غاندي: مقدمة قصيرة جدًا 2
بيكو باريك
ترجمة: عدنان علي حسن
العودة إلى الهند
ذهب غاندي إلى جنوب أفريقيا وهو محامٍ خجولٌ، قلقٌ، وغير ناجحٍ.
وغادرها إلى الهند في العام 1914 وهو واثق بنفسه، فخور، عميق التديُّن،
وزعيم سياسيٌّ له شهرته. لم تكن أسباب مغادرته جنوب أفريقيا واضحةً
تمامًا. وعلى الرغم من اعتقاده، وقد عبَّر عن ذلك بطريقةٍ ما، بأن
نجاحاته هناك كانت محدودة إلى حدٍّ ما، إلا أنه ربما وصل إلى قناعةٍ
بعدم قدرته على القيام بأكثر من ذلك. وفي المقابل، اكتسب اسمًا ذا معنى
وأقام صلاتٍ مهمَّةٍ في الهند، فلعلَّه وصل إلى اعتقادٍ بأنَّ له دورًا
مهمًّا يريد أن يلعبه هناك. ومهما كانت أسبابه، فإنه عاد إلى وطنه
مزودًا بطريقةٍ جديدةٍ للعمل وبرنامج دقيق للأجيال القادمة في الهند.
كان غاندي في تلك الأيام داعمًا متحمِّسًا للإمبراطورية البريطانية.
واعتقد بأنها وجدت لأجل أهدافٍ نبيلةٍ، وهي بالضبط الأهداف التي "وقع
في حبها"، الأمر الذي أُعطي من أجله تصريحًا مفتوحًا بدخول بريطانيا
وجنوب أفريقيا، وعرَّفه على أساليب حديثةٍ ومتعددةٍ للعيش والتفكير.
فمن غير المفاجئ أن يحثَّ مواطنيه في كلٍّ من لندن والهند على دعم
المجهود الحربي البريطاني، فأحدث في العام 1914 فرقة لتقديم الخدمات
الإسعافية في لندن، وزوَّد بها الجيش البريطاني الموجود في الهند عام
1918. وعلى الرغم من خياره اللاعنفي، فقد أصرَّ على أن ولاءه
للإمبراطورية البريطانية يُلزِمهُ بأن يقدم لها دعمه الكامل عند
الحاجة.
بعد وصوله إلى الهند، تجول غاندي في أرجاء بلده بـ «آذانٍ مفتوحةٍ وفمٍ
مغلق» كما أوصاه «معلمه السياسيُّ» القائد الليبراليُّ الشهير غوبال
كريشنا غوكال
Gopal Krishna Gokhal
أن يفعل، ليتسنى له معرفة البلد الذي غاب عنه عقدين
من الزمن. وقادته ملاحظاته إلى نتيجتين حاسمتين:
أولاً، على الرغم من أنَّ الاستقلال لم يكن مطروحًا بعد على جدول
الأعمال، إلا أنَّ هناك معارضة معتبرة للحكم الاستعماري الذي يزداد
جوره، مع مطالبةٍ واسعة الانتشار بإنشاء مجالس تمثيليَّة للشعب. كانت
أساليب «التوسُّل» و«الخنوع» التي اتبعها المؤتمر الوطنيُّ الهنديُّ،
المشكَّل منذ عام 1885 ويهيمن عليه مهنيُّو الطبقة الوسطى، قد أثبتت
عدم فاعليتها، أما الحركة العنفيَّة فكانت تحقِّق تقدُّمًا على الأرض،
وسبق لغاندي أن التقى في لندن أيام دراسته الناطقين باسمها وناقشهم حول
أخلاقيات العنف في زياراته المتلاحقة. شارك غاندي أعضاء هذه الحركة
نفاد صبرهم وأعجب بشجاعتهم ووطنيَّتهم، لكنه رفض بقوَّةٍ دعوتهم للعنف
على أرضيَّةٍ أخلاقيَّة وإجرائيَّة معًا. العنف شرٌّ في الأصل، ولا
يمثِّل خيارًا قابلاً للحياة لأناسٍ جرَّدهم الحكَّام المستعمرون من
سلاحهم، ومن غير المحتمل أن يعزز الشجاعة الأخلاقيَّة، وثقافة الثقة
بالنفس، والمقدرة على العمل المنسَّق بين جموع الشعب. ورأى غاندي أن
طريقة ساتياغراها التي طوَّرها عند وجوده في جنوب أفريقيا كانت تمثل
أفضل أملٍ للهند.
ثانيًا، تأكَّد غاندي من حالة الفساد لدى دراسته للواقع الهندي. وكان
قد لاحظ ذلك عند وجوده في جنوب أفريقيا، إذ كتب عنه في كتابه الأول
Hind Swarajالذي
طرح فيه تحليلاً متماسكًا لمأزق الهند والحلول المطلوبة (Mi.
199–264).
أصبح الهنود، بفعل قرونٍ من الحكم الأجنبي مقسَّمين بالعمق، إقرار نظام
الطوائف، التزام بالتقاليد، تشظٍّ، أنانيَّة، كثرة النزاعات، حالة
مزريَّة، فساد أخلاقي، وتدنٍ بمستوى الوعي الاجتماعي، ومزايا الحياة
المدنيَّة. وما لم ينهض البلد و"يولد من جديد"، فلن يكون قادرًا لا على
تحقيق النصر ولا على الاحتفاظ باستقلاله. واعتمادًا على ذلك فقد اجترح
غاندي خطةً شاملة لانبعاثٍ وطنيٍّ، وأطلق عليها اسمًا مناسبًا هو
البرنامج البنَّاء. هذه الخطَّة بمكوناتها الغانديَّة المحضة،
تضمَّنت بنودًا صغيرة وكبيرة شملت مجالاتٍ مختلفةٍ من الحياة مع بعض
الخيارات الأخرى التي قُصدت إلى حد كبير لقيمتها الرمزية. تضمنت الخطة
اقتراحات "أساسيَّة بالمطلق"، مثل الوحدة الهندوسية-الإسلاميَّة،
والتخلُّص من المنبوذية
untouchability،
وتحريم الكحول، واستعمال الـكادي
khadi
(المغزل اليدوي)، وتطوير الصناعات المنزلية، ونشر التعليم المهني. كما
تضمنت أيضًا حقَّ المساواة للمرأة، والتثقيف الصحيَّ، واستعمال لغات
السكان الأصليين، وتبنِّي لغة وطنيَّة عامَّة، والمساواة الاقتصاديَّة،
وإقامة تنظيمات عماليَّة وفلاحيَّة، ودمج التجمُّعات القبليَّة في
التيار الرئيس للحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة، ومدوَّنة إدارية
مفصَّلة لطلاب المدارس، ومساعدة الشحاذين ومرضى الجذام، وتنمية ثقافة
احترام الحيوانات.
وعلى الرغم من أن بعض مقترحات هذه الخطَّة تبدو بسيطة إلى حد ما، إلا
أنَّ لكلٍّ منها فائدته. فعلى سبيل المثال، استعمال المغزل اليدوي يهدف
إلى تعميم زيٍّ وطنيٍّ، وخلق نوع من مبدأ المساواة، على الأقل ظاهريًّا
في مجتمع تسوده حالة عدم التكافؤ إلى حدٍّ بعيد، وإيجاد إحساسٍ من
التكافل مع الفقراء، وفرض نوع من الضغط الاقتصاديِّ على الحكومة
البريطانية وتقليص الواردات الأجنبيَّة. وكان المقصود من استخدام لغاتٍ
محليَّة ردم الهوَّة الواسعة والسحيقة بين عامَّة الناس والنخبة ذات
الثقافة الغربية، والتأكيد على سيرورةٍ ثقافيةٍ، تشجيع الثقة بالفكر
والعمل، ولصياغة طرائق محليَّة لتوحيد التعابير الفردية. وإن تنمية
الصناعات الريفية كانت تهدف لمساعدة فقراء الأرياف، وضمانهم بعملٍ يعود
عليهم بالربح، إيقاف الهجرة إلى المدن، وفوق كل ذلك، ليعزِّز ما كان
يراه غاندي القاعدة الاجتماعيَّة والجغرافيَّة الضروريَّة لبناء حضارةٍ
هنديَّةٍ.
وبالنسبة لغاندي، فإن ساتياغراها مخطَّط لها جيِّدًا مع البرنامج
البنَّاء، وخاصة هذا الأخير، تُمسِكُ بمفتاح الانبعاث الأخلاقيِّ للهند
وتحقيق الاستقلال السياسيِّ. وعلى مدى نحو ثلاثين عامًا كرَّس كلَّ
قواه، وبكلِّ إخلاصٍ، لتحقيق هذين الهدفين معًا. احتاج إلى فريق عمل
متَّحد من الرجال والنساء بمواهب متكاملة، فعمل بمهارة على تحديدهم
واحتضانهم والتأليف بينهم. تبنى أحيانًا أسرًا بكاملها، واستخدم
أفرادها للتأثير في بعضهم البعض للبقاء على عهدهم بالعمل على قضيَّته،
وحتى أنه أصبح عضو شرف في هذه الأُسر، يعمل على حلِّ التوترات
الداخليَّة ويمارس التأثير العاطفيَّ الكبير الشأن خاصَّةً على النساء
والشباب. وببراعةٍ، ربط العديد من الأسر ببعضها البعض وأنشأ شبكةً
أهليَّةً مرتبطةً به بقوَّةٍ كقائدٍ مبجَّلٍ لديها. وبسبب حاجته لصحيفة
ينشر عبرها رسالته بلغته الخاصة، بدأ بإصدار جريدة
Navajivan
وألحقها فيما بعد بـ
Harijan.
