إنسان النرد*
جان بودريار
لنتصور
مع لوك رينهارت Luke Rhinehart
في إنسان النرد، أننا نخضع لقاعدةِ لعبةٍ اعتباطية. لنبتكر حالة
قَدَرية صغيرة جدًا لا مكان فيها لمشكلة الإرادة. هكذا، يقرر البطل
يومًا ما أن يرهن حياته لحجر النرد. فهي وحدها من سيقرر في ما إذا كان
عليه أن يُغري هذه المرأة مثلاً، أو أن يقطع صلته بذلك الصديق، أو أن
يذهب إلى آسيا الجنوبية، أو أن لا يفعل شيئًا وينسحب بكل بساطة، أو أن
ينتحر.
المصادفة هي الحكمة الإلهية الأكثر قدمًا في العالم... حررتُ للتو كافة
الأشياء من نير الغائية. فالروح خاضعة للغائية والإرادة، لكنني سأحررها
لأعيدها إلى فكرة الحدث الإلهي، إلى الخُبث البديع.
ماذا لو كانت الأنا عبارة عن زائدة نفسية لا طائل منها ومغلوطة؟ أو
ربما، مثلها في ذلك مثل الدفاعات المفرطة للماستودونت[1]،
وزنٌ ثقيل من دون فائدة، وفي النهاية، هدَّام لذاته بشكل آلي؟ ماذا لو
كان شعور أنْ نكون شخصًا ما يمثل خطًا مفجعًا في التطور، وذلك بالنسبة
للتطور اللاحق لمخلوق أكثر تعقيدًا، كما قوقعة الحلزون أو درقة
السلحفاة؟ أليس الفكر، والوعي ذاته، زائدة وانحراف ونمو سرطاني، عسرٌ
وظيفي ترِف لكنه مميت، يعارض كل التطور من خلال وعيه المفاجئ – تجمِّده
صورته الذاتية؟
هناك إذًا رهان أساس في ضربة الحظ الوجودية هذه وهو التوقف عن التوهم
بإرادتنا الذاتية والانتقال إلى ما وراءها، ضمن منظور لمصادفة موضوعية
هي مصادفة العالم بالذات. هي بالتالي طريقة لإزاحة الإرادة وتوكيل
الإمكان.
حجر النرد إذًا، كإسقاطٍ أخيرٍ لإرادةٍ غير شخصية ولقرارٍ صادرٍ من
بعيد هي علامة، بالسلب تقريبًا، على أن أحدًا ما يهتم لأمرك، وأن أحدًا
يعتني بك، وأنك لست وحدك أمام ذاتك، وأن هناك آخريةٌ في مكان ما، كما
كان الأمر قديمًا تحت أشكال أخرى متعددة: النجوم، وأحشاء الدجاج،
وطيران العصافير. فالقدر يأتينا من مكان آخر أكان سعدًا أو بؤسًا.
ومع ذلك، هناك نوع من المفارقة يُفسد اللعبة منذ البداية، وهي أن قرار
الامتثال إلى المصادفة لا يُؤخذ من قبيل المصادفة. بهذا المعنى، لن
تلغي القرار البدئي لا رمية واحدة لحجر النرد ولا رميات لا تحصى، إلا
إذا كانت إرادة المصادفة هذه نتيجة لمصادفة أكثر دقة. من جهة ثانية،
يجب على الخيارات (كل نرد ملقى يقدم ستة خيارات) أن تكون محدَّدة
مسبقًا عبر "لاعب القدر". لكنْ، من يترأس عملية انتقاء الأقدار
المحتملة؟ هل هي مصادفة مطلقة؟ لا بالتأكيد. ففي اللحظة التي تبرمج
فيها الذات خياراتها، لا يتعلق الأمر لا بمصادفة موضوعية خالصة ولا
بإرادة محددة، وإنما، نوعًا ما، بمصادفة ذاتية توجهها إرادات للذات
ضعيفة لاواعية: الإغراء، والاغتصاب، والقتل، والعربدة، أو على العكس:
حب، وسعادة، وتضحية. على أي حال، كما أنه لا يمكن أن يخرج شيء من
الحاسوب لا يكون مبرمجًا فيه مسبقًا، لا يمكن أيضًا أن يأتي شيء من حجر
النرد ليس مبرمجًا ذهنيًا بشكل مسبق. وإذا كان الهدف هو التحرر من كل
إرادة ذاتية، فالتحدي هنا عبارة عن خديعة. المشروع كله خديعة، فمن
العبث المرور عبر أحجار النرد للوصول إلى إمكانية الحدوث العادية
للرغبة.
