غاندي: مقدمة قصيرة جدًا 4
الفصل الثالث: الطبيعة البشرية
بيكو باريك
ترجمة: عدنان علي حسن
ارتبطت
نظريَّة غاندي عن طبيعة الإنسان إلى حدٍّ بعيدٍ بوجهتيِّ نظره تجاه
الله والدين. كانت معقَّدة، وفي مواضع كثيرةٍ شديدة الغموض، وغير
متماسكةٍ. في اختصار، مع المجازفة ببعض مخاطر التبسيط الشديد، اعتقد
بأنَّ ثلاث حقائقٍ جوهريَّة تميِّز الكائنات البشريَّة: أولها أنها
تعتبر جزءًا مكمِّلاً للكون؛ ثانيها، يرتبط وجود أحدهما على وجود الآخر
بالضرورة، ينموان معًا أو يموتان معًا؛ وثالثها، إنَّها كائنات
رباعيَّة الأبعاد، تتكوَّن من: الجسد، الماناس
manas
(العقل)، الأتمان atman
(الروح)، والـ سوابهافاswabhava
(البنية النفسيَّة والأخلاقيَّة المميزة لكلِّ فرد)،
والتي بتفاعلها مع بعضها تفسِّر تصرُّفاتهم وتشكِّل منظومتهم
الأخلاقيَّة. وسوف نتناول كلاً منها على حدة.
فكرة مركز الكون
بما يخالف معظم المفاهيم الأساسيَّة للمعتقدات
الغربيَّة، التي فصلت الكائنات البشريَّة عن الحيوانيَّة بكلِّ دقَّةٍ،
وخصُّوا الخالق بمكانةٍ متميِّزةٍ ساميةٍ على الأرض، اتبع غاندي
المفاهيم الهنديَّة وتبنى فكرة أنَّ الكائنات البشريَّة تشكِّل مركز
الكون. فالكون عبارة عن وحدةٍ متكاملةٍ شديدة التناغم، ترتبط أجزائه
العديدة ببعضها بنظامٍ من الـ ياجنا
yajna
أو التكافل فيما بينها
والمنفعة المتبادلة. ويتألّف من أنظمةٍ مختلفةٍ تتسلسل من الوجود
الماديِّ إلى الإنسانيِّ، وكلٌّ منها يسير وفق قوانينه الخاصة به كما
تحتلُّ موقعها ضمن علاقةٍ معقدةٍ مع القوانين الأخرى. يمثِّل البشر
جزءًا مكمِّلاً للكون ويرتبط به بروابط عميقةٍ. وباستخدام التشبيه
المجازي المحبَّب لدى غاندي، لا يمثِّل الكون هرمًا بحيث يحتلُّ العالم
الماديُّ قاعدته والبشر قمَّته، بل هو سلسلة من الدوائر دائمة الاتساع
تحيط بالجنس البشريٍّ، والعالم الواعي، والعالم المادي، وكلُّ ما
يضمُّه الكون. وبما أنَّ الروح الكونيَّة تعمُّ أو تتغلغل في الكون
وليست خارجه، فما يسمَّى بالعالم الطبيعيِّ ليس طبيعيًّا أو ماديًّا بل
روحيًّا أو إلهيًّا بطبيعته.
وبما أنَّ كلَّ ما في الكون أخذ صفة الألوهيًّة، هو
بحاجةٍ للسير بروحيَّةٍ من الطاعة الكونيَّة والـ مايتري
maitri
(المودة). آمن غاندي أنَّ فكرة إعطاء الله الكون للإنسان كملكيَّةٍ له
يستخدمه وفقًا لرغباته هي ليست فكرة غير متماسكةٍ فحسب بل تدنيسٌ
للمقدَّسات أيضًا. فالخالق وبسبب وجود الله لم يكن شخصًا ولا هو مفصول
عن الكون، وهذا الأخير، لكونه إلهيًّا لا يمكن أن يكون في موقع
الملكيَّة. فالكون موروث للكائنات الحيَّة جميعها، وهم مخوَّلون
بالتساوي لاستخدام موارده وعليهم العيش بروحٍ من الوئام المتبادل.
ولكونهم عاقلين، يُعتبر البشر مؤتمنين على بقيَّة الخلق وعليهم احترام
حقوقها ورعاية تنوُّعها. ولأنَّ وجودها بحدِّ ذاته هو حاجة مهمَّة،
ولأنَّ الطبيعة تعيد بناء واستكمال نفسها دومًا، عليهم ألا يأخذوا من
موارد الطبيعة إلا ما يحتاجونه للعيش ضمن حياةٍ مريحةٍ بدرجةٍ مقبولة.
ليس لديهم الحق بأخذ المزيد، لأنَّ ذلك يعادل حدَّ "السرقة"؛ ولا تقويض
قدرة الطبيعة المتجدِّدة من خلال تلويثها وتسميمها، أو تحويل الأرض إلى
قحل لا يثمر، أو استنزاف مواردها.
ولما كان غاندي يعتبر أنَّ الحياة برمَّتها مقدَّسة،
تردَّد بالإجابة عن سؤالٍ فيما إذا كانت حياة الإنسان هي المتفوِّقة
قياسًا بحياة غير الإنسان. وقد اعتبرها كذلك بشكلٍ من الأشكال،
اعتمادًا على المقدرات العقليَّة والروحيَّة للإنسان. وعلى كلِّ حال،
لم يكن التفوُّق "أكيدًا"، لأنَّ الكائنات غير الإنسانيَّة هي أيضًا
مقدسة بطبيعتها وأعضاء لها شرعيتها في هذا الكون. ولذلك على البشر أن
تعيش حياة الحيوانات عندما يكون هذا ضروريًّا، وبإحساسٍ من الرضى
حينذاك. الأفاعي السامة والحيوانات، التي تهدِّد المحاصيل، يجب ألا
تقتل بل تمسك وتترك في مكان آمن أو تطرد بعيدًا. ويجب عدم قتل
الحيوانات من أجل أكلها إلا إذا كان المناخ أو الظروف المحيطة تستدعي
ذلك بإلحاح، ولا من أجل المتعة أو حتى من أجل التجارب العلميَّة. الجسد
بحاجةٍ إلى الطعام، وهذا فيه حياة، الذي يتطلَّب استخدام المبيدات
الحشريَّة، ويقتضي حراثة الأرض بكلِّ ما فيها من تخريبٍ هائلٍ للحياة.
