الاقتلاع والأُمَّة 1
سيمون
ڤـايل
هناك
نوع آخر من الاقتلاع يجب دراستُه لمعرفةٍ أشمل بمرضنا الرئيسي. إنه
الاقتلاع الذي يمكن أنْ نسمِّيَه اقتلاعًا جغرافيًا، أي بالنسبة
للجماعات التي تقابل الأقاليمَ. لقد اختفى تقريبًا المعنى نفسُه لهذه
الجماعات، باستثناء واحدة هي الأمة. ولكنْ هناك الكثير غيرها. بعضُها
أصغر، صغيرة جدًا: مدينة أو مجموعة قرى، إقليم، منطقة؛ وبعضها يضم عدةَ
أمم؛ وبعضها يضم عدةَ أجزاء من أمم.
الأمَّة وحدها حلَّت محلَّ كل هذا. والأمة تعني الدولةَ؛ لأنه لا يمكن
إيجاد تعريف آخر لكلمة أمة إلاَّ التعريف الذي يقول بأنها مجمل
الأقاليم التي تعترف بسلطة دولة واحدة. يمكن القول بأن المال والدولة
قد حلاَّ في عصرنا محلَّ جميع التعلُّقات الأخرى.
تلعب الأمةُ وحدَها، منذ وقت طويل مضى، الدَّورَ الذي يشكِّل بامتياز
رسالةَ الجماعة تجاه الكائن الإنساني، أي القيام من خلال الحاضر بالربط
بين الماضي والمستقبل. وبهذا المعنى يمكن القول بأنها هي الجماعة
الوحيدة الموجودة في العالَم الحالي. فالعائلةُ لا وجود لها. وما نسميه
اليوم بهذه الكنية هو مجموعة صغيرة جدًا من البشر حول كل كنية، أب وأم،
زوج أو زوجة، أولاد؛ إخْوة وأخوات بالأساس بعيدون قليلاً. في الآونة
الأخيرة هذه، وسط البؤس العام، أصبحَتْ هذه المجموعةُ الصغيرة قوةَ جذب
لا تكاد تقاوَم، إلى درجة أنها أنْسَتْ أحيانًا كلَّ نوع من أنواع
الواجب؛ ولكنْ فيها فقط كان يوجد قليل من الحرارة القوية، وسط البرد
القارس الذي حل فجأةً. إنه كان رد فعل شبه غريزي.
لكنْ لا أحدَ اليومَ يفكر بالذين ماتوا من أجداده قبل مولده بخمسين سنة
أو حتى بعشرين أو بعشر سنوات، ولا يفكر بذرِّيته الذين سيولَدون بعد
موته بخمسين سنة أو حتى بعشرين أو بعشر سنوات. وبالتالي فإنَّ العائلة
لا أهمية لها من وجهة نظر الجماعة ووظيفتها.
والمهنة لا قيمة لها أيضًا من وجهة النظر هذه. فالاتِّحاد المهني كان
رابطةً بين الأموات والأحياء والبشر الذين لم يولدوا بعد، ضمن إطار عمل
معيَّن. لا شيء اليوم مهما كان قليلاً يوجَّه نحو هذه الوظيفة. ربما
كان لدى العمل النقابي
syndicalisme
الفرنسي حوالي عام 1900 ميولٌ في هذا الاتِّجاه سرعان ما تلاشت.
أخيرًا، لم يعدْ هناك تقريبًا أهمية للقرية والمدينة والقطر والإقليم
والمنطقة وجميع الوحدات الجغرافية الأصغر من الأمة. وكذلك الوحدات التي
تضم عدةَ أمم أو عدة أجزاء من أمم أيضًا. عندما كان يقال مثلاً
"العالَم المسيحي" منذ عدة قرون، كان لذلك صدىً وجدانيٌّ يختلف عن صدى
أوروبا اليوم.
باختصار، فإنَّ الخير الأثمن للإنسان في التسلسل الزمني، أي الاستمرار
في الزمن، فيما يتجاوز حدودَ الوجود الإنساني، في الاتجاهين، هذا الخير
قد أُودِعَ كلُّه للدولة.
ومع ذلك، وتحديدًا في هذه المرحلة التي بقيَت فيها الأمةُ وحدَها،
شاهدْنا التفكُّكَ الفوريَّ والرهيبَ للأمة. وهذا تركَنا مذهولين إلى
درجة أنه أصبح من الصعب جدًا التفكير فيه.
الشعب الفرنسي، في شهرَي حزيران/يونيو وتموز/يوليو 1940، ليس شعبًا قد
نَهَبَ وطنَه على حين غِرَّةٍ نصَّابون يُباغتونه وهم مختبئون في الظل.
إنه شعب بسطَ يدَه تاركًا الوطنَ يسقط أرضًا. فيما بعد – ولكنْ بعد
فترة طويلة – أفنى الشعبُ نفسَه في جهود أصبحَت شيئًا فشيئًا يائسةً من
أجل لمِّ شتات الوطن، لكنَّ أحدهم وطأه بقدمه.
الآن عاد الحِسُّ القومي. وأخذَت كلماتُ "الموت من أجل فرنسا" نبرةً لم
تأخذْها منذ 1918. ولكنَّ الذي ساهمَ على الأقل مساهمةً كبيرةً جدًا،
وربما حاسمةً، في حركة الرفض التي حرَّضَتْ الشعبَ الفرنسيَّ على
العصيان هو الجوع والبرد والحضور الكريه دائمًا لجنود أجانب يمتلكون
السلْطةَ لكي يسيطروا والتفريق بين العائلات ونفي البعض والأَسْر وجميع
أشكال المعاناة هذه. وخير برهان هو اختلاف العقلية الذي كان يفصل بين
المنطقة المحتلة وبين الأخرى. فليس هناك بالطبيعة كميةٌ من الفضيلة
الوطنية في شمال الوار
la Loire
أكبر منها في جنوبه. لقد أدَّى اختلافُ الأوضاع إلى عقليات مختلفة. وقد
كان كلٌّ من مثال المقاومة الإنكليزية والأمل في الهزيمة الألمانية
عاملَينِ مهمَّينِ أيضًا.
ليس لفرنسا اليوم من واقع آخر غير الذكرى والرجاء. لم تكن الجمهوريةُ
تقِلُّ جَمالاً عنها في عهد الإمبراطورية؛ ولم يكن الوطن يقِلُّ
جَمالاً عنه في عهد اضطهاد الغازي، إذا كان لنا أنْ نأملَ في أنْ نراه
سليمًا معافى. ولذلك يجب ألاَّ نبديَ رأيًا، من خلال القوة الحالية
للشعور الوطني، في الفعالية الحقيقية التي يمتلكها هذا الشعورُ، بعد
التحرر، من أجل استقرار الحياة العامة.
إنَّ الضعف المفاجئ لهذا الشعور في حزيران/يونيو 1940 هو ذكرى تحمل
كثيرًا من الخجل إلى درجة أننا نفضِّل عدمَ التفكير فيها وعدم أخذِها
بالحسبان وعدم التفكير سوى بالإصلاح اللاحق. ففي الحياة الخاصة أيضًا،
ما يغري كلَّ فرد هو الميلُ إلى وضع نقاطِ ضعفِه الخاصة إنْ صحَّ
القولُ بين قوسين وإلى إلقائها في مكان المهمَلات وإلى إيجاد طريقة
حساب لا تأخذ نقاطَ الضعف هذه بالحسبان. الاستسلامُ لهذا الإغراء يعني
تدميرَ النفس؛ إنه الإغراء الذي ينبغي التغلُّب عليه تغلُّبًا كاملاً.
نحن جميعًا مستسلمون لهذا الإغراء، بسبب هذا الخزي العام الذي كان لشدة
عمقه يجرح كلَّ فرد في شعوره الداخلي بشرفه. ولولا هذا الإغراءُ لكانت
التفكراتُ في أمر غير مألوف أبدًا قد أدَّت أساسًا إلى مذهب جديد
ومفهوم جديد للوطن.
من وجهة نظر اجتماعية، لا مفرَّ من ضرورة التفكير بمفهوم الوطن. ولا
مناصَ كذلك من إعادة التفكير فيه؛ ومن التفكير فيه لأول مرة؛ لأنه لم
يفكَّرْ به بتاتًا إلاَّ بطريقة الخطأ. أليس غريبًا ألاَّ يفكَّرَ
بمفهومٍ لَعِبَ ومازال يلعب مثلَ ذلك الدَّور؟ وهذا يُظهِر المكانةَ
التي يحتلها التفكيرُ في الواقع بيننا.
لقد فقدَ مفهومُ الوطن كلَّ ثقة بين العمال الفرنسيين خلال الربع
الأخير من القرن. فقد روَّجَ له الشيوعيون بعد عام 1934 ترويجًا
يرافقُه مواكبةٌ كبيرةٌ من الأعلام المثلَّثةِ الألوان [الأعلام
الفرنسية] ومن ترديد "النشيد الوطني الفرنسي"
la
"Marseillaise".
إلاَّ أنهم لم يجدوا أدنى صعوبةٍ في تغييب هذا المفهوم قبل الحرب
بقليل. فليس باسمه قد بدأوا فِعلَ المقاومة. ولم يتبنَّوه من جديد
إلاَّ بعد الهزيمة بثلاثة أرباع السنة تقريبًا. وشيئًا فشيئًا تبنَّوه
بحذافيره. ولكنْ يبدو من السذاجة إلى أبعد حد أنْ نرى هنا مصالحةً
حقيقية بين الطبقة العاملة والوطن. يموت العمالُ من أجل الوطن، هذا
صحيح أكثر من أنْ يصدَّقَ. إلاَّ أننا نعيش في زمن غارق في الكذب إلى
درجة أنه حتى فضيلةُ التضحية الطوعية بالدم لا تكفي لردِّه إلى
الحقيقة.
خلال سنوات، علَّمْنا العمالَ أنَّ النزعة الدولية
هي أقدسُ الواجبات وأنَّ الوطنية هي أكثر الأحكام البرجوازية المسبقة
إثارةً للخجل. وقضينا سنواتٍ أخرى نعلِّمُهم أنَّ الوطنيةَ واجب
مقدَّس، وما ليس بوطنية فهو خيانة. في نهاية المطاف، كيف يوجِّههم شيءٌ
غير ردود أفعال أو دعاية؟
لن يكون هناك حركة عمالية سليمة إذا لم تمتلكْ مذهبًا يخصِّصُ مكانًا
لمفهوم الوطن، ومكانًا محدَّدًا، أي محدودًا. من جهة أخرى، ليست هذه
الحاجةُ أكثرَ وضوحًا للأوساط العمالية إلاَّ لأنَّ مشكلةَ الوطن قد
نوقشَت فيها كثيرًا منذ وقت طويل. لكنها حاجة مشتركة لكل البلد. فمن
غير المقبول ألاَّ تكونَ الكلمةُ، التي تعود اليوم مقرونةً باستمرار
تقريبًا بكلمة الواجب، موضوعَ أية دراسة أبدًا تقريبًا. بصورة عامة، لا
يوجد ما نذكره حول هذا الموضوع غير صفحة رديئة لرينان
Renan.
الأمة هي موضوعٌ حديثُ العهد. ففي القرون الوسطى، كان الإخلاصُ
موجَّهًا للرب أو للمدينة أو للاثنين. وفيما يتجاوز ذلك للأوساط
الإقليمية التي لم تكنْ متمايزةً جدًا. وكان الشعور الذي نسميه وطنيةً
موجودًا بدرجة كثيفة جدًا أحيانًا؛ إنه الموضوع الذي لم يكن محدَّدًا
إقليميًا. كان الشعور يغطِّي بحسب الظروف مساحاتِ أرضٍ متغيرةً.
كانت الوطنيةُ موجودةً بحقٍ منذ أقدم عصور التاريخ. فقد مات
"ﭭـِرسينْجيتوريكسُ"
Vercingétorix
فعلاً من أجل بلاد الغال
la Gaule؛
وماتت من أجل إسبانيا القبائلُ الإسبانيةُ التي قاومَت الغزوَ
الرومانيَّ الذي وصلَ أحيانًا إلى حد الإبادة،
وكانت تَعرِفُ الوطنيةَ وتتحدَّثُ عنها؛ وأمواتُ ماراثون
Marathon
وسالامين
Salamine
هم أمواتٌ من أجل اليونان؛ وفي الوقت الذي كانت فيه اليونانُ، التي لم
تكنْ بعدُ مختزَلةً إلى إقليم، كانت بالنسبة إلى روما في الوضع نفسِه
التي كانت فيه فرنسا حكومةِ ﭭـيشي بالنسبة لألمانيا، كان أطفالُ المدن
اليونانية يرشقون المتواطئين مع العدو بالحجارة في الشارع وينادونهم
بالخوَنة وبالغضب نفسِه الذي نقوم به اليومَ.
الشيءُ الذي لم يكنْ موجودًا أبدًا حتى عهدٍ قريبٍ هو موضوع مبلْوَر
يُعطَى بصورة مستمرة للشعور الوطني. كانت الوطنيةُ مائعةً غيرَ واضحةٍ
ومتغيرةً تتَّسع وتضيق تبعًا للتجاذبات والمخاطر. كانت مختلطةً بولاءات
مختلفة، ولاءاتٍ للبشر، أسيادًا أو ملوكًا، وولاءاتٍ للمدن. وكان
المجموع يشكِّل شيئًا غامضًا جدًا، ولكنه إنساني جدًا أيضًا. فللتعبيرِ
عن الشعور بالواجب الذي يحسُّ به كلُّ فرد تجاه بلاده كانوا يستخدمون
في الأعم الأغلب كلمةَ "الجمهور"، "المال العام"، وهي كلمة يمكن إذا
شئنا أنْ تشيرَ إلى قرية أو مدينة أو إقليم أو فرنسا أو العالَم
المسيحي أو الجنس البشري.
كانوا يتكلَّمون أيضًا عن مملكة فرنسا. وفي هذه الكلمة يختلط الشعورُ
بالواجب نحو البلد مع الشعور بالإخلاص للمَلِك. لكنْ هناك عقبتان
منعتَا من أنْ يكونَ هذا الشعورُ المزدوجُ نقيًا أبدًا، ولا حتى في عصر
جان دارك. يجب ألاَّ ننسى أنَّ سكانَ باريس كانوا ضد جان دارك.
كانت العقبةُ الأولى هي أنَّ فرنسا بعد شارل الخامس، إذا أردنا
استخدامَ مفردات مونتيسكيو، لم تعدْ مَلَكيةً لتسقطَ في حالةٍ من
الاستبداد لم تخرجْ منها إلاَّ في القرن الثامن عشر. نجد اليومَ أنه من
الطبيعي أنْ ندفعَ ضرائبَ للدولة إلى درجة أننا لا نتخيل ما هو وسطُ
الاضطراب الأخلاقي الذي ترسَّخَتْ فيه هذه العادةُ. فدفعُ الضرائب في
القرن الرابع عشر، باستثناء المساهمات الاستثنائية التي تُدفَع عن رضا
من أجل الحرب، كان يُنظَر إليه كذل وهوان خاص بالبلاد المفتوحة، وكمؤشر
واضح على العبودية. نجد الشعورَ نفسَه يُعبَّر عنه في أغاني
الرومانسيرو
Romancero
الإسبانية وفي أعمال شكسبير أيضًا – "هذه الأرض... قامت بغزو مخجل في
حد ذاته."
إنَّ شارل السادس Charles VI enfant،
بمساعدة أعمامِه، ولكثرة الفساد والقسوة الفظيعة، قد أَجبَرَ بقسوةٍ
شعبَ فرنسا على قبول دفعِ ضريبة تعسُّفية جدًا وقابلة للتجديد كما
يشاء، جوَّعَتْ بالمعنى الحرفي للكلمة الفقراءَ وهدَرَها الأسيادُ.
ولذلك فقد استُقبِلَ جماعةُ هنري الخامس الإنكليزيون كمخَلِّصين في
بادئ الأمر، عندما كان الأرمانياكُ
les Armagnacs
يشكِّلون حزبَ الأغنياء وكان البورغينِيُّون
les Bourguignons
يشكِّلون حزبَ الفقراء.
لم يعدْ للشعب الفرنسي، بعدما خضعَ بقسوةٍ ومن أول مرة، إلاَّ هزاتٌ من
الاستقلال، وحتى القرن الثامن عشر. وخلال كل هذه الفترة، كان جميعُ
الأوروبيين يعتبرونه الشعبَ المستعبَد بامتياز، الشعبَ الذي يعيش
كالماشية تحت رحمةِ عاهلٍ.
ولكنْ في الوقت نفسه، ينشأ في أعماق قلوب هذا الشعب حقدٌ مكبوت وبتعبير
أصحّ حقد أليم مرير على المَلِك، حقد لا ينطفئ توارُثُه أبدًا. نلمسه
أساسًا في شكوى الفلاحين البالغةِ التأثير في عصر شارل السادس. ولا بد
أنْ يكونَ هذا الحقدُ قد ساهم في الشعبية الغامضة للرابطة
la Ligue
في باريس. بعد اغتيال هنري الرابع، أُعدِمَ طفلٌ في الثانية عشرة من
عمره لأنه قال علنًا بأنه سينحو نحوَ الصغير لويس الثالث عشر. لقد بدأ
ريشليو
Richelieu
مهنتَه بخطابٍ طلبَ فيه من رجال الدين أنْ يعلِنوا لعنتَهم على كل
قتَلة المَلِك؛ وبرَّرَ ذلك بأنَّ الذين كانوا يغذُّون هذا المخطَّطَ
كانت تحرِّكهم حماسةٌ تعصبية أكبر من أنْ تكبحَها أيةُ عقوبة أرضية.
بلغَ هذا الحقدُ درجةَ هيجانِه الأشد في نهاية حكم لويس الرابع عشر.
وبعد أنْ كان هذا الحقد مكبوتًا تحت ضغط رعبٍ يساوي الحقدَ في الشدة،
انفجرَ جريًا على القانون المذهل للتاريخ، متأخرًا أربع وعشرين سنةً؛
وكان المسكين لويس السادس عشر هو الذي تلَقَّى الضربةَ. هذا الحقد
نفسُه منعَ من إمكانية أنْ يكون هناك فعلاً إعادةٌ للمَلَكية عام 1815.
واليومَ أيضًا، يمنع هذا الحقدُ منعًا باتًا من أنْ يكون بالإمكان أنْ
يَقْبَلَ الشعبُ الفرنسي كُونْتَ باريسَ بملء إرادته، على الرغم من
انضمام رجُـلٍ مثل
برنانوس
Bernanos.
هذا مؤسف من عدة جوانب؛ فكثير من المشاكل يمكن حلُّها بهذه الطريقة؛
لكنَّ الأمور تسير على هذا النحو.
هناك مَصْدر آخر للسُّمِّ في حُبِّ الفرنسيين لمملكة فرنسا وهو أنَّ
بعضًا من الأقاليم الموضوعة تحت طاعة مَلِك فرنسا كانت في كل عصر تشعر
بأنها بلاد مفتوحة وكانت تُعامَلُ على هذا الأساس. يجب الاعترافُ بأنَّ
الأربعين ملِكًا الذين مرُّوا على فرنسا خلال الألف سَنَة كانوا قد
وضعوا غالبًا في هذا العمل وحشيةً جديرة بعصرنا. وإذا كان هناك تطابُق
طبيعي بين الشجرة والثمار فيجب ألاَّ نستغربَ من أنَّ الثمرةَ في
الواقع بعيدة عن الكمال.
مثلاً، يمكن أنْ نجِدَ في التاريخ أحداثًا فظيعةً كفظاعة غزو الفرنسيين
للأقاليم الواقعة جنوب
الوار la
Loire
في بداية القرن الثالث عشر
ولكنْ ليست أكثر منها فظاعةً عدا بعض الحالات الاستثنائية النادرة.
كانت هذه الأقاليمُ، التي كان فيها مستوىً رفيعٌ من الثقافة والتسامح
والحرِّية والحياة الروحية، تُحرِّكُها وطنيةٌ قوية لما كانوا يسمُّونه
"لغتهم"، وهي كلمة كانوا يقصدون بها الوطن. لقد كان الفرنسيون في نظرهم
غُرَباءَ وهمجيين مثل الألمان في نظرنا. ولترسيخ الرعب مباشرةً بدأ
الفرنسيون بإبادة سكان مدينة بيزييه [بيزيرز]
Béziers
على بَكْرة أبيهم، وحصلوا على النتيجة المنشودة. واستمرَّ اضطرابٌ
صامتٌ كامنٌ بين السكان فدفعَهم بحماسٍ فيما بعدُ إلى اعتناق
البروتستانتية التي قال عنها أوبينييه
Aubigné
بأنها تنبثقُ مباشرةً عن الألبيجان [الألبيجيين]
Albigeois،
على الرغم من الاختلافات الكبيرة جدًا في المذهب. يمكن أنْ نرى كم كانت
قويةً كراهيةُ السلطة المركزية في تلك البلاد، من خلال الحماس الديني
الذي ظهر في تولوز على بقايا دوق مونتمورنسي
Montmorency
الذي قُطِعَ رأسُه بسبب تمرُّدِه على ريشليو
Richelieu.
لقد ألقاهم الاحتجاجُ الكامنُ نفسُه بحماسٍ في الثورة الفرنسية. وفيما
بعد أصبحوا راديكاليين اشتراكيين، علمانيين، معارضين لتدَخُّلِ رجال
الدين في الشؤون العامة؛ وفي عهد الجمهورية الثالثة لم يعودوا يكرهون
السلطةَ المركزية، فقد استولَوا عليها إلى حد كبير واستغلُّوها.
يمكن أنْ نلاحظَ أنَّ احتجاجَهم أخذَ في كلِّ مرةٍ طابَعَ اقتلاعٍ
أشدَّ ومستوىً روحانيًا وفكريًا أدنى. كما يمكن أنْ نلاحظَ أنَّ هذه
البلادَ منذ أنْ غُزِيَتْ قدَّمَتْ للثقافة الفرنسية مساهمةً ضعيفةً
إلى حد ما، في حين أنها كانت متألقةً جدًا في الماضي. فالفكرُ الفرنسي
يعود فضلُه للألبيجيين [الكاثاريين] وللتروبادور في القرن الثاني عشر
والذين لم يكونوا فرنسيين أكثرَ مما يعود فضلُه لجميع ما أنتجَتْه هذه
الأقاليمُ على مر العصور اللاحقة.
كانت كونتيَّةُ
[دوقية]
بورغونيا
Bourgogne
مقرَّ ثقافةٍ أصيلةٍ ومتألقة جدًا لم يُكتَبْ لها البقاءُ بعدها. وكان
لمدن منطقة الفلاندر
la Flandre
علاقاتٌ أخَوية وسرية مع باريس وروان
Rouen؛
لكنَّ الفلمنديين الجرحى كانوا يفضِّلون الموتَ على أنْ يداويَهم جنودُ
شارل السادس. فقد قام هؤلاء الجنودُ بحملة نهبٍ باتِّجاهِ هولندا
وأتَوا ببُرجوازيين أغنياء حيث اتُّخِذَ قرارٌ بقتلهم؛ وأدَّتْ بادرةُ
شفقةٍ إلى إبقائهم أحياءً إذا أرادوا أنْ يكونوا من رعايا مَلِكِ
فرنسا. يقول مؤرِّخٌ كاتالاني
[كَتَلوني]
catalan
من ذلك العصرِ نفسِه وهو يروي قصةَ مجزرةِ صلاةِ الغروبِ
الصِّـقِـلِّـيَّـةِ
التي اقترفَها الفرنسيون: "الفرنسيون الذين هم أينما يسيطرون متوحِّشون
أقصى ما يمكنهم أنْ يكونوا متوحِّشين...".
لقد يئس البريتونِيُّون
Bretons
عندما أُجبِرَتْ مَلِكتُهم آنَّـا
Anna
على الزواج من ملِك فرنسا. ولو عاد هؤلاء الناسُ اليومَ، أو بالأصح قبل
عدة سنوات، فهل ستكون لهم أسبابٌ قوية جدًا ليفكروا بأنهم انخدعوا؟
فمهما كانت الاستقلالية البريتونية قد أفقد من مصداقيتها الذين
يريدونها هم أنفسُهم والغاياتُ المخجلةُ التي يسعون وراءها فإنَّ مِنَ
المؤكَّدِ أنْ تلبِّيَ هذه الدعايةُ شيئًا حقيقيًا في أحداث هذه الشعوب
وفي مشاعرها في الوقت نفسِه. هناك كنوزٌ كامنة في هذا الشعب لم يتسَنَّ
لها أنْ تخرجَ. الثقافةُ الفرنسية لا تناسبها؛ وثقافتُها هي لا تُنْتِش
ولا تَنْـبُتُ؛ عندئذٍ بقي الشعبُ بكامله في حُثالة الطبقات الاجتماعية
الدنيا. فقدَّمَ البريتونِيُّون
Bretons
جزءًا كبيرًا من الجنود الأميين؛ وقدَّمَت البريتونياتُ، كما يشاعُ،
جزءًا كبيرًا من بغايا باريس. قد لا تكون الاستقلاليةُ علاجًا، ولكنَّ
هذا لا يعني أنَّ المرض غير موجود.
إنَّ منطقة فرانش-كونتيه
la Franche-Comté،
التي كانت حرةً وسعيدةً تحت السيادة الإقطاعية القديمة جدًا للإسبان،
صارعَتْ في القرن السابع عشر لكي لا تصبحَ فرنسيةً. لقد أخذَ سكانُ
ستراسبورغ يبكون عندما رأوا جنودَ لويس الرابع عشر يدخلون مدينتَهم في
ذروة السلام، بدون أي إعلان مسبق، من خلال انتهاك الوعد الجدير بهتلر.
[ﭙـاسكوال
Pasquale]
ﭙـاولي
Paoli
[1725 – 1807]، آخرُ الأبطال الكورسيكيين
corse،
قد كرَّسَ بطولتَه لمنع بلده من السقوط في أيدي الفرنسيين. وهناك صرحٌ
تكريمًا له في إحدى كنائس فلورنسا؛ وفي فرنسا نادرًا ما يتكلَّمون عنه.
و[جزيرةُ] كورسيكا [قرشقة]
la Corse
هي مثال على خطر العدوى الذي ينطوي عليه الاقتلاعُ. فبعدَ أنْ غزَونا
سكانَ هذه الجزيرة واستعمرناهم وأغرقناهم في الفساد تحمَّلْناهم
وقَبِلْناهم على شكل مُديري شرطةٍ وعناصر شرطة ومساعدين في الجيش
ومراقبين [ناظرين]
pions
وفي وظائفَ أخرى من هذا القبيل والتي بفضلِها كانوا هم بدَورِهم
يعاملون الفرنسيين كشعبٍ مغلوب إلى حد ما. وساهموا أيضًا في إعطاء سمعة
سيئة عن فرنسا بأنها وحشية وشرِسة لدى كثير من سكان المستعمرات
الأصليين.