لا شك في أن المصادفة المحضة ليست إلا وهمًا، إلا يوتوبيا. "القرار عبر
النرد" La Dé-cision
(وفق لعبة الكلمات التي تلخص فكرة الكتاب) ليس اعتباطيًا بالمقدار الذي
نظنه (كما أن الكتابة الآلية ليس في الحقيقة آلية على الإطلاق)،
والمصادفة ليست أبدًا في اختيارنا له، إلا إذا استسلمنا بكل بساطة لما
يحدث لنا – لكن حتى في هذه الحالة، نعلم أن لا شيء يحدث لنا بشكل
عرَضي.
الكتاب بأكمله هو البرهان، بشكل معاكس، على أنه من المحال اختيار
المصادفة، ومن المحال العيش وفق اختلال دقيق للإرادة. لكن أيضًا،
وبالمقدار نفسه، من المحال أن نختار الإرادة ونحن نعلم عنها أنها تخدع
ذاتها. فعليًا، المصادفة غير موجودة، ولا الإرادة. تكمن قاعدة اللعبة
في مكان آخر.
أكثر من ذلك، يوجد تناقض غريب بين عمل الإرادة وعمل الحرية. فمن الجيد
دائمًا اتخاذ القرار، ومن الجيد أيضًا تعليقه. يجب أن نعرف كيف نلعب مع
القرار. هنا يكمن الرهان الجوهري، فالقرار يمضي دائمًا وعلى الرغم منك
في هذا الاتجاه أو في ذلك. ولكل قرار متخذ حدان: الاضطلاع به يجعل منه
على الفور ممنوعًا: يُمنع تجاوزه! وبالتالي، لا فرق فعليًا بين أن يكون
قرارك أو قرار شخص آخر. فمن أجل اتخاذ قرار "بشكل سيادي" يجب أن نستطيع
تحديد أنفسنا إزاء قراراتنا الخاصة، والرجوع عنها بكل حرية، كما لو كان
فعليًا قرار شخص آخر.
إن القدرة على عدم إطاعة القوانين والقواعد الأخلاقية والآخرين هي
علامة على الحرية. لكن القدرة على عدم إطاعة الإنسان لذاتِه هي الطور
الأقصى للحرية. إن طاعة الإنسان لإرادته الذاتية هي آفة أسوأ بكثير من
الإذعان إلى أهوائه الخاصة. هي أسوأ، على أي حال، من الخضوع لإرادة
الآخرين. أولئك الذين يذعنون بشكل لا رحمة فيه إلى قرارهم الخاص هم
الذين يشكلون القسم الكبير من الموظفين السلطويين، يتباهون بما يقومون
به من تضحية بأنفسهم ليفرضوا على الآخرين القيام بالفعل ذاته بشكل أكبر
بكثير.
كل مرحلة من مراحل العبودية هي في الوقت نفسه أكثر دقة وأسوأ من
سابقتها. العبودية اللاإرادية، أي عبودية العبد، هي عنف مفتوح.
والعبودية الإرادية هي عنف عليه توافق: حرية إرادة ولكن ليست إرادة أن
نكون أحرارًا. وفي النهاية، فيما يخص العبودية الذاتية الإرادية، أو
خنوع الفرد لإرادته الذاتية: الفرد يتمتع بملكة الإرادة، لكنه ليس حرًا
إزاءها بل المُنفِّذ الأوتوماتيكي لها. هو لم يعد عسيفًا لأي سيد، لكنه
عسيف لنفسه.
