|
شبكة الفكر: الحديث السابع
لقد تحدثنا عن إشكالية الوجود المعقدة، وعن تشكيل التصورات في علاقاتنا مع بعضنا، والأوهام التي يعرضها لنا الفكر ونقوم نحن بعبادتها. كما تحدثنا عن الخوف والمتعة وإنهاء الأسى وتساءلنا عن ماهية الحب، بعيدًا عن كل المخاض المندرج فيما نسميه حبًا. وتكلمنا أيضًا عن التعاطف وذكائه وعن الموت. أما الآن، فسنتحدث عن الدين. يخجل الكثيرُ من مفكري العالم من الحديثِ في موضوع الدين. حيث يرون ماهية الأديان القائمة في عالم اليوم، بمعتقداتها ومبادئها وشعائرها والبنية الهرمية التي أقامت عليها كيانها؛ فيسخرون منها ومن ثم يهربون بعيدًا عن كل ما له علاقة بالدين. ثم حين يكبرون في السن ويقتربون من تلك العتبة المسماة بالموت نراهم يعودون غالبًا إلى ما نشأوا عليه، فيتحولون إلى الكاثوليكية أو قد يلتحقون بمعلم (غورو) في الهند أو اليابان. لقد خسر الدين مصداقيته حول العالم وأضاع معناه في الحياة اليومية. فكلما تمعنتَ، وكلما ازدادَ فهمُكَ لمحتوى البنى الدينية، بتَّ أكثرَ شكًا حول الموضوع برمته. وكباقي المثقفين، سترى ألا علاقة لك به. أما غير المتشككين فيتعاملون مع الدين برومانسية وعاطفية أو كشكل من أشكال الترفيه. أمَّا إذا وضع الواحد منا جانبًا المواقف العقلانية والرومانسية من الدين، فسيكون بوسعه أن يتساءل، ومن دون سذاجة، حول ماهية الدين؟ ونحن لا نقصد هنا المعنى الحرفي للكلمة، إنما المزيد من العمق. لقد اعتقد الإنسان دومًا، ومنذ أقدم الأزمنة، بوجود شيء ما يتجاوز الحياة اليومية الاعتيادية، والبؤس الاعتيادي، وفوضى وصراعات الحياة اليومية. ومن خلال بحثه الطويل اخترع كل أنواع الفلسفات، وابتكر شتى التصورات – بدءًا من تلك التي تعود إلى المصريين القدماء والهندوس القدماء وحتى الوقت المعاصر؛ وما فتئ، على ما يبدو، يقع أسير نوع من أنواع الوهم. فيوهم نفسه، ومن أجل تجاوز هذه الأوهام يخلق العديد من النشاطات. أما إن كنس المرء كل هذا، فلم يعد يخدع نفسَه، ويتحرَّرُ من الوهم، فسيكون بوسعه البدء بالدراسة، والتقصي بعمق كبير عن وجود شيء يتجاوز عدوى الفكر، وما أفسده الزمن، شيء يتجاوز الوجود العادي في الزمان والمكان، وهل يوجد طريق إلى ذلك، أو لا يوجد، وكيف يمكن بوسع العقل إيجاده والاهتداء إليه. وإن سأل المرء نفسه هذه الأمور، فكيف سيكون بوسعه مناقشتها؟ وهل يحتاج مثل هذا الأمر إلى التحضير–الانضباط، والتضحية، والتحكم، لفترة من التهيؤ التي تؤهله للاستمرار؟ أولاً، عليك أن تفهم أنه يجب التحرر من جميع الأوهام. فما الذي يخلق الأوهام؟ أليست تلك الرغبة في الوصول إلى شيء ما، أو في تجربة شيء خارج عن المألوف، تصور يتجاوز الحواس والرؤى والتجارب الروحية؟ لأنه على المرء أن يكون شديد الوضوح حيال طبيعة الرغبة، وأن يفهم صيرورتها، التي هي الفكر وتصوراته، كما عليه أن يبحث من دون أي دافع على الاطلاق، كما يرتب النظام في بيته وعلاقاته ووجوده ونشاطاته. لأنه من دون النظام، الذي هو الحرية، لا توجد فضيلة. فالفضيلة، والاستقامة، لا تُصقل فكريًا. فأنى وُجد النظام وُجدت الفضيلة. والنظام أمر يعاش، ليس روتينًا ولا عادة. ثانيًا: هل هناك شيء يجب تعلمه؟ هل هناك شيء علينا أن نتعلمه من الآخر؟ إذ يستطيع الإنسان تعلم التاريخ والعلوم والرياضيات والفيزياء وجميع المعارف المعقدة التكنولوجية من الآخر، من الكتب. هل يوجد في علم النفس ما يجب أن نتعلمه عن حياتنا، عن ذاك السرمدي – إن وُجد حقًا أمر سرمدي؟ أم أنه لا يوجد ما نتعلمه من الآخر لأن كل الخبرات البشرية وكل المعارف النفسية التي جمعها الإنسان لملايين السنين موجودة في داخله. إذا كانت هذه هي حقيقة الأمر، إذا كان وعي الفرد هو وعي البشرية جمعاء، فإن السعي للتعلم عن ذاتنا من الآخرين يبدو عبثيًا، لا بل ساذجًا. والتعلم من الذات أمر يتطلب وضوحًا كاملاً في الرؤية. وهذا أمر بسيط. وهكذا ينتفى وجود أي سلطة نفسية أو روحية لأن تاريخ البشرية جمعاء، الذي هو تاريخ الإنسانية، موجود في الذات. لهذا لا يوجد ما تحتاج إلى اختباره، لا يوجد ما تحتاج أن تتعلَّمه من شخص يقول: "أنا أعرف" أو "أنا سأريك الطريقَ إلى الحقيقة" – سواء كان من القساوسة المنتشرين حول العالم، أو من المفسرين بين الأعلى والأدنى. لكي تتعلم، لكي تفهم ذاتك، يجب أنْ تنحي كل السلطات جانبًا. وإذا عرف المرء كيف يفهم – فإنه يبدو واضحًا أن السلطة هي بعض من الذات، فواحد هو القس، والمريد، والمعلم، وواحد هو الاختبار وواحد هو المطلق. ليس هناك ما نتعلمه من أي شخص، بمن فيهم المتحدث، وأشدد على أهمية عدم التأثر بالمتحدث، إذ يجب أن تكون حرًا كي تتحرَّى بعمق كبير جدًا، وليس بسطحية. وقد يكون المرء ممن قام بهذا التحقق السطحي خلال خمس سنين أو خلال خمسين سنة، وتوصل إلى نقطة حقق فيها، بدرجات متفاوتة، نظامًا في حياته، وخلال مسيرته يمكن للمرء أن يرتقي إلى نظام أكبر، بحيث يكون بوسعه التساؤل: ما هو العقل الديني الذي بوسعه فهم ماهية التأمل؟ لقد شاعت كلمة التأمل جدًا في الغرب خلال الخمسين عامًا الماضية، أما قبل ذلك فلم يستفسر في أنواع التأمل الشرقي سوى قلة نادرة من الذين جاءوا إلى آسيا. وقد قال الآسيويون أنه ليس بوسعك التوصل إلى فهم ذاك السرمدي، اللامنتهي، إلا عبر التأمل. لكن في السنوات الأخيرة، فإن الذي ليس لديهم ما يفعلونه سوى إطلاق لقب غورو على أنفسهم، جاءوا إلى الغرب حاملين هذه الكلمة. فأصبحت كلمةً جعلت التأمل يبدو وكأنه مخدِّر. كما أن هناك أنواع عديدة من التأمل – كالتيبتي والهندوسي والزن الياباني، إلى ما هنالك. لكن هذه الأنظمة التأملية اخترعَها الفكر، وبما أن الفكر محدود، فإنها حتمًا نظم محدودة. كما أنها تحولت مع الوقت إلى نظم ميكانيكية، لأن التكرار والتكرار يجعل عقلك بليدًا معتمًا وساذجًا تمامًا. وكلُّ هذا منطقي تمامًا. لكن الإنسان يحمل في داخله توقًا كبيرًا إلى تجربة شيء روحاني، سواء عبر المخدرات أو الكحول أو عبر اتباع نظام تأمل يُؤملُ أن يمنح من يمارسه تجربةً مثيرة؛ لأن هناك نوع من السأم في الحياة اليومية كأن تذهب إلى العمل كل صباح، لأربعين سنة، وأن تموت في النهاية. كما أن الناس ضجرت من الأديان القائمة لدرجة أن قدوم أي شخص يطرح مفاهيم رائعة أمامهم يجعلهم يرتمون عليها. وهذا ما يحدث. وهذا ليس مبالغًا فيه. لا أهاجمُ أحدًا بعينه، إنما هي مجرد إفادة تتعلق بالهراء السائد من حولنا. لهذا، إذا أدرك الفرد ووعى كل هذا بشكل جيد فسيضعه جانبًا، لأنه سيفهم أنه يخلو تمامًا من المعنى؛ إن كانت لديك فطرة سليمة وكنت تتمتع بفكر نقدي يطرح التساؤلات حول ما يقوله الآخرين وتسأل نفسك فلا داعي لأن تذهب إلى الهند أو التيبت أو إلى روما. وهام جدًا أن تتساءل حول أي شيء تعتبره صحيحًا أو نبيلاً أو حول تجربة حقيقية، والأهم هو الحفاظ على ذهن قادر، عاقل، صحيح وحر من كل الأوهام ومن كل أشكال التنويم الذاتي. ثم، ما هو الكائن البشري؟ لقد عاش الإنسان على الفكر، وأنتج بواسطته العمارة والموسيقى وكل الأشياء التي ترونها داخل الكنائس والمعابد والمساجد. كل علاقاتنا مبنية على الفكر، فعلى الرغم من أنك تقول لأحدهم: "أحبك" إلا أن كلمتك هذه مبنية على التصور الذهني الذي بناه الفكر عن ذاك الشخص. مذهلة درجةُ أهمية الفكر بالنسبة للإنسان، مع أنه محدود بحدِّ ذاته؛ ومهمته الأساسية اجتزاء الأشياء وتقسيم الناس – حيث يقولون: ديني وبلدي وإلهي ومعتقدي مقابل دينك وبلدك وإلهك ومعتقدك. وكل هذا لا يعدو كونه صيرورة الفكر في الزمان والمكان. والتأمل meditation هو قابلية الدماغ الذي لم يعد يعمل جزئيًا ومقدرته – الدماغ الذي تحرر من الإشراطات، وأصبح يعمل بكليته. ويختلف تأمل هذا الدماغ عن التفكير المجرد contemplation لشخص صنَّف نفسه كمسيحي أو كهندوسي، وبالتالي يرتكز تأمله هذا على ذهن وفكر مشروط. أي أن هذا التفكير لا يحرر الإنسان من الإشراطات، لأن التأمل يتطلب مقدارًا كبيرًا من التساؤل ويصبح جديًا للغاية كي لا يعمل جزئيًا. وحين نقول جزئيًا، فنحن نعني العمل في تخصص معين أو في شغل محدد مما يجعل الدماغ ضيق الأفق فيما له علاقة بقبول المعتقدات الأخرى والتقاليد والأعراف والمبادئ والشعائر، أي كل ما اخترعه الفكر. يستعمل المسيحيون عبارة: الإيمان، أي الإيمان بالله، وبالعناية الإلهية التي ستجعل الأمور على ما يرام. أما الآسيويون فلديهم أشكال إيمان خاصة بهم كالكارما والتقمُّص والتطور الروحي. وهكذا يختلف التأمل عن التفكير، حيث يتطلب التأمل من الدماغ العمل ككل دون الخضوع لشروط تجبره على العمل جزئيًا. هذه هي متطلبات التأمل، وإلا فليس له معنى. لذا فإن السؤال هو: هل يمكن العيش في هذا العالم الذي يتطلب بعض أنواع الاختصاص، كأن يكون المرء ميكانيكيًا أو مختصًا بالرياضيات أو ربة المنزل، ومع ذلك يتحرر من تخصصه؟ لنفترض أنني عالم فيزيائي نظري قضى عمره في صياغة المعادلات الرياضية والتفكير والبحث فيها، وفي جمع الكثير من المعلومات عنها، وهكذا أصبح عقلي تخصصيًا وضيقًا، ثم بدأ يبحث في التأمل. بعدئذٍ، خلال تحقيقي في التأمل فإنه لن يكون بوسعي فهم معناه وعمقه إلا جزئيًا، لأنني مشغول بشيء آخر، بالفيزياء النظرية التي هي مهنتي واختصاصي. وعلى اعتبار أنني عالق هناك أبدأ بالاستفسار نظريًا حول وجود التأمل أصلاً، وحول وجود السرمدي؛ وهكذا يتحول بحثي هذا إلى جزئي من جديد. ومع ذلك، عليَّ أن أعيش في هذا العالم، فأنا أستاذ جامعي، ولدي زوجة وأولاد، ولدي مسؤوليات وربما أكون مريضًا؛ ومع ذلك، أريد البحث بعمق كبير في طبيعة الحقيقة، ما هو بعض من التأمل. وهكذا يكون السؤال هو التالي: هل من الممكن أن يتخصص المرء في مجال معين (كالفيزياء النظرية) ثم، عند مستوى معين، يتخلى عن تخصصه بحيث أن ذكاءه (الذي هو ذكاء البشرية جمعاء) يستطيع أن يقول: نعم لدماغي فعالياته الاختصاصية لكنها لن تتدخل فيما أفكر به الآن؟ لو كنتُ نجارًا وأعرف نوعيات الأخشاب وأوزانها وأقدِّر جمال الخشب وأعرف الأدوات التي أعمل بها، أرى أن هذا طبيعي وأن الدماغ الذي تعلم الاختصاص لا يستطيع فهم كلية التأمل. إذا فهمتُ هذا كنجار، إذا فهمتُ حقيقة هذا القول، أن كوني نجارًا يمنحني مكانًا في العالم، إلا أنه لا مكان لهذا التخصص في كلية الإدراك، وفي كلية فهم التأمل، عندها يتحول ذلك الاختصاص إلى مسألة صغيرة. عندها نبدأ بالتساؤل: ما هو التأمل؟ يتطلب التأمل أولاً الانتباه، أي تركيز كامل قدرتك وطاقتك في المراقبة observation. ويختلف الانتباه عن التركيز، فالتركيز جهد فكري مبذول ليركز قدرته وطاقته على موضوع معين، حيث تتدرب على التركيز في المدرسة، أي أن تركز كامل طاقتك في نقطة واحدة، وتركيزها بهذا الشكل يعني أنك لا تسمح لأي نوع من الأفكار بالتدخل؛ فالتركيز يعني التحكم بالفكر وعدم السماح له بالتجوال بعيدًا، بل إبقاؤه مركزًا على موضوع معين. إن عملية الفكر هي التي تركز الانتباه والطاقة على تلك النقطة. وفي تلك العملية هناك إكراه وهناك تحكم، ما يعني أنه أثناء التركيز يوجد متحكِّم كما يوجد متحكَّم به. الفكر يحلِّق، والفكر يقول أنه لا يجب أن يحلِّق، وأنا أعيده إلى مكانه كالكابح الذي يقول: علي أن أركز على هذا. وهكذا يوجد متحكِّم ويوجد متحكَّم به. فمن هو المتحكِّم؟ إنه جزء من الفكر، أما المتحكَّم به فهو الماضي. يقول المتحكِّم: لقد تعلمت الكثير، ومن المهم جدًا بالنسبة لي ككابح أن أتحكم بالفكر. ما يعني أن الفكر قد قسم نفسه إلى متحكِّمٍ ومتحكَّم به. وهي خدعة يلعبها الفكر على نفسه. بينما، أثناء الانتباه لا يوجد متحكِّم ولا متحكَّم به، بل يوجد الانتباه فقط. لذا علينا تفحُّص التركيز وما يتضمنه من متحكِّم ومتحكَّم به بتأن. لأنه في كل لحظة من حياتنا هناك ذلك الكابح الذي يقول: علي أن أفعل كذا، وعلي ألا أفعل ذاك، علي التحكم برغباتي وغضبي ودوافعي. كما يجب أن نكون واضحين جدًا في فهمنا للفرق بين التركيز والانتباه. ففي الانتباه لا يوجد مسيطر. لذا هل توجد في حياتنا اليومية طريقة تخلو تمامًا من أي نوع من السيطرة النفسية؟ لأن السيطرة تعني بذل جهد، وانقسام بين المسيطر والمسيطر عليه. فإذا غضبتُ، عليَّ أن أسيطر على غضبي، وإذا كنتُ من المدخنين فعليَّ أن أتوقف عن التدخين وأن أقاومه. ونحن نقول بوجود شيء مختلف تمامًا، لكن هذا من الممكن ألاَّ يُفهم بشكل صحيح وأن يُرفض تمامًا لأنه غالبًا ما يقال إن الحياة بكاملها عبارة عن تحكُّم – إذا لم تتحكم ستصبح متساهلاً وأحمق وبلا معنى، لذا يجب عليك أن تسيطر، وكل من قد تفكر فيه، كل الأديان والفلسفات والمعلمين وأعضاء الأسرة وأمك، كلهم يشجعونك على السيطرة. لكننا لا نسأل أبدًا من هو المسيطر؟ يعود المسيطر دائمًا إلى الماضي، والماضي هو المعرفة، أي الفكر. والفكر قسَّم نفسه إلى مسيطِر ومسيطَر عليه. وهذه هي عملية التركيز. وفهمنا لهذا يجعلنا نطرح سؤالاً أكثر جوهرية هو: هل يستطيع المرء العيشَ في هذا العالم، مع عائلته ومسؤولياته، من دون وجود أدنى طيف من السيطرة؟ انظروا إلى جمال هذا السؤال. لقد درِّب عقلنا لآلاف السنين لكي يكبح ويسيطر، وهو الآن، عاجز تمامًا على التعامل مع كليته. انظر بنفسك إلى ما يفعله. راقب دماغك وهو يعمل، تفحَّصه بطريقة نقدية ليس فيها خداع أو تنويم. تحتوي معظم أنظمة التأمل التي جاءت من آسيا على السيطرة؛ السيطرة على الفكر بحيث تحظى بذهن يطفو في السلام، ذهن هادىء، وغير مشتت بشكل دائم. فالصمت والهدوء والسكون الكلي للذهن أمور ضرورية لتحقيق هكذا أشكال من التأمل. وهذه، رغم كونها لطيفة، إلاَّ أنَّ السيطرة هي أساسها. بدلاً من ذلك، تُسلِّم نفسَكَ إلى غورو (معلم) أو إلى مبدأ ما وتنسى نفسك لأنك سلَّمْتَ نفسكَ إلى شيء ما ولهذا تحظى بالسلام، إلاَّ أن هذا يعيدك من جديد إلى حركة الفكر، إلى الرغبة والإثارة الناجمة عن تحقيق شيء أردته. ليس الانتباه نقيضًا للتركيز، لأن جذر النقيض يكمن في النقيض ذاته. فإن كان الحب نقيضًا للكراهية فإنه يصبح وليدها. لذلك فإن التركيز ليس نقيض الانتباه، إنهما أمران منفصلان تمامًا. هل يتطلب الانتباه بذل الجهد؟ إنه أحد نشاطاتنا الرئيسية، إذ عليَّ بذلُ الجهد، فأنا كسول، ولا أريد النهوض هذا الصباح، ولكني مضطر لذلك، وبالتالي مضطر إلى بذل الجهد. أنا لا أريد أن أفعل أي شيء لكنني مضطر لهذا. انظروا كم رائع واقع أنه ليس بوسعنا الالتقاط المباشر لما يعنيه هذا الأمر، ولا بد من شرحه وشرحه وشرحه، إذ يبدو أننا غير قادرين على فهم الفرق بين التركيز وبين الانتباه؛ غير قادرين على التبصر في الانتباه وأن نكون متنبهين. متى ننتبه؟ من الواضح أن الانتباه لا يتحقق ببذل الجهود، فعندما يبذل المرء جهدًا ويحاول أن يكون منتبهًا فإن هذا يعني أنه غير منتبه وبالتالي يحاول تحويل شروده إلى انتباه. ولكن أن يمتلك المرء سرعة تبصُّر، بحيث يكتشف مباشرة زيف المؤسسات الدينية، فإن هذا يعني أنه أصبح خارجها. لأن هذا يعني أن يرى المرء مباشرة بأن المراقِب هو المراقَب، وبالتالي لا يبذل أي جهد. يوجد الجهد حين يوجد الانقسام. ألا يعني هذا أن دماغ المرء قد أصبح ضحلاً لأن الإمرء دُرِّبَ ودُرِّبَ إلى درجة أنه فقد سرعته الأصلية، وقدرته على الرؤية المباشرة من دون شروحات وكلمات وكلمات وكلمات. ولكن، مع الأسف، يجب علينا خوض هذه النقاشات لأن ذهن الإنسان، عقل الإنسان، لا يستطيع الالتقاط الفوري لأنْ ليس للحقيقة من دروب؛ لأنه ليس بوسعه أن يرى اتساع تلك الإفادة وجمالها، وأن يضع جانبًا كل الدروب، ما يحرر عقله ويجعله نشيطًا للغاية. وإحدى الصعوبات التي تواجهنا هي أن المرء قد أصبح ميكانيكيًا، فالدماغ الذي لا ينشط بكثرة يذوي تدريجيًا، لأنه إن كان على دماغ المرء أن يفكر وأن يكون فاعلاً، لكن فقط بشكل جزئي، وإن كان الحاسوب سيتولى كلَّ العمل ومعظم التفكير بسرعات تفوق الدماغ، فإن هذا يعني أن الدماغ البشري سيضمر. وهذا ما يحصل حقًا. وهو ليس كلامًا مبالغًا يقوله المتحدث. هذا ما يحدث الآن من دون أن ندركه. خلال عملية التركيز هناك دومًا مركز ينطلق منه المرء، فعندما يركِّز المرء فإنه يفعل ذلك لهدف ما، أو لدافع عميق داخله، أي أن الفرد يراقب انطلاقًا من مركز، بينما أثناء الانتباه لا يوجد أي مركز على الإطلاق، لأنه عندما ينظر الإنسان إلى شيء هائل – كالجبال بهيبتها وجلالها، والخط الذي تلتقي عنده بالسماء الزرقاء، وروعة الوادي – فإن الجمال ينفي وجود مركز؛ وللحظة، يذهل المرء بعظمة المشهد، فحين ينتفي المركز يصبح الجمال هو الإدراك. الطفل حين يُعطى لعبة ينشغل بها لدرجة أنه يتوقف كليًا عن إزعاج الآخرين، ويصبح بالكامل مع اللعبة، لكنه حين يكسر اللعبة، يعود إلى نفسه. كذلك ينهمك معظمنا ويستغرق بألعابه المختلفة، وعندما تمضي هذه الألعاب نعود إلى أنفسنا. وعندما نفهم أنفسنا دون لعبة، دون توجه، دون أي دافع، تتحقق الحرية من التخصص ما يجعل الدماغ يعمل بكليته. وعندما يعمل الدماغ بكليته يكون كلِّي الانتباه. دائمًا ينظر الإنسان أو يشعر ببعض من حواسه. يسمع المرء الموسيقى، لكنه لا يستمع فعلاً بالمطلق، أي أن المرء لا يدرك أبدًا أي شيء بكامل حواسه. عندما ينظر واحدنا إلى جبل تعمل الحواس بكل طاقاتها بسبب جلال الجبل وهيبته، لهذا ينسى المرء نفسه. كذلك عندما ينظر المرء إلى حركة البحر أو إلى انسياب القمر في السماء، ويكون متنبهًا بالكامل، بكل حواسه، يتحقق ذلك الانتباه الكلي الذي لا مركز له. ما يعني أن الانتباه هو الصمت الكامل للدماغ، حيث تتوقف الثرثرة، ويكون الذهن ساكنًا تمامًا – أي أنه سكون كامل للذهن والدماغ. وللصمت أشكال عدة كالصمت بين ضجيجين، والصمت بين علامتين موسيقيتين، والصمت بين الأفكار، والصمت الذي تجده حين تذهب إلى الغابة – لأنه حين يوجد الخطر الكبير لحيوان مفترس، يصبح كل شيء صامتًا بالكامل. وهذا الصمت لا يتراكب مع الفكر، كما لا يحصل نتيجةً للخوف، إذ عندما يعتريك الفزع حقًا تصمت أفكارك وأعصابك – لكن لا علاقة للتأمل بهذا الصمت، إنه مختلف عنه كليًا. فصمت التأمل هو تفاعل الدماغ بكليته مع كل الحواس الفاعلة، لأن الحرية هي التي تحقق السكينة الكاملة للذهن. وحده ذهن كهذا، وحده دماغ كهذا، يكون ساكنًا بالكامل – وهو سكون غير ناتج عن مجهود، أو عزم، أو رغبة، أو دافع. وهذه السكينة هي حرية النظام، التي هي فضيلة، واستقامة في السلوك. في تلك السكينة وحدها يتحقق ذاك الذي لا اسم له ولا زمن. وهذا هو التأمل. 26 تموز، 1981 ترجمة: يارا البرازي *** *** *** |
|
|