عندما يُمتدَحُ ملوكُ فرنسا بأنهم دَمجوا البلادَ التي غزَوها فإنَّ
الحقيقةَ بصورة خاصة هي أنهم اقتلعوها اقتلاعًا واسعَ النطاق. إنها
طريقة دمج سهلة، في متناول كل فرد، من الناس الذين ننتزِع منهم
ثقافتَهم أو الذين يبقون بلا ثقافة أو الذين يتلَقَّون بقايا ثقافة
نريد أنْ ننقلَها لهم. وفي كلا الحالتين، لا يشكِّلون تنافرًا في
اللون، ويَبدون مندمجين. المعجزةُ الحقيقية هي دمج سكان يحافظون على
ثقافتهم حيةً على الرغم من إدخال تعديل عليها. إنها معجزة لا تحدث
إلاَّ نادرًا.
لقد كان هناك بالتأكيد في عهد النظام القديم قوةٌ في الشعور الفرنسي في
جميع لحظات التألُّق الكبير لفرنسا؛ في القرن الثالث عشر، عندما كانت
أوروبا تهرع إلى جامعة باريس؛ وفي القرن السادس عشر، عندما كان موطنُ
النهضة في فرنسا في حين أنها لم تكنْ قد بدأَتْ خارجَ فرنسا أو أنها قد
انطفأَتْ؛ وفي السنوات الأولى لحكم لويس الرابع عشر، عندما كانت هيبةُ
الآداب تَقترِنُ بهيبة السلاح. وليست أقلَّ صحةً مما سبقَ فكرةُ أنَّ
الملوكَ ليسوا هم الذين وحَّدوا هذه الأقاليمَ المتغايرةَ ولحموها
ببعضِها. إنها الثورةُ فقط.
خلال القرن الثامن عشر، كان هناك أساسًا في فرنسا، بين أوساط مختلفة
جدًا وإلى جانب فساد مرعب، شعلةٌ ملتهبةٌ وصافيةٌ من الوطنية. وشاهِدٌ
على ذلك هذا الفلاَّحُ الشابُّ، أخو
ريستيف دو لا بروتون
Restif de la
Bretonne،
الموهوب المتألِّق، والذي أصبحَ جنديًا وهو ما يزال طفلاً تقريبًا
بدافع الحب الخالص للمصلحة العامة وقُتِـلَ في سن السابعة عشرة من
عمرة. إلاَّ أنَّ الثورةَ هي التي أدَّت أساسًا إلى ذلك. فقد أحسُّوا
بقرب وقوعِها وانتظروها ورغِبوا فيها على مرِّ القرن.
لقد صهَرَت الثورةُ السكانَ الخاضعين لسلطة فرنسا في كتلة واحدة، وذلك
تحت تأثير نشوة السيادة الوطنية. فالذين كانوا فرنسيين بالقوة أصبحوا
فرنسيين بكامل رضاهم؛ وكثيرٌ ممن لم يكونوا فرنسيين كانوا يتمنَّون أنْ
يصبحوا فرنسيين. لأنَّ كَونَ المرءِ فرنسيًا أصبحَ يعني منذ تلك اللحظة
أنه من أمَّة ذاتِ سيادة. ولو أنَّ كلَّ الشعوب في كلِّ مكان أصبحَت
ذاتَ سيادة، كما نتمنَّى، لما كان لفرنسا أنْ تفقدَ فخرَ أنها كانت
البدايةَ. من جهةٍ أخرى، لم يعدْ للحدود من أهمية. وكان الغُرَباءُ فقط
هم الذين يبقون عبيدًا للطغاة. والغرباءُ الذين يمتلكون روحًا جمهوريةً
حقًا كانوا يُقْبَلون عادةً كفرنسيين بصفة فخرية.
وهكذا كان في فرنسا هذا التناقضُ المتمثِّلُ في وجود وطنية تقومُ على
أعنفِ قطيعةٍ مع ماضي البلد وليس على حب الماضي. ومع ذلك، كانت الثورةُ
تمتلك ماضيًا في الجزء الخفي إلى حد ما من تاريخ فرنسا؛ كل ما كان له
علاقة بإعتاق الفلاحين العبيد وبحرِّيات المدن وبالصراعات الاجتماعية؛
فِتَن القرنِ الرابع عشر، بداية حركة البورغينِيِّين
les Bourguignons،
[ثورة] الفروند
la Fronde،
كُتَّاب مثل أوبينييه
Aubigné
وتيوفيل دو ﭭـيو
Théophile de
Viau
وريتز [رِيْه]
Retz.
في عهد فرانسوا الأول
François 1er
استُبعِدَ مشروعُ ميليشيا شعبية، لأنَّ الأسيادَ اعترضوا بأنه إذا
تحقَّقَ ذلك فإنَّ أحفادَ جنودِ الميليشيات سيصبحون أسيادًا وأحفادهم
هم سيصبحون عبيدًا. لقد كانت كبيرةً جدًا القوةُ الصاعدةُ التي
حرَّضَتْ هذا الشعبَ سِرًا على التمرُّد.
إلاَّ أنَّ تأثيرَ الموسوعيين
Encyclopédistes،
المفكرين المقتلَعين جميعًا، الذين تستحوِذُ عليهم جميعًا فكرةُ
التقدُّم، حالَ دُوْنَ أنْ يُبْذَلَ أدنى جهدٍ لذِكْرِ أيِّ تقليد
ثوري. من جهة أخرى، شكَّلَ الرعبُ الطويلُ لحكم لويس الرابع عشر مساحةً
فارغةً من الصعب تجاوُزُها. إنه بسببِ هذا الرعبِ وجدَ تيارُ التحرير
نفسَه في القرن الثامن عشر بدون جذور تاريخية على الرغم من جهود
مونتيسكيو في الاتِّجاه المعاكس. لقد كان عامُ 1789 قطيعةً حقيقية.
كان الشعورُ الذي يسمَّى آنذاك بالوطنية ينصَبُّ فقط على الحاضر
والمستقبل. إنه الحُبُّ للأُمَّةِ ذاتِ السيادة والذي يقوم إلى حد كبير
على فخر المرء بأنه جزء منها. كانت صفةُ الفرنسي تبدو خيارًا وليس
واقعًا، كالانتساب اليومَ إلى حزب أو إلى كنيسة.
أمَّا الذين كانوا يتعلَّقون بماضي فرنسا فقد أخذَ تعلُّقُهم شكْلَ
إخلاصٍ شخصيٍّ وسُلاليٍّ
dynastique
للمَلِك. ولا يشعرون بأي إحراج في البحث عن معونة في أسلحة الملوك
الأجانب. إنهم لم يكونوا خوَنةً. كانوا يبقون مخْلِصين لما يعتقدون
أنَّ الإخلاصَ له واجب، تمامًا مثل الرجال الذين أَعدَموا لويسَ
السادسَ عشر.
الوحيدون الذين كانوا وطنيين في ذاك العصر بالمعنى الذي أخذَتْه
الكلمةُ فيما بعدُ هم الذين كانوا في نظر معاصريهم وفي نظر الأجيال
اللاحقة خائنين بمنتهى الخيانة، هم الأُناسُ، مثل تالِّيران
Talleyrand،
الذين لم يخدموا جميعَ الأنظمةِ كما يشاعُ عنهم بل خدموا فيما وراءَ
جميعِ الأنظمة. لكنَّ فرنسا في نظرهم لم تكن لا الأمَّةَ ذاتَ السيادةِ
ولا المَلِكَ؛ كانت الدولةَ الفرنسيةَ. وقد أثبتَت الأحداثُ التي تلَتْ
بأنَّ الحقَّ معهم.
لأنه عندما ظَهَرَ وهْمُ السيادةِ الوطنية جلِيَّـًا على أنه وهْمٌ
فإنه لم يَعُدْ يصلحُ موضوعًا للوطنية؛ ومن جهةٍ أخرى، كانت المَلَكيةُ
مثلَ تلك النباتات المقطوعةِ التي لم تَعُدْ تُزرَعُ من جديد؛ فكان لا
بد للوطنية من أنْ تُغَيِّرَ معناها وتتَّجِهَ نحو الدولة. ولكنْ
بالنتيجة لا تعود شعبيةً. لأنَّ الدولةَ لم تكن من ابتكار عامِ 1789،
إذْ يعود تاريخُها إلى بداية القرن السابع عشر وقد ساهمَت في الحقد
الذي أضمرَه الشعبُ للمَلَكية. وهكذا بمفارَقةٍ تاريخيةٍ تبدو للوهلة
الأولى مفاجِئةً غيَّرَت الوطنيةُ الطبقةَ الاجتماعيةَ والمعسكَرَ
السياسيَّ؛ إذْ كانت في اليسار فانتقلَت إلى اليمين.
حصلَ التغييرُ كلِّيًا عقِبَ حكومةِ كومونة باريس
la Commune
[الثورية] وبدايات الجمهورية الثالثة. كانت مجزرةُ أيار/مايو 1871
ضربةً ربما لم يتخلَّصْ منها العمالُ الفرنسيون معنويًا. وليس في ذلك
مبالغة. يمكن لعاملٍ يبلغ اليوم الخمسين من عمره أنْ يلتقطَ ذكرياتِها
المروِّعةَ من فم أبيه الذي كان طفلاً آنذاك. كان جيشُ القرن التاسع
عشر ابتكارًا خاصًا للثورة الفرنسية. حتى الجنودُ الذين كانوا تحت
إمْرةِ [عائلة] آل البوربون
Bourbons
أو لويس-فيليـﭖ
Louis-Philippe
أو نابليون الثالث كان لا بد لهم من أنْ يُكْرِهوا أنفسَهم إلى أقصى حد
لكي يُطْلِقوا النارَ على الشعب. في عام 1871 ولأول مرةٍ منذ الثورة،
إذا استثنينا الفاصلَ الزمنيَّ القصير في العام 1848، كانت فرنسا
تمتلكُ جيشًا جمهوريًا. لقد أخذَ هذا الجيشُ المؤلَّفُ من صبيان شجعان
من الأرياف الفرنسية في قتل العمال بفرحٍ ساديٍّ عارمٍ لا مثيلَ له.
كان هناك ما يسبِّبُ الصدمةَ.
لقد كان السببُ الرئيسيُّ لذلك هو بلا شك حاجة التعويض عن خزي الهزيمة،
وهي الحاجةُ نفسُها التي قادَتْنا لاحقًا قريبًا إلى غزو
الأنَّاميين
Annamites
[الـﭭيتناميين] المساكين. وتُظهِرُ الوقائعُ أنه ليس هناك من عملٍ وحشي
ولا عملٍ دنيء لا يقدِرُ عليه الناسُ الجسورون حالما تتدخَّلُ الآلياتُ
النفسانيةُ المقابلة، إلاَّ إذا كان هناك لطفٌ إلهي قد فعلَ فِعلَه في
ذلك.
كانت الجمهوريةُ الثالثةُ صدمةً ثانية. يمكن أنْ نؤْمنَ بالسيادة
الوطنية مادام هناك ملوكٌ أو أباطرةٌ أشرار يقمعونها؛ ونفكر: لو لم
يكونوا هنا!... ولكنْ عندما لم يعودوا موجودين وعندما أُرسِيَتِ
الديمقراطيةُ ولم يكنِ الشعبُ مع ذلك ذا سيادةٍ حقيقيةٍ فإنَّ الاضطراب
قد أصبح حتميًا.
كان عامُ 1871 هو العامُ الأخير لهذه الوطنية الفرنسية الخاصة التي
وُلِدَت عامَ 1789. فالأميرُ الإمبراطوري الألمانيُّ فريديريكُ – الذي
أصبحَ لاحقًا فريديريكَ الثالثَ – الرَّجُـلُ الإنسانيُّ العاقلُ
والذكيُّ فوجئَ مفاجأةً شديدةً بشدةِ هذه الوطنية التي تُصادَف في كل
مكان عبْرَ الريف. فهو لم يكنْ يَفْهمُ الألزاسيين
Alsaciens
الذين لم يكونوا يريدون أنْ يسمعوا حديثًا عن ألمانيا مع أنهم يكادون
يجهلون الفرنسيةَ ويتكلَّمون لهجةً قريبةً جدًا من الألمانية وكانوا قد
خضعوا لغزوٍ عنيفٍ في تاريخٍ حديثٍ نسبيًا. واكتشفَ أنَّ ما كان يدفعهم
إلى ذلك هو الفخرُ بانتمائهم إلى بلد الثورة الفرنسية وإلى الأمَّة ذات
السيادة. ربما جعلَهم ضمُّهم [إلى ألمانيا] وفصلُهم عن فرنسا يحتفظون
بجزء من هذه العقلية حتى عام 1918.
لم تكن
حكومةِ كومونة باريس la Commune
باريسَ
حركةً اجتماعيةً بل كانت انفجارًا لوطنيةٍ وحتى لِشوﭭينيةٍ
chauvinisme
[عصبية وطنية] حادَّةٍ. من جهةٍ أخرى، لقد أقلقَ الشكلُ العدوانيُّ
للوطنية الفرنسية أوروبا على مر القرن التاسع عشر؛ وكانت نتيجتُها
المباشرة حرب عام 1870؛ لأنَّ فرنسا لم تكن قد أعدَّتِ العدَّةَ لهذه
الحرب، ولكنها أعلنَتْها من دون أنْ تقدِّمَ أيَّ تبرير معقول. وظلَّت
أحلامُ الغزو الإمبراطوري حيةً في الشعب على مر العصور. وفي الوقت
نفسِه، كانوا يَشْربون نخبَ استقلال العالَم. إنَّ غزوَ العالَم
وتحريرَ العالَم هما شكلان من المجد متعارضان في الواقع، ولكنهما
يتوافقان تمامًا في أحلام اليقظة.
كلُّ هذا الغليانِ في الشعور الشعبي سقطَ بعد عام 1871. مع ذلك، هناك
سببان حافَظا على مظهر الاستمرارية في الوطنية. أولاً، كراهية الهزيمة.
لم يكنْ آنذاك بعدُ حقًا من سببٍ وجيهٍ يدعو لكراهية الألمان؛ فهم لم
يقوموا باعتداء؛ كانوا يمتنعون إلى حد ما عن القيام بأعمال وحشية؛
وتحاشَينا أنْ نلومَهم على انتهاكِهم حقوقَ الشعوب بشأن موضوع إقليم
الألزاس-لورين
l'Alsace-Lorraine،
والجزءُ الأكبر من سكانِه من الجرمان، وذلك ابتداءً من حملاتنا الأولى
على
أنَّـام
Annam
[ﭭييتنام]. ولكننا كنا نكرههم لأنهم هزمونا، وكأنهم انتَهَكوا حقًا
إلهيًا أزليًا ثابتًا [لا يسقط بمرور الزمن] لفرنسا في النصر.
في أحقادنا الحالية التي لها للأسف أسبابٌ كثيرةٌ وأكثرُ من شرعية،
يدخلُ أيضًا هذا الشعورُ الغريبُ كمساهِمٍ فيها. كما كان أيضًا أحدَ
دوافعِ بعضِ المتواطئين من الساعة الأولى؛ فإذا كانت فرنسا في معسكر
الهزيمة، كما كانوا يفكِّرون، فذلك لا يمكن إلاَّ أنْ يكونَ سببُه
وجودَ غلطٍ، خطأٍ، سوءِ تفاهُم؛ إذْ إنَّ مكانَها الطبيعي هو في معسكر
النصر؛ والطريقةُ الأسهلُ والأقل جهدًا وألمًا لإجراء تصحيح ضروري جدًا
هي تغيير المعسكر. كانت هذه العقليةُ تسود في بعض أوساط ﭭـيشي في شهر
تموز/يوليو 1940.
لكنَّ الذي كان يَحُوْلُ بصورةٍ خاصة دونَ زوالِ الوطنيةِ الفرنسية
خلال الجمهورية الثالثة بعدَ أنْ فقدَت تقريبًا كلَّ جوهرِها الحي هو
أنه لم يكنْ هناك شيءٌ آخر. لم يكنْ للفرنسيين شيء آخر غير فرنسا
يُخْلِصون له؛ وعندما تخلَّوا عنها لحظةً في حزيران/يونيو 1940 رأَيْنا
كم كان شنيعًا ومحزنًا مشهدُ شعبٍ غيرِ مرتبط بأي إخلاص إلى شيء. ولهذا
السبب عادوا وتعلَّقوا فيما بعدُ بفرنسا دون سواها. لكنْ إذا استعاد
الشعبُ الفرنسيُّ ما يسمَّى اليومَ بالسيادة فستعود تَظهَر الصعوبةُ
نفسُها التي كانت قبل عام 1940؛ وهي أنَّ الحقيقة التي تشير إليها
كلمةُ فرنسا ستكون الدولةَ قبل كل شيء.
والدولةُ شيء بارد لا يمكن أنْ يُحَبَّ لكنه يقتل كلَّ ما يمكن أنْ
يُحَبَّ ويلغيه؛ وهكذا نحن مجبَرون على حبها، لأنه ليس هناك غيرها. هذا
هو العذابُ النفسي لمعاصرينا.
ربما هذا هو السبب الحقيقي لهذه الظاهرةِ ظاهرةِ القائد التي انبثقَت
في كلِّ مكان وتُفاجئُ كثيرًا من الناس. حاليًا، في جميع البلدان وفي
جميع القضايا، هناك رَجُلٌ يتَّجه إليه إخلاصُ الناس بصفة شخصية. إنَّ
ضرورة معانقة البرودة المعدنية للدولة جعلَت الناسَ، على النقيض،
متعطِّشين إلى حُبِّ شيءٍ مصنوعٍ من لحم ودم. وليست هذه الظاهرةُ على
وشك الانتهاء، وقد تُخَبِّئُ، على الرغم من نتائجها الكارثية حتى الآن،
مفاجئاتٍ أكثرَ وتكون مؤلمةً جدًا؛ لأنَّ فنَّ صناعة النجوم، المشهورَ
جدًا في هوليود، باستخدام أية مواد بشرية يتيح لأيِّ كائنٍ كانَ أنْ
يقدِّمَ نفسَه ليكون غرضًا لعبادة الجماهير.
إذا لم أخطئْ فقدْ ظهرَ مفهومُ الدولة كهدفٍ للإخلاص لأول مرة في فرنسا
وأوروبا عند ريشليو. فقَـبْـلَه كان من الممكن الكلامُ بنبرة تعلُّقٍ
ديني عن الصالح العام، عن البلد، عن المَلِك، عن السيد. وهو أول من
تبَنَّى المبدأَ المتمثِّلَ في أنَّ أيَّ فردٍ يمارس وظيفةً عامة لا
يَدينُ بكامل إخلاصه في ممارسة هذه الوظيفة للشعب ولا للمَلِك ولكنْ
يَدينُ به للدولة ولا شيءَ غير الدولة. يبدو من الصعب تعريف الدولة
تعريفًا دقيقًا صارمًا. إلاَّ أنه من غير الممكن للأسف الشك في أنَّ
هذه الكلمة لا تشير إلى حقيقة.
لقد حدَّدَ ريشليو، الذي كان يمتلك وضوحَ الفكر الشائعَ في ذلك العصر،
بعبارات برَّاقة، هذا الفرقَ بين الأخلاق والسياسة والذي أحاطوه منذ
ذاك الوقت بكثير من الغموض. قال بما معناه: يجب تجنُّبُ تطبيق القواعد
المتعلقة بخلاص الدولة على خلاص النفس؛ لأنَّ خلاص النفوس يحصل في
العالَم الآخر، بينما لا يحصل خلاصُ الدولة إلاَّ في هذا العالَم.
هذا صحيح بصورة مؤلمة. ولا بد للمسيحي من أنْ يتمكَّنَ فقط من استخلاص
نتيجة واحدة من ذلك: بينما يكون الإخلاصُ التامُّ المُطْلَق غيرُ
المشروط واجبًا لخلاص النفس أيْ للهِ فإنَّ قضية خلاص الدولة هي واحدة
من القضايا التي يجب لها منا إخلاصٌ محدودٌ ومشروط.
لكنْ على الرغم من أنَّ ريشليو اعتقدَ أنه مسيحي وبالتأكيد عن صدْقٍ
وحسْنِ نية فإنَّ نتيجتَه كانت مختلفةً كليًا. وكانت النتيجة هي أنَّ
الرجُلَ المسؤول عن خلاص الدولة ومرؤوسيه يجب عليهم استخدامُ جميع
الوسائل الفعالة لتحقيق هذه الغاية وبدون استثناء والتضحية من أجلها
عند الضرورة بأنفسهم وبمَلِيْكِهم وبالشعب وبالبلاد الأجنبية وبكل نوع
من الواجب.
إنه مذهب موراس
Maurras
مع عظَمة أكبرَ بكثير: "السياسة أولاً." لكنَّ موراسَ، بصورة منطقية
جدًا، ملحد. كان ذاك الكاردينال [ريشليو] يرتكبُ جريمةَ الوثنية عندما
كان يطرح شيئًا تكمن حقيقتُه كلُّها في هذا العالَم ويطرحه على أنه شيء
مُطْلَق. ومن جهة أخرى فإنَّ المعدنَ والحَجرَ والخشبَ ليست خطيرةً
فعلاً. إنَّ موضوعَ الجريمة الحقيقية للوثنية هو دائمًا شيء مشابه
للدولة.
وهذه هي الجريمة التي اقترحها إبليسُ على المسيح عندما قدَّمَ له
ممالكَ هذا العالَم. فرفضَ المسيحُ. وقَبِلَ ريشليو. وحصلَ على
مكافأته. لكنه اعتقد دائمًا أنه لا يتصرَّف إلاَّ عن إخلاص، وكان هذا
صحيحًا بمعنىً ما.
فإخلاصُه للدولة اقتلعَ فرنسا. فكانت سياستُه هي القتل المنظَّم لكل
حياة عفوية في البلد لكي يمنعَ أيَّ شيء من أنْ يعارضَ الدولةَ. وإذا
كان عملُه في هذا الاتِّجاه يبدو أنَّ له حدودًا فذلك لأنه كان في
البداية وأنه كان داهيةً بما يكفي لكي يبدأ العملَ بالتدريج. تكفي
قراءةُ إهداءات كورناي
Corneille
لكي يشعرَ المرءُ إلى أية درجة من الخنوع الدنيء عرفَ أنْ يحطَّ
العقولَ. فيما بعد، ولكي نُنقِذَ أمجادَنا القوميةَ من الخزي، خطرَ لنا
أنْ نقولَ بأنها ببساطةٍ كانت لغةَ التأدُّب والاحترام في ذاك العصر.
لكنَّ ذلك كذِبٌ. ولكي نقتنعَ ليس علينا إلاَّ أنْ نقرأَ كتاباتِ
تيوفيل دو ﭭـيو
Théophile de
Viau.
إنما تيوفيلُ ماتَ مبكِّرًا نتيجةَ سجْنٍ تعسُّفي بينما بلَغَ كورنايُ
من الكِبَرِ عـتِـيَّـًا.
ليس للأدب من فائدةٍ إلاَّ كإشارة، لكنها إشارة لا تخدع. تُظهِرُ لغةُ
الخنوع عند كورناي أنَّ ريشليو كان يريد استعبادَ العقول نفسِها، ليس
لشخصه، لأنه كان على الأرجح صادقًا في نكرانه لذاتِه، بل للدولة
المتمثِّلةِ به. كان بالأساس مفهومُه للدولة مفهومًا شموليًا. وقد
طبَّقَه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من خلال إخضاع البلد لنظام بوليسي
بمقدار ما كانت تسمح له وسائلُ عصرِه. وبذلك فقد دمَّرَ جزءًا كبيرًا
من الحياة المعنوية للبلد. وإذا كانت فرنسا قد خضعَت لهذا الاختناق
فذلك لأنَّ النبلاءَ كانوا قد خرَّبوها بالحروب الأهلية العبثية
والوحشية جدًا إلى درجة أنَّ فرنسا قبِلَتْ شراءَ السِّـلْم الأهلي
بهذا الثمن.
بعد انفجار [معارضة] الفروند
la Fronde
التي كانت تُنذِرُ في بداياتها وفي كثير من النقاط بـ[ثورة] 1789،
استقرَّ لويسُ الرابعَ عشرَ في السلطة بعقليةِ دكتاتورٍ أكثرَ منه
عاهلاً شرعيًا. وهذا ما يُعَبِّر عنه قولُه: "الدولةُ هي أنا". وليس
هذا فِكْرَ ملِك. لقد شرحَ مونتيسكيو ذلك جيدًا، بكلمات مبطَّنة. لكنَّ
الذي لم يكنْ يستطيع إدراكَه بعدُ في عصرِه هو أنَّ هناك مرحلتين في
سقوط المَلَكية الفرنسية. لقد تحوَّلَت المَلَكيةُ بعد شارل الخامس إلى
استبداد شخصي. لكن ابتداءً من ريشليو حلَّت محلَّها آلةُ الدولةِ ذاتُ
الاتِّجاهات الشمولية والتي لم تحافظْ فقط، كما قال ماركسُ، على
استمراريتها عبر جميع التغيُّرات، بل أتقنَت وسائلَها وكبُرَت عند كلِّ
تغييرٍ في النظام.
خلال ثورة الفروند وفي عهد مازاران
Mazarin،
تنفَّسَت فرنسا معنويًا على الرغم من الضِّيق العام. لقد وجدَها لويسُ
الرابعَ عشرَ مليئةً بالعبقريات اللامعة التي اعترف بها وشجَّعَها.
لكنه في الوقت نفسه أكملَ سياسةَ ريشليو بدرجة أشد بكثير. فأوصلَ بذلك
فرنسا في وقت قليل جدًا إلى فراغ معنوي، هذا ما عدا البؤسَ الماديَّ
الفظيع.
إذا قرأْنا سان-سيمون
Saint-Simon
ليس بصفة فضول أدبي وتاريخي، بل كوثيقة تحكي عن حياةٍ عاشها بَشَرٌ
بالفعل، فسيتملَّكُنا الهلعُ والقرفُ من شدة مللٍ قاتلٍ كهذا ومن
دناءةٍ عامةٍ جدًا في النفس والقلب والعقل. فـ"لابرويِّـيرُ"
la Bruyère
ورسائلُ ليزلوت
Liselotte
وجميعُ وثائقِ العصر تعطي الانطباعَ نفسَه إذا ما قُرِئت بالروح
نفسِها. وإذا عدنا في التاريخ إلى الوراء أكثر فلا بد أنْ نفكِّرَ
مثلاً بأنَّ موليير لم يكتبْ [مسرحيةَ] الـ"ميزانتروﭖ"
le Misanthrope
[كاره البشر [أو المجتمع]، المتوحش] للتسلية.
