|
قيم خالدة
الحرية! هذه الفاتنة التي خلبت الأفئدة على مدار التاريخ والألباب على السواء، واحتلت الركن الأساسي في تحديد ماهية الإنسان حتى أنها رادفتها لدى العديدين، وجعلت بذلك عمادًا لإنسانية الإنسان، وأداته لأنسنة الحياة وجعلها تتسربل بمعان تتجاوز مجرد ما هو كائن، ومحض الخضوع لحتميات الفطرة والانصياع لناموس الطبيعة. ومع أنها كذلك فقد بانت ونأت عن ربوع الوطن العربي من الخليج الزاخر إلى المحيط الهادر، حتى دنا اليأس من استنباتها من أن يكون هرمًا لا يرتفع، مما دفع البعض إلى اعتبار هذا الوطن موطنًا قاحلاً سدت حدوده وتلبدت سماؤه دون آفاق الحرية المشرعة. إلا أن التاريخ المفصح عن إرادة الشعوب أبى إلا أن يفند مزاعم كهذه، خالقًا المفاجأة التي تجاوزت يأس النخبة وآمالها في الآن ذاته؛ فتسارع الأحداث تجاوز أفق انتظارها وتنظيرها معًا، فكان أن ولج هواء الحرية الرئة العربية التي سرطنها الردح الطويل للاستبداد الذي ما انفك يتوالد من انقلاب عسكري إلى آخر، محجمًا الآمال ومجهضًا الأحلام، متمخضًا عن المزيد من الخيبات وعن غير قليل من النكبات، دون أن تحدث الثورة الشعبية مثلما هو حاصل الآن. ولأن النظر إلى الحاضر لا يستقيم إلا بالالتفات إلى الماضي والانفتاح على الآخر، دون الإرتهان للأول ولا الوقوع في شرك أسر الثاني، تمامًا مثلما أن السياقة لا تستوي ولا تكتمل عملية إدراك فضائها إلا بما تعكسه المرايا، فإنه من اللازم، ولو في عجالة، الالتفات إلى الشكل الذي ارتسمت به الحرية كمفهوم في فكر أبرز منظري الثورة الفرنسية لسنة 1789، الذي اعتبر كتابه في العقد الاجتماعي إنجيلاً لها، فكيف تتحدد الحرية داخل فلسفة جان جاك روسو كواحد من فلاسفة الأنوار الذين غذوا التقليد الجمهوري؟
الحوار مصدرٌ للفعل حاور يحاور، يدلُّ على المشاركة أو المفاعلة كالنزال والصراع والعلاج، وهذا يعني أن الفعلَ لا يتحقَّقُ إلا باشتراكِ طرفين أو أكثر. ولئن كانت بعض هذه الأفعال تهدفُ إلى غَلبةِ طرفٍ على آخر كالنزال والصراع فإن بعضها الآخر يمثِّل حالةً من التواصل الإنساني، تهدفُ إلى جلاءِ حقيقةٍ أو تحقيقِ نفعٍ لأحد الطرفين أو كليهما، أو إلى بناءِ وضعٍ وصياغةِ علاقةٍ ترتاحُ لها الأطرافُ وتنسجمُ معها وتندمج فيها، لأن في اختلاف الآراء حكمة، وفي تواصلها نعمة. ولكي يسير الحوارُ في المنحى الصحيح والسليم، وحتى يحققَ الغاية المرجوة منه، لا بد أن يستند إلى أسسٍ محددة، وأن تتوفر له شروطٌ مُلزمة. منها أن تكون الأطرافُ الداخلة فيه على مستوىً من الثقافة عميقٍ ومتقارب ومتخصص، فالثقافة كالبحر، تشعر بالأمن والاستقرار في لُجَجهِ وأعماقه، وتحسُّ بالاضطراب والاهتزاز على شواطئه، فالمتعمق الممسك بخيوط الموضوع يسوق الشاهد والحُجَّة المناسبة ويتقنُ توظيفَها في المِفصَل المناسب، إذ غالبًا ما تعتمد العامةُ أمثلةً وحكاياتٍ لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ لتدعمَ فكرةً معينةً أو تؤيدَ اتجاهًا معينًا.
في إنجيل العمل من أجل القوت اليومي خلق الله الإنسان لكي يعمل من أجل قوت يومه، وقال: الذين يأكلون ولا يعملون لصوص. (الهند الفتاة، 13-10-1921، ص 325) *** لقد علمت بالقانون القائل إنَّ على الإنسان أن يعمل لكي يأكل. وقد جاءتني أولاً من قراءة كتابات تولستوي حول الخبز والعمل. لكن، حتى قبل ذلك، بدأتُ بتقدير هذه الفكرة حين قرأت كتاب روسكين بمعزل عن الماضي. وكان أول من تناول هذا القانون الإلهي القائل بأن على الإنسان أن يحصل على خبزه بعمل يديه كان كاتبًا روسيًا يدعى بونداريف، الذي عرَّف به ودعى إليه تولستوي. من وجهة نظري، لقد تمَّ التعرُّض إلى نفس الموضوع في الفصل الثالث من الغيتا حيث نقل إلينا بأن الذي يأكل من دون تقديم أضحية إنما يأكل طعامًا مسروقًا. والأضحية هنا تعني الخبز الذي هو نتاج العمل.
|
|
|