الصفحة السابقة             الصفحة التالية

شبكة الفكر: أحاديث أمستردام: الحديث الأول

 

جدّو كريشنامورتي

 

من المؤسف حقًا أنه لم يبق أمامنا سوى حديثين، لذا علينا تكثيف ما سنقوله عن كلية الوجود. ونحن بهذا لا نقوم بأي نوع من الدعاية، ولا نحثُّكم على التفكير في اتجاه محدد، ولا نحاول إقناعكم بأي شيء – هذا ما يجب أن تكونوا مقتنعين به بالكامل. كما أننا لا نعرض عليكم أية أشياء غريبة exotic من الشرق كذلك الهراء الذي ينطق به المعلمون والغوروات وأولئك الذين يكتبون أشياء غريبة بعيد زيارتهم للهند – فنحن لا ننتمي إلى ذاك الحشد على الإطلاق. مؤكدين على أننا، وخلال هذين الحوارين، سنفكر معًا، بمعنى أنكم لن تستمعون فقط إلى بعض الأفكار التي قد توافقون أو لا توافقون عليها؛ فنحن لا نبتدع حججًا أو آراءً أو أحكامًا، ولكننا معًا – أي أنتم والمتحدث – سنتمعن بما تحوَّل إليه العالم، ليس في الغرب فقط بل في الشرق أيضًا حيث يوجد فقر شديد، وبؤس شديد، وزيادة سكانية هائلة، وحيث ليس بوسع السياسيين، كما هي الحال في الغرب، التعامل مع ما يجري حولهم. هناك حيث يفكر كل السياسيين بمنطق قبيلة، وحيث تحولت القبليةُ إلى ما يسمى قومية ممجدة. لهذا ليس بوسعنا الاعتماد على أي من السياسيين أو القادة أو أي من الكتب التي أُلِّفت حول الدين. لا نستطيع الاعتماد على أي من هؤلاء الناس ولا على العلماء أو البيولوجيين أو علماء النفس، فهم لم يستطيعوا حل مشاكلنا الإنسانية. أنا واثق تمامًا أنكم توافقون على كلِّ هذا. كما لا نستطيع الاعتماد على أي من المعلمين-الغورو الذين لسوء الحظ جاءوا إلى الغرب واستغلوا الناس وأصبحوا أثرياء جدًا، إذ لا علاقة لهم بالدين مطلقًا.

وبما أننا قلنا كل هذا فمن المهم أن نفكر معًا – المتحدث وأنتم. وبالتفكير معًا نحن لا نعني مجرد قبول أي رأي أو تقييم بل أن نتمعن معًا، ليس فقط بما يحصل في العالم خارجًا، بل أيضًا بما يجري في داخلنا، نفسيًا. أما خارجيًا، فهناك الكثير من الشك بالمجهول والفوضى والحروب أو من تهديدات الحروب، حيث هناك فعلاً بعض الحروب التي تجري الآن في بعض أنحاء العالم، حيث يقتل الناس بعضهم بعضًا. وهذا لا يحصل هنا في الغرب، لكن يوجد خطر حرب نووية، بالإضافة إلى الاستعداد للحرب الموجود دومًا. ونبدو نحن الناس العاديين وكأننا غير قادرين على فعل أي شيء حيال كل هذا، حيث هناك مظاهرات، وإرهاب، وإضرابات عن الطعام، وهلم جرا. تقف جماعة قبيلة ضد أخرى، فيشير العلماء إلى هذا الحدث الذي يمكن أن يتحدث ضدَّه الفلاسفة، إلا أنهم ما زالوا يفكرون في أعماقهم من منطلقات قومية، وفقًا لسيرهم الخاصة. لذا فإن هذا ما يحدث في العالم الخارجي من أمور يمكن أن يلحظها أي إنسان عاقل.

أما داخليًا، وسواء في أذهاننا وفي أعماق قلوبنا، فنحن أيضًا مشوَّشون للغاية. إذ لا نشعر بالأمان، ليس لأنفسنا فقط ربما، بل حيال جيل المستقبل أيضًا. فقد قسَّمَت الأديانُ البشرَ إلى مسيحيين وهندوس ومسلمين وبوذيين. لذا، وآخذين كل هذا بعين الاعتبار، ومراقبين ما يجري بموضوعية وبهدوء ومن دون أية فكرة مسبقة، بالإضافة إلى الإدراك باستخدام الحواس وبهدوء ومن دون أي تحيز، فإنه من الطبيعي أن نفكِّر معًا حول كل هذا. أن نفكِّر معًا، من دون أن تكون لدينا آراء تعارض مجموعةً أخرى من الآراء، ولا استنتاج يعارض استنتاجًا آخر، أو مبدأ يعارض مبدأ آخر، بل التفكير معًا حقًا وتلمُّس ما بوسعنا فعله كبشر. لأن الأزمة ليست في عالم المال، ولا في عالم السياسة، بل في الوعي. أعتقد أن قلة منا تدرك هذا. إن الأزمة في عقولنا وفي قلوبنا، وبالتالي في وعينا. وعينا هو وجودنا كله، بما فيه معتقداتنا وخلاصاتنا، قومياتنا ومخاوفنا، متعنا ومشاكلنا التي تبدو غير قابلة للحل، وذلك الشيء الذي ندعوه بالحب، والتعاطف؛ بالإضافة إلى مشكلة الموت، متسائلين عن وجود أي شيء بعده، أيْ: شيء يتجاوز الزمان والفكر، أي شيء سرمدي. هذا هو محتوى وعينا.

هذا هو محتوى وعي كل إنسان، في أي مكان من العالم. إن محتوى وعينا هو الأرضية المشتركة للبشرية جمعاء. وهذه نقطة أعتقد أنه يجب توضيحها من البداية، فأي شخص يعيش في أي مكان من العالم يعاني، ليس فقط جسمانيًا وإنما أيضًا داخليًا، فهو يشعر بالشك والحيرة والخوف، تعتريه الفوضى والقلق دون أي شعور عميق بالأمان. لذا فإن الوعي واحد لدى الجميع. أرجوكم استمعوا لهذا، فأنتم تسمعونه ربما للمرة الأولى لذا أرجوكم لا تهملوه، ودعونا ندرسه ونفكر به معًا، ولا أعني عندما تذهبون إلى البيت، بل الآن: فوعيكم، وما تفكرون وتشعرون به، وارتكاساتكم وقلقكم، ووحدتكم وأسفكم، وألمكم وبحثكم عن شيء أبعد من المادي المحسوس، شيء يتجاوز كلَّ فكر، هو نفسه بالنسبة لشخص يعيش في الهند أو روسيا أو أميركا، إذ يمرون جميعًا بمصاعبك نفسها، مشاكل العلاقة بين الإنسان والآخر نفسها، سواء كان رجلاً أو امرأة. لذا نحن نقف جميعًا على أرضية الوعي ذاتها. فوعينا مشترك بيننا جميعًا ولهذا بالضبط نحن لسنا أفرادًا. أرجوكم فكروا في الأمر. لقد دُرِّبنا وثُقِّفنا دينيًا ومدرسيًا لنفكر ونعتقد بأننا فرادى، بأننا أرواح منفصلة، نكافح من أجل أنفسنا، لكن هذا وهمٌ لأن وعينا الإنساني مشترك، ما يعني أننا بشرية، وأننا لسنا أفرادًا منفصلين نكافح من أجل أنفسنا. وهذا منطقي وعقلاني وصحيح. نحن لسنا كيانات منفصلة بمحتويات نفسية منفصلة تكافح من أجل خلاصها وحدها. لكننا، لكن كل واحد منا، الآن هو بقية الجنس البشري.

ربما ستقبل هذا المنطق عقلانيًا، ولكن، إن شعرتَ به بعمق فإن نشاطك كله سيتحول جذريًا. وهذا أول أمر علينا التفكير به معًا: إن وعينا، طريقة تفكيرنا، طريقة عيشنا، رغم أن بعضنا ربما أكثر رفاهًا ووفرةً وبوسعه السفر بسهولة أكبر من الآخرين، هو داخليًا ونفسيًا تمامًا الوعي نفسه لأولئك الذين يعيشون بعيدًا عنا بآلاف الأميال.

فكل شيء علاقة، ووجودنا نفسه مترابط، لذلك ارصد ما فعلناه بالعلاقات فيما بيننا، سواء كانت هذه العلاقات حميمة أو عادية. يوجد صراع هائل في كل علاقة. لماذا؟ لماذا لم تحل الكائنات البشرية التي عاشت أكثر من مليون عام مشكلة العلاقة هذه؟ لذا، دعونا في هذا الصباح نفكر معًا في هذا الموضوع. دعونا نرصد معًا ماهية العلاقة بين الرجل والمرأة، فكل مجتمع قائم على العلاقة، ولا يوجد مجتمع إن لم توجد علاقة، وإلاَّ يصبح المجتمع فكرة مجردة.

يلاحظُ كلٌّ منا وجودَ تعارض بين الرجل والمرأة، فللرجل ذهنية خاصة وطموحات تعنيه وحده، إنه في بحث مضطرد عن النجاح، ويحاول دومًا أن يكون شخصًا ما في العالم؛ كما تكافح المرأة أيضًا، لتصبح شخصًا ما، وتريد أن تحقق، وأن تصبح. كلٌ يلاحق هدفه واتجاهه. لذا فهما يشبهان خطي قطار يسيران على التوازي، ولا يلتقيان إلا في السرير ربما. لكن بطريقة أخرى – إن تمعنتم عن قرب – هما لا يلتقيان في الواقع نفسيًا وداخليًا، لماذا؟ هذا هو السؤال. وعندما نسألُ لماذا، نحن نتسأل دومًا عن السبب، نفكِّر من منظور سببي، آملين أن يكون بوسعنا ربما تغيير النتيجة لدى فهمنا للسبب.

ما نسأله هو سؤال بسيط وشديد التعقيد في آن واحد: لماذا لم نتمكن، كبشر، من فهم مشكلة العلاقة مع أننا قد عشنا على هذه الأرض منذ ملايين السنين؟ ألأن لكل واحد منا تصوره الخاص الذي وضعه الفكر، ولأن علاقاتنا مبنية على تصورين: التصور الذي يبنيه الرجل عن المرأة والتصور الذي تبنيه المرأة عن الرجل؟ وهكذا نصبح في العلاقة مجرد تصورين يعيشان مع بعضهما. وهذه حقيقة. لأنك إن درستَ ذاتك وراقبتها جيدًا وجدتَ أنك ابتدعتَ تصورك عنها وقامت هي بفعل الأمر نفسه عنك، عن الرجل. لذا فإن العلاقة تصبح بين تصورين. وقد بنى الفكر كلا التصورين. والفكر ليس حبًا. وكل الذكريات التي تخللت هذه العلاقة، كل الصور والنتائج التي خلص لها كل منكما عن الآخر هي، إن تمعنت بحيادية، من نتاج الفكر؛ إنها نتيجة الذكريات المختلفة والتجارب والأذيات والوحدة، ما يعني أن علاقاتنا هذه ليست حبًا إنما تصورٌ شكَّله الفكر. لذلك إذا أردنا فهم حقيقة العلاقات، علينا فهم كل حركة الفكر، لأننا بالفكر نحيا، وكل أفعالنا مبنية عليه، كل المباني العظيمة والكاتدرائيات والكنائس والمعابد وجوامع العالم هي من نتاج الفكر، وكل ما يوجد داخل تلك المباني الدينية – التماثيل والرموز واللوحات – هو بأكمله صنيعة الفكر. هذا لا يُنكر. لكن الفكر لم يبدع كل تلك المباني الرائعة ومحتوياتها فحسب، بل ابتدع أيضًا أدوات الحرب، القنبلة بمختلف أشكالها. كما أنتج الفكرُ الجرَّاح وأدواته الجراحية الدقيقة، وأنتج النجَّار ودراسته للأخشاب والأدوات التي يستعملها. إن محتويات الكنيسة ومهارة الجرَّاح وخبرة المهندس الذي بنى جسرًا جميلاً، هي كلها من نتاج الفكر – لا يمكن إنكار هذا. لذا، على المرء أنْ يتمعن في ماهية الفكر ولِمَ يعيش الناس على الفكر، ولِمَ سبَّب الفكر كل تلك الفوضى التي تعمُّ العالم – كالحروب ونقص التواصل بين بعضنا، كما عليه التمعن في قدرة الفكر المهولة في طاقته غير العادية، كما علينا أن نرى كيف جلب الفكر للبشرية كل هذه المآسي خلال ملايين السنين. أرجوكم دعونا نرصد هذا معًا، ونتمعن به معًا. لا تكتفوا بمعارضة المتحدث. بل لنتمعن معًا بما يقوله كي نفهم معًا ما يحدث حقًا لنا جميعًا، لأننا ندمر أنفسنا.

وكما أن الفكر هو استجابة الذاكرة لأحداث الماضي، كذلك يصوِّر نفسه كأمل للمستقبل. الذاكرة هي المعرفة والمعرفة هي ذاكرة الخبرة. أي توجد الخبرة، ومن الخبرة تتولد المعرفة كذاكرة تفعل انطلاقًا من الذاكرة. ومن ذلك الفعل تتعلم، مما يمنحك المزيد من المعرفة. أي أننا نعيش في هذه الدورة: الخبرة، الذاكرة، المعرفة، التفكير، الفعل؛ أي نعيش دائمًا في حقل المعرفة.

الأمر الذي نتحدث عنه شديد الأهمية، ليس أمرًا يطيب بحثه في العطلة، أو نستمع إليه بشكلٍ عارض، بل هو أمر يتعلق بتحول جذري في الوعي الإنساني. لذا، علينا التفكير في كل ما سبق، والتمعن به معًا، متسائلين لماذا ما زلنا، كجنس بشري، كما نحن رغم أننا عشنا ملايين السنين على هذه الأرض؟ قد نكون تقدَّمْنا تقنيًا وتحسنَت وسائل اتصالاتنا ووسائط مواصلاتنا، وتقدَّمت طرق وقايتنا ونظافتنا، أمَّا داخليًا فما زلنا، إلى حدٍّ ما، كما كنا: تعساءَ، حيارى، وحيدين، ونحمل أعباء الأسى في قلوبنا إلى ما لا نهاية. إن أي شخص جدي، عندما يواجه بهذا الكلام، سيستجيب؛ لأنه لا يستطيع أن يمر عليه مرور الكرام، وأن يدير له ظهره. وهذا هو سبب الأهمية الكبرى هذه اللقاءات، إنها مهمة جدًا لأنها توجب علينا حثَّ عقولنا وقلوبنا لمعرفة ما إذا كان بالإمكان إحداث تحوُّل جذري في وعينا وبالتالي في أفعالنا وسلوكنا.

يتولد الفكر عن التجربة وعن المعرفة، ولا يعتبر مقدسًا مهما كان. والتفكير شيء دنيوي، إنه من أفعال المادة. وقد اعتمدنا على التفكير من أجل حلِّ جميع مشكلاتنا السياسية والدينية والشخصية. فأدمغتنا وعقولنا مشروطة ومدربة لحل المشاكل. التفكير يخلق المشكلات وتقوم الأذهان بمحاولة إيجاد الحلول لها عبر التفكير. لقد خلق الفكرُ كلَّ المشكلات النفسية والداخلية. تتبع ما الذي يجري: الفكر يخلق المشكلة، نفسيًا، والذهن يحاول حلها بمزيد من التفكير لأنه مدرب على ذلك؛ ما يعني أن الفكر حين يختلق المشكلة ويحاول إيجاد حل لها، يصبح أسير عملية مستمرة روتينية. والمشاكل ما تنفك تصبح أعقد وأعقد، وأكثر استعصاء على الحل. لذا علينا البحث في إمكانية مقاربة الحياة بطريقة مختلفة لا يحكمها الفكر لأن الفكر لا يحل مشاكلنا؛ بل العكس، الفكر خلق المزيد من التعقيد. علينا معرفة ما إذا كان ممكنًا أو غير ممكنٍ وجود بُعدٍ مختلف، ومقاربة مختلفة، من أجل العيش معًا. من هنا تنبع أهمية فهم طبيعة تفكيرنا. وتفكيرنا مبني على تذكر أحداث قديمة – كالتفكير بما حدث قبل أسبوع، بمعنى التفكير به بشكل محوَّر اليوم، وعكسه على المستقبل. هذه هي في الواقع مسيرة حياتنا، وهكذا تعاظمت أهمية المعرفة بالنسبة لنا. إلا أن المعرفة ليست ولن تكون مكتملة، لذا فإنها تحيا دومًا في ظل الجهالة. هذه حقيقة، وهي ليست من اختراع أو استنتاج المتحدث، إنما الأمر هكذا.

الحب ليس ذكرى أو معرفة، ليس رغبة أو متعة، فالذكرى والمعرفة والرغبة والمتعة مبنية على الفكر، وإذا تمعنا عن قرب بعلاقاتنا مع بعضنا، مهما كانت حميمة، فسنجد أنها مبنية على الذكرى، التي هي فكر. أي أن تلك العلاقة – مع أنك قد تقول إنك تحب زوجتك أو زوجك أو صديقتك – مبنية في الحقيقة على الذاكرة، التي هي فكر. وفي الفكر لا يوجد حب. هل ترون الآن هذه الحقيقة؟ أم أنكم تقولون: ما أبشع هذا القول، فأنا أحب زوجتي حقًا – ولكن هل هذا صحيح فعلاً؟ هل يمكن للحب أن يوجد مع الغيرة، والرغبة في التملك، والتعلق، وعندما يلاحق كل واحد طموحه الخاص، وعندما يوجد الجشع والحسد؟ أهذا هو الحب؟