كان نظامُ حكم لويس الرابع عشر بالأساس شموليًا. وكان الرعبُ
والوشاياتُ تُدمِّرُ البلدَ. لقد نُظِّمَتْ وثنيةُ الدولةِ،
المتمثِّلةِ بالمَلِك، بتهوُّرٍ شكَّلَ تحدِّيًا لجميع الضمائر
المسيحية. لقد كان أصلاً فنُّ الدعاية معروفًا جدًا، كما يُظهِر
الاعترافُ الساذجُ لقائد الشرطة أمام ليزلوت
Liselotte
بشأن الأمر بعدم السماح بظهور أي كتاب حول أي موضوع إذا لم يكن يحتوي
على مدحٍ زائد للمَلِك.
خلال حكم هذا النظام، بلغَ اقتلاعُ الأقاليم الفرنسية وتدميرُ الحياة
المحلية درجةً مرتفعةً جدًا. كان القرنُ الثامن عشر فترةَ هدوء. ولم
يكنْ للعمليةِ التي استبدلَتْ فيها الثورةُ المَلِكَ بالسيادة القومية
سوى عيبٍ واحدٍ هو أنَّ السيادةَ القوميةَ ليس لها وجود. وكما هي
الحالُ بالنسبة لفَرَس رولان
Roland،
كان هنا يكمن عيبُها الوحيد. لم يكنْ هناك في الواقع أيةُ طريقةٍ
معروفةٍ لإيجاد شيء حقيقي يقابل هذه الكلماتِ. عندئذٍ لا يبقى إلاَّ
الدولةُ تتَّجهُ لصالحها بصورةٍ طبيعيةٍ الحماسةُ من أجل الوحدة –
"الوحدة أو الموت" – والمنبثقةُ حول عقيدةِ السيادة الوطنية. مما يؤدي
إلى تدميرات جديدة في مجال الحياة المحلية. وبمساعدة الحربِ – والحربُ
هي منذ البدءِ مُحرِّكُ التاريخ بِرُمَّـتِه – أصبحَت الدولةُ شموليةً
أكثرَ فأكثر تحت سيطرة الجمعية التأسيسية
la Convention
والإمبراطورية.
لقد عمِلَ لويسُ الرابع عشر على انحطاط الكنيسة الفرنسية بربطِها
بعبادة شخصِه وبفرض الطاعة عليها حتى بخصوص الدِّين. هذا الخنوعُ
للكنيسةِ أمام المَلِك كان له تأثيرٌ بالنسبة للكثيرين في معارضة
تدَخُّـلِ الإكليروس في الشؤون العامة في القرن التالي.
لكنْ عندما ارتكبَت الكنيسةُ الخطأَ الذي لا يُصلَح بربط مصيرها بمصير
المؤسسات المَلَكية فإنها قد انقطَعَت عن الحياة العامة. ولم يكنْ هناك
شيءٌ يمكنه أنْ يخدمَ بشكلٍ أفضلَ التطلُّعاتِ الشموليةَ للدولة. فكان
لا بد أنْ ينتجَ عن ذلك النظامُ العِلْمانيُّ [اللائكيُّ]، وهو تمهيدٌ
للعبادة التي يتم الإقرارُ بها للدولة كما هي مشهورة اليوم.
إنَّ المسيحيين هم بدون حمايةٍ ضد الفكر العلماني. لأنهم إمَّا أنْ
ينصرفوا بالكامل إلى العمل السياسي، العمل الحزبي، ليعيدوا السلطةَ
الزمنية إلى أيدي رجال الدين أو المحيطين برجال الدين؛ وإمَّا أنْ
يستسلموا فيصبحوا هم أنفسهم لادينيِّين في كل الجزء الدنيوي من حياتهم
الخاصة، وهذه هي الحالة اليوم عمومًا، وبدرجة أعلى بكثير حتى إنَّ
المَعْنيِّين هم أنفسهم غير واعينَ لذلك. وفي الحالتين تُهمَلُ وظيفةُ
الدين التي تقوم على إضفاء النور على مجمل الحياة الدنيوية العامة
والخاصة بدون السيطرة عليها على الإطلاق.
خلال القرن التاسع عشر، قامت السككُ الحديدية بأضرار فادحة رهيبة في
مجال الاقتلاع. كانت جورج صاند ما تزال ترى في [إقليم] لوبيرِّي
le Berry
عاداتٍ ربما يعود قِدَمُها إلى آلافِ آلاف السنين والتي لولا
التدويناتُ الموجَزةُ التي أخذَتْها صاندُ لكانت ذكراها قد ضاعت.
فقدانُ الماضي، الجمعي أو الفردي، هو المأساةُ الإنسانية الكبيرة، ونحن
قد رمَينا ماضيَنا كطفلٍ يمزِّقُ وردةً. إنَّ الشعوبَ لكي تتجنَّبَ هذه
الخسارةَ تُقاوِمُ الغزوَ حتى آخر رمق.
غيرَ أنَّ الظاهرةَ الشموليةَ للدولة يُشكِّـلُها الغزوُ الذي تقوم به
السلطاتُ العامةُ على الشعوب التي تكونُ هذه السلطاتُ مسؤولةً عنها
بدون أنْ تتمكَّنَ من تجنيب الشعوب المصائبَ التي تُرافِقُ أيَّ غزْوٍ،
وذلك بغيةَ امتلاك أفضل أداة للغزو الخارجي. هكذا جرت الأمورُ فيما مضى
في فرنسا ومؤخَّرًا في ألمانيا، هذا بدون ذِكْر روسيا.
إلاَّ أنَّ تطوُّرَ الحياةِ يستنزفُ البلدَ. وتأكل الدولةُ الجوهرَ
الأخلاقيَّ للبلد، وتعيش منه، وتسمن، إلى أنْ ينفدَ الغِذاءُ، مما
يوصلُها إلى الوهن من جَرَّاء المجاعة. وقد انتهى الأمرُ بفرنسا إلى
هذه الحالة. وفي ألمانيا، على العكس، فإنَّ مركزيةَ الدولةِ حديثةُ
العهد تمامًا، بحيث تمتلك الدولةُ فيها كلَّ الحيوية التي يقدِّمُها
فائضُ الغِذاء عالي الطاقة. أمَّا في روسيا فإنَّ الحياةَ الشعبيةَ
بلغَت فيها درجةً من الشدة جعلَتْنا نتساءل عمَّ إذا كان الشعبُ في
نهاية المطاف هو الذي سيأكل الدولةَ، أو بالأصحِّ هو الذي سيمتصُّها.
كانت الجمهوريةُ الثالثةُ في فرنسا شيئًا غريبًا تمامًا؛ وإحدى أغربِ
سِماتِها هي أنَّ كلَّ بُنْيَتِها، الخارجةِ حتى عن لعبة الحياة
البرلمانية نفسِها، مستقاةٌ من الإمبراطورية. إنَّ مَيلَ الفرنسيين
للمنطق التجريدي جعلَهم قابلين جدًا لأنْ تخدعَهم المجاملاتُ. لقد كان
للإنكليز مملكةٌ ذاتُ محتوىً جمهوريٍّ؛ وكان لنا جمهوريةٌ ذاتُ محتوىً
إمبراطوري. حتى إنَّ الإمبراطوريةَ نفسَها كانت ترتبطُ، فيما يتعدَّى
الثورةَ، بعلاقات متواصلة، بالمَلَكية؛ ليس بالمَلَكية الفرنسية
القديمة، بل بالمَلَكية الشمولية البوليسية للقرن السابع عشر.
كانت شخصيةُ فوشيه
Fouché
رمزًا لهذه الاستمرارية. لقد عاش جهازُ القمع في الدولة الفرنسية عبر
جميع التغيرات حياةً من دون اضطراب ولا توقُّف، بقدرة عملٍ متزايدة.
بنتيجة ذلك ظلَّت الدولةُ في فرنسا مَحَطَّـًا للأحقاد وللضغائن
وللكراهية التي أثارَتْها فيما مضى مَلَكيةٌ انقلبَت إلى استبداد. لقد
عشنا هذا التناقضَ الذي جعلَتْنا غرابتُه لا نتمكَّنُ حتى من إدراكه:
ديمقراطية كان فيها جميعُ السكان يكرهون ويحتقرون صراحةً جميعَ
المؤسسات العامة وكلَّ ما يتعلَّق بها.
لم يكنْ أيُّ فرنسيٍّ يتورَّعُ أبدًا عن سرقةِ الدولة أو النصبِ عليها
فيما يخصُّ الجماركَ أو الضريبةَ أو الإعاناتِ أو في أي مجال آخر. يجب
استثناءُ بعض أوساط الموظَّفين؛ لكنهم كانوا هم أيضًا جزءًا من الجهاز
الحكومي. وإذا كان البرجوازيون قد تفوَّقوا كثيرًا على باقي البلد في
عمليات من هذا القبيل فذلك فقط لأنَّ فُرَصًا كثيرةً جدًا كانت متاحةً
لهم. والشرطةُ في فرنسا هي محطُّ ازدراء عميق إلى درجة أنَّ هذا
الشعورَ بالنسبة لكثير من الفرنسيين يشكِّلُ جزءًا من البُنْية
الأخلاقية الدائمة للإنسان الشريف. إنَّ [شخصية] غينيول
Guignol
[دمية في مسرح العرائس] هي من الفُلْكلور الفرنسي الحقيقي ويرجع
تاريخُها إلى النظام القديم ومازالت حيةً لم يَعْفُ عليها الزمنُ.
تشكِّلُ صفةُ "شرطي" في الفرنسية إحدى الشتائم الأكثر قسوةً والتي من
الفضول معرفةُ إنْ كان يوجد لها مترادفاتٌ في لغات أخرى. غيرَ أنَّ
الشرطةَ ليست سوى جهازِ عملِ السلطات العامة. لقد بقيَت مشاعرُ الشعب
الفرنسي إزاءَ هذا الجهاز هي المشاعر نفسها التي كانت عندما كان
الفلاحون مجبَرين، كما لاحظَ روسو، على إخفاء ما كانوا يمتلكونه من
قليلٍ من الجَمْبون.
كذلك كانت كلُّ لعبة المؤسسات السياسية محطَّ كراهيةٍ وسخرية وازدراء.
حتى إنَّ كلمةَ "سياسة" نفسَها قد أُثقِلَت وشُحِنَت بمعنىً تحقيري
شديد لا يصدَّق في الديمقراطية. "إنه متعاطي السياسة"،
"كلُّ هذا من قبيل السياسة"؛
كانت هذه الجُمَلُ تُعَبِّرُ عن إدانات قطعيَّة. وحتى في مهنة
البرلماني – لأنها كانت مهنةً – كان هناك شيءٌ معيبٌ في نظر جزء من
الفرنسيين. وكان بعضُ الفرنسيين فخورين بامتناعهم عن أي تواصُلٍ مع ما
كانوا يسمُّونه "السياسة"، باستثناء يوم الانتخابات، أو من جملتها هذا
اليوم أيضًا؛ والبعضُ الآخر كانوا ينظرون إلى نائبهم كأنه نوع من
الخادم، كائن مخلوق ومولود ليخدمَ مصلحتَهم الخاصة. كان الشعورُ الوحيد
الذي يخفِّفُ من ازدراء الأعمال العامة هو الروح الحزبية عند هؤلاء
الذين على الأقل أصابهم هذا المرضُ بالعدوى.
نبحث عبثًا عن مظهر من مظاهر الحياة العامة يكون قد أثار لدى الفرنسيين
أقلَّ شعورٍ بالإخلاص أو الامتنان أو المودَّة. في زمان الحماسة
العلمانية الغابر كان هناك تعليم؛ ولكنْ منذ وقت طويلٍ لم يعُدِ
التعليمُ في نظر الأهل كما في نظر الأولاد سوى آلةٍ تُزوِّد بالشهادات،
أيْ بالوظائف. أمَّا القوانين الاجتماعية فلم يَنظرْ إليها الشعبُ
الفرنسيُّ، بمقدار رضاه عنها، كشيء آخر غير امتيازاتٍ ينتزعها كرهًا من
السلطات العامة عن طريق ضغط عنيف.
لم يكنْ هناك أيةُ فائدةٍ تُغْني عن الفائدة التي تفتقر إليها الأعمالُ
العامة. لقد آلَ كلُّ نظام من الأنظمة المتعاقبة إلى الزوال في آخر
الأمر عندما دَمَّرَ الحياةَ المحلية والإقليمية بإيقاع سريعٍ جدًا.
كانت فرنسا أَشْبهَ بهؤلاء المرضى الذين أصبحَت أعضاؤهم باردةً ومازال
قلبُهم فقط يخفق. ولم يكنْ هناك نبضُ حياةٍ في أي مكان باستثناء باريس؛
فابتداءً من الضواحي التي كانت تحيط بالمدينة بدأ الموتُ النفسيُّ يلقي
بثقلِه.
في هذا العصر الذي يبدو في الظاهر هادئًا قبل الحرب، كان الضجرُ في
المدن الصغيرة من الريف الفرنسي يشكِّل ربما قسوةً حقيقيةً كالفظاعات
الواضحة للعيان. فهناك كائناتٌ بشرية محكومٌ عليها بقضاء هذه السنواتِ
الاستثنائيةِ التي لا يمكن استبدالُها في ضجرٍ كئيب من المهد إلى
اللحد، أليس ذلك فظيعًا كالجوع أو المَجازر؟ إنَّ ريشليو هو الذي بدأَ
بإلقاء هذه الضبابة من الضجر على فرنسا فأصبحَ منذ ذلك الحين جوُّها
خانقًا ومازال يزداد سوءًا باستمرار. وقد بلغَ في وقت الحرب درجةَ
الاختناق.