واحتاج إلى تمويل، فأقام، بدهاء، علاقةً مع نصف دزينةٍ من أكثر
الصناعيين غنىً في الهند وتمَّ ترويضهم. وشعر بالحاجة إلى إيقاظ أبناء
بلده وتوحيدهم، فبادر بسلسلةٍ من ساتياغراها مخطَّط لها جيدًا، ناشدت
كل واحدةٍ منها جمهورًا تم استهدافه بكل وضوح. وتطلَّب الأمر منه إحداث
هياكل تنظيمية سياسيَّة متينة، فأعاد بناء حزب المؤتمر الوطني الهندي
من القاعدة إلى القمة.
وفوق كل ذلك، كان غاندي بحاجة إلى حشد الجماهير. فمكث يفكِّر ويجرِّب
طويلاً، فخلص إلى أسلوب متميِّز للخطاب معهم كان أيضًا شكلاً من أشكال
الممارسة العمليَّة. وإذ كان مقتنعًا بأن أفعال الإنسان تستمد طاقتها
العاطفيَّة من «القلب»، ويمكن تأطيرها وتحفيزها فقط من خلال رموزٍ
منتقاةٍ بعنايةٍ وحكمةٍ، فقد اشتقَّ حزمةً قويَّةً من الرموز المحفزِّة
للعواطف والمستوحاة من المخزون الثقافي للشعب، وتضمنت دولاب الغزل،
والبقرة، و"قبعة غاندي" (وهي قبعة قطنيَّة بيضاء عمل على تعميمها).
فعلى سبيل المثال، أدى دولاب الغزل، الذي طالب غاندي الجميع باستخدامه،
دوره في خدمة عدة أهدافٍ لها رمزيَّتها. فقد كان أسلوبًا للتمرُّد
بلطفٍ على الحضارة التقانية الحديثة، وللتأكيد على عظمة طريقة الحياة
الريفيَّة الهنديَّة. كما أنه وحَّد المدن والقرى والنخبة ذات الثقافة
الغربية والجماهير العامة، فأمسى "علامة على ارتباطهم". ورفع دولاب
الغزل من منزلة العمل اليدويِّ وأولئك المنخرطين به وتحدى الثقافة
الهنديَّة التقليديَّة التي كانت تستخفُّ بالاثنين معًا. فقد كان رمزًا
للشفقة الاجتماعية لأن أولئك الذين لم يكونوا بحاجة إلى إيرادات
منتجاته اندفعوا إلى منحها للفقراء، وهو تصرُّف أخلاقي أكثر سموًّا
مقارنة بتقديم الهبات النقديَّة. كما أنَّه من جهة ثانية، يتيح للإنسان
أن ينفرد بنفسه ويتأمَّل بصمتٍ، أقلَّه بعض الوقت خلال يومه. لم يستنبط
غاندي رموزًا من مثل هذا النوع فحسب، بل أصبح هو نفسه واحدًا منها
أيضًا. كان بعضها بقصدٍ واعٍ، وبعضها الآخر تعابير عفوية عن مجمل
حياته؛ لباسه، لغته، طريقة خطابه مع الناس، طعامه، إيماءاته البدنيَّة،
طريقة جلوسه، المشي، التكلُّم، الضحك، حسُّ الفكاهة، عكَّازته، باتت
كلها رموزًا لطريقةٍ خاصَّةٍ في الحياة. كلُّ واحدةٍ منها أيقظت
ذكرياتٍ من المخزون الثقافيِّ السحيق، حملت معاني كثيرة وأوحتْ برسائلَ
معقدةٍ جدًا.
لم تخاطب رموز غاندي العواطف فحسب، لأنه قدَّم دفاعًا عقلانيًّا عنها
أيضًا، كما أنها لم تكن صوفيَّةً أو سريَّةً، فجميعها مشتقَّة من
الحياة اليوميَّة للهنود العاديين. توجَّهت إلى العقل والقلب معًا،
وإلى القضايا المهمَّة كما إلى الذكريات الثقافيَّة، وإلى الحاضر
والماضي، واختيرت لتصل إلى "كلِّ مخلوقٍ" من أبناء بلده وتوقظ طاقتهم
الأخلاقيَّة. وخلقت بأسلوبها الخاص جمالياتٍ جديدة ونوعًا خاصًّا من
الخطاب الشعبي العمومي الذي لم تستطع الحكومة الاستعمارية إيقافه. لم
يسبق لزعيم قبل غاندي أن أبدع مثل هذه الاستراتيجية القويَّة الواضحة
والمفهومة للعمل، كما لم يسبق لغيره أن امتلك مثل ثقته الهائلة بنفسه،
أو مهاراته في التنظيم والتواصل مع الناس. كان أمرًا لا يصدق أن يمارس
تأثيرًا لا نظير له في الحياة السياسيَّة للهند طوال نحو ربع قرنٍ من
الزمن.
بالنسبة لغاندي، يجب أن يسير النضال من أجل الاستقلال السياسي جنبًا
إلى جنب مع النضال الأكبر لإعادة انبعاث الهند. فإن أصبح الاستقلال
السياسي هو الهدف الوحيد أو حتى الهدف الأكثر أهمية من بين الهدفين
المذكورين، سيقع البلد تحت خطر سلطةٍ سياسيَّةٍ نفعيَّةٍ؛ ومن أجل
مصالحها الخاصة، فإنها ستشجُّع العقلية المهنيَّة، معطيةً أهميةً أكبر
لموظفيِّ المكاتب أكثر منها للعمال الحقيقيِّين على الأرض، وهكذا
دواليك. وعلى الرغم من أنَّ وجهة نظر غاندي كان لها حسناتها، فقد خلقت
له جملة من المتاعب أيضًا. فالنضال من أجل الاستقلال ومن أجل الانبعاث
الأخلاقي كان لهما منطقهما المتباين، وأحيانًا يتصادمان مع بعضهما
البعض؛ إضافة إلى أنَّ النضال من أجل الاستقلال يستلزم العمل بكلٍّ من
ساتياغراها وضمن المؤسسَّات التمثيليَّة التي فرضتها الدولة
المستعمِرة، ومرة أخرى، تذهب هذه الأمور نحو اتجاهاتٍ مختلفةٍ أحيانًا.
لم يشارك العديد من القادة الهنود غاندي في إعطاء الأفضلية للانبعاث
الأخلاقيِّ والبرنامج البنَّاء، واتخذوا وجهة النظر المعاكسة القائلة
إنَّ الاستقلال السياسي يمثِّل شرطًا ضروريًا للانبعاث الأخلاقي ويجب
أن يتمَّ أولاً. وفي حين احتكم غاندي إلى ساتياغراها من منطلق تأثيرها
في المجتمع الهندي وانبعاثه، احتكموا هم إليها من منطلق كيفيَّة
تأثيرها في السياسات التقليديَّة ودعمها لاقتراحاتهم التي يقدمونها إلى
المؤسسات التمثيليَّة. وأبعد من ذلك، ولأن غاندي لم يكن قد اكتشف بوضوح
العلاقة ما بين السياسات التقليدية وساتياغراها والبرنامج البنَّاء،
ولكون ذلك يحتاج إلى إعادة التوضيح المستمر في ضوء الظروف المتبدلة،
فإنَّ استراتيجيته عمومًا ظلَّت غير متماسكةٍ بشكلٍ ما، جاعلةً من
قيادته تمرُّ بأطوارٍ متقلِّبةٍ لا يمكن التنبؤ بها أحيانًا.
أدرك غاندي ذلك وسعى لحلِّ هذا الوضع. وناقش الموضوع من منطلق أنَّ
الأشخاص المختلفين لديهم مواهب وأمزجة مختلفة، الأمر الذي يجعلهم
ملائمين لمختلف ضروب العمل. فالبعض يشعر بالمتعة عند أدائه عملاً
بنَّاءً، وآخرون يشعرون بالمتعة أكثر عندما يشاركون في ساتياغراها، في
حين يشعر آخرون بأن العمل في المؤسسات السياسية التقليديَّة يناسبهم
أكثر. فالنضال السياسي يجب أن يتكيَّف مع هذا التنوّعُ، تاركًا لكل شخص
حريَّة العمل وفق ما يرى نفسه ملائمًا له. وهاتان النقطتان تعطيان
شعورًا بالإنجاز على المستوى الشخصي، وتؤكدان على ضرورة تقسيم العمل،
الأمر الذي تحتاجه الهند لإتمام المهمَّة العظيمة وهي الاستقلال
السياسي والانبعاث. أما بالنسبة لغاندي شخصيًا، فقد صرَّح بأنه ينسجم
مع العمل البنَّاء وبدرجة أقل مع ساتياغراها، وبعيدٌ كلُّ البعد عن
السياسة التقليدية، ولذا ركَّز جهوده على البندين الأولين، وترك الثالث
كلِّيًا لأولئك المناسبين له. وعلى الرغم من أن السياسة التقليدية لا
يمكن فصلها بسهولة عن الجانبين الآخرين، فقد كان التوفيق بينهما
مقبولاً وأنجز ذلك على أفضل ما يكون. وكان يعني هذا أيضًا أن علاقة
غاندي بحزب المؤتمر ظلت فضفاضة ومرنة. أعطاه المؤتمر درجةً معقولةً من
الاستقلاليَّة ولم يكن مجرد وسيلة لتحقيق غايته، فدوره الذي حافظ عليه
هو حريته بالعمل وليس فقط رئيسًا للمؤتمر.
على الرغم من أن ساتياغراهات غاندي في الهند قد سلكت نفس الخطوط
العريضة لتلك التي سلكتها في جنوب أفريقيا، إلا أنَّه أدخل عليها
أيضًا، كما سنرى لاحقًا، عدة تعديلات كي تلائم الظروف والحاجات
الجديدة. وكانت فكرة الصيام واحدةً منها، وأصبحت موضوعًا لكثير من
السجالات عبر مسيرة حياته. ولأسبابٍ تُناقش لاحقًا، لم يكن لدى غاندي
أي شكٍّ بأنَّ صياماته ليست تحديًّا للجوع، وليست شكلاً من أشكال
الابتزاز العاطفيِّ أو الأخلاقيِّ، كما أنها ليست طريقة لاستثارة شفقة
الآخرين واستغلالها، بل هي شكل من أشكال التضحية بالنفس، وجسَّدت بذلك
منهجًا أخلاقيًّا متكاملاً للعمل. فقد اقتنع من خلال تجاربه السابقة
بأنَّ أفعال الإنسان تنبع من «القلب والعقل كليهما» لذا فإنَّ الإنسان
لا يمكنه الوصول إلى حد الرضا عن النفس بخصوص الضرورة الأخلاقيَّة
الحيَّة عن طريق المواعظ والحوارات لوحدها. إذ على المرء أن يلامس
قلوبهم ويحثَّ عقولهم، وكان الصيام واحدًا من أكثر الأساليب فعَّاليةً
للقيام بذلك. ولأنَّ غاندي فهم طبيعته وآلياته، فقد اشتقَّه من مصدرين
منفصلين: فكرة تاباس (tapas)
(الكفًّارة) التي كان يمارسها الهندوس، وفكرة آلام المحبة المسيطرة عند
المسيحيين. الصيام هو فعل من تعذيب النفس المفروض ذاتيًّا بهدف تطهير
المرء لذاته، وإيقاظ الوعي لدى أولئك المعنيين به.
قيادة حركة الاستقلال
بفضل استحسان عمله في جنوب أفريقيا، قيادته الناجحة لساتياغراها في
كلٍّ من «تشامبران» و«كايرا» عامي 1917، 1918 على التوالي، وبفضل
قيادته لإضراب عمال النسيج في مدينة «أحمد أباد» عام 1918، أصبح غاندي
قائدًا وطنيًّا مؤثرًا في غضون أربع سنواتٍ من عودته إلى الهند. ذلك أن
لغته الأخلاقيَّة، وشخصيَّته المعقَّدة، ووضوح رؤيته، ورموزه المشبعة
بالتراث الثقافي، وأساليبه، وثقته اللامحدودة بنفسه، وجرأته في تصدِّيه
لموقع القيادة استهوت أبناء بلده وأسرت ألبابهم أيضًا، وعزَّزت شخصيته
الكارزمية. وعندما صدرت قرارات رولات
Rowlatt acts
غير الشعبية في آذار 1919، 1919 واستهدفت بشكل أساسي «المؤامرات
الثورية»، وواصلت العمل بتقييدات زمن الحرب المفروضة على الحريات
المدنيَّة، شعر غاندي بالثقة الكافية لإطلاق أوَّل ساتياغراها وطنيَّة
في أواخر ذلك العام، متضمنة هارتال
hartal
(التوقف عن العمل) فعَّال على امتداد الوطن مع مظاهرات حاشدة. وعلى عكس
توقعاته، فقد تمَّ تشويهها من خلال بعض حالات حرق الممتلكات، وأعمال
السلب، وأعمال عنفٍ ضد بعض الأشخاص البريطانيين. وقد وصفها غاندي بأنها
"خطأ في التقدير لدى الهملاياني" فأوقفها؛ إجراءٌ تعيَّن عليه تكراره
بعد ثلاث سنواتٍ في سياق آخر. لم يقلقه أبدًا الخوف من خذلان العامة أو
تراخي سلطته الأخلاقيَّة على الأقلِّ، لأن من "المشرِّف أكثر" أن يعترف
المرء بخطئه من أن يضحِّي بمبادئه، وعلى أي حال فـإن «السلطة
الأخلاقيَّة لا تُستبقَى أبدًا عبر محاولة التشبث بها».
كان ما يزال بعض العنف مستمرًا، فمنعت الحكومة الاستعمارية كافة
التجمعات الجماهيرية في إقليم البنجاب. وعندما أقيم إحداها في
جاليانوالا باغ في أمريتسار في الثالث عشر من نيسان عام 1919، أمر
الجنرال داير جنوده بإطلاق النار على الحشد الأعزل من دون سابق إنذار،
فقتل 379 شخصًا وجرح 1137 آخرون. هذه الحادثة، مع قرار لجنة هانتر
بتبرئة الجنرال داير لاحقًا، أضعفت مكانة الحكم الاستعماري في عيون
معظم الهنود، وكتب غاندي إلى رئيس الإدارة البريطانية في الهند أنه لا
يستطيع الإبقاء «لا على الاحترام... ولا على الود» تجاه الحكومة
الاستعمارية. وكتب بعد شهور قليلة ثلاث مقالات مهمة يعلن فيها أن
العصيان «واجب» ويطالب بوضع نهاية للحكم البريطاني.
أطلق غاندي حركة لا-تعاون عام 1920 استمرت نحو سنتين. ألهبت الحركة
فكرة رائعة وبسيطة، لكنها خطيرة في الوقت نفسه، ومفادها أن استمرار
الدولة الاستعمارية منوطٌ بتعاون رعاياها، وبالتالي فإنها ستنهار إذا
سحبوا دعمهم لها وأقاموا مؤسساتهم الموازية لملء الفراغ الحاصل. ووعد
غاندي بتحقيق الاستقلال "خلال عام واحد"، إذا كان اللاتعاون شاملاً
وواسع الانتشار. سوف يُمارس اللاتعاون على عدة مراحل تشمل الاستقالة من
الحكومة، ورفض استخدام المحاكم والمدارس، وفي خطوة لاحقة، رفض دفع
الضرائب والخدمة في الجيش، وحرق الثياب الأجنبية. شعر كثير من الناس
بالقلق من اقتراح غاندي، ليس فقط لاعتقادهم بأن ما يدعو إليه غير
واقعي، بل لكون ذلك يحمل مضامين مناهضة للدولة وأقرب إلى الفوضويَّة.
وردَّ غاندي عليهم بأن اللاتعاون هو طريقة لإثبات هشاشة الدولة
الاستعمارية وتبيان نسبة مشاركة الهنود بها، ومن ثم إعادة بناء الدولة
الجديدة على قاعدة شعبية. وأثارت فكرته عن حرق الملابس الأجنبية
إرباكًا شديدًا أيضًا حتى أن بعضهم، ومنهم شاعر الهند العظيم
رابندرانات طاغور، تخوَّفوا من أن يكون غاندي يزيد من تدنيِّ الوعي
القوميِّ أو حتى الخوف من الأجانب. رفض غاندي هذه التهمه بشدَّة.
فالثياب الأجنبية كانت رمزَ الإظهار السافر للثراء، و"التعلُّق
المرضيَّ" بالبضائع الأجنبيَّة، إذ كان استعمال الثياب الأجنبيَّة
يعتبر إبرازًا للهويَّة الغربيَّة والسيطرة الاقتصاديَّة من قبل
الأسياد المحتلين. ويعني إحراقها أن "يطهِّر" أو "ينظِّف" الشخص نفسه
من كل ذلك. وكان لهذا الفعل فوائد إضافيَّة أيضًا منها انطلاق الصناعات
المحليَّة، وتعزيز ثقافة الثقة بالنفس لدى عامة الشعب وضرب المصالح
الاقتصادية البريطانية
(xxi. 102; xl. 84 – 5).
اعتقل غاندي بسبب قيادته حركة اللاتعاون وقدِّم للمحاكمة في شهر آذار
من عام 1922. أفسد المحاكمة ببراعةٍ، وذلك برفضه الامتثال إلى منطقها.
فقد رفض توكيل محامٍ للدفاع عنه وواجه المدَّعي العامَّ منفردًا،
رامزًا بذلك إلى عجز الهند أمام الدولة الاستعمارية المنظمة جيدًا. كما
لم يدافع عن نفسه، ولم يرفض صفة مذنب بحقه فحسب، بل طلب من القاضي أن
يأخذ في حسبانه بعض المواد الجُرمية في القانون التي تجاهلها. وحوَّل
محاكمته إلى محاكمة للحكم الاستعماري، منتهزًا الفرصة ليبيِّن سبب
انتقاله «من موالٍ مخلصٍ ومتعاونٍ» إلى «حاقدٍ عنيدٍ وغير متعاون»، كما
أوضح بأن هناك أمر على درجةٍ كبيرةٍ من الخلل في نظام حكمٍ يحتاج إلى
سجن أمثاله. وأنهى كلامه بوضع القاضي أمام مفارقةٍ أخلاقيةٍ: إن هو
وافق على النظام المسيطر فيتعيَّن عليه أن ينزل "أقسى عقوبة" بغاندي؛
وإن شعر بصعوبة تنفيذ الشرط الأخير، فيتعيَّن عليه أن يشجب النظام
القائم ويستقيل
(G 254-8).
ارتقى القاضي البريطاني المضطَّرب بشدَّة إلى مستوى الحدث وأهميته.
انحنى احترامًا لغاندي وصرَّح بأنَّه (أي غاندي) "من صنفٍ من الأشخاص
مختلفٍ عن الذين حاكمهم في حياته أو سيحاكمهم فيما بعد." وأصدر على مضض
حكمه بالحبس ست سنوات، مضيفًا أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكون أكثر سعادةً
منه إن قرَّرت الحكومة إطلاق سراحه فورًا لسببٍ أو لآخر. وردَّ غاندي
شاكرًا القاضي على دماثته التي تعامل بها معه من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى
على "الحكم المخفف" الذي فرضه بحقَّه والذي ما كان لقاضٍ آخر أن يصدره
في مثل هذه الظروف. هذه المحاكمة، التي شكَّلت حدثًا بارزًا في التاريخ
الاستعماري البريطاني، سلَّطت الضوء على نموذج غاندي في التعامل، وقدرة
القضاء على مراعاة الأصول، والأسلوب المهذب الذي أدار به الطرفان
أحيانًا علاقاتهما. وبشكلٍ ملحوظ، لم تعاود الحكومة الاستعمارية محاكمة
غاندي مطلقًا على الرغم من أنها احتجزته في مناسباتٍ عدةٍ.
ركزَّت حركة اللاتعاون الانتباه على الحكم الصادر بحقِّ غاندي وجعلت من
تحقيق الاستقلال السياسي هدفًا وطنيًّا مشتركًا على نطاق واسع. ودفعت
الكثير من الهنود إلى الجذرية، والانخراط في الحياة السياسية، ووسَّعت
الامتداد التنظيميَّ والقاعدة الاجتماعية لحزب المؤتمر. كما أدى إلى
إيجاد عددٍ كبير من المؤسَّسات التطوعيَّة، ووسعت بشكلٍ كبيرٍ الفضاء
المدن، وأضعفت السند الأخلاقي للدولة الاستعمارية. ولكنها، من جهة
أخرى، أخفقت في هدفها الأساسِّي المتمثل في شلِّ الدولة الاستعمارية
وإقامة دولةٍ بديلة خلف ظهرها. فقد تطلَّب الأمر التضحية بالأعمال،
وهذا ما استعدت قلَّة قليلةٍ للقيام به، كما تطلَّب أيضًا عدائيَّة
تجاه المؤسَّسات الغربيَّة لم يشارك فيها سوى قلة. ولذلك ليس مستغربًا
أنَّ بعض الطلاب الذين قاطعوا المدارس الحكوميَّة شرعوا في العودة
إليها، كما استمرَّ المحامون بمزاولة أعمالهم، وأصرَّ عدد من الزعماء
الوطنيين النافذين على المشاركة في الهياكل التشريعيَّة البلديَّة
والمحليَّة والوطنيَّة. وعلى عكس توقعَّات غاندي، فقد سبَّبت الحركة
نفور الكثير من المسلمين منها عن غير قصد. فوجودهم في الطبقات الوسطى
دفعهم إلى عدم التخلي عن وظائفهم ذات المداخيل الجيِّدة أو حتى ترك
معاهدهم وجامعاتهم. فعندما حاول محمد علي إغلاق المعهد الإسلامي في
أليغره، قام الأهالي والأوصيَّاء بضربه. وفي الواقع، اعتقد كثير من
المسلمين بأن خطَّة غاندي تمثل مؤامرة هندوسيَّة لكبح تقدمهم!
أُطلق سراح غاندي من السجن قبل الأوان لأسبابٍ صحيَّة. وانتخب رئيسًا
لحزب المؤتمر في عام 1924، وهي المرة الوحيدة التي قبل فيها أي منصب.
كان شديد القلق من تنامي القطيعة بين مختلف مكونات الهند، خاصَّةً بين
الهندوس والمسلمين، ولم تكن حركة اللاتعاون قد أظهرتها فحسب، بل
أبرزتها أيضًا في بعض الحالات. وحتى دعمه، غير الحكيم النابع عن حسن
نيَّةٍ، للزعماء المسلمين في حملتهم ضد إلغاء بريطانيا للخلافة التركية
عام 1919 لم يحقق هدف إعادة التواصل أيضًا. وبدلاً من ذلك، زاد الأمر
من التمسك بعلماء (رجال) الدين الإسلامي، ونفَّر محمد علي جِناحْ
والقادة العلمانيين المسلمين الآخرين، واستدعى فكرة الجامعة الإسلامية،
كما خلق شكوكًا لدى الهندوس بخيانة المسلمين. قرَّر غاندي عندها أن
يعالج قضية الوحدة الهندوسية–المسلمة، فوظَّف عمليَّة الصيام لواحدٍ
وعشرين يومًا عام 1924 من أجل خلق «الاحترام والتسامح المتبادل»
بينهما. وعدا عن إعطائه الموضوع درجة متقدمة على سلَّم الأولويَّات
الوطنيَّة وحثِّه التعاون الإسلامي – الهندوسي، لم ينجز صيامه سوى
القليل.
شعر غاندي بأن عليه التركيز على برنامجه البنَّاء بغية إنماء الوحدة
والثقة بالذات اللتين يحتاجهما الهنود للكفاح ضدَّ الحكم الاستعماري
وتحقيق الاستقلال في نهاية المطاف. ولذلك التفت إلى تحسين وضع المرأة،
وإلغاء المنبوذيَّة، وتشجيع الصناعات المنزلية، والحثِّ على انتشار
دولاب الغزل اليدوي، وتوسيع استعمال اللغات المحليَّة. وقرَّر أن يلزم
الصمت مدة عام 1926 يكرسه للتأمل الهادئ، والعمل الاجتماعيِّ، والحفاظ
على طاقته الروحيَّة. فقد آمن منذ زمن بعيد بالطاقة الخلَّاقة للصمت،
وخصص طوال سنوات أيام الاثنين للصمت، يتواصل فيها عند الضرورة عبر
ملاحظات يدونها بسرعة بواسطة عَقِب قلم رصاص. كتب إلى ب. س. روي في
أيار من عام 1928:
أنتظرُ زمني، وسوف تجدني أقود البلد في حقل السياسة عندما يصبح جاهزًا
لذلك. ولست مزيَّف التواضع تجاه نفسي. أنا، بلا شك، رجل سياسيٌّ على
طريقتي الخاصة، ولديَّ خطتي من أجل حريَّة البلد. لكن وقتي لم يحن
بعد...
(cw-36. p. 281).
وحان وقت غاندي في عام 1930. فمنذ أواسط العشرينيات فصاعدًا كان العنف
الموجَّه والصراع الاقتصادِّي في تزايدٍ مستمر. فالمؤسَّسات
التمثيليَّة القائمة منذ عام 1919 خيَّبت الآمال. فقد كانت سلطاتها
محدودة جدًا وتفتقر إلى الموارد الماليَّة. وأثَّرت الحالة المتدهورة
للاقتصاد العالمي في الهند وأدَّت إلى اضطرابٍ كبير. شعر غاندي بأن
هناك «الكثير من العنف يلوح في الأفق»، وأنَّ شكلاً من أشكال العصيان
المدنيِّ بات ضروريًّا، ليس فقط لأن الوضع يتطلب ذلك بل، أيضًا، لإيجاد
صمَّام أمانٍ للاستياء المتصاعد، ولتجنُّب انشقاقٍ ما داخل حزب المؤتمر
نفسه. لكنه كان قلقًا من أنه في ظل المزاج المسيطر آنذاك على البلد،
حتى أكثر أشكال العصيان المدني سلميَّةً تحمل معها مخاطر التحوُّل إلى
أعمال عنفٍ. وبعد "تفكير عميقٍ ليل نهار"، قرَّر غاندي إطلاق
ساتياغراها ضدَّ قرار الحكومة فرضَ ضريبة الملح عام 1930. تضمَّن
الاحتجاج خرق القانون عبر تصنيع الملح على شاطئ البحر. رسميًّا، كانت
تلك ساتياغراها باسمه، لا باسم المؤتمر، وقفًا عليه وعلى المنضمِّين
إليه الذين انتقاهم بعنايةٍ فائقةٍ، وتضمنت عهدًا من الجميع بأنهم
يقبلون اللاعنف ليس فقط على أساسٍ عملي، بل كعقيدة راسخة وأنهم يلتزمون
العمل به تحت أعتى ظروف الاستفزاز. اختار غاندي قضيَّة الملح لأنها
طالت بتأثيرها الهنود جميعهم، ووحَّدت بين الهندوس والمسلمين، وأرخت
بكاهلها على الفقراء كلِّهم، وأظهرت وحشيَّة القرار. ولأن إيرادات
الضريبة كانت هامشيَّةً بالنسبة للحكومة، فمن غير المحتمل بالتالي أن
يؤدي الاحتجاج عليها إلى أعمالٍ انتقاميَّةٍ قاسيةٍ.
طويلة هي المسيرة التي بدأها غاندي، أربعة وعشرون يومًا سيرًا على
الأقدام باتجاه الجنوب، وسنه آنئذٍ واحد وستين عامًا، يرافقه ثمانية
وسبعون رجلاً يمثلون مختلف المناطق والأديان. قصد القرية الساحليَّة
داندي التي تبعد مائتين وواحد وأربعين ميلاً. وهي تذكِّر بمسيرٍ له دام
خمسة أيام سيرًا على الأقدام أيضًا عبر ترانسفال عام 1913، وبصحبته
مجموعة تزيد على ألفيِّ شخص. كان يسير ما بين 10- 15 ميلاً يوميًا وسط
هتافات الترحيب لمئاتٍ من الناس الذين ينضمُّون إليه أحيانًا من أبناء
القرى المحيطة، حاملاً معه نسخًا من غيتا
Gita
ومقتبِسًا منه ومن الكتاب المقدس، مسبِّبًا الإحراج للحكومة المسيحيَّة
نظرًا للشبه بين مجابهة كل من غاندي والسيد المسيح للسلطات. ووسط
متابعةٍ من أنحاء الهند كلِّها، إضافةً إلى التقارير الإخبارية
العالميَّة التي تنقل أخبار تقدمه يوميًا، وصل غاندي أخيرًا إلى داندي
في الخامس من نيسان. ووسط استعراضٍ بارعٍ لفنَّانٍ سياسيٍّ كبيرٍ، ملأ
قبضته بالملح تعبيرًا عن الاستخفاف الواضح بالحظر الحكوميِّ. وعلى طول
الشاطئ الهندي ذي الخلجان الكثيرة قام آلاف الأشخاص، خاصةً الفلاحون
منهم، باتِّباع خطاه وصنَّعوا الملح بطريقةٍ غير قانونية. ضُربوا،
وأحيانًا بوحشيَّةٍ، واعتقل ستون ألفًا منهم تقريبًا بمن فيهم غاندي
نفسه، واحتجزوا لمددٍ مختلفةٍ من الزمن. أقنعت ساتياغراها الملح
الهنودَ بأنَّ الحكم الاستعماري يمكن اختراقه، حتى أنَّه بمقدورهم
إنهاؤه حين امتلاكهم الإرادة الضروريَّة لذلك. وأوصلت رسالةً مماثلة
إلى الحكومة البريطانيّة. وفضحت وحشيَّة الحكومة الاستعمارية. وأعلنت
على الصعيد الدولي عن النضال الهندي من أجل الاستقلال، وأوقعت الحكومة
البريطانيَّة تحت تأثير ضغط عالميٍّ كبير.
أفضت ساتياغراها عام 1930 إلى مفاوضات لندن التي وصل إليها غاندي في
تشرين الأول عام 1931، أي بعد سبعة عشر عامًا من آخر زيارةٍ إليها. شخص
شعبي ذائع الصيت، التقى بالعديد من زعماء الفكر، وأساتذة جامعة
اكسفورد، ورموزٍ دينييِّن، حتى جورج برناردشو وشارلي شابلن. زار مناطق
مختلفة من البلاد بما فيها لانكاشير، وهناك قدَّم اعتذاره لعمَّال
النَّسيج عن الأذى الذي سبَّبه لهم جراء مقاطعته الألبسة البريطانية
وطلب منهم التفهم الوجداني. وقام بزيارةٍ «لا يمكن نسيانها» إلى س. ب.
سكوت مالك ورئيس تحرير صحيفة مانشستر غارديان، «الصحيفة الأكثر نزاهة
والأكثر صدقًا» في بريطانيا العظمى
(x1 vii, 433).
كما زار الملك في قصر باكنغهام مرتديًا مئزره التقليدي، الذي اعتمده
عام 1922 تعبيرًا عن انتمائه للناس الفقراء، ناثرًا على كتفيه شالاً
اعتاد على لبسه أثناء وجوده في بريطانيا ليحمي نفسه شرَّ البرد. وعندما
علَّق أحد الصحفيين على ملابسه الخفيفة، أجابه قائلاً «ها هو الملك
يرتدي ما يكفينا كلينا معًا»، وبعد سنة عندما دعاه وينستون تشرشل
«الدرويش نصف العاري»، شكره غاندي على «الإطراء» وكتب أنَّه «يجب أن
يكون درويشًا كامل العري لكنه ليس كذلك حتى اللحظة»
(F595).
في صالة المؤتمر نفسها، كان تأثير غاندي محدودًا جدًا، والسبب يعود إلى
اضطرابه في الاجتماعات الرسميَّة دائمًا، وإلى أنَّه لم يكن يأخذ
المفاوضات على محمل الجدِّ، وكذلك إلى أنَّه عُومل هناك لا بصفته
ممثلاً أعلى للشعب الهندي كما كان يرى نفسه، بل كواحدٍ من زعماء طوائفه
العديدين له حق المطالبة بمساواتها بالرعاية من الحكومة البريطانية.
تضمنت المفاوضات التوفيق بين المصالح المتضاربة، ورأى غاندي أنَّها
متعبة بشكلٍ أو بآخر. ومع تتابع المفاوضات، أدرك مرةً أخرى أنَّه إذا
كان للهند أن تنال استقلالها، فيتعيَّن عليه كسب أقلياتها إلى جانبه،
وبالأخص "المنبوذين" والمسلمين. فهاتان الفئتان تطرحان مشكلات صعبة، هي
في حالة المسلمين أصعب منها في حالة "المنبوذين".
غاندي في مسيرة الملح، 12 آذار 1930
خلال مفاوضات لندن، طالب زعماء "المنبوذين" بانتخاباتٍ منفصلةٍ على
شاكلة تلك التي يتمتع بها المسلمون منذ عام 1909، والسيخ والأوروبيون
وآخرون منذ عام 1919. ويتضمن ذلك أن تنتخب كل أقليَّةٍ ممثليها
الخاصِّين بها. كان العديد من الحكام الإداريين للاستعمار، بمن فيهم
كاتبا تقرير مونتاغو تشيلمسفورد عام 1918، قد حاجُّوا بأنَّ الانتخابات
المنفصلة مدعاة «للشقاق» وتشكل "عائقًا خطيرًا جدًا" أمام المواطَنة
المشتركة، لكن الحكومة الاستعمارية أبقت عليها وعملت على توسيعها بقصد
كسب ولاء الأقليات ودعمها. احتج غاندي على توسيِّعها لتشمل "المنبوذين"
بأقوى العبارات، في مؤتمر لندن وحتى بعده. فمن وجهة نظره، إن
"المنبوذين" يختلفون عن الأقليَّات الأخرى لأنهم جزء من المجتمع
الهندوسيِّ، وإنَّ منحهم حقَّ الانتخابات المنفصلة يمكن أن يؤبِّد
مكانتهم كـ "منبوذين" ويُعفي أفراد طبقة الهندوس من مسؤوليتهم
الأخلاقية تجاه الكفاح ضد عُرف "المنبوذية". ولم تكن الحسابات
السياسيَّة بعيدة عن ذهن غاندي أيضًا، لأن الانتخابات المنفصلة يمكن أن
تقلِّل من القوَّة العدديَّة للأغلبيَّة الهندوسيَّة، وتشجِّع تحالف
الأقليَّات للوقوف بوجههم، ويزيد انقسام البلد أكثر فأكثر. لم يُمانع
غاندي في حجز مقاعدٍ لـ "المنبوذين" لأن الجميع بما فيهم طبقة الهندوس
يستطيعون التصويت، ولكنه لم يؤيِّد الانتخابات المنفصلة لهم
(li.62- 5, 116- 20, 143-5).
عندما تجاهلت الحكومة البريطانية احتجاجه وأقرَّت الانتخابات المنفصلة
بالقرار الطائفي في آب 1932
Communal Award،
فإن غاندي، الذي كان آنذاك في السجن، بدأ العمل بخطةٍ هي الوحيدة
المتاحة له، وهي المباشرة بالصيَّام. شجب زعيم "المنبوذين" بابا صاحب
أمبيدكير الصيام واعتبر أنَّه «عمل معيق سياسيًّا»، كما أنَّه تصرف
«تافه ومزعج»، لكن معظم الهندوس، بمن فيهم طاغور المعروف بانتقاده
للصيام، رأوا أنَّه مبرَّر تمامًا. وبعد خمسة أيام من المساومة
الشاقَّة مع أمبيدكار، تم التوصل إلى حلٍّ وسط. أُسقط مطلب الانتخابات
المنفصلة، وحصل "المنبوذون" على عددٍ من المقاعد أكبر بكثير مما كان قد
منحهم إياها القرار إضافةً إلى مبالغ ماليَّةٍ خاصَّةٍ للنهوض
بالتعليم. أدرك غاندي أن الهندوسية أصبحت على «شفير بركان ثائر»،
فكرَّس نفسه للعمل ضد المنبوذية بعزيمةٍ وإصرارٍ أكبر من ذي قبل.