آمل أن نفكر معًا، أن نتمعن معًا، كصديقين يمشيان على درب ويتمعنان بما يحيط بهما، ليس فقط بما هو قريب منهما وواضح، بل أيضًا بما هو بعيد. نحن نخوض هذه الرحلة معًا، بمودة ربما، ويدًا بيد – كصديقين يتمعنان معًا في مشكلة الحياة المعقدة، لا أحد منهما معلم أو غورو، فحين يرى المرء فعلاً أن وعيه هو وعي بقية البشرية، فإنه يكتشف أنه المعلم والمريد في آن، المدرس والتلميذ في آن، لأن كلَّ شيء موجود في وعيه الخاص. وهذا إدراك هائل. لذا، عندما يبدأ المرء في استيعاب نفسه بعمق فإنه يتحول إلى نور لذاته ولا يعود بحاجة إلى الاعتماد على أحد ولا على أي كتاب أو أية سلطة – بما فيها سلطة المتحدث –، وهكذا يصبح الإنسان قادرًا على فهم مشكلة الحياة كلها، وأن يكون نورًا مضيئًا لنفسه.

ليس للحب من مشكلات، ولكي نفهم طبيعة الحب والشفقة بما تحمله من ذكاء خاص بها، علينا أن نفهم ماهية الرغبة. فللرغبة حيوية استثنائية، وإلحاح غير طبيعي، ودينامية، وإنجاز؛ فكل عملية التحقق والنجاح تستند إلى الرغبة – تلك التي تدفعنا إلى مقارنة أنفسنا بالآخرين، وتقليدهم والتأقلم مع المحيط. لذلك من الهام كي نفهم طبيعة أنفسنا أن نفهم ماهية الرغبة، لا أن نلغيها ونتجاوزها، بل أن نفهمها ونرى كل الزخم المترع فيها. نستطيع فعل هذا معًا، لكن هذا لا يعني أنكم تتعلمون أي شيء من المتحدث، لأنه ليس لدى المتحدث أي شيء ليعلمكم إياه. الرجاء أن تفهموا هذا. لأن المتحدث مجرد مرآة تمكنكم من رؤية أنفسكم. بعدئذٍ عندما ترون أنفسكم بوضوح تستطيعون رمي المرآة، التي لا يعود لها أهمية. تستطيعون كسرها.

يتطلب فهم الرغبة الانتباه والجدية، إنها مشكلة معقدة جدًا، أن نفهم لماذا عاشت الكائنات البشرية على الطاقة غير الاعتيادية للرغبة كما على طاقة الفكر. وما العلاقة بين الفكر والرغبة؟ ما العلاقة بين الرغبة وبين الإرادة؟ نحن نعيش إلى حدٍّ كبير بسبب الإرادة. لذلك، ما هي صيرورة الرغبة ومنبعها وما هو أصلها؟ يكتشف الإنسان مصدر الرغبة لدى مراقبته لنفسه؛ فهي تبدأ باستجابات حسية، ثم يخلق الفكر تصورًا وفي تلك اللحظة تولد الرغبة. يرى أحدنا شيئًا من النافذة، ثوبًا أو قميصًا أو سيارة أو مهما يكن؛ يراه المرء، فتتحرك الأحاسيس، ثم يلمسه فيقول الفكر: كم سأبدو جميلاً لو لبستُ ذاك القميص، تولد الصورة ومن ثم تبدأ الرغبة. ما يعني أن العلاقة بين الفكر والرغبة قوية جدًا. فلو لم يكن هناك فكر لما بقي سوى الإحساس. فالرغبة هي جوهر الإرادة، حيث يتحكم الفكر بالشعور ويخلق الحاجة الملحة والرغبة والإرادة في التملُّك. وحين يفعل الفكر في العلاقة – من خلال الذكريات والتصورات التي يخلقها عن الآخر – لا يمكن أن يوجد الحب. والرغبة بأشكالها – بما فيها الجنسية منها – تمنع وجود الحب لأن الرغبة جزء من الفكر.

وعلينا أن نراعي في دراستنا طبيعة الخوف لأننا جميعًا يتملكنا ذاك الشيء الرهيب المسمى بالخوف. ولا نبدو قادرين على إيجاد حل له. حيث نعيش معه ونعتاد عليه أو نهرب منه عبر اللهو أو مختلف أنواع العبادات أو المتع، الدينية وغيرها. والخوف موجود لدينا جميعًا، سواء كنا نعيش في هذا البلد المرتب والنظيف أو في الهند غير المرتبة والوسخة والمكتظة بالسكان. إنها المشكلة نفسها، مشكلة الخوف الذي عايشه الإنسان آلاف وآلاف السنين ولم يستطع التخلص منه. هل من الممكن – وهذا سؤال عظيم الأهمية والجدية – أن يتحرر الإنسان من الخوف بالكامل، وليس المقصود الخوف الجسدي المادي فقط بل من مختلف أشكال الخوف النفسي الأكثر حذاقة – كمخاوف الوعي وتلك المخاوف غير المكتشفة والتي لم نعرف يومًا بوجودها؟ والتمعن بهذه المخاوف لا يعني تحليلها، مع أن الموضة هذه الأيام هي أن تتجه إلى المحلِّل إذا ما واجهتك أية مشكلة. المحلِّل ليس سوى شخص عادي مثلي ومثلك، إلا أنه يمتلك تقنية ما. والتحليل يفترض وجود محلِّل، فهل يختلف المحلل عمن يحلله؟ أم أن المحلِّل هو المحلَّل؟ المحلل هو من يحلله، وهذه حقيقة واضحة جدًا. فإذا كنت أحلل نفسي فمن هو ذاك المحلل الذي في داخلي يقول: علي أن أحلَّل؟ ما يعني أنه ما زال ذلك المحلِّل الذي يفصل نفسه عن المحلَّل ومن ثم يتفحص الحالة التي يجب تحليلها. لذا فإن المحلِّل هو الحالة التي يحللها. إنهما متماثلان. والتفريق بينهما ليس سوى خدعة يلعبها الفكر. أما عندما نتمعن، فإنه لا يبقى هناك تحليل، ولا يبقى سوى الأشياء على ما هي في الواقع – لأن رؤية الأشياء الموجودة حقًا، يختلف عن تحليلها، ففي مجرى التحليل يمكن أن نخدع أنفسنا، إذ بوسعك أن تلعب هذه اللعبة بلا توقف حتى تموت لو أردت الاستمرار بالتحليل من دون أن تحقق أي تغيير جذري في نفسك. بينما عندما تتمعن في الحاضر كما هو – ليس كهولندي أو كإنكليزي أو فرنسي أو أية جنسية أخرى – وترى ما الذي يحصل حقًا، يكون ما تفعله رؤية نقية وصرفة للأمور كما هي عليه فعلاً.

إن رصد الخوف أمر يختلف عن التمعن في مسبباته، لأنه يتطلب المضي قدمًا والعودة من جديد إلى مصدر الخوف، وهو يعني تعلم فن المراقبة وليس ترجمة أو تفسير ما تراقبه، بل مجرَّد المراقبة كما يحصل حين تراقب وردة جميلة. لأنك في اللحظة التي تحللها تتلاشى الزهرة. هذا ما يفعله التحليل. ولكن انظرْ فقط إلى جمال الوردة أو إلى نور المساء من خلال غيمة أو إلى شجرة محددة في الغابة. انظر فقط. وبالمثل، نستطيع رصد الخوف ومنشأه – وليس جوانب الخوف المختلفة.

ونتساءل هنا عما إذا كان ممكنًا الخلاص من الخوف كليًا. وإذا ما تحدثنا على الصعيد النفسي الداخلي، ما هي جذور الخوف؟ ماذا يعني الخوف؟ ألا ينبع الخوف من شيء سبب لك ألمًا في الماضي وتخاف تكراره في المستقبل؟ ليس مما قد يحدث الآن لأن الآن خالية من الخوف. وتستطيع أن تلحظ بنفسك أن الخوف هو سيرورة زمانية. مثلاً: حدث شيء ما الأسبوع الماضي، حادثة سببت ألمًا جسديًا أو نفسيًا، وبالتالي هناك خوف من حدوث الأمر مرة أخرى غدًا. الخوف حركة في الوقت، حركة من الماضي، عبر الحاضر، إلى المستقبل. لذا فإن الفكر هو مصدر الخوف. والفكر هو الوقت، إنه تكديس المعارف عبر الخبرات واستجابة الذاكرة للفكر، ثم الفعل. لهذا فإن الفكر والزمان متحدان؛ فالفكر والزمن هما جذور الخوف. هذا شديد الوضوح. إنه كذلك حقًا.