إذا كانت الدولةُ قد قتلَت معنويًا كلَّ ما كان أصغرَ منها من الناحية
الإقليمية فإنها قد حوَّلَت أيضًا الحدودَ الإقليميةَ إلى جدرانِ سجْنٍ
لسَجْنِ الأفكار. عندما ننظرُ إلى التاريخ عن كثَبٍ وخارجَ نطاق
الكُتُبِ التعليمية فإننا سوف نندهشُ من رؤية بعض العصور شبْهِ
المجرَّدةِ من وسائل الاتِّصالات المادية تتجاوَزُ عصرَنا أيَّما
تجاوُزٍ في الغِنى والتنوُّعِ والخصوبة وقوَّةِ الحياة في تبادُل
الأفكار عبر أوسعِ الأقاليم. وهذا هو حالُ القرون الوسطى والعصور
القديمة ما قبْلَ الرومانيةِ والفترة التي سبقَت مباشرةً العصورَ
التاريخيةَ. في أيامنا هذه، ومع وجود البرق والهاتف والراديو والطيران
ومع تطوُّر جميع أنواع وسائل النقل والطباعة والصحافة، فإنَّ الظاهرة
الحديثة للأمَّة تخفي بداخل حُجُراتٍ صغيرةٍ ومنفصلةٍ أيضًا شيئًا
يشبهُ بصورةٍ طبيعيةٍ العِلْمَ في عالميتِه. ليست الحدودُ بالطبع
عصيَّةً على الاجتياز؛ ولكنْ مثلما أنَّ اجتيازَها من أجل السفر
يتطلَّبُ إجراءاتٍ شكليةً مملَّةً وشاقةً ولانهائيةً، كذلك فإنَّ أيَّ
اتِّصالٍ مع فكرة أجنبية في أي مجال يتطلَّبُ جهدًا عقليًا لاجتياز
الحدود. وهذا جهدٌ هائل، وكثيرٌ من الناس لا يرضى أنْ يقدِّمَه. وحتى
عند الذين يقدِّمونه فإنَّ واقعَ كونِ الجهد لا بدَّ منه حتمًا
يَحُوْلُ دونَ أنْ يكونَ بالإمكان عقدُ روابطَ أساسيةٍ فيما يتجاوزُ
الحدودَ.
صحيحٌ أنَّ هناك كنائسُ وأحزابٌ دولية. لكنْ أمَّا الكنائسُ فإنها
تُظهِرُ الفضيحةَ التي لا يمكن التغاضي عنها وهي أنْ يقومَ الكهنةُ
والمؤْمنون ويطلبون من الله في وقت واحد ومن خلال شعائرَ واحدةٍ
وكلماتٍ واحدة ولا بد أنْ نفترِضَ درجةً واحدةً من الإيمان وصفاء القلب
يطلبون النصرَ العسكريَّ لأحد المعسكَرَينِ المتعادِيَينِ. هذه
الفضيحةُ تعود إلى تاريخ بعيد؛ لكنَّ الحياةَ الدينية في عصرنا تابعةٌ
لحياة الأمَّة أكثرَ من أي وقت مضى. وأمَّا الأحزابُ فإمَّا أنَّ
صِفتَها الدوليةَ وهْمٌ وخيالٌ وإمَّا أنَّ نزعتَها الدوليةَ
internationalisme
تأخذُ شكْلَ التبعية التامة لأمَّةٍ ما.
أخيرًا فقد قضت الدولةُ أيضًا على جميع الروابط التي كان بإمكانها أنْ
تُقدِّمَ، خارجَ إطار الحياة العامة، توجُّهًا نحو الإخلاص. وبمقدار ما
شجَّعَت الثورةُ الفرنسيةُ التقدُّمَ التقنيَّ من خلال إلغائها
للاتِّحادات الحِرَفية فقد أساءت معنويًا أو على الأقل كرَّسَت وأكملَت
شرًا كان قد أُنجِزَ بصورة جزئية. ولا يسَعُنا إلاَّ أنْ نُردِّدَ
ونُرَدِّدَ أنَّ ما نتكلَّمُ عنه اليومَ، عندما نستخدم هذه الكلمةَ، في
أيِّ وسطٍ كانَ، لا علاقةَ له البتَّةَ بالاتِّحادات المهنية.
عندما اختفت الاتِّحاداتُ المهنيةُ أصبحَ العملُ في الحياة الفردية
للبشر وسيلةً غايتُها المقابِلةُ هي المال. هناك في مكان ما من النصوص
التأسيسية لعصبة الأمم جملةٌ تؤكِّد أنَّ العملَ الآن لم يعدْ سلعةً.
وكانت هذه مزْحةً غيرَ مستساغة أبدًا. إننا نعيش في عصرٍ كان فيه كثيرٌ
من الناس الطيِّبين، والذين يظنُّون أنهم بعيدون كلَّ البعد عما كان
يسمِّيه ليـﭭـي-برول
Lévy-Bruhl
بالعقلية السابقةِ للمنطق، قد اعتقدوا بالتأثير السحري للكلام أكثرَ
بكثيرٍ من أي متوحِّشٍ قادم من أعماق أستراليا. عندما يَسحبون من
التداول التجاري منتَجًا لا يمكن الاستغناءُ عنه فإنهم يفكِّرون بطريقة
جديدة لتوزيعه. لا شيءَ من هذا القبيل يفكَّرُ به من أجل العمل الذي
بقي بالطبع سلعةً.
وعليه فإنَّ الوعي المهنيَّ هو ببساطةٍ شكْلٌ من أشكال النزاهة
التجارية. ففي مجتمع يقوم على التبادلات يقع الثقلُ الأكبر للاستنكار
الاجتماعي على السرقة والاحتيال، وخاصةً على الاحتيال الذي يقوم به
تاجرٌ عندما يبيع بضاعةً فاسدةً مؤكِّدًا أنها صالحة. كذلك الأمر عندما
يباع العملُ فإنَّ النزاهةَ تقتضي أنْ تُقدَّم سلعةٌ ذاتُ نوعيةٍ
تتناسبُ مع السعر. لكنَّ النزاهة ليست الإخلاصَ. فبين هاتين
الفضيلتَينِ بَونٌ شاسع.
هناك عنصر قويٌّ من الإخلاص في الصحبة العمالية التي كانت لزمن طويل
المحرِّكَ السائد للحياة العمالية. لكن عدة عقبات منعَت هذا الإخلاصَ
من أنْ يشكِّلَ دعمًا متينًا للحياة الفاضلة. فمن جهةٍ امتدَّت
المِركنتيلية [الاتِّجارية]
mercantilisme
للحياة الاجتماعية أيضًا إلى الحركة العمالية، وذلك بوضع القضايا
المادية في الدرجة الأولى؛ غير أنه كلما سيطرَت همومُ المال غابت روحُ
الإخلاص. ومن جهةٍ أخرى، بمقدار ما تكون الحركةُ العمالية ثوريةً فإنها
تنجو من هذا المَطَبِّ، لكنها تصاب بالضعف الملازم لكل تمرُّد.
يقول ريشليو، الذي كانت بعضُ ملاحظاته دقيقةً بصورة خارقة، بأنه تأكَّد
بالتجربة من أنَّ المتمردين، بغضِّ النظر عن بعض الاستثناءات، كانوا
دائمًا أقلَّ قوةٍ بمقدار النصف من قوة المدافعين عن السلطة الرسمية.
وحتى إذا كان المرء يعتقد بأنه يدافع عن قضية عادلة فإنَّ شعورَه بأنه
متمرد يضعفه. ولولا وجود مثل هذه الآلية النفسية لما كان بالإمكان وجود
أي استقرار في المجتمعات البشرية. هذه الآليةُ تفسر نفوذَ الحزب
الشيوعي. فالعمالُ الثوريون كانوا سعداء جدًا بوجود دولةٍ خلْفَهم –
دولةٍ تعطي عملَهم هذه الصفةَ الرسميةَ وهذه الشرعيةَ وهذه الواقعيةَ
التي لا تمنحها إلاَّ الدولةُ، دولةٍ تكون متوضِّعةً في مكان بعيد عنهم
جغرافيًا حتى لا تُوهِنَ عزيمتَهم. وبالطريقة نفسها فإنَّ
الموسوعيين
Encyclopédistes،
الذين كانوا متضايقين في العمق من كونهم في نزاع مع ملِكهم، كانوا
يتعطَّشون إلى رعاية ملوك ﭙـروسيا وروسيا. يمكننا أيضًا أنْ نفهمَ
قياسًا على ذلك أنَّ المناضلين العمال، الثوريين إلى حد ما، والذين
كانو قد قاوموا نفوذَ روسيا لم يتمكَّنوا من منع أنفسِهم من الاستسلام
لنفوذ ألمانيا.
وعدا أولئك الذين كرَّسوا أنفسَهم بالكامل للحزب الشيوعي فإنَّ العمالَ
لم يتمكنوا من أنْ يجدوا في الإخلاص لطبقتهم هدفًا دقيقًا وواضحًا
ومحددًا بما يكفي ليحصلوا منه على الاستقرار الداخلي. فمفهوم الطبقة
الاجتماعية هو من المفاهيم القليلة الغامضة غير المحدَّدة. ولم يحاولْ
ماركسُ الذي أسَّسَ كلَّ منهجه عليها أنْ يُعرِّفَها أبدًا ولا حتى
ببساطةٍ أنْ يَدْرسَها. المعلومةُ الوحيدة التي يمكن استخلاصُها من
أعماله والتي تخصُّ الطبقاتِ الاجتماعيةَ هي أنَّ هذه الطبقاتِ أشياء
تُصارِع. ليس هذا كافيًا. وليس هذا المفهومُ أيضًا واحدًا من تلك
المفاهيم التي تكون واضحةً للفكر دون الحاجةِ إلى تحديدها بالكلمات.
إنَّ تصوُّرَه أو الشعورَ به من دون تعريف لأصعبُ بكثيرٍ من تعريفه.
كما أنَّ الإخلاصَ الذي يشتمل عليه الانتماءُ الديني لا يُعوَّلُ عليه
كثيرًا في الحياة الحديثة نظرًا لغرابته. وعلى الرغم من الفوارق
البديهية والهائلة فإنَّ نظامَ الكنيسةِ الوطنيةِ الإنكليزيَّ ونظامَ
فصلِ الكنائس عن الدولةِ الفرنسيَّ يُحدِثان كلاهما تأثيرًا في اتِّجاه
مماثل. فقط يبدو النظامُ الثاني أكثرَ هدمًا.
لقد أُعلِنَ الدينُ مسألةً شخصية. وحسب عاداتِ التفكير الحالية، لا
يعني ذلك أنَّ مستقرَّ الدين هو خافية النفس، في هذا المكان المختفي في
الأعماق حيث لا يلج إليه حتى ضميرُ أيِّ إنسان. ولكنَّ هذا لا يعني
أنَّ الدِّينَ مسألةُ خيار، مسألة اعتقاد، مسألة ذوق، مسألةُ هوىً
ورغبةٍ، شيءٌ أشبهُ باختيار حزب سياسي أو حتى باختيار ربطة عنق؛ أو أنه
أيضًا قضية عائلية، قضية تربوية، مسألة محيط. ولكونه أصبحَ أمرًا
شخصيًا خاصًا فإنه قد فقدَ السمةَ الإلزاميةَ الخاصة بالشؤون العامة،
وبالتالي لم يعدْ له من حقٍّ ثابت في الإخلاص.
كثير من الأقوال الكاشفة تُظهِر أنَّ الأمر هو على هذا النحو. فكم من
مرةٍ نسمع مثلًا هذه العبارةَ المبتذلة تُردَّدُ: "نحن الكاثوليكَ أو
البروتستانتَ أو اليهودَ أو المفكرين الأحرارَ جميعًا فرنسيون"، وكأنَّ
الأمرَ يتعلَّق تمامًا بأجزاء إقليمية من البلاد، وكأننا نقول: "سواءً
كنا من مرسيليا أو من ليون أو من باريس فإننا جميعًا فرنسيون." وفي
نصوص صادرة عن البابا يمكن أنْ نقرأَ: "ليس فقط من وجهة نظر مسيحية، بل
بصورة أعم من وجهة نظر إنسانية..."؛ وكأنَّ وجهةَ النظر المسيحية، التي
هي إمَّـا لا معنى لها البتَّةَ وإمَّـا تريد الإحاطةَ بكل الأشياء في
هذا العالَم وفي العالَم الآخر، كانت درجةُ عموميتها أو شموليتها أقلَّ
من وجهة النظر الإنسانية. لا يمكن تصور اعتراف بالإفلاس أفظع من ذلك.
هذه هي الطريقة التي تُشترى بها "اللعناتُ"
« anathema sit ».
وفي نهاية المطاف، اقتصرَ الدينُ، الذي انحطَّ إلى مستوى الشأن الشخصي،
على اختيار مكانٍ يذهب إليه المؤْمنُ ليقضيَ ساعةً أو ساعتين صباحَ
الأحد.
ما هو مضحك هنا هو أنَّ الدِّينَ، أيْ: علاقة الإنسان بالله، لم
يُنظَرْ إليه اليومَ على أنه شيء أقدس من أنْ تتدخَّـلَ فيه أيةُ سلطة
خارجية، لكنه صُنِّفَ في عِداد الأشياء التي تتركها الدولةُ لرغبة كل
فرد وهواه، مثلما هو بالنسبة للشؤون العامة، باعتباره لا أهميةَ له.