ومن ثمَّ، تمجد قصة رينهارت الإرادة والأنا والرغبة بأكثر من ذلك
بكثير، وذلك بعنوان الخلاص منهما. تظهر الإرادة فيها كجدار يجب اجتيازه
للوصول إلى تحرر كامل للأنا، ولكافة الأنوات الممكنة. هنا، مازلنا أمام
رؤية بسيطة لنسق طبيعي للإرادة يتعين تجاوزها نحو نسق للمصادفة فائق
للطبيعة – أي، أمام رؤية لرغبة يحددها القانون، لكن يمكن المصادفة أن
تُطلق العنان لإمكانات هذه الرغبة. يبدو أنه من أجل اجتياز جدار
الإرادة يجب إدراك أنه قد تم اجتيازه مسبقًا، وإدراك أن قراراتنا
الأكثر اعتيادية هي مسبقًا وبذاتها من طبيعة اتفاقية ولا تعتمد على
الذات وإرادتها إلا سطحيًا.
المصادفة هنا وفي كل مكان لا حاجة أبدًا لإنتاجها عبر اصطناع لقاعدة
مفروضة مسبقًا. فالاعتباطي ليس في اختيار المصادفة، وإنما في اللامتوقع
كما هو، وفي العلاقة مع الآخرين كما هم، وفي حوادث العالم العرضية وفي
مظاهره. ففي العمق، الوجود الخالص ذو احتمالية تفوق احتمالية حجر
النرد، وهنا يمر الخط القاطع للقدر من دون حضورٍ ما لإرادتنا أو
لإرادةٍ عليا ما.
يحدث الآخر مهما كان الأمر وهو الذي يخلق الخط الفاصل. ففي كل لحظة،
ومن دون جهد، ومن دون أن تريد ذلك، تحدث الأشياء من هذه الجهة أو من
الأخرى. فنحن مسبقًا أمام قاعدة لعبة العالم. اللاإرادة الجذرية هي في
فوضى العالم الواقعي. الزائد هو "الجنوح"la dé-vie
، والاعوجاج الإرادي. بهذا المعنى، إن إقامة مصير اصطناعي عبر حجر
النرد تقوم تقريبًا مقام مكيدة للقدرية غير المتوقعة للعالم كما هو.
يكمن الخطأ في أن إرادة تحقيق المصادفة هي التي تؤدي في النهاية إلى
فشل المشروع من خلال إخراج منظَّم. نفهم حلم رينهارت بأن يكون مسببًا
لقاعدة خفية، وصاحب فكرة نسق الشر أو الفوضى الكونية، من خلال الحماسة
ووضع المصادفة في الواجهة. لكن، لا هو، ولا الغاوي في فيلم
Liaisons Dangereuses،
ولا مجرم المركيز دو ساد، يمكنهم في نهاية الأمر أن يجيبوا عن الخاصية
اللاشخصية على الإطلاق لأفعالهم. نحن لسنا مجرمين، ولا ضحايا مختارين،
ولا نملك خيار القدر.
نحن أمام برمجة مستحيلة لاختلال الحياة، وسيطرة مستحيلة للمصادفة، ولكل
إستراتيجيةٍ للمصير أو لكل إغراء مُراد: فهذا تناقض في الكلمات.
الضرورة التاريخية ليست شيئًا آخر سوى ضرورة مرسومة جداريًا (a
fresca:
مرتجلة، مسقطة على الحدث بعد وقوعه)، ومن المحال أن نتمكن من توقع
الحدث بيقين رياضي قبل وقوعه الفعلي. حتى الله لا يمكنه ذلك، فكلما
ازدادت ألوهيته نقصت قدرته على ذلك" (شنيتزلر،
Schnitzler).
من هنا يأتي وهم حجر النرد، ووهم إمكان المفاجئ، وغير المتوقع.
من يعرف كيف يحيا حقًا يدرك قيمة المفاجآت الصغيرة التي تنتظره دائمًا
في الحدث الأكثر تفاهة.
يدرك رينهارت، في النهاية، أن الآخرين جميعهم يعيشون أيضًا حيوات
متعددة تُعدُّ ثمرة المصادفة، حتى وإن تجاهلوا ذلك وقضوا وقتهم في دفع
ذلك عن أنفسهم. وبالتالي، فإن إقامة عالم اتفاقي بشكل كامل (إن أمكن
ذلك) لن تغير شيئًا في العالم كما هو. هذه كانت فرضية الاقتصاد
الافتراضي، فرضية رؤوس الأموال العائمة والمضاربة الخالصة. فهذا المجال
التنظيري الدائري، مثله مثل مجال الشبكات والمعلومات، ما إن يتحقق
ويكتمل في ذاته حتى لا يعود بإمكانه إحداث أي تغيير في العالم
"الواقعي" الذي يأخذ مجراه تبعًا لمسار مواز. نستطيع أن نقول الشيء
ذاته عن الله الذي لا تشكل مسألة كونه مصادفة إلا فرضية. فأن يكون الله
موجودًا أم لا، لا يغير شيئًا. لذلك فبراهين وجود الله، مثلها في ذلك
مثل احتمال التحقق من المصادفة، هي في نهاية الأمر بلا جدوى. ومن
المؤكد أن "رمية حجر النرد لن تلغي المصادفة أبدًا"، لأن هذه
الأخيرة غير موجودة، كما أن رمية أخرى إضافية لن تشكل إلا إضافةً أخرى
إلى لايقين العالم كما هو. يمكننا القول، بالطريقة نفسها، أنه لا يمكن
على الإطلاق للبرهان على الجوهر المادي للعالم أن يلغي وجود الله، على
اعتبار أن وجود الله لا يبالي بذلك، ولا يمكن التحقق منه، ويختلط مع
مجرى الأشياء.
إذًا، فكرة المصادفة فكرة نافلة (فهي تُدخل بعدًا مجردًا وزائدًا). أما
فيما يخص فلسفتها الأساس، فهي باطلة (لأنها تتضمن عيبًا خفيًا يشكل
عائقًا جذريًا). هكذا، وفي سياق الفكرة، يتراجع فعل الرواية. لأن فلسفة
تحرر الأنا هذه، فلسفة حرية من دون قيد تكون هي قاعدة اللعبة، تبرئ ذمة
اللاعب من كل مسؤولية وتمنحه مناعة تفوق بكثير كل حرية أخلاقية أو
سياسية. ففي العالم المتقلب، حيث تُتبادل الأدوار مصادفة، تُرفع كافة
الهموم والإعاقات المرتبطة بالهوية الاجتماعية والنفسية. لذلك اختار
البابليون في حكاية بورخيس Borges
أن يَعهَدوا بمصيرهم إلى الحظ مفضلين بذلك اللايقين على أهوال
المسؤولية الشخصية وحرية الاختيار.
بالمقابل، إن الحلم بتحطيم الأنا للوصول إلى تعددية المصائر هو وهم
ساذج، يشابه في العمق وهم الشبكات الافتراضية والألعاب المعلوماتية، مع
نموذجهما في تشتيت "الطيف" الفردي (مارك غييوم،
Marc Guillaume).
فأن يفرض عليَّ حجر النرد إغراء هذه المرأة لا يُدخل في نفسي الرغبة في
تلك المرأة؟ (اعتراض: بما أنني اخترتها، فهذا ربما لأنني كنت قد رغبت
فيها؟ طبعًا، لكن في هذه الحالة، لماذا الحاجة للمرور عبر حجر النرد
ولا أرغم نفسي أنا على إطاعة رغبتي الخاصة؟). فأن تضعني مصادفة الشبكات
في حضورٍ مع شريك معين أو مع إمكان معين، هل يحرر في ذاتي أنوات أخرى؟
إطلاقًا، فأن يُلقي الإنسان بأناه في مكان ما، وأن يدخل في تفاعل ذاتي
مع أيٍّ كان، هذا لا يعني أنه أصبح آخرًا. على العكس تمامًا، فلا معنى
للآخر والآخرية إلا في علاقة ثنائية، وليس أبدًا في علاقة متعددة أو
متشعبة. ففي العلاقة الثنائية فقط يكون الجنسان مصيريِّين لبعضهما
بعضًا. أما في العلاقة التعددية، فالأفراد ليسوا إلا مرآة لبعضهم
بعضًا، وانكسارٌ في جحيم. إن كانت المصادفة تعني أن المتآلفات لا يمكن
عدُّها، وأن كل شيء ممكن، فهي إذًا عكس المصير.
هنا أيضًا، تُهلِك الرواية ذاتها. لأن طيف الوجود المشيَّد عبر حجر
النرد ينتهي في لعبة أدوار تافهة وفي دراما نفسية جمعية مهووسة أكثر
فأكثر بالجنسي والجنس الجماعي.