كان غاندي يطلق على الجسد اسم "دار القتل" ويتألَّم بالعمق من العنف
المطلوب لكي يبقى حيًّا. وبسبب تبنِّي العنف ضمن شرطٍ إنساني وبالتالي
لا مجال لتجنُّبه، فقد اعتقد بأنَّ التصرُّف الأخلاقي الوحيد هو
بتقليله إلى الحدِّ الأدنى من خلال إنقاص حاجات الإنسان واستبداله
بتقديم الرعاية الحنونة للطبيعة.
التواكل بين البشر
إنَّ حقيقة أنَّ البشر معتمدين على بعضهم البعض
بالضرورة ويشكلون فيما بينهم وحدة عضويَّة، كانت حقيقة "جوهريَّة" أخرى
وفقًا لغاندي. الأفراد مدانون بوجودهم لأبويهم، ولولا تضحيات الأبوين
اللامحدودة لما كانوا على قيد الحياة ولما كبروا ليصبحوا كائناتٍ
بشريَّةٍ عاقلة، مفكِّرة، وأخلاقيَّة ضمن حضارةٍ غنيَّةٍ أوجدها الكثير
من الحكماء، والقدِّيسين، والعقلاء، والعلماء... في اختصار، كلُّ
إنسانٍ مدين بإنسانيته للآخرين، واستفاد من عالمٍ أوجد له ما لم يساهم
به شيئًا. ومن وجهة نظر غاندي، إنَّ البشر "مَدِيْنُونَ بالفطرة"،
ورثوا ديونهم رغمًا عنهم وهي ثقيلة عليهم جدًا لسدادها. فالعمر كلُّه
لا يكفي لسداد ديون أبويهم، هذا عداك عن ديون الآخرين. والأنكى من ذلك،
لا يمكن تحديد طبيعة دائنيهم بالضبط. فغالبيتهم ماتوا أو مجهولين
بالنسبة لهم، والذين ما زالوا على قيد الحياة كثيرون جدًا ومساهماتهم
متنوِّعة ومعقَّدة حيث من المستحيل أن تخمِّن ما الذي أدانه الشخص
ولمن. لذلك يعتبر الحديث عن "إعادة" الديون بلا معنى إلاَّ كأسلوبٍ
مجازيٍّ أخرق لوصف استجابة الشخص لإغراء الموهبة الذي لا يقاوم. في
الوقت الذي لا يمكن فيه دفع الديون وردِّ الجميل، فكل ما يمكن للبشر
فعله هو "التمعًّن في ظروف وجودهم"، ومتابعة النظام الكوني المتطوِّر
باستمرار للتكافل بينهم من خلال تحمُّل مسؤولياتهم ومساهمتهم من أجل
وجودٍ أفضل للجميع. يجب عليهم النظر إلى حيواتهم على أساس الـ ياجنا
yajna،
الدفع باتجاه الكون المتجدِّد، والمساهمة بالحفاظ على، وإغناء، العالم
الإنساني والكون على حدٍّ سواء. وكما شرحها غاندي، "أتانا الياجنا
yajna
مع ولادتنا ونحن مَدينون كلَّ حياتنا، وبالتالي نحن ملزمون بخدمة الكون
إلى الأبد". ليس ذلك واجبهم فقط، بل حقَّهم أيضًا، لأنَّه بدون ذلك
يضيِّعون فرصتهم للوفاء لذواتهم والتأكيد على كرامتهم. ومن زاوية
غاندي، الحقُّ والواجب لا ينفصلان، وليس ذلك بالمعنى المألوف أنَّ حقوق
الشخص تخلق معها واجباته تجاه الآخرين بالمقابل، بل بالمعنى الأكثر
عمقًا بأنَّهما طريقتان مختلفتان للنظر إلى نفس القضيَّة. على المرء
واجب اختبار حقوقه، وحقُّ تحمُّل واجباته. وسوف نعود إلى هذه القضيَّة
المعقَّدة فيما بعد.
لما كان جميع البشر متكافلين، فكلُّ فعلٍ إنسانيٍّ ينظر
إليه من زاوية الذات والآخرين. فهو يؤثِّر في الآخرين ويحدِّد صفة
الفاعل الخاصَّة ونمط حياته، ويؤثِّر بالضرورة في علاقته بالآخرين كما
بنفسه. عندما يطوِّر البشر ذواتهم، فهم ينبِّهون الآخرين نحو
إمكانياتهم، ويحثُّونهم، ويشجِّعونهم، كما أنَّهم يرفعون من سويَّتهم
في الوقت ذاته. وعندما يفشلون، يعاني الآخرون من الأذى أيضًا. بالنسبة
لغاندي، لا يمكن للبشر أن يهينوا الآخرين أو يتوحشون تجاههم دون أن
يهينوا أو يتوحشوا تجاه أنفسهم، أو يوجِّهون لهم أذيَّةً نفسيَّةً أو
أخلاقيَّةً دون توجيه نفس الأمر لذواتهم أيضًا. وهذا يتمُّ بثلاث طرقٍ
على الأقلِّ. فإهانة الآخرين تعني ضمنًا أنَّه يمكن التعامل هكذا مع
الإنسان، وبالتالي إنقاص الحدِّ الأدنى الأخلاقيِّ المستحقِّ لكلِّ
إنسان وبهذا تكون الأذيَّة للجميع على قدم المساواة. ثانيًا، أن تهين
الآخرين يعني أن تؤذي كبريائهم، احترامهم لذواتهم، وإمكانيتهم على فعل
الخير، وذلك يعني أن كلتي الحالتين تتنكَّران لفوائد مساهماتهم
المحتملة وتزيدان التكلفة النهائية الأخلاقية والنفسيَّة الجماعيَّة
لإصلاح الأذى الذي قد يكون لحق بهم وبالآخرين. ثالثًا، ككائنات قادرة
على الفضيلة ومراجعة الذات النقديَّة، فإنَّ البشر لا يمكنهم إهانة أو
التعامل بسوءٍ مع الآخرين دون القسوة مع ذواتهم لمواجهة معاناة هذه
الأخيرة، وبدون أن يشرِّعوا أنظمةً فاسدةً لتبرير الذات، وأن يجعلوا
أحاسيسهم الأخلاقية فظَّةً، وأن يقللِّوا من مستوى إنسانيَّتهم
وإنسانيَّة الجميع. وكما عبَّر عنها غاندي، "ليس لإنسانٍ يوقع آخر في
حفرةٍ دون أن يسقط فيها هو نفسه ويحصد إثم هذه الصفقة". ولأنَّ
الإنسانيَّة لا تتجزأ، فكلُّ كائنٍ بشريٍ مسؤول تجاه الآخرين ويعمل من
أجلهم ويجب عليه الاهتمام العميق بكيفيَّة حياتهم.