على الأقل كان الأمر على هذا النحو في ماض قريب. هذا هو المعنى الحالي
لكلمة "تسامح".
وهكذا ليس هناك أي شيء غير الدولة يمكن ربطُ الإخلاص به. ولذلك لم
يُرفَضِ الإخلاصُ للدولة حتى عام 1940. لأن الإنسان يشعر بأن الحياة
الإنسانية بدون إخلاص ستكون شيئًا فظيعًا. فمن بين الانحطاط العام
لجميع الكلمات في المفردات الفرنسية التي لها علاقة بالمفاهيم
الأخلاقية، لم تفقدْ كلمتا "خائن" و"خيانة" شيئًا من قوَّتهما. يشعر
الإنسانُ أيضًا بأنه وُلِدَ للتضحية؛ ولم يعد هناك في المخيِّلة العامة
من شكْل آخر للتضحية غير التضحية العسكرية، أيْ: التضحية المقدَّمة
للدولة.
كان الأمر يتعلق فقط بالدولة. فوهمُ الأمة، بالمعنى الذي كان يعطيه
رجالُ عام 1789 وعام 1792 لهذه الكلمة، الذي كان يجعل في ذلك الوقت
دموعَ الفرح تُذْرَف، صار من الماضي الذي أُلغيَ تمامًا. وكلمة "أمة"
نفسها كانت قد تغيَّر معناها. ففي عصرنا، لم تعد تشير إلى الشعب ذي
السيادة، بل إلى مجمل السكان الذين يعترفون بسلطة دولة واحدة؛ فهي
البنية الهندسية التي تتكوَّن من الدولة ومن البلد الذي تسيطر عليه
الدولة. وعندما نتكلم عن سيادة الأمة اليوم فإن ذلك يعني فقط سيادةَ
الدولة. ولو كان هناك حوار بين أحد معاصرينا وبين رجل من عام 1792
لأدَّى كثيرًا إلى سوء فهمٍ مضحك. غير أن الدولة التي نتكلم عنها ليست
الشعب صاحبَ السيادة، وليس هذا فحسب، بل إنها أيضًا وبصورة مطابقة هي
نفسها الدولة اللاإنسانية والوحشية والبيروقراطية والبوليسية التي
أورثها ريشليو إلى لويس الرابع عشر وأورثها لويسُ الرابع عشر إلى
الجمعية التأسيسية
la Convention
وأورثَتْها الجمعيةُ التأسيسية إلى الإمبراطورية وأورثَتْها
الإمبراطوريةُ إلى الجمهورية الثالثة. لا بل إن الدولة معروفة بالفطرة
على هذا النحو ومكروهة على هذا النحو.
وهكذا رأينا هذا الشيءَ الغريبَ، دولةً، محطَّ حقد وكراهية وسخرية
وازدراء وخوف، قد طالبَت تحت اسم الوطن بالإخلاص المطلق وبالتفاني
التام وبالتضحية القصوى وحصلَت على ذلك منذ عام 1914 حتى 1918 بدرجة
تجاوزَت كلَّ التوقعات. كانت تطرح نفسها كمطلق في هذه الدنيا، أي
كموضوع للعبادة؛ وقُبِلَتْ وخُدِمَتْ على هذا الأساس، وشُرِّفَت بكمية
هائلة من التضحيات البشرية. عبادةٌ بلا حب، أيُّ شيء أفظع من هذا وأكثر
حزنًا؟
عندما يذهب شخصٌ ما في تفانيه أبعدَ بكثير مما يدفعه قلبُه فسيحصل
حتمًا بالنتيجة ردُّ فعل عنيف، نوعٌ من التفريغ في العواطف. وهذا
يَظهَر غالبًا في العائلات عندما يحتاج مريض إلى عناية تتجاوز مظاهرَ
المرض التي يوحي بها. فيصبح هدفًا لكراهية مكبوتة لأنها غير مباح بها،
بل حاضرة دائمًا كسمٍّ خفي.
حصل الشيءُ نفسه بين الفرنسيين وفرنسا بعد عام 1918. فقد أعطوها أكثر
مما ينبغي. أعطوها أكثرَ مما في قلوبهم تجاهها.
إن كل تيار الأفكار اللاوطنية السلمية ذات النزعة الدولية بعد عام 1918
أعلن انتماءه إلى قتلى الحرب والمحاربين القدامى؛ أما بالنسبة لهؤلاء
فقد كان [التيار] منبثقًا بالفعل من أوساطهم إلى حد كبير. لقد كان هناك
أيضًا في الحقيقة رابطات للمحاربين القدامى شديدي الوطنية. إلاَّ أن
التعبير عن وطنيتهم كان أجوفَ وتنقصه فعلًا القوةُ الإقناعية. كان يشبه
لغةَ الناس الذين يُحِسُّون باستمرار، لشدة ما عانوا، أنهم بحاجة لأنْ
يتذكروا أنهم لم يعانوا عبثًا. لأنَّ آلامًا كبيرة جدًا مقارنةً بنزوات
القلب يمكن أن تدفعَ إلى أحد الموقفين: إما أنْ ننبذَ بعنفٍ الذي
أعطيناه عطاءً أكثرَ مما ينبغي وإما أن نتعلق به بنوع من اليأس.
لا شيء يسيء إلى الوطنية أكثر من تكرار الترديد حتى الملل للدور الذي
قامت به الشرطةُ خلف ساحات المعركة. لم يكن بإمكان شيء أن يجرحَ
الفرنسيين أكثر من إجبارهم على أن يكتشفوا أن وراء الوطن تقف هذه
الدولةُ البوليسية التي هي الموضوع التقليدي لكراهيتهم. في الوقت نفسه
فإنَّ مقتطفاتٍ من الصحافة غير المألوفة قبل عام 1918، والتي أعيدت
قراءتها فيما بعد ببرودة أعصاب وباشمئزاز والتي كانت قريبةً جدًا من
هذا الدور البوليسي، كانت تعطيهم الانطباعَ بأنهم خُدِعوا. لا يعني
شيئًا أنْ يكونَ الفرنسيُّ أقلَّ قدرة على المسامحة. فعندما فقدَت
الكلماتُ نفسُها التي كانت تعبِّر عن الشعور الوطني قيمتَها تحوَّلَ
هذا الشعورُ بمعنىً ما إلى فئة المشاعر المخجلة. لقد مرَّ وقتٌ ليس
ببعيد كان فيه التعبير عن الشعور الوطني في الأوساط العمالية أو على
الأقل في بعضها قد بدا ربما وكأنه إخلال بالآداب.
تؤكد أقوالُ شهود متطابقة أن الأشخاص الأكثر شجاعة عام 1940 كانوا
المحاربين القدامى في الحرب الماضية. لا بد فقط أن نستنتج منذ ذلك أن
ردود أفعالهم فيما بعد عام 1918 كان لها تأثير أعمق على نفوس الأطفال
المحيطين بهم أكثر منها على نفوسهم. إنها ظاهرة شائعة جدًا وسهلة على
الفهم. فالذين كانوا يبلغون من العمر ثمانية عشرة سنة عام 1914 كان
طبعهم قد تشكَّل خلال السنوات السابقة.
قيل إن المَدْرسة في بداية العصر قد كوَّنَت شبيبةً للنصر وإن مَدْرسة
ما بعد عام 1918 قد صنعت جيلًا من المهزومين. لا ريب أن في ذلك كثيرًا
من الحق. لكنَّ معلِّمي المَدْرسة بعد عام 1918 كانوا من المحاربين
القدامى. وكثير من الأطفال الذين كانوا يبلغون من العمر عشر سنوات بين
عامَي 1920 و1930 كان يُدرِّسهم مدرِّسون قد شاركوا في الحرب.
إذا كانت فرنسا قد عانت من تأثير ردة الفعل أكثر من بلدان أخرى فذلك
مردُّه إلى وجود اقتلاع أكثر حدةً مرتبطٍ بمركزية في الدولة أقدم وأشد
وبالتأثير المثبِّط للنصر وبالحرية الممنوحة لجميع الدعايات.
كان هناك أيضًا خَرْق للتوازن، وتعويض بالقطيعة في الاتجاه المعاكس،
حول مفهوم الوطن في نطاق الفكر المحض. وبما أن الدولة ظلَّت، وسطَ فراغ
تام، الشيءَ الوحيدَ المؤهَّل ليطلبَ من الإنسان الإخلاصَ والتضحيةَ
فإن مفهوم الوطن كان يُطرح كمفهوم مطلق في الفكر. كان الوطنُ خارجَ
نطاق الخير والشر. وهذا ما يعبِّر عنه المثلُ الإنكليزي: "على صواب أم
على خطأ، يبقى وطني". لكننا نبالغ غالبًا. فلا نقبل أنه من الممكن أن
يكون الوطنُ على خطأ.
مهما كان ميل البشر من جميع الأوساط قليلًا إلى القيام بجهد الدراسة
النقدية فإن عبثيةً صارخة، حتى وإن لم يعترفوا بها، تضعهم في حالة قلق
يُضعِف النفسَ. وليس هناك في العمق شيء أكثر امتزاجًا بالحياة
الإنسانية المشتركة واليومية من الفلسفة، ولكنْ فلسفة ضمنية غير ظاهرة.
إن طرح مفهوم الوطن كمفهوم مطلق لا يدنِّسه الشرُّ هو عبث صارخ. الوطن
هو اسم آخر للأمة؛ والأمة هي مجموع أقاليم وسكان تجمعهم أحداثٌ تاريخية
تُساهم فيها المصادفةُ مساهمةً كبيرة، بمقدار ما يمكن للعقل البشري أن
يقدِّرَ ذلك، ويختلط فيها دائمًا الخيرُ والشر. الأمة هي واقع، والواقع
ليس مطلقًا. إنها واقع من بين وقائع أخرى مشابهة. هناك أكثر من أمَّة
على سطح الأرض. ولا ريب في أن أمَّتنا فريدة. لكن كل أمة من الأمم
الأخرى، إذا ما نُظِرَ إليها في ذاتها وبمحبة، هي أمة فريدة بالدرجة
نفسها.
كان من الدارج قبل عام 1940 الكلامُ عن "فرنسا الخالدة". هذه الكلمات
هي نوع من التجديف. ونحن مضطرون لأن نذكر عن ذلك صفحاتٍ كثيرةً مؤثرة
جدًا كتبَها كُتَّابٌ فرنسيون كاثوليكيون حول رسالة فرنسا والخلاص
الأبدي لفرنسا ومواضيع أخرى مشابهة. كان ريشليو يرى بصورة أكثر صوابًا
عندما كان يقول بأن خلاص الدول لا يتم إلاَّ هنا على الأرض. وفرنسا هي
شيء زمني ودنيوي. إذا لم أخطئ فإنه لم يُذكَر أبدًا أن المسيح مات
ليخلِّص أممًا. إن فكرة أمة يدعوها الله كأمة لا تعود إلاَّ إلى
الشريعة القديمة.
والأقدمون الذين يسمَّون بالوثنيين لم يرتكبوا على الأغلب أبدًا خطًا
جسيمًا كهذا. كان الرومان يعتقدون أنفسهم مختارين ولكن فقط لسيطرة
دنيوية. فالعالَم الآخر لم يكن يعنيهم. ولم يظهر في أي مكان أيةُ مدينة
ولا أي شعب اعتقد نفسه أنه مختار لمصير فوق طبيعي. والأسرارُ التي كانت
تشكِّل إلى حد ما المنهجَ الرسمي للخلاص، كالكنائس اليوم، كانت مؤسساتٍ
محلية؛ ولكن كان يُعترَف بأنها متساوية فيما بينها. يصف أفلاطونُ كيف
يخرج الإنسانُ الذي تُـعِيْـنُه النعمةُ من كهف هذا العالَم؛ لكنه لم
يقلْ بإمكانية خروج مدينة ما. بل على العكس، يصوِّر الجماعةَ كشيء
حيواني يعيق خلاصَ النفس.
يُتَّهم الأقدمون غالبًا بعدم تمكُّنِهم من الاعتراف بقيم إلاَّ القيم
الجماعية. وفي الحقيقة، لم يرتكب هذا الخطأَ إلاَّ الرومانُ الذين
كانوا ملحدين والعبريون حتى السبي البابلي فقط. ولكن إذا أخطأنا
بإلصاقنا ذاك الخطأ بالأقدمين قبل التاريخ المسيحي فإننا أخطأنا أيضًا
بعدم الاعتراف بأننا نرتكبه باستمرار، بعد أنْ أفسدَنا التقليدُ
المزدوجُ الرومانيُّ والعبريُّ الذي ينتصر غالبًا جدًا على الإلهام
المسيحي الصافي فينا.
يُربِكُ المسيحيين اليوم أن يعترفوا، إذا ما أُعطيَت كلمةُ "الوطن"
أقوى معنىً ممكنٍ لها، معنىً كاملٍ، بأنَّ المسيحيَّ ليس له سوى وطنٍ
واحد يقع خارج هذا العالَم. لأنه ليس له سوى آب واحد يسكن خارج هذا
العالم. "اكنزوا لكم كنوزًا في السماء... لأنه حيث تكون كنوزُكم يكون
قلبُكم." ممنوعٌ إذًا أنْ يكونَ قلبُ المرء في هذه الأرض.
ولا يحب المسيحيون اليوم أن يطرحوا مسألةَ الحقوق الخاصة بكل من الله
وبلدانهم على قلوبهم. لقد ختمَ الأساقفةُ الألمانُ أحدَ احتجاجاتهم
الأكثر جرأةً بقولهم إنهم يأبون قطعًا الاختيارَ بين الله وألمانيا.
ولماذا يأبون ذلك؟ يمكن دائمًا أن تحصل ظروف تتطلَّب الاختيارَ بين
الله وبين أي شيء دنيوي، ويجب ألاَّ يكون في الخيار شك أبدًا. لكن
الأساقفة الفرنسيين لا بد أن يكونوا قد تمسَّكوا باللغة نفسها. لم تكن
شعبيةُ جان دارك على مر الربع الأخير من القرن شيئًا صحيًا تمامًا؛
كانت وسيلةً مريحة لنسيان أن هناك فرقًا بين فرنسا وبين الله. مع ذلك،
لم يجعلْ هذا الجبنُ الداخلي أمام هيبة فكرة الوطن الوطنيةَ أكثرَ
قوةً. كان تمثالُ جان دارك موضوعًا بطريقة تلفت الأنظارَ في جميع كنائس
البلد خلال هذه الأيام الرهيبة التي تخلَّى فيها الفرنسيون عن فرنسا.
"إنْ كان أحدٌ يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمَّه وامرأتَه وأولادَه
وإخْوتَه وأَخَواتِه حتى
نفسَه أيضًا فلا يقدر أنْ يكونَ لي تلميذًا."
إذا كان من المفروض أنْ يبغضَ المرءُ كلَّ هؤلاء، بأحد معاني كلمة
"بغَضَ"، فإنه ممنوع بالتأكيد أن يحبَّ المرءُ بلدَه، بأحد معاني كلمة
"أحبَّ". لأن الموضوع الخاص بالحب هو الخير، و"الله وحده الخير".
هذه بديهيات، ولكن بنوع من السحر الأسود أصبحَت مجهولةً تمامًا في
عصرنا. وإلاَّ لكان من المستحيل لرجل مثل الأب دو فوكو
الذي اختار أن يكون بدافع البِرِّ والمحبة من شهود المسيح بين سكان غير
مسيحيين أنْ يظنَّ في الوقت ذاته لنفسه الحق بتزويد المكتب الثاني [فرع
مخابرات الجيش] بمعلومات عن هؤلاء السكان أنفسهم.
يبدو من المفيد لنا التأمل في الكلمات الرهيبة التي قالها إبليسُ
للمسيح وهو يشير إلى جميع ممالك هذا العالَم ويقول بشأنها: "كلُّ سلطان
دُفِعَ لي."
ولم يستثْنِ أيةَ مملكة.
إنَّ ما لم يصدم المسيحيين قد صَدمَ العمالَ. هناك تقليد حديث العهد لم
يمتْ بعد نهائيًا يجعل من حب العدالة المُلهِمَ الرئيسي للحركة
العمالية الفرنسية. وكان في النصف الأول من القرن العشرين حبًا متأججًا
يدافع عن مظلومي العالَم أجمع.
مادام الوطن شعبًا مؤلَّفًا من أمة ذات سيادة فلن تُطرح أيةُ مشكلة حول
روابطه بالعدالة. لأننا كنا نقْـبَـل – بصورة اعتباطية تمامًا وبتفسير
سطحي جدًا لكتاب العَـقْد الاجتماعي
Contrat social
[روسو] – بأن الأمة ذات السيادة لا ترتكب ظلمًا بحق أبنائها ولا بحق
جيرانها؛ وكنا نفترض أن الأسباب التي تؤدي إلى الظلم مرتبطة جميعًا
بعدم سيادة الأمة.
لكن مادامت الدولة القديمة خلْفَ الوطن فهيهاتَ يكون هناك عدالة. وفي
التعبير الحديث عن الوطنية لا يُتطرَّق كثيرًا إلى العدالة. وخاصةً أنه
لا يُذكَر شيءٌ يمكنه أنْ يتيحَ التفكيرَ بالعلاقات بين الوطن
والعدالة. لا نجرؤ على التأكيد أن هناك تكافؤًا بين المفهومَين؛ وقد لا
نجرؤ بصورة خاصة على تأكيد ذلك للعمال الذين يشعرون عبر الظلم
الاجتماعي بالبرودة المعدنية للدولة. فعندما نتكلم كثيرًا عن الوطن
نتكلم قليلًا عن العدالة؛ والإحساس بالعدالة قويٌّ لدى العمال، حتى
الماديين منهم، لأن لديهم دائمًا الانطباعَ بأنهم محرومون منها، قويٌّ
إلى درجة أن أي شكل من أشكال التربية الأخلاقية لا تكاد تَظهَر فيه
العدالةُ لا يمكن أن يؤثِّرَ فيهم. وعندما يموتون من أجل فرنسا فإنهم
بحاجة دائمًا لأنْ يشعروا بأنهم يموتون في الوقت نفسه من أجل شيء أكبر
بكثير، بأنهم يشاركون في الكفاح العالمي ضد الظلم. فالوطن بالنسبة لهم
لا يكفي بحسب مقولة شهيرة.
كذلك الأمر في أي مكان تشتعل فيه شعلةٌ أو شرارةٌ، مهما كانت غيرَ
محسوسة، من حياة روحية حقيقية. لهذا النور لا يكفي الوطن. وبالنسبة
للذين يغيب عنهم هذا النورُ فإن الوطنية، بمتطلَّباتها العليا، راقيةٌ
جدًا؛ عندئذٍ لا يمكن خَلْقُ حافز قوي بما يكفي إلاَّ على شكل التعصب
الوطني الأكثر عمايةً.
من الصحيح أن الناس قادرون على تقسيم أنفسهم إلى أجزاء، وفي كل جزء من
هذه الأجزاء تعيش فكرةٌ نوعًا من الحياة بدون أن يكون لها علاقة مع
الأفكار الأخرى. هؤلاء الناس لا يحبون الجهدَ النقدي ولا الجهدَ
التركيبي ولا يكلِّفون أنفسَهم هذين الجهدين بدون عنف.
لكنْ في الخوف والقلق وعندما يتراجع الجسمُ أمام الموت وأمام الألم
الكبير جدًا وأمام الخطر المفرط، يَظهر في نفس كل إنسان، حتى غير
المثقف أبدًا، صانعُ براهينَ ومحاكماتٍ يُجهِّز الأدلةَ لكي يُثْبتَ
أنه من المشروع والحسَن الإفلاتُ من هذا الموت وذلك العذاب وذاك الخطر.
وهذه الأدلةُ يمكن بحسب الحالة أن تكون حسنةً أو سيئة. على أية حال،
يطبع ارتباكُ الجسم والدم لأول وهلة فيهم قوةً إقناعية شديدة لا
تتأتَّى أبدًا لأي خطيب مفوَّه.
هناك أناس لا تجري معهم الأمورُ على هذا النحو. فإما أن تنجِّيَهم
طبيعتُهم من الخوف ويكونَ جسمُهم ودمُهم وأحشاؤهم لا تتأثر بحضور الموت
أو الألم؛ وإما أنْ يكون في أنفسهم درجةٌ من الاتِّحاد بحيث لا يتمكَّن
صانعُ المحاكمات هذا من أن يعمل فيها. عند البعض الآخرين يعمل أيضًا،
فيُظهِر قناعتَه ولكنْ مع ذلك لا يُعْـبأ بها. هذا نفسُه يَفترِض إما
درجةَ وحدةٍ داخليةٍ عاليةً سلَفًا وإما حوافزَ خارجيةً قوية.
إن ملاحظة هتلر العبقرية حول الدعاية، أي الملاحظة التي تقول بأن القوة
الوحشية لا يمكنها أن تتغلَّب على الأفكار إذا كانت هذه القوةُ وحدها،
ولكنْ يمكنها أن تتغلَّبَ عليها بسهولةٍ إذا ما أضيفَت عليها بعضُ
الأفكار مهما كانت قيمتُها متدنِّيةً، هذه الملاحظةُ قدَّمَتْ أيضًا
مفتاحَ الحياة الداخلية. فأصواتُ الجسد الصاخبة، مهما كانت عنيفةً، لا
يمكنها أن تتغلَّب على فكرة في النفس، فيما إذا كانت هذه الأصواتُ
الصاخبة وحدها. لكنَّ انتصارَها يكون سهلًا عندما تنقل قوَّتَها
الإقناعيةَ إلى فكرة أخرى مهما كانت رديئة. هذه هي النقطة المهمة. ليست
هناك من فكرة قيمتُها رديئة إلى درجة أنها تحتاج إلى دعم الجسد. بل
يَلْزَم الجسدَ فكرةٌ تدعمه.
لذلك، بينما يعيش الناسُ، حتى المثقفون منهم، في الأوقات العادية بدون
أية مشقة مع أعظم التناقضات الداخلية، فإن أقل ثغرة في المنظومة
الداخلية، خلال لحظات التأزُّم القصوى، تشبه من حيث الخطورة فيلسوفًا
شديدَ الدهاء يتربَّص في مكانٍ ما متأهِّبًا في خبث لانتهازها. وهكذا
يكون الأمر عند كل إنسان مهما كان جاهلًا.
في اللحظات القصوى، التي ليست بالضرورة لحظات الخطر الأكبر، بل اللحظات
التي يكون فيها الإنسانُ أمام صخب الأحشاء والدم والجسد وحيدًا وبدون
حوافز خارجية، اللحظات التي تَصْدُر حياتُها الداخليةُ بكاملها من فكرة
واحدة هي اللحظات الوحيدة التي تقاوِم. لهذا السبب تقوم الأنظمةُ
الشموليةُ بإعداد رجال لكل المِحَن.
لا يمكن للوطن أنْ يَكُوْنَ هذه الفكرةَ الوحيدةَ إلا في نظام من النوع
الهتلري. وهذا يمكن بسهولة إثباته، حتى في تفاصيله، لكن لا جدوى من ذلك
طالما أن وضوحه كبير. فإذا لم يكن الوطنُ هذه الفكرةَ وإذا كان يحتل مع
ذلك مكانًا فسيكون إذًا إما هناك تفكُّك داخلي وضعف مخفي في النفس وإما
لا بد أن يكون هناك فكرة أخرى معيَّنة تسيطر على الباقي ويحتل الوطنُ
بالنسبة لها مكانًا معترَفًا به بصراحة، مكانًا محدودًا وثانويًا.
لم تكن هذه هي الحالة في جمهوريتنا الثالثة. ولم تكن هي الحالة في أي
وسط آخر. والذي كان موجودًا في كل مكان هو التفكك الأخلاقي. ولهذا كان
صانع المحاكمات الداخلي نشِطًا بين عامَي 1914 و1918. لقد قاوم
الأغلبيةُ بأقصى درجات التصلب من خلال رد الفعل هذا الذي يدفع غالبًا
الناسَ إلى الاندفاع بصورة عمياء ومن خلال الخوف من العار، وذلك في
الجهة المعاكسة للجهة التي يدفع إليها الخوفُ. غير أن النفس، عندما
تتعرَّض للألم وللخطر تحت تأثير هذا الاندفاع فقط، تُنهَك وتَضْعُفُ
بسرعة كبيرة جدًا. هذه المحاكماتُ العقلية التي يغذِّيها القلقُ والتي
لم تستطع التأثيرَ على طريقة التصرف تتمكَّن فضلًا عن ذلك حتى من أعماق
النفس فتسيطر عليها ويبدأ بعد ذلك تأثيرُها بالعمل. وهذا ما حصل بعد
عام 1918. أما الذين لم يكونوا قد قدَّموا شيئًا ويخجلون من ذلك فكانوا
سريعين، لأسباب أخرى، في التقاط العدوى. كان هذا الجو يحيط بالأطفال
الذين سيُطلَب منهم الموتُ بعد ذلك بقليل.
إلى أي مدىً بلغ التفككُ الداخلي عند الفرنسيين، يمكن إدراكُ ذلك إذا
فكَّرْنا أن فكرة التعامل مع العدو مازالت اليوم لم تفقد كلَّ هيبتها.
ومن جهة أخرى، إذا بحثْنا عن تشجيع نفسي في مشهد المقاومة وإذا قلنا
بأن المقاوِمين لا يجدون أدنى صعوبة في إيجاد إلهامهم في الوطنية وفي
طائفة من الدوافع الأخرى في آن معًا، فلا بد في الوقت نفسه من القول
لأنفسنا ومن تكرار القول بأن فرنسا كأمة تكون في هذه اللحظة إلى جانب
العدالة والسعادة العامة وأشياء من هذا القبيل، أي في فئة الأشياء
الجميلة غير الموجودة. والنصر الحليف سيُخرِجها من هذه الفئة ويعيدها
إلى مجال الواقع؛ وستَظْهَر كثيرٌ من الصعوبات التي كانت تبدو
مستبعَدة. بمعنىً ما، يُبَسِّط الشقاءُ كلَّ شيء. ففكرةُ أنَّ فرنسا
دخلَتْ في طريق المقاومة بصورة بطيئة جدًا وبعد أغلب البلدان المحتلة
تُظهِر أننا مخطئون ربما بعدم قلقنا على المستقبل.
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
*** *** ***
أغريبَّـا دوبينييه
Agrippa
d'Aubigné
(1552 – 1630): جندي وكاتب فرنسي وشاعر باروكي كبير كان أحدَ
القادة العسكريين للحزب البروتستانتي في الحروب الدينية.
(المترجِم)