إنها النشوة، يقول لوك، أشعرُ أن هذا الانتقال لمسؤولية أناي الوهمية
إلى حجر النرد شبيه بالاهتداء والخلاص، إنه هجران سلطة الأنا التي تخضع
الآن لقوة خارجية عنها.
وفي الوقت ذاته: "حُررتُ فجأةً من كل ما كان يزعجني لأغتصب الفتيات
الصغار".
في الدافع "المُحرَّر" عبر المصادفة تفوز اعتباطية الرغبة على اعتباطية
اللعب. ويعود اللايقين التام للعب ليصبح أداة الرغبة، وتعود المصادفة،
المستدعاة أعلاه كالحدث الكامل والخبث البديع، لتصبح أداة عادية في
أيدي الإرادات المغمورة.
وإلى ذلك يضاف الشذوذُ الآخر – وهو نوعًا ما النتيجة المنطقية لهذا
الاختلال الخادع – أي، الآمر اللاأخلاقي: أي جعل حجر النرد والمصادفة
مبدءًا كليًا، بل علاجًا بالنرد D-Thérapie
منتظمًا، مع مراكز تأهيل. هنا ندخل في اليوتوبيا الأسوأ، هذيان مبتدئين
يتحول بشكل آلي إلى مِلَّة، مع كل ما يتضمنه هذا النوع من التنظيمات من
عنف مميز تكف المصادفة فيه عن كونها ما هو اعتباطيٌ لتدخل في اعتباطية
السلطة.
فشلٌ بهيٌّ لتحدي الإرادة الذاتية، ولتحدٍّ فوضوي لكل سلطة (بما في ذلك
السلطة التي نمارسها على أنفسنا من خلال الإرادة). للمفارقة، ينتهي
مشروع نقل الملكية Dé-volution،
أو نزع الذاتية désappropriation
عن الإرادة إلى التقارب مع ستيرنر Stirner،
هذا الفوضوي الآخر الذي يريد في L'Unique et sa
Propriété
(الواحد وخاصيته الذاتية) بلوغ التملك الكامل والهيمنة اللامشروطة
للأنا – حيث ينتهي المبدأ الأكثر تحررية إلى الطغيان الأكثر اعتيادًا.
هذا هو المصير البائس ليوتوبيات جذرية متعددة مسكونة بآفة باطلة.
مع ذلك، ففكرة مجتمع مشيَّد عبر المصادفة، كما عند بورج في
Loterie à Babylone
(الحظ في بابل)، أو عند رينهارت في (إنسان النرد)، هي
نوعًا ما فكرة ديمقراطية مطلقة، فهي تحلُّ مشكلة اللامساواة في الشروط
الموضوعية من خلال مساواة بالفرص أمام القانون. صحيح أن الديمقراطية
ترتكز على فكرة المساواة أمام القانون، إلا أن هذه المساواة ليست جذرية
بمقدار جذرية المساواة أمام القاعدة. هذا الحلم بديمقراطية جذرية هو
تمامًا الذي يسكن مخيلة كافة اللاعبين، ويجعل من كافة أشكال اللعب
جاذبًا بديعًا في كافة العصور، وبشكل خاص للطبقات المتوسطة والشعبية،
كملاذٍ من ضرورة خائبة بديمقراطية "اجتماعية". هو مكان "الثروة/الحظ"
fortune،
اللامكان الوحيد الذي لا يتوزع فيه الخير والشر بالطريقة ذاتها،
والنشاط المسرف الوحيد لحرية ذاتية تجهل الشروط المادية لتعينها. مكانُ
حرية فوق طبيعية لا علاقة لها بالحرية "الطبيعية" على الإطلاق لأنها
تتجاوز التواطؤ المباشر، وليست وجودًا ذكيًا ما في العالم. غير أن كل
المتعة تأتي من هنا. فاللعب لا يحررنا مما هو قسري (لأننا نتقبل قسرية
القاعدة الأكثر شدةً)، وإنما يخلصنا من الحرية. فنحن نفقد الحرية إن
توقفنا عن عيشها كواقع. تتلخص معجزة اللعب في أنها تجعلنا نعيش الحرية
لا كواقع، وإنما كوهم – وهم متفوق، وتحدٍّ أرستقراطي للواقع، لأن
الواقع ديمقراطي، أمَّا الوهم فأرستقراطي.
ترجمة: جلال بدلة
*** *** ***