الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

حلّ مسألة الحرية*

 

جان بودريار

 

يوجد طيفان يسكنان الذات: طيف الإرادة وطيف الحرية. كل شيء يدفعها إلى المطالبة بالممارسة الكاملة للأولى، والاستخدام غير المحدود للثانية. فمن غير القانوني اليوم ألا نريد أنفسنا أحرارًا، أو أن نتخلى عن إرادتنا الذاتية.

يصبح الإنسان "المحرَّر" مسؤولاً بقوة القانون عن الشروط الموضوعية لوجوده. وهو مصير أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه مبهم: مثلاً، العامل "المحرر" يقع رهينةً للشروط الموضوعية لسوق العمل.

بالتزامن مع حركة التحرر (تحرر الطاقة، والجنس، والفضائل الأخلاقية، والعمل) تنخرط الحداثة في تحويل كل ما كان ينتمي إلى الخيالي والحلم والمثالي واليوتوبيا إلى واقع تقني وعملياتي. نشهد اليوم تحقق كافة الرغبات، وتحقق كافة الممكنات، وإنجازًا غير مشروط لها، فقد انتهى التعالي والإنسان المستلَب: إننا أمام فرد مشبع الرغبات – افتراضيًا، طبعًا: فالمجال الافتراضي هو الذي يجعل الواقعي كليًا بامتصاصه لكل تناوبية تخيلية ليصبح الفرد أخيرًا في هوية مع ذاته ويتحقق وعد الأنا. إن نبوءة التاريخ الحديث، من هيغل وماركس إلى ستيرنر والوضعيين، نبوءة تملُّك الذات لذاتها ونهاية الاستلاب قد تحققت، ليس للأفضل بل للأسوأ. عَبَرنا من الآخر إلى الذات، ومن الاستلاب إلى التماهي (أيضًا، نبوءة نيتشه عن انقلاب transvaluation القيم تحققت على نحو سيء من خلال العبور، ليس إلى ما وراء بل إلى ما دون الخير والشر).

هذا الفرد غير القابل للقسمة هو اليوتوبيا المتحققة للذات: الذات الكاملة، ذاتٌ من دون آخر. تتجه الذات، من دون آخرية داخلية، نحو هوية لانهاية لها. تعيُّن لهوية الفرد، وللذات، وللأمة، وللعرق. تعين هووي للعالم، الذي أصبح تقنيًا وبشكل مطلق واقعيًا – "أصبح ما هو عليه". انتهت الاستعارة وانتهى التحول. لم يبق إلا الانبثاث غير المحدود للهوية.

الهوية حلم ذو عبثية مثيرة للشفقة. نحلم أن نكون ذاتنا عندما لا نملك شيئًا أفضل نفعله. نحلم بذاتنا وبالاعتراف بذاتنا عندما نفقد كل فرادة. لم نعد نكافح اليوم من أجل السيادة أو المجد بل نكافح من أجل الهوية. السيادة كانت سيطرة والهوية ليست إلا مرجعية. السيادة كانت مغامرة، والهوية مرتبطة بالأمن (بما في ذلك نظم السيطرة التي تحدد هويتنا). الهوية هي هوس التملك الخاص بالموجود المحرر، لكنه محررٌ في الفراغ إذ لم يعد يعرف من هو. إنها رمز تصنيفي وجودي بلا ميزات. كافة الطاقات الخاصة بالأقليات وبالشعوب كافة وبالأفراد تتركز اليوم على هذا التوكيد الهزلي، التأكيد المتعجرف: أنا! أنا موجود! أعيش! اسمي أنتيل! أنا أوروبي! هو، بالمقابل، تحدٍّ لا رجاء منه لأنه عندما يحين موعد الأدلة لاشيء يبقى بديهيًا على الإطلاق.

إن سيرورة التحرر ليست بريئة على الإطلاق، فهي تنطلق من إيديولوجيا ومن حركة مثالية للتاريخ، وتنزع دائمًا نحو اختزال ازدواجية المعنى الأساس للخير والشر. تخلصنا حقيقةُ أن نكون "محررين" من شرٍّ أصلي، أكان ذلك سيئًا أم جيدًا. تبسيطٌ وشفافية، وإلغاءُ القارة السوداء والوجه الغامض والقسم المظلم، والاضطلاع بمملكة القيمة: كل هذا موجود في مفهوم روسّو عن المآل السعيد، وعن الميل الطبيعي، وعن "التحرر".

ألاَّ نكون أحرارًا هو أمرٌ غير أخلاقي، والتحرر هو المعمودية والخلاص معًا، إنه السر الحقيقي للديمقراطية.

إلا أن هذا النموذج هو يوتوبيا. لا نستطيع أن نحرِّر الخير من دون تحرير الشر، فالازدواجية حاسمة. والتنشيط التاريخي لقوى الشر يجري، من دون شك، بشكل أسرع من تنشيط قوى الخير. وهنا نتيجة إشكالية أخرى: فالأشياء، منذ اللحظة التي يتم فيها تحريرها، تأخذ بالتأرجح: كالمال في المضاربة، والجنس في اللاتعين الجنسي، والإنتاج في مزايدة غير ضرورية، والزمان في حساب الأصول التي لا يمكن اتخاذ قرار بشأنها. تصل الأشياء المحررة إلى طور غير أكيد وأُسِّي معًا. صعود قوي ومفاجئ لا يمكن السيطرة عليه (مثلاً، تحرير المجال النووي)، وفي الوقت نفسه، بداية العد التنازلي: فمنذ اللحظة التي يوجد فيها تطابق، وحساب للقيمة وتراكم، يوجد بالتوازي منظور استنفادي. يقود التحرير دومًا إلى مرحلة حرجة تنقلب فيها النتائج رأسًا على عقب.

هكذا رزحت الحرية تحت نتيجتها المناقضة لها: التحرر. الحرية، في مفهومها الفلسفي، فكرة نفقدها في تحقيقنا لها – هذا يشبه إلى حد ما حالة الرغبة التي يتلاشى نموذجها الذهني بالتزامن مع تحققها. وبالتالي، فالحرية ماتت ميتة طبيعية وفق منطقها الخاص، وانمحت في مخيلتنا العميقة جدًا. لكن يبقى عليها أن تموت ميتةً اصطناعية لتساق صورتها ضمن كافة الخطابات التي تحل محلها، ومن ضمنها خطاب حقوق الإنسان، وبشكل أعم، ضمن كافة الأشكال التي استبدلت بالوجود الحقَ في الوجود، وبالاختلاف الحق في الاختلاف، وبالرغبة الحق في الرغبة - وأخيرًا، بالحرية الحقَ في أن نكون ما نحن عليه وأن نريد ما نريد، حرية ذات شكل هزلي. تشترك الحرية مع مصير جميع هذه القيم المنقضية، المنبوش عنها والمبعوثة من جديد عبر أفعال الحِداد، قيمٍ حنينية وسوداوية يضعها النظام في المتناول كروح إبداعية.

نفهم ألا يكون للفرد إلا رغبة واحدة – وهي التخلص من كل رغبة. "إنها سكرةُ ألا نكون شيئًا، والإرادة ختمٌ أوقعناه لدى عبورنا في الرواق بحركة بليدة من القَدَم" (باسوا، Pessoa).

يمكن لهذه الصيرورة المتناقضة الذهاب حتى رفض هذه الحرية غير المشروطة. فما إن تتحقق يوتوبيا الحرية حتى تختفي، لتعود الأشكال السابقة، الأشكال التي تمَّ تجاوزها وأشكال الخنوع، لتصبح بدورها، وبلطف، يوتوبيا.

يقول عمر الخيام: "من الأفضل لك أن تخدم، بإتقان، رجلاً حرًا واحدًا، من أن تحرر ألف خادمٍ".

لنوضح الفكرة: لا يتعلق الأمر بيوتوبيا لشكل منصرم تاريخيًا للسيد والعبد بل بتسلسل الأشكال، وبالخضوع إلى دورة الصيرورة وقاعدة التحولات. وليس بانصياع شخصي للعبد، وإنما بانصياع الكلمات بعضها إلى بعض داخل اللغة. هكذا تكون ضرورة شكل ما: الكلمات ليست "حرة" ولا يقوم فعل الكتابة بـ "تحريرها" – على العكس، تقوم الكتابة بالربط بينها ولكن بـ "إتقان". الشيء الوحيد الذي يجب تحريرها منه هو، احتماليًا، المعنى، وذلك لإخضاعها إلى تسلسل أكثر سرية.

البطل لا "يحرر" الحوادث، ولا القوى التاريخية، ولا يبني تاريخًا. هو يسلسل رموز الخرافة والأسطورة، لذلك لا حاجة للثورة وللديمقراطية إلى بطل. الشاعر لا "يحرر" الكلمات تبعًا لمعناها. هو يسلسلها وفق رموز اللسان: لذلك لا حاجة للجمهورية[1] إلى الشعراء. المجنون أو الغبي لا "يحرر" الغرائز، ولا يرفع حالة الكبت بل يكتشف التسلسل السري لرموز الهذيان – الأقرب لتحول قديم وللعنةِ عالم آخر منها إلى الرغبة واللاوعي.

بصفة أعم، نحن لا نحرر الأشكال، لا نحرر إلا القوى. إن عالم القوى والقيم وحتى الأفكار، كل عالم التحرر هو عالم التقدم والتجاوز. أما الأشكال فلا يمكن تجاوزها – نعبر من شكل إلى آخر، ولعبة الأشكال هذه تراجيدية وأُضحوية، في حين أن علاقات القوى، وصراعات القيم والإيديولوجيات ليست سوى دراماتيكية وصراعية. جميعُ رموز الحداثة والتحرر يوتوبيَّة: فهي تحلم بلا-مكان مثالي ونهائي. أما ما يخص الأشكال (كما أشكال الفن) فهي لا تعتاش من اليوتوبيا، ولا تحلم بتجاوز ذاتها باتجاه نهاية ما، لأنها هي اللا-مكان بحد ذاته. على أي حال، لكي نكون محررين يجب أن نكون عبيدًا من قبل. ولكي نكون عبيدًا يجب ألا يُضحَّى بنا (وحدهم السجناء غير المضحَّى بهم كانوا عبيدًا). بعضٌ من هذا الإعفاء الأضحوي وبعضٌ من العبودية التالية، يستمر في الإنسان "المحرَّر"، وبشكل خاص في العبودية الراهنة – ليست تلك التي تسبق التحرير، وإنما التي تليه. عبوديةُ النموذج الثاني: عبودية بلا سيد.

في المجتمعات القديمة، كان هناك السيد والعبد. وفي ما بعد، المولى والعسيف. وفي ما بعد، الرأسمالي والأجير. يقابل كل واحدة من هذه المراحل نوع محدد من العبودية: نعلم من هو السيد ومن هو العبد. الأمر الآن مختلف تمامًا: السيد اختفى، ولم يبق إلا العُسفاء والعبودية. لكن، ماذا يكون العبد بلا سيد وهو الذي أكل سيده وجعله داخله لدرجة يصبح فيها هو سيد نفسه لا غير. هو لم يقتله ليصبح السيد (هذه الحالة تنطبق على الثورة)، بل امتصه مع بقائه عبدًا، وحتى أكثر عبودية من العبد، أكثر عسفًا من العسيف: عسيف ذاته. هي مرحلة قصوى من عبوديته التي، من تراجع إلى تراجع، تتجه نحو التضحية. لا أحد يشرفه بتقديمه كأضحية، فينتهي به الأمر بأن يكون هو ذاته مجبرًا على التضحية بنفسه لنفسه وبمشيئته الذاتية. مجتمعنا الخدماتي هو مجتمع عسفاء، أناسٌ مستعبدون لاستعمالهم الذاتي، خاضعون لوظائفهم ولأدائهم – معتوقون بشكل كامل وعسفاء بشكل كامل.

إن كان من غير الممكن لمشكلة الحرية أن تُطرح فيجب إذًا إيجاد طريقة مبتكرة لعدم طرحها، أو لتجاوزها. ماذا يوجد في ما وراء الحرية؟ والثنائية ذاتها بخصوص النهاية: ماذا يوجد في ما وراء النهاية؟

المعادل في مفهوم الحرية لما يحدث في الكلام الروحي أو اللغة الشعرية، حيث لا يمكن مبادلة الكلمات بأخرى ولا بمعناها، لكن كما هي بذاتها غُيرت ببهاء اللغة، هذا المعادل هو أن البشر، بعيدًا عن إرادتهم الخاصة، هم ما هم عليه، هم الحدث المباشر لما يكونون وما يفعلون – على الأقل في لحظاتهم "الشعرية" عندما لا يمثِّلون شيئًا، وبالأخص أنفسهم بما هي ذوات. أما الباقي، بلاغة الإرادة، والمسؤولية، والحرية، وعودة مشهد فلسفتنا الأخلاقية؛ فكل هذا جيد بالنسبة لوعي الذات المستلبة المتحررة من الأوهام، الذاتِ التي "نحررها" لأننا لا نعرف ماذا نفعل بها كعبدة، وهي ذاتها لم تعد تعرف ماذا تفعل بهذه الحرية.

فعليًا، هي حرية نسبية تمامًا أن تصبح الذات مسؤولة عن الشروط الموضوعية لحياتها الذاتية، ذلك أني ما أزالُ هنا موضوعًا، ولستُ حرًا بشكل كامل – يجب تحريري من هذه الحرية ذاتها. وهذا ليس ممكنًا إلا في اللعب، في حرية اللعب هذه الأكثر حذقًا التي، للمفارقة، تحررني قاعدتها الاعتباطية، بينما في الواقع أنا مكبَّل بإرادتي الذاتية.

ترجمة: جلال بدلة

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل الخامس من كتاب التبادل المستحيل، تأليف جان بودريار، ترجمة: د. جلال بدلة، معابر للنشر، 2013.

[1] يقصد هنا كتاب الجمهورية لأفلاطون. [المترجم]

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني