للقوانين الثابتة الملائمة للحياة. لا يمكن للمادة بحد
ذاتها أن تخلق حياةً، ولا يمكن لقوانينها أن تشرح الأساليب المعقَّدة
التي تتكيَّف أدقُّ الكائنات الحيَّة من خلالها مع بيئتها المعادية لها
في أغلب الأحيان. وجد غاندي أيضًا إنَّه لأمر محيِّرٍ استمرار الحياة
وسط الدمار. كيف تمَّ إخماد مثل تلك القوى المدمِّرة كالزلازل،
والفيضانات، والعواصف، بسهولةٍ منذ زمنٍ سحيق. حتى أنَّ الحياة
استمرَّت بالوجود، والازدهار، وتقدِّم دومًا أفضل نماذجها. ومرَّةً
أخرى، على الرُّغم من وجود الخير والشرِّ في الكون، فإنَّ الخير لم
يستمر بالبقاء فحسب، بل ينتصر على الشرِّ أيضًا في السباقات الطويلة.
وفي السباقات القصيرة وبعض الحالات المعزولة، لربما أنَّه لم ينتصر،
ولكن "إن ألقينا نظرةً بعيدة المدى، سنرى أنَّه ليس الشر بل الخير هو
من يحكم العالم". بالطبع، لا يمكن للشرِّ أن يدوم ما لم يرافقه الخير.
يمكن لأفراد عصابات القتل أن تقتل كل من تراه في طريقها، لكنَّهم يجب
أن يثقوا ويقدِّموا العون لواحدهمٍ الآخر على الأقل. الخير مكتفٍ
بذاته، أما الشرُّ فطفيليٌّ، وهو ضروريٌّ للحياة من مبدأ أنَّ الشرَّ
يجب ألاَّ يكون. إنَّ الحقيقة القائلة بأنَّ لدى الكون ميل بنيويٌّ نحو
الخير، وغير خالٍ من الأخلاق، لا يمكن توضيحها إلا بالتسليم بروحٍ
كونيَّةٍ، وهذا ما طرحه غاندي.
وبالعودة إلى المعيار الرابع للإيمان العقليِّ، كان
غاندي مقتنعًا بأنَّ الإيمان بوجود الروح الكونيَّة هو أفضل مرشدٍ في
الحياة من عكسه. إذ يجعل تحمُّل مآسي الحياة أكثر سهولةً، ويشجِّع
البشر على الاهتمام ومحبة بعضهم البعض، ويحميهم من النزعة الكلبيَّة
التي أثارتها حقارة وجحود أبناء جلدتهم. ويساعدهم أيضًا في مقاومة
الإغراء بإخضاع الأحكام الأخلاقيَّة لتناسب مصالحهم الشخصيَّة الضيقة،
وينبهِّهم للآثار العظيمة للتضحية، ويمدُّهم بالقوَّة للقيام بأعمالٍ
والتصدِّي لمخاطر لم يكونوا يقوموا بها بشكلٍ أو بآخر. حتى لو أنَّ
الشخص غير متأكِّد تمامًا من وجود الروح الكونيَّة، فإنَّ الإيمان بها
له نتائج مفيدةٍ كما أنَّها "فرضية أفضل" من عكسها.
بخلاف العديد من المؤمنين، لم يطوِّر غاندي الفرضيَّة
القويَّة المعروفة بأنَّ هناك ربٌّ كليُّ القدرة خلق الكون ويشرف عليه،
بل طوَّر نظريَّةً ضعيفة جدًا بأنَّ هناك "ثمَّة" قوَّة روحيَّة كوَّنت
وقادت الكون "بلطفٍ". ومع أنَّ هذه النظريَّة الأضعف تبدو جذَّابة
بشكلٍ من الأشكال، فإنَّها لا تخلو من مطبَّاتها. وفي الوقت الذي كان
مطالبًا فيه بأن يعطيها اهتمامه البالغ، لم يخصَّها غاندي إلا بمساحةٍ
محدودةٍ للدِّفاع عنها تشتمل على عباراتٍ مقتضبةٍ إلى أبعد الحدود.
طالما أنَّ معتقدًا ما غير منافٍ بشكلٍ واضحٍ للعقل، يعتبر أنَّه منسجم
مع، أو أجاز به، العقل. وتبعًا لوجهة النظر هذه، ليس هناك أيُّ مأخذٍ
يذكر على معتقدات أيِّ شخصٍ، حتى إيمانه بالأشباح والسحرة لا يمكن أن
تناقشه به. وانطلاقًا من رؤيةٍ دقيقةٍ جدًا للعقل، يمكن للمرء أن يصل
إلى استنتاجاتٍ مختلفةٍ كثيرًا مع نظرية غاندي. فإن دافع عنها المرء
مستخدمًا ما هو متوفِّر من مصطلحات المعارف العلميَّة عن طبيعة الكون،
يصبح الإيمان بوجود الروح الكونيَّة أمرًا مشكوكًا فيه، أقلَّه ليس
بالبداهة التي يبديها غاندي. يمكن تفسير كلٍّ من ترتيب وانتظام الكون
ونشوء الحياة من دون التسليم بالروح الكونيَّة، وفي الحقيقة إنَّ
الانتصار المزعوم للخير على الشرِّ في العالمين الطبيعي والإنسانيِّ،
ليس لديه إلا أساس محدود فقط. وليس من السهل التوفيق بين العنف المنتشر
في كلِّ بقعة من العالم الطبيعي والاجتماعي، الذي يندبه غاندي، وبين
روحيَّة الخير. أما لجوء غاندي إلى اليقين التجريبي فلا يخلو من
الصواب، إلا أنَّه ينطوي على مصاعب جمَّة. استجاب بوذا لكلِّ طلبات
غاندي منه، لكن من الواضح أنَّه لم يعثر على أيِّ شيء. وأكثر من ذلك،
يجد المرء عادةً ما يبحث عنه جديًّا، وإن لم يجده، يتَّهم هذا الشخص
بأنَّه غير نقيٍّ أو جديٍّ بما فيه الكفاية، أو اتبع نظامًا خاطئًا
للتدرُّب.
الدين
يمثِّل الدين بالنسبة لغاندي الطريقة التي يعتقد ويرتبط
بها البشر بالله. ولأنَّه انطلق من التصوُّرات المشخصنة وغير المشخصنة
عن الله على حدٍّ سواء، فقد ميَّز بين مستويين اثنين للدين. الدين
"الرسمي"، "العرفي" ،"المنظَّم"، أو "التاريخيِّ"، كلُّها أديان قامت
على أساس مفاهيمٍ متمايزة عن الله اختزلت إلى مقولاتٍ العقل البشريِّ
المحدودة والمغلَّفةٍ بخصائص بشريَّة. تضمنت هذه الأديان الصلوات،
العبادة، الشعائر، الدعاء لله للعطف على البشر، إلخ، وكانت جميعها
طائفيَّة. وبالنسبة لغاندي، تندرج الديانات السائدة الهندوسيَّة،
والإسلاميَّة، والمسيحيَّة، واليهوديَّة مع بقيَّة الأديان الأخرى تحت
هذه الفئة. إنَّ الدين "الحقيقي"، "الطاهر"، أو "الأبديَّ"، تجاوزهم
جميعًا. إنَّه يستغني عن الشعائر، العبادات، والعقائد، ويقتضي أمرًا
واحدًا فقط هو الإيمان بالروح الكونيَّة والتعهُّد بإدراكها في جميع
مناحي حياة الإنسان. يعبِّر مثل هذا الدين عن الصيغة الأكثر طهارةً
للروحانيَّة، ويقرُّ بأنَّ الإلهي معقد جدًا لدرجة لا يمكن لدينٍ واحدٍ
الإحاطة به. إنَّه "يتجاوز"، لكنه لا "يلغي" الأديان المكرَّسة التي
تعتبر جميعها تجلياتٍ مشروعة له وإن تكن محدودة، وتشكل "أساسًا"
مشتركًا لها و"صلة" ارتباط فيما بينها.
لا أريد لبيتي أن يحاط بالجدران من كلِّ جهاته، ولا أن
تكون نوافذي موصدة. أريد لثقافات بقاع الأرض كلِّها أن تزهر حول بيتي
بأوسع مدىً ممكنٍ من الحريَّة، لكنَّني أرفض أن يقتلع جذوري أي منها.
إنَّ الدِّين بالنسبة لغاندي هو الكيفيَّة التي يعيش
وفقها الشخص، وليس ما يعتقد؛ إنه الإيمان الحيُّ المعاش وليس
"المعتقدات التي لا حياة فيها" (M
i.503
). ليس للدين شأن بعلم اللاهوت الذي بالغ في فَكْرَنة الدين واختزله
إلى مجموعةٍ من المعتقدات الجامدة، واعتقادٍ يمتاز عن السلوك. بالنسبة
لغاندي، ما يمثِّل جوهر الدين ليست علوم اللاهوت بل الأخلاق، ويجب
الحكم على الدين لا على أساس الاتساق الفلسفيِّ ودقَّة نسق معتقداته
كما كانت تحاجُّ البعثات التبشيريَّة المسيحيَّة، بل على أساس مُثُلِهِ
العليا ونوعيَّة الحياة التي تحضُّ عليها. وقد عبَّر غاندي عن ذلك بما
يلي:
يقف اللاهوت على رأس العوامل المؤدِّية إلى الحقائق الزائفة المنتشرة
في هذا العالم. ولا أقول إنَّه لا حاجة له، بل هناك حاجة للكثير من
القضايا المثيرة للتساؤل في هذا الكون. وحتى أولئك الذين لهم شأن
باللاهوت بحكم عملهم، يتعين عليهم النجاة من لاهوتهم. أعرف صديقين
مسيحييَّن طيِّبين تركا اللاهوت وقرَّرا العمل وفقًا لإنجيل المسيح. (M
i.517)
بالنسبة لغاندي، قام كلُّ دينٍ من الأديان الكبرى
بتنسيق رؤية متفرِّدةٍ عن الله وأكَّد على خصائصه المختلفة. كانت فكرة
الله باعتباره الآب المحب والتأكيد المرافق على الحبِّ الكوني،
والتسامح، وتقبُّل المعاناة، أكثر تماسكًا عند المسيحيَّة وعملت على
تطويرها باستمرار. "لا أستطيع القول إنَّها الوحيدة، أو إنَّه لا يمكن
وجودها في الأديان الأخرى. لكن تجسيدها كان مميَّزًا". إنَّ فكرة
التوحيد الصارمة والعنيدة، ورفض الوسطاء بين البشر والله، وروح
المساواة، أُفصح عنها في الإسلام بـ "طريقةٍ أجمل". إنَّ التمييز
الواضح ما بين القناعات الشخصيَّة والمجرَّدة عن الله، والتأكيد على
عدم ارتباطها بالكون مع بقائها فعَّالةً فيه، ومبدأ وحدة الحياة
كلِّها، وعقيدة اللاعنف، كلُّ هذا تنفرد به الديانة الهندوسيَّة.
بالنسبة لغاندي، لدى كلِّ دينٍ من الأديان عبقريَّته الدينيَّة
والأخلاقيَّة المميَّزة، تشكِّلان معًا "مركَّبًا دينيًّا" مدهشًا ولا
يمكن استبداله. ويقبع في كلٍّ منها بعض الحقيقة لكنَّ هذا لا يعني
أنَّها كلَّها صحيحة، لأنها تضمَّنت البطلان أيضًا. ولأنَّ كلاً منها
له تفرُّده، "فمن المستحيل تخمين مزايا مختلف الأديان"، عداك عن
ترتيبها هرميًّا، تمامًا مثل استحالة المقارنة والمفاضلة بين تعاليمٍ
فنيَّةٍ وموسيقيَّةٍ مختلفةٍ أو أعمالٍ أدبيَّةٍ عظيمةٍ. (L
xxv.70).
وكالعديد من المفكِّرين الهنود، لم يكن غاندي يشعر
بالارتياح إزاء فكرة أنَّ الدين وحيُّ إلهيٌّ. فقد وجد أنَّ فكرة
الوحيِّ فكرة إشكاليَّة أخلاقيًّا ومنطقيًّا، أولاً لأنها تفترض أن
الله شخص، وثانيًا، لأنها تعني أن الله لديه تفضيلات. قدَّم الله يد
العون لأولئك الباحثين الصادقين وأرشدهم في لحظات الأزمات الخطيرة –
يدَّعي غاندي بأنَّه كان أحد المستفيدين من هكذا إرشاد – لكنَّ هذا
يختلف جدًا عن المفهوم المتعارف عليه للإلهام الذاتي الإلهي الشامل.
بالنسبة لغاندي، فإنَّ عيسى، ومحمَّد، وموسى، وآخرون كانوا روادًا أو
"علماء" روحانييِّن عظماء، عاشوا حيواتٍ يُقتدى بها، "واكتشفوا" بعض
الحقائق العميقة حول وجود الإنسان، وتلقوا نعمة إلهيَّةً كبيرةً في
لحظاتٍ حرجةٍ من حياتهم؛ ولكنهم ليسوا كاملين ولا أولاد الله أو
مبعوثين إلهيين. فالوحيُّ الإلهيُّ متوفِّر لكلِّ من يصبح جديرًا به من
خلال الكيفيَّة التي يعيش بها حياته، ويتَّخذ صيغة الإرشاد العمليِّ في
اللحظات الحرجة.
وبما أنَّ الله لانهائي، والعقل البشريَّ المحدود يمكنه
أن يدرك "جزءًا" منه فقط، وهذا غير كافٍ أبدًا، لذا فإن كلَّ دينٍ من
الأديان جزئيٌّ ومحدود بالضرورة (M
i.478).
وكان ذلك حقيقةً تتساوى فيها تلك الأديان التي تدَّعي أنَّ الوحي أُنزل
عليها مباشرةً من قِبَلِهِ، لأنّه أُوحيَ إليهم عبر أناسٍ غير معصومين
وجُسِّد لهم بلغةٍ بشريَّةٍ غير ملائمةٍ أصلاً. ولهذا تكرِّر الأديان
بعضها بعضًا إلى حدٍّ بعيدٍ مستفيدةً من خطابها العاطفيِّ. إنَّ الموقف
السليم من الأديان الأخرى لا يبنى على أساس التسامح أو حتى الاحترام بل
على أساس سادبهافاsadbhava
(الشعور
بالمودَّة). فالتسامح يعني أنَّ الأديان الأخرى على خطأ، ومع ذلك
ولأسبابٍ عديدةٍ يكون المرء مستعدًّا لتحمُّلهم، وأنَّ دين المرء
الخاصَّ هذا هو الدين "الصحيح" ولا يحتاج لتعلُّم أيِّ شيءٍ من الأديان
الأخرى؛ وهذا يشي بـ "العجرفة الدينيَّة" و"التعطُّف". أما الاحترام
فهو موقف أكثر إيجابيَّةً، ولكنه ينطوي على عدم الاستعداد للتعلُّم من
الآخرين والرغبة بالإبقاء على مسافة أمانٍ معهم. وعلى العكس من ذلك،
يقتضي سادبهافا sadbhava
"التواضع الدينيُّ"، إنه "إحساس بالأديان الأخرى"، مع شعورٍ بالرضى
لرؤيتهم مزدهرين والتعلُّم منهم.
بالنسبة لغاندي، يمثِّل الدين أساس الحياة ويؤطِّر جميع
نشاطات الإنسان. لا يمكن تجزئته، أو قصره على مناسباتٍ محدَّدةٍ أو
أيَّامٍ في الأسبوع، أو النظر إليه كإعداد لعالمٍ آخر. فأن تكون
متديّنًا يعني أن تعيش بالحضور الدائم للروح الكونيَّة وتترجم ذلك
الوعي في كلِّ ما تفعله، بحيث يؤثِّر على الصغيرة كما الكبيرة من
فاعليات حياة الإنسان، بما فيها كيف يجلس، كيف يتكلَّم، يأكل، يدير
حياته الشخصيَّة، والمهنيَّة، والعامَّة، وهو لا يساوي شيئًا أكثر من
"محصلتها جميعًا". ولمَّا كان الإنسان يعيش قناعاته الدينيَّة في جميع
مجالات حياته، بما فيها السياسيَّة منها، "فأولئك الذين يقولون إن لا
شأن للدين بالسيَّاسة لا يعرفون عن معنى الدين شيئًا" (M
i.37-6).
وهذا لا يقتضي إقامة دولةٍ على أساس دينيٍّ أو رفضًا للدولة
العلمانيَّة، لأنَّ الدين مجموعة من القناعات التي تمَّ تبنيِّها بكلِّ
حريَّةٍ وإخلاص بعيدًا عن أيِّ شكلٍ من أشكال الإجبار. ولمَّا كانت
الدولة هي مؤسَّسة إجباريَّة، فيتعيَّن عليها أن تكون علمانيَّة بمعنى
أنه يجب عليها عدم تأسيس أو استبعاد أو تفضيل دينٍ من الأديان، أو حتى
دعم الأديان جميعها. لكن هذا لا يعني أن الحياة السياسية يجب أن
علمانيَّةً لا تسمح ببعض الاحتكامات أو الحوارات أو الأفعال المبنيَّة
على أساس دينيٍّ، لأنَّ من شأن ذلك المنع أن ينتهك الحرمة الدينيَّة
للمواطنين وحريَّتهم في التعبير عن هويَّتهم الدينيَّة.
تفكِّر الأديان عادة وكأنها عوالم مغلقة، وتشبه إلى
حدٍّ بعيدٍ حالة الدول ذات السيادة التي تدافع بحماسةٍ عن حدود
أراضيها. لا يسمح دينٍ من الأديان لأتباعه بالانتماء إلى دين آخر أو
اقتباس أفكار أو ممارسات دين آخر دون الشعور بالإثم لجهة إضعاف
هويَّتهم الدينيَّة. اتخذ غاندي وجهة نظرٍ مختلفةٍ جدًا. فبالنسبة له،
ليس الدين بنية سلطوية واحدية حصرية من الأفكار والممارسات بل مصدرٌ
يمكن للإنسان الاستعارة منه ما يراه مقنعًا له بحريَّةٍ مطلقةٍ. وهو
بذلك ملكيَّة إنسانيَّة جماعيَّة ويشكِّل جزءًا من الموروث العامِّ
للجنس البشريِّ كله. يولد الشخص ضمن مفاهيم دينيَّة خاصَّة يتم تأطيره
بها بالعمق، كما لو أنها شيَّدت موطنه الدينيَّ الأساسي، في الوقت الذي
كانت فيه الأديان الأخرى بعيدةً عنه. أعلن غاندي أنَّه، كهندوسيٌّ،
يمثِّل أحد الورثة لميراث الهندوسيَّة الغنيِّ والقديم. وإنَّه
كهنديٍّ، وريث متميِّز لتقاليد الهند الدينيَّة والثقافيَّة المتنوّعة.
وإنَّه ككائنٍ بشريٍّ، تمثِّل كلُّ الأديان العظيمة موروثه الروحيَّ
وأنه يمتلك كلَّ الحقِّ بها كأتباعها الأصليين. وفي الوقت الذي ظلَّ
فيه متمسِّكًا بقوَّةٍ بتقاليده الخاصَّة، شعر بحريَّة الاعتماد على
مصادرها الأخلاقيَّة والروحيَّة. وللتعبير عن الفكرتين الأساسيَّتين
الانتماء والانفتاح، كان يستعمل غالبًا المعنى المجازيَّ لحياته في
بيتٍ ذي نوافذ مفتوحة على مصراعيها. المنزل تحميه الجدران فيعطيه
شعورًا بالأمان والانتماء، ونوافذه المفتوحة على مداها تسمح للرياح
الثقافيَّة بالدخول إليه آتيةً من جهاتٍ مختلفةٍ لتُغنيَ الهواء الذي
يتنفَّسه. "آنو بهادرا كرتافو يانتو فيشفاتاها" ( يا حبذا لو كلُّ
أفكار الكون النبيلة أتت إلينا)، هذا ما كان يمثِّل أفضل مبادئه
الأساسية.
استفاد غاندي من مزايا الحريَّة الفكرية التي نادى بها
شخصيًّا. لخَّص ما اعتبره القيم الجوهريَّة للهندوسيَّة ثم أطلق سجالاً
نقديًّا، فيه نوع من التحدِّي، بينها وبين تلك المأخوذة من تعاليمٍ
دينيَّةٍ أخرى. وتبنَّى مفهوم أهيمسا
ahimsa
(اللاعنف/كف الأذى) المستمدَّ من الديانات الهنديَّة، وخاصَّةً
البوذيَّة والجاينية. ولكنه اكتشف أنه مفهوم سلبيٌّ وغير فعَّال فأعاد
تفسيره على ضوء مفهوم الخيريَّة/المحبة
caritas
المسيحيَّ الأكثر فاعلية والمطبَّق اجتماعيًّا. وشعر بأنَّ هذا الأخير
عاطفيٌّ جدًا، ويؤدي إلى ارتباطات دنيويَّة، وحلَّ موضوع الثقة بالنفس،
ولهذا أعاد تعريفها على ضوء المفاهيم الهندوسيَّة أناساكتي
anasakti
(لا - ارتباط) ونيشكام كارما nishkam
karma
(العمل بلا رغبة في المكافأة). إنَّ هذا التغيُّر المزدوج، أي إعطائه
الصبغة المسيحيَّة لمفهوم هندي بعد أن أعطى الصبغة الهنديَّة لمفهومٍ
مسيحيٍّ، قدَّم مفهومًا جديدًا عن حبٍّ عمليٍّ وإيجابي، وفي الوقت نفسه
غير متحيِّزٍ وغير انفعاليٍّ. ثانيةً، تغلَّب على ممارسة الهندوس
التقليديَّة للصيام ككفَّارةٍ، رابطًا إياه بالمفاهيم المسيحيَّة عن
موت المسيح نيابةً عن البشريَّة وآلام الحب، معيدًا تفسير كلٍّ منهما
على ضوء الأخرى، وطوَّر مفهومًا جديدًا عن "الصلب الطوعي للجسد".
تضمَّن ذلك كل صيام يقوم به زعيم معترف به لأحد الطوائف ليكفِّر به عن
الأفعال الشريرة لأتباعه، ويوقظ إحساسهم بالخجل والذنب، ويحرِّك
طاقاتهم الأخلاقيَّة والروحيَّة لأهدافٍ إصلاحيَّةٍ.
أربكت انتقائيَّة غاندي الدينيَّة العديد من معجبيه
المسيحيين والهندوس، واشتكوا من أنها تنمُّ عن ضحالةٍ دينيَّةٍ وأنَّها
تفتقر إلى الالتزام وتتعدَّى على الأعراف المطبَّقة. طرح مرافقوه
المسيحيون أنَّه، طالما أخذ الكثير من المسيحيَّة، يتعين عليه أن يبادر
بالخطوة المنطقيَّة اللاحقة والتحوُّل إليها. ورأى أتباعه الهندوس أن
عليه التوقف عن "إعطاء الصبغة المسيحيَّة وتحريف دينه"، وأن يظلَّ
وفيًّا لقيمه الجوهريَّة. كان غاندي غير نادمٍ. فبرأيه أنَّ انتقائيته
المزعومة هي بحقٍ عبارة عن تآلفٍ مبدعٍ وتعبير عن صدق البحث الذي لا
يلين عن الحقيقة، ولا تدلُّ على الضحالة بل عن رغبة بتعميق تعاليمه
الدينيَّة وأملٍ في أن تطال التعاليم الأخرى، وبناء جسور وصلٍ حيويَّة
وملحَّة بينها. وبالنسبة له ليس على المرء أن يكون مسيحيًّا لكي يصبح
مخوَّلاً تبنيَّ معتقدات المسيحيَّة وممارساتها. والشخص الذي يقوم بذلك
لا يصبح مسيحيًّا. في الحقيقة إنَّ المصطلحات بحدِّ ذاتها، مسيحيٌّ
وهندوسيٌّ ومسلمٌ زائفة إلى حدٍّ بعيد ومصدر لكثيرٍ من التعصُّب. لقد
جعلوا أديانهم مثل المواد الصلبة، وأقاموا حدودًا صارمةً بينها،
واستحسنوا مزاعم زائفة بخصوصيتها، وخلقوا حواجز نفسيَّة وأخلاقيَّة
بوجه الاقتباسات المتبادلة.
وفي التحليل النهائيِّ، طرح غاندي أن ليس هناك لا
مسيحيين ولا هندوس، بل كائنات بشريَّة ألزموا أنفسهم بالمصادر
الروحيَّة والأخلاقيَّة لهذه أو تلك من التعاليم الدينيَّة العظيمة (G428).
لعلَّ المرء يحترم يسوع المسيح كروحٍ عظيمةٍ، ولكنه يؤمن أيضًا ببوذا،
أو بموسى وآخرين على درجةٍ عاليةٍ ومتساويةٍ من التقدير. والذين يفعلون
كذلك يتبعون دياناتهم الخاصة وفي الوقت نفسه دياناتٍ عديدةٍ أخرى. فإن
يكونوا مسيحييِّن، أو مسلمين، أو بوذيين فهذا يعني أنَّ هذه التعاليم
الدينيَّة تمثِّل موطنهم الأمَّ أو بوصلات توجُّهِهمْ الروحيِّ، وهم
جميعًا راضون بها كثيرًا. وهم أيضًا، في كلِّ الأحوال، قد يتمثَّلوا
ويعتمدوا بحريَّةٍ على تعاليمٍ دينيَّةٍ أخرى، وينقلوا بعضًا منها إلى
دياناتهم الخاصَّة. إنَّ كلَّ باحثٍ روحيٍّ صادقٍ يرحب بكلِّ الرؤى
القيِّمة ويسمو من "حقيقةٍ إلى حقيقة" عبر رحلته الطويلة نحو
"الحقيقة". بالنسبة لغاندي، أن تكون منفتحًا تجاه الله يعني أن تكون
منفتحًا تجاه التعاليم الدينيَّة جميعًا. المتعصِّب الذي ينوي التقرُّب
من مطلق الله من خلال حدود دينٍ واحدٍ ويرى الأديان الأخرى على أنها
منافسة أو خصوم له هو آثمٌ بسبب قصوره الأخلاقيِّ، والغطرسة الدينيَّة،
حتى أنَّ سلوكه هذا يعتبر تجديفًا على الذات الإلهيَّة نفسها.
سلَّط خلاف غاندي مع منتقديه الضوء على مقاربتين
مختلفتين جدًا للدِّين والحقيقة الدينيَّة. فبالنسبة له يمثِّل الدين
مصدرًا، مجموعة من الرؤى يجب استخلاصها، ربطها ببعضها البعض، ومن ثم
تفسيرها بالطريقة التي اعتقد أنها ملائمة. لذا كانت مقاربته للدين غير
تاريخيَّة أبدًا، وغير مقيَّدة، وضد التقليديَّة ومنفتحة، ولم تتضمن
فهم التعاليم الدينيَّة المتداولة وفق مصطلحاتها الخاصة. وبالنسبة
لمنتقديه، أيُّ دين يتجذر على نحو فريد في حدثٍ تاريخيٍّ محدد، ويمتلك
سلطةً أخلاقيَّةً وروحيَّةً، ويُشكِّل على أسس المجتمع الذي ينتمي
إليه، ويحتاج لدراسةٍ هادئةٍ وأمينةٍ لمفاهيمه الأساسيَّة. لكلِّ
مقاربةٍ حسناتها ومكامن ضعفها. وضعت رؤية غاندي الفرد في قلب بحثه
الديني، وحرَّرت الدين من قبضة التقليديَّة والحَرْفيَّة، وشجَّعت على
القراءة المتجدِّدة للكتب المقدَّسة، وخلقت فضاءً للحوار الدينيِّ
الداخليِّ. ومن جهةٍ أخرى، حطَّمت الأمانة التاريخيَّة للتعاليم
الدينيَّة، وقللت من شأن الدِّين كمؤسَّسة، وبكفاءةٍ أقلَّ، شجَّعت على
تشكيل موقفٍ من عالميَّته الهشَّة. وكان لمقاربة منتقديه حسناتها
وسيِّئاتها بالمقابل.
***
المراجع واختصاراتها
A An Autobiography: The Story of my
Experiments with Truth، tr. Mahadev Desai (London: Jonathan Cape،
1966).
B Judith Brown، Gandhi: Prisoner of Hope
(London: Yale University Press، 1991).
F Louis Fischer، Gandhi: His Life and
Message for the World (New York: New American Library، 1954).
G Louis Fischer، The Life of Mahatma Gandhi
(Bombay: Bharatiya Vidya Bhavan، 4th combined edition، 1983).
K Martin Luther King، Jr، Stride towards
Freedom: The Montgomery Story (New York: Harper & Row، 1958).
M The Moral and Political Writings of
Mahatma Gandhi، ed. Raghavan Iyer، 3 volumes (Oxford: Clarendon
Press، 1986).
*** *** ***