الصراع الأخير
لم تكن العلاقات الإسلامية – الهندوسيّة بأحسن مما هي عليه الآن. فخلال
ثلاثينيات القرن العشرين كانت العلاقة متوترة بينهما، لكنها لم تكن
تدعو للقلق. واعتقد غاندي أنه فعل الكثير للتقريب بين الطائفتين على
المستويين السياسي والشخصي، وأن الأمور ستتحسن ما إن تُزاح عن الطريق
الحكومةُ الاستعمارية وسياستها "فرِّق تسد." حظي حزب المؤتمر بدعم
جماهير المسلمين وضمَّ في صفوفه عددًا من الزعماء المسلمين في
المقاطعات ومنهم حتى ذوو سمعة على الصعيد الوطني. كانت انتخابات
الأقاليم في عام 1937 حاسمةً، خاصةً وقد منح مرسوم عام 1935 حكمًا
ذاتيًا ناجزًا للأقاليم، الأمر الذي نُظِرَ إليه على أنَّه تعبيدٌ
لطريق استقلال الهند بأكملها. وعلى الرغم من أنَّ ما أنجزه حزب المؤتمر
على صعيد الدوائر الإسلاميَّة كان ضعيفًا، إلا أنَّ إنجازه على مستوى
الدوائر الانتخابية العامة كان رائعًا جدًا، وهذا ما حصل أيضًا مع حزب
الرابطة الإسلامية. ولم يشكِّل المؤتمر وزاراتٍ سوى في أربعة أقاليم
فقط.
طرحت انتخابات 1937 أمام حزب المؤتمر تحديًا وفرصة. وأدرك المؤتمر أنَّ
المسلمين لم يكونوا خلفه وأنه يجب استمالتهم، كما أنهم ليسوا خلف
الرابطة الإسلامية أيضًا ويمكن استمالتهم. واعتمادًا على ذلك، أطلق
برنامجًا أسماه «التواصل مع الجماهير» بغية إعادة التأكيد لهم أن
المؤتمر لا يمثِّل تهديدًا لمعتقداتهم الدينيَّة ولا لقضاياهم الأخرى.
وقرأ حزب الرابطة الإسلامية الوضع بالطريقة عينها تقريبًا فأطلق حملته؛
الخبيثة إلى حدٍّ ما، واستهدف إيقاظ المخاوف والإحساس بعدم الأمان لدى
المسلمين. لاحظ المؤتمر السرعة والزخَّم اللذين تزداد بهما "طائفية"
المسلمين، فأوقف برنامجه وطلب من الرابطة القيام ببادرةٍ مقابلة. لكن
محمد علي جِنَاح، بصفته رئيسًا للرابطة، لم يرفض إيقاف الحملة فحسب، بل
جعلها أكثر كثافةً.
كان جِنَاحْ، وهو الخصم الأشدُّ لغاندي، شخصيَّةً معقَّدةً، والعلاقة
بينهما مليئة بالمفارقات الغريبة. ينحدر «جِنَاحْ» من المنطقة نفسها في
الهند التي ينحدر منها غاندي، ويشترك معه في اللغة والثقافة، كما أنَّه
محامٍ مثله. وعائلته من الجيل الأول الذي ارتدَّ عن الهندوسيَّة، واسم
جِنَاحْ، وهو اسم هندوسيٌّ، يعكس عادة مشتركة إلى حد ما لدى الذين
ارتدوا عن الهندوسية بشأن الإبقاء على جزءٍ من اسمهم الأصلي. كان جناح
مثله مثل غاندي يجِّل غوكال كثيرًا ويعتبره مرشده السياسيَّ. وقضى عدة
سنوات خارج البلد أيضًا. وعلى الرغم من أنهما قدَّما إجاباتٍ مختلفةٍ
جدًا بما يخصُّ الهند، إلا أنهما يتشابهان بحفاظهما على منظور
اللامنتمي. فلم يكن أيٌّ منهما على إطلاعٍ جوهريٍّ على تاريخ الهند، أو
حتى على تراثه الدينيِّ الخاصِّ. وخلافًا لغاندي، لم يكن جناح
متديِّنًا كما لم يعجبه أبدًا حشر الدين في السيَّاسة. تزوَّج من فتاةٍ
زرادشتيَّةٍ تصغره كثيرًا، وكان يحبُّ شرب الكحول، كما لم يعترض على
أكل لحم الخنزير. علم جاذبية غاندي وأسلوبه في ترسيخ العلاقات
الشخصيَّة، فحرص على تفاديهما. كان يستخدم اللغة الإنكليزية في حديثه
معه أكثر من لغتيهما المحليَّة (الغوجاراتيَّة)، ويصافحه بشبك الأيدي
أكثر من مصافحته له بالطريقة الهنديَّة التقليديَّة والقبضة مغلقة،
ويقدِّمه بطريقةٍ رسميَّة «السيد غاندي»، بدلاً من الطريقة التي تفوقها
احترامًا «غانديجي». وغاندي، الذي نجح بالفوز، أو أقلَّه، بكسب
الاحترام العميق من أغلب خصومه بمن فيهم قادة يساريون أشداء كــ سوبهاس
بوس
Subhas Bose
وم. ن. روي
M.N. Roy،
أخفق أمام رجل هو أقرب إليه في أمورٍ عديدة من بقية خصومه الآخرين.
لم يكن بمقدور جناح أن يحشد جماهير المسلمين الهائلة والأمية من دون أن
يبسِّط لهم الواقع السياسيَّ ويعرض عليهم تصوّرًا ساذجًا، وأحيانًا
مشوّهًا، عن أنفسهم وعن مكانتهم في الهند. تحدَّث بلغة الوطنيَّة
الدينيَّة وبدَّل، بشكلٍ محزنٍ، طابع الحوار السياسيِّ. وحتى الآن، كان
يحاجُّ مع حزب الرابطة بأنَّ المسلمين أقليَّةً طائفيَّةً تستحق
انتخابات منفصلة وضمانات دستوريَّة؛ وبدؤوا يطرحون موضوع أنَّهم
يمثِّلون «قوميَّة/أمة» وحدة ثقافيَّة وسياسيَّة متميزة تخوِّلهم
المساواة الكاملة في المكانة مع الهندوس، وأنَّ الهند تتكوَّن من
قوميَّتين اثنتين. وعلى الرغم من أنَّ جناح كان مكتفٍ بالدفاع عن
مساواتهم داخل دولةٍ واحدةٍ، إلا أنَّ زخم الحوادث سرعان ما خرج عن
السيطرة وأصبح جناح مناصرًا قويًّا لانفصال دولة باكستان.
خلال مفاوضاته مع جناح عارض غاندي نظرية القوميتين، وبيَّن له أنَّ
الخطاب القوميَّ عدا عن كونه غير قابل للتطبيق في الهند، فهو منافٍ
للعقل أصلاً. فالهند، خلافًا للبلدان الأوروبية، لم تكن يومًا تمثِّل
قوميَّةً بل حضارةً استفادت على مرِّ العصور من إسهامات أعراقٍ وأديانٍ
شتى، وتميَّزت بتعدديَّتها، وتنوُّعها، وتسامحها. فالهندوس والمسلمون،
وأغلبهم هندوس مرتدون، يتقاسمون ثقافةً مشتركة، وليس بالإمكان اعتبارهم
قوميتين منفصلتين لأنَّه حتى دياناتهم تآثرت فيما بينها. علاوة على
ذلك، فإن فكرة أنَّ كلَّ قوميَّةٍ يجب أن يكون لها دولتها الخاصَّة هي
فكرة مستحيلة عدا عن كونها غير عمليَّةٍ. وفي كافة الأحوال، فإنَّ دولة
باكستان الجديدة من شأنها أن تضم عددًا هائلاً من الهندوس، مثلما هي
الهند التي تضم ملايين من المسلمين. ونظرًا لأن كلتا الدولتين
مُلزَمتين بالتعددية الدينية، ويتعيَّن عليهما استنباط السبل للتوفيق
بين الأقليَّات، فليس هناك من مبرِّر لعدم تمكُّن الهند الموحَّدة من
أن تفعل ذلك. وقال غاندي لجناح إنه على الرغم من كونه هو نفسه لا يرى
باكستان «مثالاً يبنى عليه»، إلاَّ أنه على استعداد لقبوله إذا وافق
جنَاحْ على إجراء استفتاء عام في المناطق ذات الأغلبية المسلمة. كان
غاندي يرى أنه لا يحق لجناح استثارة العواطف الدينيَّة والتهديد بالعنف
الشديد في حال لم ينل مراده
(lxxii. 334).
وعلى الرغم من أن نظريَّة القوميتين لا يمكن الدفاع عنها، إلاَّ أن
مخاوف المسلمين كانت حقيقيَّةً وعميقةً. فالمسلمون حكموا الهندوس
لقرونٍ عديدة، لذا كانوا يخشون الانتقام أو أقلَّه التمييز في المعاملة
في دولة الهند المستقلة. كما أنَّ الاستخدام المتزايد للخطاب
الاشتراكيِّ في حزب المؤتمر، نفَّر ملاكيِّ الأراضي وأبناء الطبقات
العليا المسلمين، الذين انحدر منهم الكثير من المؤيدين المتحمسين لقيام
دولة باكستان. وكان حزب المؤتمر قد أضاع فرصة استمالة جِنَاح والرابطة
الإسلامية خلال فترة حكمه ما بين عامي 1937 – 1939، ومنع قيام تحالف
انتهازيٍّ ما بين مسلميِّ الطبقة المتوسطة، الذين كان جناح ناطقًا
باسمهم، والشرائح الإقطاعيَّة التي طالما كان يكرههم. هذا التحالف هو
الذي جعل قيام باكستان ممكنًا، ويفسِّر، أقلَّه جزئيًّا، تاريخها
المأساويَّ اللاحق. إن توفُّر المزيد من الوقت، وبيئة سياسية أكثر
انفراجًا، وحكومة استعمارية أقلَّ مناورةً، وحساسية أكبر وإرادة طيبة
من جهة حزب المؤتمر وقيادة المسلمين، كان من شأنها أن تكون أرضيَّةً
لتهدئة تلك المخاوف. والحال كهذه، فإنَّ العديد من الخطط الدستوريَّة
المعتبرة الهادفة للحفاظ على وحدة البلد انهارت من دون حتى أن تنال
نصيبها من الاختبار، وأصبح التقسيم المخيف للبلد، مع أجواء العنف
المخيِّمة، أمرًا محتومًا.
في الوقت الذي كان يميل فيه القسم الأكبر من قيادة حزب المؤتمر باتجاه
الموافقة على التقسيم، عارضه غاندي، ليس بسبب قلقه من تقلص مساحة
الإقليم الهندي، بل لأنَّه اعتبره «كذبة»، فهو يتنكَّر لألف سنةٍ من
تاريخ الهند، وللرُّوح الأساسية للحضارة الهنديَّة، ويستند إلى مبدأ
"الشر" المُلازم للقوميَّة الدينيَّة. وكان خائفًا، أيضًا من أن يؤدِّي
التقسيم إلى بحرٍ من الدماء، ويفسد العلاقة بين البلدين إلى الأبد.
وعندما أدرك أن الصيام الذي هدَّد به طويلاً سيأخذ الأمور نحو الأسوأ،
وافق بلباقة على التقسيم، وكافح لخلق مناخٍ يقلِّل العنف ويزيد التآخي
المستقبلي. عمومًا، نظر غاندي إلى التقسيم من زاوية ترابط العائلة
الهندوسيَّة. فأولئك الذين ليس بإمكانهم العيش المشترك، هم أحرار
بإنشاء أسرة منفصلة لتجنُّب الشجار الدائم، لكن ليس ثمة أي مبرِّر
لإنكار تاريخهم المشترك، أو لأن يكره أو يقتل بعضهم بعضًا، أو لأن
يرفضوا التعاون في القضايا ذات المصلحة المشتركة، وألاَّ يعملوا على
توطيد العلاقة الأخويَّة في المستقبل.
خلال الأشهر القليلة والأخيرة من حياته، كافح غاندي ببطولة ليوقف موجات
العنف المسعورة التي اجتاحت معظم الشمال الهندي. كانت تسيطر عليه طوال
عدة سنوات سابقة شكوك سياسيَّةٍ وروحيَّةٍ عميقة. وغالبًا ما عبَّر عن
القلق تجاه مستقبل الهند وحصيلة صراعاته الشخصيَّة والأخلاقيَّة
والروحيَّة، وتساءل إن كان هو القائد الوطني الحقيقيُّ، وطلب من
الآخرين أن يحملوا عنه العبء، ثم ترك حزب المؤتمر عام 1934 ليتيح له
اتخاذ القرارات بحريَّةٍ تامةٍ من دون تأثيرٍ لحضوره الطاغِّي
(lviii. 404; B 284-9).
والآن، لم تعد لديه أي شكوك حيال نهج عمله، لأنَّ مهمته أصبحت أكثر
وضوحًا. وإذْ أدرك أنَّ "يوم الفصل" الذي طالما أخافه قد أتى أخيرًا،
قرَّر وهو في سن السابعة والسبعين أن يضع إيمانه بـ «اللاعنف» تحت
الاختبار الأخير. كان كلُّ ما ناضل من أجله موضع رهان، حتى أنَّ إلهه
نفسه قيد الامتحان. فلمَّا كان غاندي مخلصًا مع الله عبر حياته كلِّها
فلن يخذله هذا في المحطة الأخيرة من حاجته وحاجة بلده له. أصبح غاندي
الآن شخصية متسامية، ملكًا لله، ولم تعد لديه رسالة أخرى سوى ترويض
"شيطان" العنف.
لا يمكن فصل السياسي عن الشخصي بالنسبة لغاندي: فكلَّما كان يواجه
صراعًا سياسيًا مهمًّا في الماضي، كان يلجأ إلى سريرته فورًا ويتمعَّن
كينونته ثم يستجمع كلَّ قواه الأخلاقيَّة والروحيَّة. «كيف يمكن للهب
عود ثقاب أن يضرم النار في جذعٍ كبيرٍ من الخشب؟»
(Mii. 69).
فالمعركة ضد العنف الرهيب المتبادل بين الطوائف يحتاج إلى مزيدٍ من
البحث الداخلِّي المكثَّف أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. كرَّست الروح الدينية
لديه قناعة بأنَّ الخير ينتصر دومًا على الشرِّ، ويتلاشى العنف كلُّه
بوجود اللاعنف. وإن استمرار العنف كان بحاجةٍ لتفسيرٍ، فرمى غاندي
اللوم عليه شخصيًا. فالله أو الطاقة الكونية لم تكن تسري في داخله بسبب
وجود القليل من عدم الانسجام العميق لديه. فاعتقاده بأنَّه تخلَّص من
أيِّ أثرٍ للعنف في داخله، لا بدَّ أنه اعتقاد خاطئ. والاحتمال الوحيد
لمصدر العنف عنده هو وجود رغبةٍ جنسيَّةٍ لاواعية، وهذا ما يراه غاندي
شكل من أشكال العدوانيَّة. ولذلك، قرَّر أن يضع تبتُّله تحت الاختبار
الأقوى، بإجراء تجربةٍ غريبةٍ تمامًا، وهي أن ينام عاريًا مع فتاةٍ
ينتقيها بعنايةٍ فائقةٍ، ليحقِّق بذلك هدفين اثنين، فجزئيًا يستثير
بقيَّة الرغبة الجنسيَّة لديه إن كانت لا تزال موجودة، وجزئيًا يوقظ
الطاقة الخلاقَّة التي يعتقد أنَّه بحاجتها لقمع الشرِّ الهائج من
حوله. وقد خلقت هذه التجربة ضيقًا شديدًا لديه، فكتب معلنًا عنها للناس
عامَّة. وعلى الرغم من أنَّه هوجم، وسُخر منه، وقاطعه بعض زملائه، إلا
أنَّه ظلَّ مصمِّمًا. ولأنَّ أهل بلده رفعوه إلى مستوى الروح العظمى
«مهاتما» فإنه ليس على استعدادٍ أن يعمل وفق ما يتوقعونه منه. فحياته
هي ملكه، وكان عليه أن يتتبَّع الحقيقة كما يراها بنفسه. وحتى لو أدى
هذا إلى خسارته لصفة المهاتما، وسيكون سعيدًا جدًا لو «ينزل هذا العبء
عن كاهله». أكدَّت تجارب غاندي له بأنَّه كامل النقاء وأنَّ إلهه لم
يتخلَّ عنه بعد.
لم يبقَ بيد غاندي إلا سلاح وحيد فقط لمحاربة العنف، هو حياته، وسبيلاً
واحدًا فقط لاستخدامها فيه، أي، إعطاؤها قدسيَّةً ما من خلال صياماتٍ
محسوبةٍ جيدًا تهدف لإحياء الوعي وإطلاق الطاقات الأخلاقيَّة لأهالي
بلده المضلَّلين. غير آبهٍ بسلامته الشخصيَّة، متمتمًا بجملةٍ
(kya karoon) (kya karoon)
(ماذا عليَّ أن أفعل؟) (ماذا عليَّ أن أفعل؟)، بدأ مسيرة حجٍّ من أجل
السلام إلى مقاطعة نواكالي في ولاية البنغال، التي شهدت أسوأ عنفٍ
إسلاميٍّ – هندوسيٍّ
(F163-6).
مكث هناك من تشرين الأول عام 1946 حتى شباط عام 1947، متنقِّلاً من
قريةٍ إلى أخرى، يعيش في أكواخ أولئك الذين رحبُّوا باستضافته، يصغي
لرواياتهم عن الأعمال الوحشية، يهدئ انفعالاتهم، يواسي الحزانى
والمفجوعين، كان يسير ثمانية عشرة ساعةٍ يوميًا ويعبر خلالها تسعة
وأربعين قرية. وأحيانًا، كانت ترمى القاذورات ونبات العليَّق الشائك في
طريقه، ولكونه يحجُّ من أجل السلام فقد سار حافي القدمين، حتى تقرَّحت
قدماه وتورَّمتا. كان عليه اجتياز جسور لا تتكون إلا من خشبتين من
الخيزران غير مثبتتين بإحكام، حتى أنَّه كان على وشك السقوط في الوحل
من على ارتفاع عدة أقدامٍ لمرَّاتٍ عديدة. وتعرَّض عدة مرات للتهديد
بحياته، ومن بينها شجاران عنيفان. لكنه بتصميم وعزم تابع رحلته
مستجمعًا ما تبقَّى من طاقةٍ بدنيَّةٍ في جسده المنهك، ونجح بمحض قوة
شخصيته في إعادة الأمن إلى البنغال وإلى أماكن أخرى.
