|
شبكة الفكر: الحديث السادس
أعتقد أنه يتوجب علينا أن نتناقش معًا، وأن نخوض بعمق في موضوع الآثار المترتبة عن الأسى، لنكتشف – من أجل أنفسنا – إمكانيةَ تعايش الحب والأسى. وأن نستكشف أيضًا ماهية علاقتنا بالأسى كبشرية، وليس فقط حزننا الشخصي اليومي، والجرح، والألم، والحزن الذي يتسبب به الموت. لقد خاضت البشرية آلاف الحروب، إلى حدٍّ يبدو فيه أن الحروب لا تنتهي. وفي كلِّ أنحاء العالم، تركنا أمر تحقيق السلام للسياسيين، إلا أن ما يفعلونه، إن فهمتموهم جيدًا، لن يجلب السلام أبدًا. فنحن جميعنا نحضِّر للحرب. وذات يوم، ستتفجر هذه التحضيرات في مكان ما من العالم. وككائنات بشرية لم نتمكن أبدًا من العيش بسلام مع بعضنا، مع أننا نتحدث دومًا وبكثرة عن السلام. كما بشَّرت الأديانُ بالسلام – بالسلام على الأرض وبالنوايا الحسنة – لكن يبدو أنه لم يكن بالإمكان تحقيق السلام على الأرض، وأنا لا أعني هنا الأرض الفرنسية أو البريطانية، بل أرضنا. فنحن لم نتمكن يومًا من حل مشكلة قتلنا لبعضنا البعض. ربما يوجد العنف في قلوبنا، وربما لم نتحرر البتة من الإحساس بالعداوة، أو من الرغبة بالثأر، لم نتحرر من مخاوفنا وآلامنا ومآسينا وجراحنا، ولم نتغلب على آلام الحياة اليومية؛ لم نحظ أبدًا بالسلام أو بالراحة، بل نعيش دومًا في عناء. هذا بعض من حياتنا ومن معاناتنا اليومية. لقد جرَّبَ الإنسان العديدَ والعديد من الطرق، بدون حب، للتحرر من كل تلك المعاناة؛ فقمعها وهرب منها، متماهيًا مع أمور أعظم، مسلِّمًا نفسه للأفكار أو المثل أو المعتقدات. إلا أنه، على ما يبدو، لا يمكن لتلك الآلام أن تنتهي، فقد اعتدنا عليها، وأعددنا لها العدة، وتسامحنا معها، من دون أن نسأل أنفسنا أبدًا، بوعي وبجدية، ما إذا كان من الممكن إنهاؤها. كما يجب علينا الحديث معًا عن الآثار الهائلة للموت. فالموت جزء من الحياة، ورغم ذلك نؤجل أو نتفادى عمومًا الحديث عنه. الموت موجود، ولا بد من أن نصل إليه. كما لا بد من أن نتسائل عن إمكانية وجود الحب – وأنا لا أعني هنا تذكر المتعة التي لا تمت بصلة إلى الحب الحقيقي والود العميق – إنما عن الحب، وما يعنيه من فهم كلي عميق، في حياتنا. ونتساءل قبل كلِّ شيء: هل نريد حقًا، كبشر، التحرر من الأسى؟ هل خضنا يومًا في أعماقه، وواجهناه، وفهمنا كاملَ صيرورته، وكامل المعاني التي يتضمنها؟ لماذا لم نجد كبشر – رغم أننا بارعين جدًا في حلِّ المشاكل في العالم التقني – حلاً لمشكلة الأسى؟ من المهم أن نتحدث معًا عن هذه المشكلة، وأن نستكشف معًا إن كان بالإمكان حقًا إنهاء الأسى. نعاني جميعًا وبطرق مختلفة، حيث نحزن بسبب موت شخص ما، أو بسبب الفقر المدقع – الذي يعرفه الشرق جيدًا – وقد نشعر بالأسى الشديد بسبب الجهل – ليس المقصود هنا الجهل بمعناه الحرفي، إنما عدم التمكن من معرفة أنفسنا، وكل نشاطاتها المعقدة، بشكل كامل. لأننا حين لا نفهم ذلك بعمق نعيش دومًا في أسى وحزن بسبب تلك الجهالة. كما نشعر بالأسى لعدم قدرتنا على تحقيق شيء ما بشكل جوهري وبعمق، رغم أننا شديدو الذكاء فيما يخص إحراز النجاحات العلمية التقنية وغيرها من النجاحات في هذا العالم. كما لمْ نتمكن يومًا، ومهما كنا متعلمين وواسعي المعرفة، من فهم الألم، ليس فقط الفيزيائي، إنما أيضًا الألم النفسي العميق. كما نشعر دومًا بالأسى للصراع المستمر الذي نحياه، من اللحظة التي ولدنا فيها إلى اليوم الذي سنموت فيه. وكذلك هناك الأسى الشخصي الناتج عن انعدام الجمال الخارجي أو الداخلي لدينا. وكذلك الأسى الناجم عن التعلق ومخاوفه وفساده. وهناك الأسى الناتج عن كوننا غير محبوبين وتوقنا الشديد لأن نُحَب. كما ويوجد الأسى الناجم عن عدم إدراك أي شيء يتجاوز الفكر، أي شيء خالد وأزلي. وأخيرًا هناك الأسى الناجم عن الموت. لقد تحدثنا عن أشكال متعددة من الأسى، والعامل الأساسي فيه هو النشاط المتمركز حول الذات. فنحن جميعًا مشغولون بأنفسنا، بمشاكلنا التي لا تنتهي، بالشيخوخة، بعدم قدرتنا على استشراف منظور مستقبلي داخلي وعميق. نمتلك جميعًا تصورات عن ذواتنا وعن الآخرين. أدمغتنا مشغولة دومًا وباستمرار بأحلام اليقظة، أو مشغولة بالتفكير في هذا الأمر أو ذاك، أو تخلق تصورات وتصوغ أفكارًا من خيالها. منذ الطفولة الباكرة يبدأ المرءُ تدريجيًا في بناء تصوره عن (أناه)، وكل واحد منا يفعل هذا دومًا، وذاك التصور عن الذات، عن أناي، هو ما يتضرر. وحين تنكسر الـ(أنا) تحصل مقاومة، فتبني جدارًا حول نفسها كي لا تتضرر مرة أخرى، ما يولِّد مزيدًا من الخوف ومن العزلة، وإحساسًا بعدم وجود علاقة، ما يعزز الوحدة ويجلب الأسى. لكن، بعد حديثنا عن مختلف أشكال الأسى، هل نستطيع التمعن في هذا الأسى من دون التعبير عنه لفظيًا، ومن دون التهرب منه، والاختباء وراء شكل من أشكال التكيف الفكري مع دين معين أو فكرة معينة؟ هل نستطيع التفكير بكليته، من دون الابتعاد عنه، بل المحافظة عليه؟ ثم لنفترض أن لدي ابنًا أصم أو أعمى؛ أنا مسؤول، كما أني أشعر بالأسى لمعرفتي بأنه ليس بوسعه النظر يومًا إلى السماء الجميلة، ولا الاستماع إلى ترقرق المياه الجارية. هذا الحزنُ موجود: فتمسَّكْ به ولا تهربْ منه. أو لنفترض أنني أعاني من حزن عميق لفقدان شخص عشت معه سنين عديدة، ما يولِّد ذلك الأسى الذي يشكل نواة العزلة، فتشعر بأنك معزول بالكامل، وبأنك وحيد تمامًا. والآن، حافظ بالكامل على هذا الشعور، لا تُفعِّله، ولا ترشِّده، أو تهربَ منه، أو تحاول أن تتجاوزه – فهذه جميعها هي الحركة التي يحدثها الفكر، فعندما يوجد ذاك الألم من دون تطفل من الفكر – ما يعني أنك حزين فعلاً ولا تحاولُ تجاوز الأسى إنما أنت حزين تمامًا – سترى أن هذا الأسى سيختفي. ففقط حين يتشظى الفكر يحدث المخاض. عندما تشعر بالأسى تمسَّكْ به من دون أية حركة للفكر وبحيث يصل إلى مداه. فكلِّية الأسى لا تعني أني حزين، بل تعني أني الحزن – ما يعني اختفاء ما يتضمنه من تشظي. وعندما توجد تلك الكلِّية من الأسى لا يمكن التهرُّب منه، وسيضمحل. كيف يمكن للحب أن يوجد إذا لم نتخلص من الأسى؟ غريب ربطنا الأسى بالحب. أنا أحب ابني، وحين يموت سأمتلئ حزنًا – ذلك الحزن المرتبط بالمحبة. وها نحن نتساءل: هل من الممكن أن يوجد الحب حين يوجد الأسى؟ وهل الحب يعني الرغبة؟ هل يعني الحب المتعة – بحيث أننا إذا حرمنا من تلك الرغبة والمتعة سيتولد الحزن؟ نحن نقول عادة إن المعاناة كالغيرة والتعلق وحب الامتلاك هي بعض من الحب. لكن هذه هي إشراطاتنا، وهذه هي الطريقة التي نشأنا عليها، إنها جزء من ميراثنا وثقافتنا. الآن، يمكن للحب والحزن ألا يتفقا. وهذا ليس كلامًا نظريًا أو تأكيدًا كلاميًا فارغًا. فعندما يتمعن الواحد منا في أعماق الأسى ويفهم صيرورته التي تشمل المتعة والرغبة والتعلق ونتائج هذا التعلق وعواقبه وما يتسبب به من خراب، ويدرك طبيعة الأسى ويفهمها تمامًا، فإنه سيتساءل عن إمكانية وجود الحب مع الأسى. أم أن الحب شيء يختلف كليًا؟ يجب أن يكون واضحًا أن تكريس الذات لشخص أو لرمز أو للعائلة ليس حبًا. لأني إن كرست ذاتي من أجلك لأسباب عديدة فسيكون هناك دومًا دافع خلف ذلك. أما الحب فلا دافع وراءه. وحين يكون هناك دافع لا يكون هناك حب حتمًا. إذا كنت تمنحني المتعة، الجنسية أو سواها، فإن هذا سيولد التبعية، أي أن الدافع سيكون الاتكال عليك، لأنك تعطيني شيئًا ما في المقابل، وطالما بقينا معًا أسمي ما يجمعنا حبًا. لكن أهو الحب فعلاً؟ لهذا يتساءل المرء عن الأمر برمته: هل يمكن للحب أن يوجد عند وجود الدافع؟ لدى وجود الطموح، سواء في العالم المادي أو في العالم النفسي – كطموح أن تكون في القمة وأن تحصد النجاحات المستمرة وأن تحوز على السلطة الدينية أو المادية – هل يمكن للحب أن يوجد؟ من الواضح أن هذا غير ممكن. ونحن نعترف بأن هذا غير ممكن. ورغم ذلك نستمر في بناء العلاقات. انظروا ما الذي يمكن أن يحصل للدماغ عندما نلعب مثل تلك الألاعيب. على سبيل المثال أنا طموح، وأريد أن أقترب من الله روحيًا، أن أكون يده اليمنى، وأريد أن أحقق الاستنارة – أنت تعرف كلَّ تلك الخيبة؛ ليس بوسعك أن تستنير؛ ليس بوسعك تحقيق ما يتجاوز الزمن. يستمر التنافس والخضوع والغيرة والتخوف والكره يسري في أنفسنا، وفي أعماقنا. فإما أن نعي ذلك أو أن نتفاداه. ومع ذلك نستمر في قول: "أحبك" لزوجتي أو لأبي، كائنًا من كان. وما الذي يحصل عندما توجد كل هذه التناقضات العميقة في حياتي وفي علاقاتي؟ كيف يمكن لهذا التناقض أن يفسح مجالاً لوجود الصدق؟ ومع ذلك، هذا ما نفعله إلى أن نموت. هل يمكن لأحدنا أن يعيش بدون طموح وبدون منافسة؟ انظر إلى ما يجري في العالم الخارجي، هناك تنافس بين مختلف الأمم؛ يتنافس السياسيون فيما بينهم، اقتصاديًا، وتقنيًا وفي بناء أدوات الحرب؛ وهكذا تجدنا ندمر أنفسنا. ونحن نسمح لهذا بالاستمرار لأننا تنافسيون في أعماقنا. وكما أوضحنا، لو فهمَتْ ثلَّةٌ قليلة من الناس حقًا ما كنا نتحدث عنه طوال خمسين عامًا وبدأوا فعلاً بتطبيقه ووجدوا نهاية لمخاوفهم ووشعورهم بالأسى وما شابه فسيمتدُّ تأثيرهم ليشملَ وعيَ البشرية جمعاء. ولربما تشعرون بالشك فيما إذا كان هذا سيؤثر فعلاً في وعي الجنس البشري؟ لقد أثَّر هتلر وأشباهه في وعي البشرية، كذلك فعل نابوليون وقيصر وكلُّ جزاري العالم – لا أتحدثُ هنا عن الناس المحترمين، لأن الناس الطيبين هم الذين يعيشون الحياة بكليتها وليس بشكل مجزأ. لقد أثَّر المعلمون العظام في وعي البشرية فعلاً. وإذا فهمَت مجموعة من الناس ما كنا نتحدث عنه – بعيدًا عن الحرفية الفارغة، وعاشوا حياتهم وفقًا لفهمهم حقًا بكل صدق وأمانة – فسيكون لهم عظيم الأثر على وعي البشر. هذه ليست نظرية افتراضية بل حقيقة واقعية، لأنك إن فهمت هذه الحقيقة البسيطة، فسترى أنها ستأخذ مجراها لتتحقق عبر التلفاز والصحف وكل شيء آخر يخاطب وعي الإنسان. لذلك، لا يمكن أن يوجد الحب لدى وجود الدافع والتعلق والطموح والتنافس. فالحب ليس رغبة ولا متعة. عليك فقط أن تشعر به وأن تراه. ونحن نخوض في كل هذا لنحدث بعض النظام في حياتنا – بعض النظام في "بيتنا"، لأن هناك الكثير من الفوضى في حياتنا، وما لم ننظمها بشكل كلِّي وغير مجزأ، فليس للتأمل من معنى، لأنه إن لم يكن "بيت" الواحد منا مرتبًا فسيجلس للتأمل ظانًا أن هذا التأمل سيدخل النظام إلى حياته؛ ولكن ما الذي يمكن أن يحدث حين يتأمل الإنسان من ناحية، ويعيش في فوضى من ناحية أخرى؟ إنه سيحلم ويتخيل أوهام اليقظة ويصل إلى شتى النتائج المجنونة الممكنة. أما الإنسان المنطقي، العاقل، ذو العقل الراجح، فسيقوم أولاً بتنظيم حياته اليومية، ومن ثم يغوص في أعماق التأمل، في المعنى والجمال الكامن فيه، في عظمته وقيمه. الموت، كالحب والألم والشك والتكبر، جزء من حياتنا – مهما كانت أعمارنا، سواء كنا شبابًا أو متوسطي الأعمار أو مسنين. ومع ذلك لا نعتبر الموت جزءًا من حياتنا، ونريد تأجيله أو إبعاده عنا قدر الإمكان، لتكون لنا فسحة زمنية بين الحياة والموت. فما هو الموت؟ هذا سؤال معقد آخر. ليست المعتقدات المسيحية عن الموت والعذاب ولا المعتقدات الآسيوية المتعلقة بالتقمص سوى معتقدات تخلو من الجوهر كما كل المعتقدات. لذا، لندعها جانبًا ونحاول اكتناهه معًا. قد يكون الأمر غير سار، وقد لا تريد مواجهته. فأنت الآن حي، وبصحة جيدة، تستمتع، لديك مخاوف وأمور تقلق منها، كما لديك أمل في الغد لذا لا تريد القلق حول نهاية كل هذا. لكن إن كنا عقلاء، أصحاء، ومنطقيين فإنه يتوجب علينا أن نواجه الحياة بكل مضامينها، وأيضًا مضامين الموت. علينا معرفة كليهما. فهذه هي كلية الحياة التي لا تتجزأ. لذا، ما هو الموت إلى جانب كونه النهاية المادية الجسدية لمتعضية عاشت حياتها بشكل خاطئ، فأدمنت على الشراب والمخدرات وانغمست في الملذات، أو عاشت حياة حياة زهد وحرمان؟ يخوض الجسد هذه المعركة المستمرة بين المتناقضات، ولا يحظى بحياة متوازنة متناغمة، بل بحياة تميل إلى أحد الطرفين. كما يتعرض للضغط الرهيب الناتج عن الفكر. فالفكر يُصدر الأوامرَ والجسد تابع محكوم. وبما أن الفكر محدود فإنه يقود دومًا إلى مسارات متنافرة، ما يسبب عيشنا بشكل غير متناسق جسديًا، مجبر، متحكم، مخضع، وقائد للجسد – هذا ما نقوم به جميعًا بما في ذلك الصوم لأسباب سياسية أو دينية، أي بعنف. وقد يتحمل الجسد كل هذا لسنين طويلة فيبلغ من العمر عتيًا من دون أن يصيبه الخرف، إلا أنه سيصل يومًا ما إلى نهايته، وستموت المتعضية. أهذا هو الموت؟ هل ما نقلق إزاءه هو نهاية المتعضية عبر المرض أو الشيخوخة أو لدى التعرض لحادث أليم ما؟ أم أنه الفكر يتماهي مع الجسد والاسم، والشكل، وكل الذكريات ويقول: أن لا بد أن أتحاشى الموت؟ أم أننا نخاف من نهاية جسد اعتنينا واهتممنا به طويلاً؟ ربما لا نخاف من تلك النقطة بالذات إلا أننا نقلق حيالها بعض الشيء، لكن هذا لا يهم كثيرًا. لأن الأهم بالنسبة لنا هو انتهاء العلاقات التي حظينا بها، والمسرات التي عشناها، والذكريات المرة كما الحلوة، فهذه كلها تشكِّل ما نسميه حياتنا – حياتَنا اليوميةَ، حيث نذهب إلى المكتب أو المصنع أو نقوم بعمل نبرع به، أن تكون لنا عائلة، أن نتعلق بها وبكل ذكرياتها، بالابن والابنة والزوجة والزوج، وبوحدة العائلة – تلك الحياة التي تتلاشى بسرعة. ثم هناك الشعور بأن تكون على صلة بشخص ما، رغم ما قد يتخلل هذه العلاقة من ألم وقلق؛ شعور بأنك في المنزل مع شخص ما، أو ليس في المنزل مع أي شخص. هل هذا ما نخاف منه؟ انتهاء علاقاتي، وتعلقاتي، نهاية شيء عرفته، شيء تشبثت به، شيء تخصصت به طيلة حياتي – أتراني أخاف من انتهاء كل هذا؟ كل هذا الذي هو (أناي) – العائلة، الاسم، المنزل، التاريخ، الثقافة والموروث العرقيين، كل ما هو "أنا"، أناي المكافحة أو السعيدة. أهذا ما نخاف منه؟ انتهاء أناي، التي هي الانتهاء النفسي للحياة التي أعيشها، تلك الحياة التي عرفتها بآلامها ومآسيها. أهذا ما نخاف منه؟ لأنه إن كنا نخاف من هذا، ولم نعالج مشكلة الخوف، فسيأتي الموت حتمًا، عندئذٍ، ما الذي سيحصل لذاك الوعي، الذي هو ليس وعيك فقط بل وعي البشرية، وعي البشرية جمعاء؟ لأني طالما بقيت خائفًا بوعيي المحدود كفرد، فسيبقى هذا هو ما أخافه، وما أخشاه. يدرك المرء أن انفصال وعيه كليًا عن وعي الآخرين ليس حقيقة – ويرى أن ذاك الانفصال المزعوم مجرد وهم، وأنه غير منطقي وغير صحي. لذا، قد يدرك المرء في أعماق قلبه وقرارة شعوره ربما أن الفرد هو البشرية جمعاء – وليس مجرد وعي منفرد، الأمر الذي ليس له أي معنى. وإن عاش المرء هذه الحياة المحفوفة بالآلام والمآسي والقلق، من دون أن يُحوِّل عقلُه بعضًا مِن كل ما سبق، فإن حياته ستؤدي فقط إلى المزيد من الإرباك للكل. أما إذا فهم الإنسان أن وعي الفرد هو وعي البشرية وأن الفرد مسؤول كليًا عن الوعي البشري، عندها، سيصبح الانعتاق من محدودية الوعي أمرًا عظيم الأهمية. وعندما تتحقق تلك الحرية سيساهم المرء في كسر محدودية ذلك الوعي. وعندها سيتخذ الموت معنىً مختلفًا تمامًا. فقد عاش المرء ما أسماه حياةً فرديةً خاصة، فاهتم بشؤونه ومشكلاته الشخصية. وهذه المشكلات لا تنتهي أبدًا، بل تتفاقم. لقد عاش المرء هذا النوع من الحياة. فيأتي إلى هذا العالم ويربى ويتعلم ويتأقلم ليعيش هذا النوع من الحياة. أنت تأتي إلي كصديق – يشبهني ويحبني – مُحبٍّ لي وتقول لي: انظر، فوعيك ليس ملكًا لك، وأنت تعاني كما يعاني الناس جميعًا. وأنا أنصتُ إلى ذلك ولا أعترض على ما قاله صديقي لأن كلامه منطقي جدًا، وعاقل جدًا، وأرى هذا في بعض ما أخبرتني به، أنه يمكن تحقيق السلام في العالم. وأقول لنفسي: هل بوسعي الآن التحرر من الخوف؟ وأرى أني مسؤول، بالكامل، عن الوعي الكلي. وأني حين أستقصي أعماق الخوف أساعد وعي البشرية بكاملها على التخلص من الخوف. وعندها، يكون للموت معنى مختلفًا تمامًا. سأتوقف عن التوهم بأني سأجلس بعد موتي إلى جانب الله، أو أنني سأتوجه إلى الجنة ممتطيًا غمامةً غريبة. لأني أحيا حياة البشرية جمعاء، وإن فهمت الموت، وفهمت الحزن، فإني بفهمي هذا أنظف وعي الجنس البشري كله. لهذا فإن لفهم معنى الموت أهمية كبرى ولربما يفوق هذا أهمية أن نكتشف أن للموت مغزى كبير، وأن له علاقة كبيرة بالحب. لأنك إن أنهيتَ شيئًا ينبثق الحب. حين تنهي ارتباطك كليًا يكون الحب. 23 تموز، 1981 ترجمة: يارا البرازي |
|
|