شكَّل مفهوم غاندي بأنَّ الإنسانيَّة وحدة لا تتجزَّأ
الأساس لانتقاده أنظمة الاستبداد والظلم. فمثل تلك المجموعات المسيطرة
كالبيض في جنوب إفريقيا، وحكومات الاحتلال في الهند أو أيِّ مكانٍ آخر،
والأغنياء وأصحاب السلطة في أيِّ مجتمعٍ، جميعهم يعتقدون بأنَّ
استغلالهم وإهانتهم لضحاياهم ليس أذيَّةً لأنفسهم أيضًا بطريقةٍ أو
بأخرى. وفي الحقيقة هذا يهينهم وينقص من إنسانيتهم بنفس القدر مع
ضحاياهم، وأحيانًا حتى أكثر منهم. ليس بإمكان البيض في جنوب افريقيا
حرمان السود من أسباب عيشهم وكرامتهم دون أذيَّة قدرتهم الخاصة على
تأنيب الذات الخطير ومحاسبة النفس النزيَّهة، والوقوع ضحيَّة الوهم
الأخلاقي، والمخاوف القاتلة، والهواجس اللاعقلانيَّة. وبدفعهم السود
للتوحُّش، يدفعون بأنفسهم إليه أيضًا، ويختبؤون وراء غطرستهم فحسب كي
يعرفوا كم أصبحت حياتهم تعيسة وسطحيَّة. يتمتَّعون بمزيدٍ من وسائل
الراحة الماديَّة، لكن ذلك لا يجعلهم أكثر سعادةً ولا أفضل البشر.
حكَّام الاستعمار يلقون المصير نفسه، لا يمكنهم أن ينبذوا رعاياهم على
اعتبارهم "مخنَّثين" و"أطفالاً بريئين" دون أن يحسبوا أنفسهم خارقي
الرجولة وراشدين قساة القلب، ولا يمكن أن ينسجموا مع تقديرهم لذواتهم
دون أن يحرِّفوا ويستهينوا بمكنوناتهم. بالإساءة إلى رعاياهم يسيؤون
إلى أنفسهم أيضًا ويسقطون في شرِّ أفعالهم. كذلك يفرضون المواقف،
والعادات، وأشكال الحكومات التي اكتسبوها من الخارج، ثم يفسدون
مجتمعهم. يُظْهِرُ الاستعماريون اهتماماتهم المادية، ولكن فقط على حساب
اهتماماتهم الروحيَّة والأخلاقيَّة الأرحب والأكثر أهميةً بما لا يقاس.
ولأنَّ السعادة الإنسانيَّة لا تتجزَّأ، فإنَّ نظامًا مستبدًا لا يكسب
مؤيدين، بل معارضين، ويكون على أولى درجات اهتمام الجميع القضاء عليه.
الأبعاد الأربعة
يعتبر الإنسان في كثير من المعتقدات الغربيَّة إما
كائنًا ثنائيَّ الأبعاد يتكوَّن من الجسد والعقل أو كائنًا ثلاثي
يتكوَّن من الروح إضافةً لما سبق. وكان للمعتقدات الهنديَّة نظريَّة
مختلفة. وفيما يأتي بعضًا من تلك المعتقدات، نظر غاندي إلى الكائنات
البشريَّة كرباعيَّة البعد بطبيعتها (Mii.16-48)،
فهي تملك أجسادًا، وبهذا تمتلك دلالةً وجوديةً مضاعفةً حسب غاندي.
فالجسد محصور بذاته، مميَّز، منفصل عن الأجساد الأخرى بوضوح، وبإمكانه
المحافظة على وحدته بحفاظه على انفصاله فقط. وهذه الحالة تشكِّل مصدرًا
"لوهم" الفردانيَّة بأنَّ كل إنسانٍ مستقلٌّ بذاته، وارتباطه بالآخرين
طارئ وبشكلٍ خارجيٍّ فقط. ويعتبر الجسد أيضًا مكمن الأحاسيس، وبالتالي
الحاجات والرغبات المرتبطة بها. والأحاسيس جامحة بأصلها "كالأحصنة
المتوحشة" لا تعرف الكبح. رغبات الإنسان متشابهة بطبيعتها و"لكونها
قادرة على التمدُّد بلا حدود" فإنها نهمة بأصلها.
إضافةً إلى الجسد، لدى الإنسان عقل
manas.
وجهة نظر غاندي تجاه العقل كانت شديدة التعقيد وغامضة إلى حدٍّ ما.
يتضمَّن العقل الـ شيتانا
chetana
(تدفُّق الوعي)، والذي يبدأ مع الولادة وينتهي بالموت. وهو يحتوي على
الـ بودهي buddhi
(التفكير)، الذي يتَّخذ عدَّة أشكالٍ ويعمل وفق عدَّة مستويات، ويرتقي
ليصل حدود البصيرة، والعقل التحليلي، التبصُّر، الحدس. والـ ماناس
manas
(العقل) مكمن العواطف أيضًا، والأفكار، الذاكرة، والمزاج. ويعتبر
أساسًا، حسب غاندي، أداة المعرفة والفعل، ومقصد الإدراك، والإدارة،
واكتشاف طريقه في هذا العالم. وبالرغم من تميُّزه عن الجسد، إلا أنَّه
مرتبط به عضويًّا. محتفظًا بخبراته الدنيوية وكأنها كيان مجسَّد، يقوم
العقل البشري بتطوير مفهوم الأنا (الذات) أو النَّفس، وهو مصدر شعور
الإنسان بالقوَّة والخصوصيَّة. ولأنَّ النفس تصارع يائسةً للحفاظ على
انفصالها وديمومتها الدنيويَّة، يبقى العقل قلقًا لا يهدأ. إنَّه
"مكتظٌّ" بالذكريات، مرهق بمخزونه عن الماضي المؤثِّر، تنتابه الهواجس
تجاه المستقبل، ينقصه الهدوء والمقدرة على الصمت.
يشكِّل الأتمان
atman
البعد الثالث للكائن البشري. وعلى الرَّغم من أنَّه يفسَّر غالبًا على
أنه النفس، غاندي نفسه يستخدم أحيانًا هذا المصطلح، إلا أنَّ أفضل
معنىً له هو الروح. وكما رأينا سابقًا، آمن غاندي بأنَّ الروح
الكونيَّة تنفذ أو تتغلغل في جميع الكائنات الحيَّة. ويدلُّ الأتمان
على الروح الكونيَّة كما تتجلَّى عليهم، وتمثِّل المقدَّس فيهم.
وبالنسبة لغاندي، لدى جميع الكائنات الحيَّة أتمان، وليس الإنسان فقط،
وهي نفسها فيهم جميعًا، وهي ليست "نتفةٌ" أو "جزءٌ" من الرُّوح
الكونيَّة كما كان، مستعيرًا عندها مفردات الديانة المسيحيَّة، يشير
أحيانًا، بل هي واحدة ومن ذات الطبيعة كروحٍ كونيَّةٍ بكليَّتها. وكما
عرضها غاندي: "لدينا نفس واحدة فقط" ونحن "واحدٌ في الجوهر". ولأنَّه
كان ينظر إلى القلب كأفضل استعارة مجازية بديلاً عن النفس، فقد استخدم
المصطلحين مكان بعضهما البعض غالبًا.
لكونها تجلٍّ للروح الكونيَّة، فإنَّ "الأتمان" تتشارك
مع هذه الأخيرة في العديد من خصائصها. مثلها مثل الروح الكونيَّة، هي
ليست كينونةً، وليست شيئًا أو كائنًا، لكنَّها "قوَّة"، "عنصرٌ
فعَّالٌ"، "مصدر الطاقة العقليَّة". وهي سرمدية غير قابلةٍ للعطب،
فاعلةٌ وشاهدةٌ معًا. وهي الأساس الجوهريُّ الوجود. إنَّ ماهيَّة أو (inner
telos)
الأتمان يكمن في معرفة تماهيها واتحادها مع الروح الكونيَّة، الحالة
التي سمَّاها غاندي الـ موكشا (moksha)
أو التحرُّر من وهم الخصوصيَّة.
حتى الآن، كان اعتقاد غاندي منسجمًا مع التعاليم
الهندية التقليديَّة، وخاصة الـ ادفايتا (advaita)
أو الأصل الواحد. وقد أعطاها اليوم انعطافًا جديدًا، وطرح ذلك بالقول،
لطالما أنَّ الروح الكونيَّة تتجلى في كلِّ الكائنات الحيَّة، وخاصةً
الإنسان، فإنَّ التماهي معها يكمن في تماهي الشخص نفسه مع تلك الكائنات
بروحيَّةٍ من المحبة والمنفعة المعمَّمة على الكون. بتقديمه فكرة
الموكشا (moksha)
كفكرةٍ مرشدة إنسانيًّا أو عالميًّا وتعريفه الروحانيَّة بمصطلحاتٍ
أخلاقيَّة، فقد أعطى غاندي التعاليم الهنديَّة دورًا أكثر حيويَّة
الأمر الذي كان لاقى إعجابًا كثيرًا وانتقادًا شديدًا من أبناء بلده في
الوقت نفسه.
الاعتقاد بأنَّ الأتمان ليس جزأ ولا نتفةً بل هي الروح
الكونيَّة بكليَّتها، قاد غاندي، وقد فعل الكثير بالنسبة لمؤلِّف
هندوسيٍّ تقليديٍّ، لتطوير نظريَّة غير مألوفةٍ عن القوَّة الروحيَّة.
بالنسبة له، ليست الأتمان كائن أو شيء بل قوَّة، منبع الطاقة. تمامًا
كما الجسد هو منبع الطاقة البدنيَّة، فإنَّ الأتمان هي مصدر القوَّة أو
الطاقة الروحيَّة. وبما أنَّ الأتمان متماهية مع الرُّوح الكونيَّة،
فمن الواضح أنها لاقت قبولاً من الطاقة اللامحدودة لهذه الأخيرة والتي،
إن صحَّ ذلك، يمكنها أن تصنع العجائب. كالعديدين من المفكرين الهنود،
طرح غاندي بأنَّه، إن كان على الإنسان التخلُّص من وهم الخصوصيَّة أو
الفرديَّة ولكي يصبح وسيطًا صريحًا للروح الكونيَّة عليه أن يحرِّك
طاقته الروحيَّة الهائلة الكامنة داخله ويمارس القوَّتين الأخلاقيَّة
والروحيَّة العظيمتين على نظرائه من البشر. ويمثِّل هذا بالنسبة له
السرَّ الذي من خلاله جذب كلٌّ من المسيح، ومحمَّد، وبوذا أتباعه.
وجاهد غاندي على مدى حياته كلِّها لخلق مثل هذه القوَّة الروحيَّة في
نفسه، مما يفسِّر لماذا ارتبطت حياته السياسيَّة ارتباطًا وثيقًا بسعيه
الدائم إلى الكمال الأخلاقي.
أخيرًا، لكلِّ كائنٍ بشريٍّ سوابهافا (swabhava)
مميَّزةٍ له، أو بنيةٍ نفسيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ خاصَّةٍ به، تتكوَّن من
العديد من النوازع والميول. بالنسبة لغاندي، كانت حقيقة جليَّة في
الحياة أنَّ البشر يتعرَّضون منذ ولادتهم وما بعدها إلى أنواعٍ مختلفةٍ
من الأمزجة والنوازع النفسيَّة والأخلاقيَّة، وتعرَّضوا لأمورٍ مختلفةٍ
ومنعوا من بعضها، ولكنهم طوروها وفقًا لميولهم الداخليَّة. لكون هذه
الطبيعة الفرديَّة المميَّزة مهمَّة وجوديًا، ولكونها جوهرية لتحديد
هويَّتهم، ولكون الطبيعة الإنسانيَّة كونيَّة فهم جميعًا يتشاركون فيما
بينهم عمومًا. وهي تضبط الفرد وتبني الأرضيَّة لكينونته الفريدة أو
حقيقته الوجوديَّة.
هذا التميُّز الطبيعي لكلِّ فرد بحاجةٍ للتوضيح. لا
يمكن أن يكون الله مصدره، لأنَّ الله يحب جميع البشر بالتساوي وليس
هناك أيَّ سببٍ وجيهٍ ليهبهم على نحوٍ متفاوتٍ أو بلا مساواة. والأهل
لا يمكن أن يكونوا مصدره أيضًا، لأنَّ السوابهافا الخاص بهم يختلف عن
ذاك الذي عند أبنائهم. متتبِّعًا التعاليم الهنديَّة الجوهريَّة، اعتقد
غاندي أنَّ "الفرضيَّة" الوحيدة المقبولة هي أنَّ السوابهافا الخاصَّة
بكلِّ فرد هي نتاج حياته السابقة. بالإضافة لأجسادهم الماديَّة، لدى
البشر سوكسما ساريرا (suksma
sarira)،
وهي "هيئةٌ" دقيقةٌ جدًا وغير ماديَّةٍ أو ما تدعى الشخصيَّة. وهي تبقى
حيَّة بعد موتهم المادي، وتستمرُّ عبر حيواتهم العديدة، وتشكِّل أساس
هويَّتهم الشخصيَّة المتميِّزة أو السوابهافا
swabhava.
وما يدعى خطأً تقمُّص "الروح" هو في الواقع تقمُّص السوكسما ساريرا.
وتتكوَّن هذه الأخيرة من "الانطباعات" أو "الآثار" التي ظلَّت وفقًا
لنوعيَّة حياته السابقة وعاشت بطاقتها نفسها. ولأنَّ تلك الـ"هيئة"
الدقيقة جدًا وغير الماديَّة هي نتاج مآثر الفرد الخاصَّة السابقة، فهي
قادرة على تبديله، وحرفه، لكن بدون أن تحتِّم عليه، التصرُّف بطرقٍ
محدَّدةٍ في حياته الآنيَّة.
اعتقد غاندي بأنَّ قانون الكارما
karma،
مثله مثل سوابهافا الفرد، يقتضي التقمُّص. وكما رأينا سابقًا، لما كانت
الروح الكونيَّة تعمل بطريقةٍ عقلانيةٍ ومنضبطة، فليس العالم الطبيعيُّ
فقط بل الأخلاقيُّ أيضًا هو هدف القوانين غير المتبدلة. وفقًا للدِّين
المسيحيِّ والإسلاميِّ، يحاسب الله البشر بعد موتهم، ويرسلهم إلى
الجنَّة أو جهنم تبعًا لنوعيَّة الحياة التي عاشوها على الأرض. ومثله
مثل المفكرين الهنود الآخرين وجد غاندي أنَّ هذا المعتقد غير متماسكٍ.
إذ يفترض مسبقًا أنَّ الله كائن أو شخص، وهي رؤية لم يرها مقبولة
لأسبابٍ ذكرت سابقًا. وهذا يتضمَّن أيضًا أنَّ المحاسبة تتمُّ بعد
الموت حيث لا يمكن للبشر فعل أي شيء لإصلاح مسارات حياتهم. وبالنسبة
لغاندي، إنَّ الله، أو بالأحرى الروح الكونيَّة، ليس شخصًا بل قضاء،
وتخلِّف أفعال الإنسان عواقبها المحتومة وفقًا لذاك القضاء.
لأنَّ البشر هم المسؤولون عن عواقب أفعالهم ويجب أن
يحصدوا محصول كلِّ ما زرعوه، ولأنَّ حياةً واحدةً تعتبر قصيرة جدًا
للقيام بذلك، يكون لزامًا عليهم خوض العديد منها حتى يفوزوا بالنجاة
الآمنة ومن دوَّامة إعادة الانبعاث المتكرِّر.
إنَّ الإنسان، وفقًا لرؤية غاندي، ذا طبيعةٍ رباعيَّة
الأبعاد، لديه جسد، وعقل، وشخصيَّة غير ماديَّة، وروح. يأتي الجسد عند
الولادة ويتفسَّخ عند الموت. يستمدُّ العقل بعض ميوله من السوابهافا،
ويستمدُّ البقيَّة الباقية من مجرى حياته، ويظلُّ مرافقًا للجسد. إنَّ
السوابهافا، أو الشخصيَّة الدقيقة غير المادية، على الرغم من أنها
المسبِّب للتبدُّل، فإنها تبقى على مدى حيواتٍ عديدةٍ وهي مكمن هويَّة
الشخص الدنيوية. الروح أو النفس سرمديَّة وإنَّها، بما يخالف الأبعاد
الثلاثة الأخرى، واحدة عند جميع الكائنات البشريَّة. إنَّ الجسد والروح
هما النقطتان الأبعد عن التوجيه مطلقًا، أما العقل فيُسحب نحوهما معًا.
ويبقى أنَّ استسهال اتباع رغبات الجسد أو الروح يعتمد على سوابهافا
الشخص.
الجسد هو مكمن الخصوصيَّة. يغلق الأفراد على ذواتهم
ويعزِّز إحساسهم بالاستقلاليَّة، ويشجِّعهم على الأنانيَّة. وعلى العكس
منه، تمثِّل الروح مبدأ الشمولية، تحاول إقناعهم بتحطيم جدران
الذاتيَّة ليصبحوا كلاً واحدًا مع جميع الكائنات الحيَّة. إنَّ خديعة
الخصوصيَّة المبنيَّة على الجسد من الصعب جدًا فصلها، وتحتاج ضبطًا
شديدًا للنفس، وسيطرة على المشاعر، ودعم مراجعة الذات، والتأمُّل،
وتمارين روحيَّة، ورحمةً إلهيَّةً. الكثير من التعاليم الهندية لم تر
دورًا لهذه الأخيرة، لكن غاندي رأى ذلك، متأثِّرًا إلى حدٍّ بعيد
بالفيشنافيت (vaishnavit)
بعدما تم تطعيمه بالمفهوم المسيحيِّ التقليدي عن الرحمة.
لدى كلِّ البشر هدف روحي مشترك، أي الموكشا
moksha،
يتوصلون إليه بطريقتهم المتميِّزة الخاصَّة بسبب تمايزهم بالبنية
النفسيَّة والروحيَّة. في البدء كان عليهم القبول بما هم عليه، يندمجون
مع رغباتهم الأولية، ومع تقدمهم في العمر يتجهون صوب الهدف المشترك
بخطى يدركون وجهتها عبر طريقٍ يناسبهم. التدريب الروحي، التجارب،
الدين، أو أسلوب الحياة الذي قد يجعل البعض يسببون الأذى للآخرين بشكلٍ
فعلي.
إنَّ فكرة وجود دينٍ واحدٍ صحيحٍ فقط أو ممرٍّ واحدٍ
للخلاص هي فكرة غير متماسكةٍ. أن تطلب من جميع البشر العيش وفق صيغةٍ
محدَّدةٍ يعتبر انتهاكًا لحقيقتهم الوجوديَّة، ويعني أن تعاملهم ليس
كما هم عليه. على كلِّ فردٍ أن يكتشف السوابهافا الخاصة به بنفسه ويسلك
أفضل طريقٍ روحيٍّ يراه مناسبًا لتطوُّره. وهذا لا يعني أنَّ الآخرين
لا يمكنهم أو لا يجب عليهم تقديم العون له. يظهر السوابهافا الخاصُّ به
في سلوكه وطريقة حياته، ويأتي أصدقاؤه، وأسرته، وفوق ذلك مرشدٌ
متنوِّرٌ روحيًّا الذي يمكنه التقاط نبضه الروحي، وتحديد ما يختلجه من
رغباتٍ وغاياتٍ، ويقدِّمون له جميعًا النصيحة والمساعدة المناسبتين.
وهكذا، يكون من الأفضل للشخص أن يهتمَّ بالبحث عن نصيحتهم واتِّباعها.
وعندما يرفضها ويرتكب الأخطاء، ويجب أن يكون حرًّا بفعل ذلك، فلا يعني
هذا أنَّ حياته ملكه أو أنَّه وحده من يعرف أكثر من غيره مصلحته
الأخلاقيَّة كما يطرحها الليبراليون، بل أنه مستقلٌّ وجوديًّا. إنَّ
احترام كيانه المستقلِّ يحتاج أن تكون آرائه وأسلوب حياته ظاهرتان من
خلال الطريقة التي ينظر بها إلى الكون وتعكس كينونته وحقيقته. وهذا ما
يجعل الإقناع مختلف نوعيًّا عن الإكراه. وبخلاف هذا الأخير، يحترم
الإقناع ويعزِّز كماليَّة الآخرين، ويؤكد بأنَّ النهج الجديد بالنظر
إلى الكون ينمو ويتجذَّر بعيدًا عن وجوده المتبدِّل. بالنسبة لغاندي،
الإكراه كلُّه شرٌّ، ولا يطبَّق إلا إذا كانت تصرفات أحدهم تؤدي إلى
نتائج خطيرة على المجتمع ولا يمكن مواجهتها بأيَّة وسيلةٍ أخرى. وفي
هذه الحالة يجب ألا يسمح للتعابير الملطِّفة أو السفسطة الكلاميَّة من
إخفاء أنَّ الإكراه ينتهك حقيقة وكمال ذلك الفرد وإنَّها كانت ضرورة
تدعو إلى الأسف.
مثله مثل العديد من الفلاسفة الهنود، صنَّف غاندي
الحريَّة تحت بند الحقيقة، لأنَّ كلَّ شخصٍ لديه حقيقة وجوديَّة أو
بنية خاصة به، ويحتاج إلى الحريَّة لاكتشاف نفسه والتقدم بخطواته
الذاتية. الحرية هي الأساس الضروري والشرط المسبق لقابليَّة أن يكون
الإنسان صادقًا مع نفسه. فأن تتنكَّر لحريَّة أيِّ شخصٍ يعني أن تجبره
أن يكون غير صادقٍ مع نفسه، ويعيش وفقًا لحقيقة شخصٍ آخر، ويزرع الكذب
في صميم كينونته. وبالنسبة لغاندي إنَّ حجَّة الحريَّة بسيطة كما هي
بالنسبة للمصداقيَّة. احترام الحقيقة يعني احترام الكائنات البشريَّة
من زاوية أنَّهم جُبلوا بلحظةٍ محدَّدةٍ من الزمن وحاجتهم لاتِّباع
منطق كينونتهم. حبُّ الحقيقة يعني حبَّ المرء لإخوته البشر وهم على
تمايزهم، وليس كما يفضِّل أن يكونوا، والتصدي لكلِّ المسببات التي
"تمنعهم أن يكونوا أحرارًا" أو تضحِّي بهم على مذبح هدفٍ مجرَّدٍ
مجهول.
النظريَّة الأخلاقيَّة
شكَّلت وجهة نظر غاندي عن طبيعة الإنسان أساس نظريَّته
الأخلاقيَّة. وكما رأينا سابقًا، كانت الأخلاق بالنسبة له تكمن في
مساندة المرء للكائنات الحيَّة كلِّها واعتبار نفسه متوحِّدًا معها.
بشكلٍ منفعل، دعت إلى الإحجام عن التسبُّب بأذيَّتها؛ وبشكلٍ فاعلٍ،
دعت إلى "مسح كلِّ دمعةٍ عن كلِّ عين" ومساعدتها على معرفة مكنوناتها
الأخلاقية والروحية كاملة. وبرأي غاندي، إنَّ القيم الأخلاقيَّة
والروحيَّة أو الدين لا تنفصل عن بعضها. ولكون القيم الروحيَّة تعني أن
يصبح الإنسان منسجمًا مع الروح الكونيَّة ويسعى لحبِّ الكائنات الحيَّة
كلِّها، فمن المحتَّم حاجته للأخلاق. وفي المقابل، الوصول إلى هذه
الأخيرة، يعني الوصول إلى الأولى حكمًا. من الصعب تتبع استنتاج غاندي.
عمومًا، يبدو أنَّه آمن بأنَّه لطالما تعني الأخلاق تقديم خدماتٍ غير
محدودةٍ وغير معدودةٍ للكائنات الحيَّة، ولا يمكن لبشريٍّ يملك العقل،
والرغبة، والحبَّ، والطاقة لفعل ذلك دون توجيهٍ روحيٍّ مناسبٍ. وكما
شبَّهها ذات مرةٍ، الرجل الأخلاقي يشبه المرتزق الشريف، بينما الرجل
الروحاني يشبه الوطني الغيور. كلاهما يفعل الصواب نفسه، لكن أعمالهما
تختلف عن بعضها كثيرًا من حيث نكهتها، وموثوقيَّتها، والتزامها،
وطاقتها.
في الوقت الذي تقتضي فيه القيم الأخلاقيَّة اهتمامًا
نزيهًا بالكائنات الحيَّة، يملك البشر إمكانيَّات أخلاقيَّة محدودةٍ،
ومعلومات قليلة عن المجتمعات الأخرى، وطاقة محدودة أيضًا. ولهذا يجب أن
يركِّزوا اهتمامهم على من يعرفونهم وتربطهم بهم روابط من الآمال
المشتركة، وهم على يقينٍ دائمٍ بأنَّهم لن يحقِّقوا مصالحهم على حساب
الآخرين. يجب أن تعاش الحياة الأخلاقيَّة محليًّا وبيئيًّا، لكن يجب
النظر دومًا إلى الحاجات البيئيَّة من زاوية المستلزمات الكونيَّة.
ويمثِّل هذا بالنسبة لغاندي السبيل الوحيد للتصدِّي لكلٍّ من
العالميَّة المثاليَّة التي تتجاهل حاجات أولئك الذين يرتبط بهم الشخص
بروابط وعهودٍ خاصةٍ، والإخلاص الضعيف لهذه الأخيرة من خلال تجاهل
الواجبات الكثيرة.
بالنسبة لغاندي، إنَّ خدمة الإنسان لأخيه الإنسان ليست
نشاطًا منفصلاً أو مستقلاً، بل تشمل كلَّ ما يقوم به الشخص. كونه
زوجًا، أبًا، ابنًا، صديقًا، جارًا، زميلاً، مواطنًا، ربَّ عملٍ،
مستخدمًا، ليست أدوارًا عديدةً منفصلةً عن بعضها، يدار كلٌّ منها
بمعاييره وقيمه الخاصة، بل بأساليب مختلفةٍ ضمن إدراكٍ لإنسانيَّة
الفرد وارتباطها بأمثاله من البشر. وعلى سبيل المثال، كون الشخص جارًا،
ليس عليه الامتناع عن إزعاج جيرانه فقط، بل عليه تقديم المساعدة لهم،
وإيلاء اهتمامه الفعَّال لما فيه الخير لهم ولبيئتهم، والمساعدة لخلق
مجتمعٍ محليٍّ نابض بالحياة. بهذه الروحيَّة من المعروف والإنسانيَّة
يجب أن تتشبَّع بها طريقة الشخص في كسب رزقه، التي من الواجب استنباطها
كياجنا yajna،
كشكل مشاركة الشخص في رفع سويَّة الرفاه العام، والتي لا تكون المكافأة
الماليَّة من خلالها هدفًا بل نتيجة عارضة رغم أهميَّتها. آمن غاندي
بأنَّ كلَّ شخص يستطيع بأسلوبه البسيط المساعدة في تغيير نوعيَّة
العلاقات الإنسانيَّة والمساهمة بخلق عالمٍ أفضل إذا قدَّم كلَّ نشاطٍ
من نشاطاته "بطعم عذوبة الإنسانيَّة". "خدمة هادئة، بلا تفاخر" من مثل
مواساة أرملة، تعليم طفلٍ لأحد الجيران، العناية بأحد الأقرباء المرضى،
شراء الحاجيات لصديقٍ عاجزٍ، ومثله "حرث بقعة واحدة من الأرض" من الحجم
الكلِّي للتعاسة الإنسانيَّة، هو تمامًا بنفس الأهميَّة لأكثر أشكال
الخدمة الاجتماعيَّة والعمل السياسيِّ سحرًا، وأحيانًا يكون له نتائج
أكثر فائدةً وديمومةً.
كلما كنتَ في حالةٍ من الشكِّ، أو عندما تصبح مصلحتك
الشخصية ضاغطةً عليك كثيرًا، طبِّق الاختبار التالي. تذكَّر وجه أفقر
وأضعف إنسانٍ رأيته في حياتك، واسأل نفسك إن كانت الخطوة التي تعتزم
القيام بها ذات فائدةٍ له، هل سيناله أيُّ شيءٍ منها؟ كيف ستؤثر على
حياته وقدره الخاص؟
المعاني الضمنيّة
قبل أن ننهي هذا الفصل يجب أن نقف عند ثلاث سماتٍ
هامَّةٍ لنظريَّة غاندي عن الإنسان. أولاً، تجاهل النقاش الغربي
التقليدي فيما إذا كانت البشرية خيِّرة أم شريرة بطبيعتها، لأنَّ
الكائنات البشريَّة لديها أرواحًا وهي روحانية في تكوينها، فهي تملك
ميلاً عميقًا باتجاه الخير، ولكن هذا لا يعني أنَّها تحبُّ وتدفع نحو
الخير دومًا، بسبب حاجتها لمعرفة الذات الحقيقيّة غالبًا، ولأنهمن
الممكن أن تكون هدفًا للخديعة المبنية على خصوصية الجسد، ولأنَّ
السوابهافا الخاصَّة بكلٍّ منهما أقنعهما بفعل الشر. وكلُّ ما يعنيه أن
البشر لديهم طاقة تستقر في أعماقهم لمعرفة الخير والسعي إليه ويمكنهم
التصرف وفقها إن تمَّ إيقاظ تلك الطاقة وتنشيطها.
ثانيًا، تجنَّبت نظريَّة غاندي التجانس المألوف والدافع
الفردي الملازمتان لأغلب النظريات عن طبيعة الإنسان. وبالنسبة لتلك
النظريات، لدى البشر طبيعة خاصة أو جوهر يملي عليهم كيفيَّة حياتهم.
ولما كان الاعتقاد بأنَّ هذا الجوهر واحد عند كلِّ البشر، فإنَّ
اسلوبًا واحدًا للحياة فقط هو الأفضل لهم ومن المنطقي أن يتم فرضه على
أولئك الذين يعانون نقصًا في ذاك الجوهر. وتجنبت نظريَّة غاندي هذه
المخاطرة. على الرغم من أنَّ لدى البشر نفسًا أو روحًا متماثلة
وبالتالي هدفًا مشتركًا، فهم أيضًا متمايزين طبيعيًّا ولديهم أهداف
مشتركة وأساليب لفهمها. وبالتالي، فإنَّ وجهة نظر غاندي أكَّدت على
الوحدة والاختلاف الإنسانيين كلاهما، وتركت مجالاً وجوديًّا واسعًا من
الاستقلاليَّة والتنوُّع. وكما رأينا، فقد شرح فردانيَّة البشر
بمصطلحات نظريَّةٍ ملتبسةٍ عن التقمُّص، ورغم أنه ليس هناك من حجَّةٍ
تمنعنا من رفض تلك النظريَّة، لكن تقديرًا لرأيه على أرضيَّة التنوُّع
في بنية مفاهيمنا ذاتها عن الطبيعة الإنسانيّة.
ثالثًا، كان غاندي بعمقه غير مرتاحٍ للأفكار
"الأوروبيَّة" عن الحقوق والواجبات ومعارضتهم المصطنعة. إذ طرحت بأنَّ
الواجبات والحقوق تقتصر على تبادل المنفعة، بمعنى أنَّه لا شيء يمكن أن
يكون حقًا وواجبًا في نفس الوقت، وأنَّ الحقوق هي تمارين من أجل
الحرية، بينما تعتبر الواجبات تقييدًا لها. وكما رأينا، نظر غاندي إلى
القضيَّة بشكلٍ مختلف. فبالنسبة له أنَّ الأمرين لا ينفصلان كوجهين
لعملةٍ واحدةٍ، وينتظمان بشكل تبادليٍّ. على سبيل المثال، تطوير الذات
أو الاستقلال الشخصي هو حقٌّ لأنَّ كل فرد يعتبر فريدًا ويجب أن يكون
حرًّا ليستنبط أسلوب حياةٍ يناسب بنيته النفسيَّة والروحيَّة. وهو واجب
أيضًا لأنَّه يعتبر الأسلوب الوحيد الذي يمكِّنه من تقديم مساهمته
الخاصَّة للمجتمع وتحمُّل ديون وجوده التي لا مهرب منها. وبشكلٍ مشابه،
للإنسان الحقُّ بأن يعتني بأطفاله لأنَّه أتى بهم إلى هذا العالم
ويتمنى أن يتأكَّد بأنهم كبروا، كما أنَّه واجب أيضًا لأنَّه من جهةٍ
ثانيةٍ قد يتم إهمالهم، دون أن يتطوروا ضمن إطار حريَّة الإرادة وطاقات
الوعي الأخلاقي، ليصبحوا عالةً على المجتمع. وبغية التأكيد على تلازم
الحقوق والواجبات، فضَّل غاندي استخدام مصطلح سنسكريتي متعدِّد المعاني
هو دهارما dharma
والذي يعني الطبيعة، الحقَّ، والواجب. بما أنَّ كل فعلٍ إنسانيٍّ هو
حقٌّ وواجب في آنٍ، وله بعد شخصي واجتماعي، فعلينا تحديد الحقوق
واختبارها بطريقة فيها كلُّ المسؤوليَّة الاجتماعية، وتحديد الواجبات
وتحمُّلها بطريقةٍ تأخذ في الحسبان فردانيَّة الشخص المعني ومتطلَّباته
(Mii.65-8 .Miii.496-8).
*** *** ***