غاندي في مسيره عبر مناطق الاضطرابات في نواكالي، أواخر 1946
عندما نالت الهند استقلالها في الخامس عشر من آب عام 1947، لم يذهب
غاندي إلى العاصمة دلهي للمشاركة في الاحتفال ورفع العلم الوطني، حتى
أنه لم يبعث ولو مجرد رسالة. وظلَّ منهمكًا بمكافحة العنف على بعد عدة
مئات من الأميال، ولم يكن يرى أيَّ مبرِّرٍ للاحتفال.
بعد الاستقلال مباشرة أصبحت كلكتا مسرحًا لعنفٍ هائلٍ، فانطلق غاندي
صوب المدينة. ولما باءت بالفشل جميع مناشداته، بدأ صيامًا حتى الموت في
الثاني من أيلول عام 1947، كما فعل تمامًا منذ أشهرٍ قليلةٍ خلت. وخلال
ثلاثة أيام صنع «معجزة»، فالعديد ممن كانوا منخرطين في أعمال القتال
جاؤوا إلى جوار سريره، بكوا على الجسد المعذَّب، سلَّموا سلاحهم،
وتعهدُّوا له خطيًّا بأنهم لن يسمحوا بالمزيد من العنف حتى لو كلَّفهم
ذلك حياتهم. ولم يكن اللورد مونتباتن يبالغ عندما قال بأن ما أنجزه
غاندي بمفرده، فشل بإنجازه خمسون ألفًا من الجنود المدججين بالسلاح في
منطقة البنجاب. ولم ير غاندي بذلك معجزةً، بل إثباتًا لإيمانه الراسخ
على مدى عمره بأن «قوة الروح» هي بما لا يقبل الشك أكثر قدرة من «القوة
البدنيَّة»، ولم يكن بحاجةٍ لمن يقدم له الشكر، لأنَّ صيامه أغدق عليه
«غبطةٍ لا توصف»، وإحساسًا عميقًا بـ «السلام الداخلي» على شفا ملاقاة
الإلهيِّ (B
377-82).
انطلق غاندي من كلكتا نحو دلهي التي اندلعت فيها أعمال شغب. زار مناطق
المسلمين وأعاد التأكيد على ما يبدد تخوُّفاتهم. كما زار مخيَّماتٍ
تغصُّ باللَّاجئين الهندوس القادمين من باكستان الذين خسروا كلَّ
ممتلكاتهم؛ البعض فقدوا أحبتهم، والجميع كان يملؤهم الحقد على
المسلمين. وحيدًا ومن دون حمايةٍ، واساهم، وقال لهم بأنَّه «لا رابح من
مجابهة الشرِّ بالشرِّ» ورجاهم إظهار الصفح والعفو. أحيانًا، كان بعض
الهندوس الغاضبين المتهوِّرين يعطِّلون صلواته المشتركة بين عدة أديان.
واحتج البعض منهم على تلاوته لبعضٍ من القرآن، ولكونه لم يصل إلى إصلاح
ذات البين، كانت تنتهي تلك التجمعات بشكلٍ خطرٍ أحيانًا. وغامر غاندي
بالدخول في تجمعٍ لخمسمئة عضوٍ من الـ
Rss،
وهم تنظيم شبه عسكري لمقاتلين هندوس، وحذَّرهم بأنَّ تعصُّبهم هو
بمثابة وأدٍ للهندوسيَّة. وبقصد إيقاظ «ضمير الجميع» في كلٍّ من الهند
وباكستان، بدأ صيامه الأخير في الثالث عشر من كانون الثاني عام 1948
لخلق "سلام حقيقيٍّ" بدلاً من الهدوء المميت الذي فرضته المجموعات
المسلَّحة، وللضَّغط على الحكومة الهنديَّة لعدم التراجع عن وعدها
الرزين بأن تحوِّل إلى باكستان، التي كانت وقتها في حالة حرب مع الهند،
حصتها من الأصول المشتركة.
على الرغم من أن العديد من الهندوس الغاضبين اتهموه بالسذاجة
السياسيَّة، والتعاطف مع المسلمين، إلا أن الغالبيَّة أقرَّت بأنه كان
فحسب وفيًّا لمبادئه، ولم يكن يريد شيئًا إلا استقرار الهند وراحة
الضمير. وبعد خمسة أيام كان لغاندي ما أراده. وعندما أنهى صيامه، الذي
كان أكثر صدىً في باكستان، انتابه الخوف على البلدين فأجهش بالبكاء.
انتصارات غاندي المتكرِّرة ضد وحشيَّة الإنسان صعقت أبناء بلده
المرعوبين وجعلوه رمزًا ساميًا مقدَّسًا وموضع فخرٍ وتبجيل عميقين حتى
من أولئك الذين كانوا، بطريقةٍ أو بأخرى، ينتقدون صياماته ومناشداته
الدينيَّة. وبدت الحالة كما لو أنهم شعروا بأنه أعاد اعتبارهم ومحى
خطاياهم وخفَّف عنهم عبء آثامهم وعيوبهم.
أدرك غاندي أن العنف يسير مقتربًا منه، إذ كان هناك العديد من
التهديدات على حياته؛ سقطت قنبلة على أحد التجمعات التي أقامها
للصَّلاة قبل عشرة أيامٍ من موته رافضًا يومها الخوف من «مجرَّد
قنبلة»؛ وتلقَّى رسائل بذيئةٍ تتهمه باسترضاء المسلمين وتدعوه «محمد
غاندي»؛ وكان «الموت لغاندي» أحد الهتافات في بعض لقاءاته؛ حتى أصدقائه
المقرَّبين أظهروا انزعاجهم منه. وأدرك أنَّه يمكن أن يقتل في أيِّ
يومٍ، ومع هذا رفض كل العروض المقدَّمة لحمايته. طبعًا، من الواضح أن
العنف لم يضعف رغبته بالحياة فحسب، بل خلق أيضًا رغبةً عارمةً بموتٍ
يأتي عبر العنف لأنَّه كان يأمل أن يُنجزَ موتُه ما لم تنجزه حياتُه.
وقال بوضوح لحفيدة أخته عشيَّة موته إنه يجب أن يسمَّى «حقًا مهاتما»
فقط إذا أطلق أحدهم عليَّ النار وتلقيت رصاصته بصدري العاريَّ بلا تذمر
أو شكوى بينما أتابع الترنُّم باسم راما
Rama.
وفي اليوم التالي، هندوسيٌّ مسلَّح، على درجةٍ عاليةٍ من الثقافة،
متماسك جدًا، وعصريٌّ كان يناضل، أيديولوجيًّا، من أجل كلِّ ما كان
يرفضه غاندي، قتله بعد أن انحنى احترامًا له أوَّلاً. مات غاندي على
الفور وقيل إنه كان يتمتم بـ «هاي رام
Hey Ram».
كان لاغتياله في الثلاثين من كانون الثاني عام 1948 تأثيرًا عجيبًا.
فقد أضعف الثقة بالمتطرفين الهندوس، وهذَّب الوسطيين منهم، وأعاد الدعم
للأقليَّات، وانتشل الدولة الوليدة من على شفير الكارثة.
غاندي ونهرو عام 1936
عايش غاندي استقلال الهند لأقل من ستة أشهر فقط. وخلال هذه الفترة
القصيرة وعندما لم يكن منشغلاً بالكفاح ضد العنف، كان يمضي وقته بتقديم
الرعاية لدولة الهند، والقلق على مستقبلها. ولطالما قدَّم النصح لجواهر
لال نهرو، الاشتراكيِّ العلمانيِّ، الذي أعلن أنه «وريثه السياسي» قبل
عدة سنوات وأصبح الآن رئيسًا لوزراء البلد. عمل غاندي على تسوية
الخلافات المتنامية بين نهرو وبعض رفاقه القياديين، وطلب من أتباعه
النشطاء أن يتركوا نهرو وشأنه يعمل من أجل مهمة بناء الدولة، وفنَّد
انحرافات نهرو عن مُثل غاندي الخاصة، ووافق على إرسال الجنود إلى
كشمير. ومن أجل برنامج عملٍ مستقبلي للهند، نظَّم غاندي رؤيته وفق
استراتيجية ثلاثية المحاور تلك التي سخَّر نفسه من أجلها طيلة ثلاثين
عامًا تقريبًا. يجب أن تكون الدولة مستقلَّةً نسبيًّا وتترك في عهدة
أولئك المناسبين للسياسات التقليدية. فحزب المؤتمر الذي قاد النضال من
أجل الاستقلال عليه أن يحلَّ نفسه وديًّا ويعيد تشكيل نفسه كمؤسسةٍ
وطنيَّةٍ واضعًا نصب عينيه مشروع إعادة البناء، ويحافظ بعينٍ ساهرةٍ
على الدولة، ويقود ساتياغراها ضدَّها عندما تنحرف عن الصواب. وعلى
الرغم من أن هذه هي المهمات التي نذر غاندي نفسه من أجلها، فقد كان
يهدف في الحقيقة لأن يعمل حزب المؤتمر على مأسسة الروح الغاندية في
منظماته والحفاظ عليها وإدامتها. لكن المؤتمر استخفَّ بنصيحته ورفض
تجسيد هذه الروح في تنظيماته.
*** *** ***