ليست المشكلة الآن في إيقاف الفكر أو الزمن – إذ يستحيل إيقافهما طبعًا، بسبب أن تلك الكينونة التي تقول بوجوب ايقاف الفكر هي بعض من الفكر. لذا فإن فكرة إيقاف الفكر فكرة سخيفة، فهي تفترض مسيطرًا يحاول التحكم بالفكر، وهذا المسيطر هو صنيعة الفكر. أرجوكم انتبهوا لهذا؛ الرصد فعل بحد ذاته، وهذا لا يعني أن على المرء أن يفعل شيئًا بشأن الخوف. أتساءل إن كنتم تفهمون هذا؟

لنفترض أنني خائف من شيء ما، كالظلام مثلاً، أو أن زوجتي هربت، أي من الوحدة، أو من أي شيء آخر. أشعر برعب عميق. وتأتي أنت لتشرح لي حركة الخوف بكليتها وأصله الذي هو الزمن. لقد تعرضتَ لِما آلمكَ ومررتَ بتجربة سببت لك الأسى، فقام دماغك بتسجيل الواقعة، وولدت ذكريات تلك الحادثة تفكيرًا يقول بأنه من الممكن أن تتكرر. لهذا هناك خوف. هكذا شرحت لي الأمر، وأنا استمعت لك بانتباه شديد ورأيت أن كلامك منطقي وعقلاني، فلا أعترض عليه وإنما أستمع. وهذا يعني أن الاستماع قد أصبح فنًا، إذ لا أعترض على ما تقوله ولا أقبله، بل أراقب، وألاحظ أن ما تقوله لي عن الزمن والفكر حقيقي. أنا لا أقول: يجب علي إيقاف الزمن والفكر، ولكن بما أنك شرحت لي الأمر تراني أراقب فقط كيف ينشأ الخوف الذي هو سيرورة فكرية زمانية. أراقب فقط هذه السيرورة دون الابتعاد عنها ولا الهرب منها، بل أتعايش معها وأتمعن فيها وأصرف طاقتي في تفحصها. ثم أرى أن الخوف بدأ في التلاشي لأني لم أفعل شيئًا حياله، إنما فقط راقبته، وأوليته كلَّ اهتمامي. وإيلاء هذا الانتباه يشبه تسليط ضوء كاشف على الخوف. فالانتباه يعني تقديم كل طاقتك لتلك المراقبة.

لماذا يبحث الإنسان عن المتعة؟ أرجو أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال. ألأن المتعة هي نقيض الألم؟ لقد تعرضنا جميعًا لشتى أشكال الألم – الجسماني والنفسي. نفسيًا، جُرح أغلبنا منذ الطفولة وتعرضوا للأذى، أي للألم. وتلا ذاك الألم الانسحاب والانعزال كي لا يُجرح المرء مرة أخرى. كما جرحنا أنفسنا بأيدينا منذ الطفولة، وخلال عبر مراحل الدراسة، بمقارنة أنفسنا بآخرين كانوا أكثر ذكاء منا، كما قام آخرون بإيذائنا عبر أشكال مختلفة من التعنيف والاعتداءات اللفظية التي أرعبتنا. فكان ذلك الجرح العميق وتبعاته من انعزال ومقاومة والمزيد المزيد من الانسحاب. لذا، ترانا نعتقد بأن نقيض حالتنا تلك هي المتعة. فالمتعة هي نقيض الألم. هل الصلاح هو نقيض ما ليس صالحًا؟ لو كان الصلاح هو النقيض، لكان يتضمن نقيضه. وبالتالي لا يعود صالحًا. لأن الصلاح أمر منفصل كليًا عمَّا هو ليس صالحًا. لذا، هل المتعة هي نقيض الألم؟ وهل هما متعاكسان؟ نحن نلهث دومًا وراء النقيض المعاكس. لذا يتسأل المرء: هل يمكن فصل المتعة كليًا، كالخير، عمَّا هو ليس بممتع؟ أم أن المتعة مخضبة بالألم؟ تمعن في المتعة عن قرب تجد دومًا أنها ذكرى، أليس كذلك؟ أنت لا تقول أبدًا "كم أنا سعيد" لدى شعورك بالسعادة، إنما دائمًا فيما بعد، يشعرك تذكرك تلك الحالة بالمتعة، كالغروب الجميل، كمجد المساء المفعم بذاك الضوء الاستثنائي الذي يبعث الكثير من البهجة في النفس. ثم يتم تذكر هذا وتولد المتعة. لذا فإن المتعة جزء من الفكر أيضًا – هذا جليٌّ جدًا. إن الغاية من فهم العلاقة والخوف والمتعة والأسى هي إدخال النظام إلى حياتنا. لأنه من دون نظام لا تستطيع التأمل. الآن يضع المتحدث التأمل في نهاية الحديث لأنه ليس بالإمكان التأمل السليم إن لم يكن هناك نظام في بيتك، في بيتك النفسي. إذا كان بيتك النفسي في فوضى، إذا كنت في فوضى فما جدوى التأمل؟ إنه مجرَّد هروب. وهو سيقودك إلى مختلف أنواع الأوهام، إذ بوسعك أن تجلس القرفصاء أو تقف على رأسك لبقية حياتك، إلا أن هذا ليس تأملاً. فالتأمل يجب أن يبدأ بتنظيم كامل لبيتك وعلاقاتك ورغباتك ومتعك، إلى آخره.

وأحد أسباب الفوضى في حياتنا هو الأسى، وهذا عامل مشترك وشرط موجود لدى الجميع. كلنا يمر بتراجيديا الألم، سواء في العالم الآسيوي أو في العالم الغربي. هذا أمر مشترك نتقاسمه جميعًا، إذ لا يوجد ما يُسمى بالألم الشخصي الخاص، إنما هناك ألم الإنسانية، الأسى الذي خلفته الحروب خلال خمسة آلاف عام من التاريخ المكتوب، لم تسلم سنة منها من الحرب والقتل والعنف والإرهاب والوحشية والتنكيل بالناس، أناس بلا أيدي، بلا أعين – لقد جلبت أهوال الحرب ووحشيتها بؤسًا هائلاً للبشرية. لذا فهو ليس ألمك وحدك، بل ألم البشرية جمعاء؛ الألم لرؤية شخص لا يملك سوى قطعة بالية من الثياب ليرتديها دون أي فرصة في تغيير ذلك مدى حياته – لا ترون هذا كثيرًا في البلدان الغربية، ولكن هذه هي حقيقة الأمر في العالم الآسيوي. وعندما ترى هذا الشخص يعتريك الأسى. كما يعتريك الحزنُ عندما تغرق في الأوهام، فتنتقل من غورو إلى آخر هاربًا من نفسك. شيء مؤسف أن نرى هذا، أولئك الأذكياء الذين يذهبون إلى الشرق، ويؤلِّفون الكتب عن رحلاتهم، ويجدون بعض الغوروات – الكثير يقعون في مثل هذه التراهات. كما يعتريك الأسى حين ترى ما يفعله السياسيون في العالم – حين يفكرون بعقلية قبيلة. أي يوجد الأسى الشخصي والغمامة الواسعة للأسى البشري. والأسى ليس شيئًا رومانسيًا أو شاعريًا أو مناف للمنطق؛ إنما هو موجود. وقد عشنا مع هذا الأسى لمدة لا يمكن تحديدها ولا حصرها، ومع ذلك يبدو أننا لم نتمكن من حلِّ هذه المشكلة. ونتساءل: هل بالإمكان التحرر منه بالكامل؟ لا تجنبه، ولا البحث عن العزاء، ولا الهروب من خلال نظرية خيالية، إنما هل من الممكن التعايش معه؟ فهم هذه الكلمات و"التعايش معه" يعني ألا تسمحَ له بالتحول إلى حالة اعتيادية، فمعظم الناس يعيشون مع الأسى ومع التعصب القومي، الذي هو الأكثر تدميرًا، كما أنهم يتعايشون مع استنتاجاتهم الدينية وأفكارهم ومثلهم الوهمية الخاصة والتي لا تقوم سوى بخلق المزيد من الصراع. لذا، عش مع أي شيء، عش مع الأسى، لكن من دون قبوله، ومن دون أن يصبح عادة – إنما انظر إليه، وواجهه دون هروب، ودون أي تساؤل عن كيفية تجاوزه، فقط امسكه بين يديك وتمعن. كما أن الأسى جزء من ذلك الإحساس العظيم بالوحدة، فقد يكون لديك العديد من الأصدقاء، وقد تكون متزوجًا ولديك الكثير من الأمور، إلا أنك قد لا تشعر في الأعماق سوى بالوحدة التامة. وهذا بعض من الأسى. لذلك انظر إلى تلك الوحدة من دون أي توجه، ومن دون أن تحاول تجاوزها أو إيجاد بديل لها؛ عش معها دون أن تعبدها ودون أن تصبح مهووسًا بها، بل أوْلِها جلَّ اهتمامك، أوْلِ كاملَ انتباهك لتلك الوحدة ولذاك الأسى.

إن فهم المعاناة لأمر عظيم، وحيث يتم التحرر من الأسى يأتي التعاطف، والإنسان لا يكون متعاطفًا طالما بقي متمسكًا بأي معتقد، وبأي رمز ديني محدد. فالتعاطف هو الانعتاق من الأسى. وأنى وجد التعاطف وجد الحب. كما يترافق التعاطف مع الذكاء – ليس ذكاء الفكر ودهائه، وتسوياته وقدرته على الاندساس في كل شيء. لأن التعاطف يعني نهاية الأسى. وعندها فقط يبزغ الذكاء.

19 أيلول، 1981

ترجمة: يارا البرازي

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود