|
الحِــوار
الحوار مصدرٌ للفعل حاور يحاور، يدلُّ على المشاركة أو المفاعلة كالنزال والصراع والعلاج، وهذا يعني أن الفعلَ لا يتحقَّقُ إلا باشتراكِ طرفين أو أكثر. ولئن كانت بعض هذه الأفعال تهدفُ إلى غَلبةِ طرفٍ على آخر كالنزال والصراع فإن بعضها الآخر يمثِّل حالةً من التواصل الإنساني، تهدفُ إلى جلاءِ حقيقةٍ أو تحقيقِ نفعٍ لأحد الطرفين أو كليهما، أو إلى بناءِ وضعٍ وصياغةِ علاقةٍ ترتاحُ لها الأطرافُ وتنسجمُ معها وتندمج فيها، لأن في اختلاف الآراء حكمة، وفي تواصلها نعمة. ولكي يسير الحوارُ في المنحى الصحيح والسليم، وحتى يحققَ الغاية المرجوة منه، لا بد أن يستند إلى أسسٍ محددة، وأن تتوفر له شروطٌ مُلزمة. منها أن تكون الأطرافُ الداخلة فيه على مستوىً من الثقافة عميقٍ ومتقارب ومتخصص، فالثقافة كالبحر، تشعر بالأمن والاستقرار في لُجَجهِ وأعماقه، وتحسُّ بالاضطراب والاهتزاز على شواطئه، فالمتعمق الممسك بخيوط الموضوع يسوق الشاهد والحُجَّة المناسبة ويتقنُ توظيفَها في المِفصَل المناسب، إذ غالبًا ما تعتمد العامةُ أمثلةً وحكاياتٍ لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ لتدعمَ فكرةً معينةً أو تؤيدَ اتجاهًا معينًا. أما التقارب في مستوى الثقافة فينفي أن يتَّخذ أحد الطرفين دور المرشد ويترك للآخر دور المتلقي، كما ينفي أن يتمسك الآخر بموقفه ورأيه حتى لا يقرَّ بضعفه، لأن الجهل جذر العناد وبستانه. ومن البديهي أن لا يقوم حوار بين طبيب ومهندس حول أمراض القلب أو تسليح البناء. ومنها أن يدور الحوار حول موضوعٍ محدد ومقرر، إذ لا معنى لحوارٍ يحلِّق فوق القمم، ثم يتدحرج إلى الوديان أو يزحف في السهول، فيتشعب ويتخبط، ويتوه السامعون. وثالثها أن يلتزم كل طرفٍ فكرةً أو إيديولوجيا معينة، إذ ليس من العدل والإنصاف أن يكون أحد الطرفين مقيدًا والآخر طليقًا، كأن يدور حوارٌ بين عقائدي ماركسي مثلاً وآخر لا يلتزم أيَّ عقيدة أو إيديولوجيا، فيكون حرًا في انتقاء ما يناسبه من أمثلةٍ وشواهد وظواهر من تاريخ البشر كله ومن جغرافية الدنيا كلها. ومنها أن يتبنى كل طرف وأن يحملَ على كاهله كلَّ مفرداتِ الإيديولوجيا التي يمثلها أو يدافع عنها، وأن لا يتنصل من أيِّ فكرة منها أو أي مُمارسةٍ فيها، بحجة أن تلك الفكرة أو هذا الموقف كان ردة فعلٍ عرضية على ظاهرةٍ معينة، أو أنها مورستْ في مواجهة حالةٍ خاصة، إلا إذا كانت الأدبيات الرئيسة للإيديولوجيا قد تجاوزتها قولاً وعملاً، وقدمتْ المسوغات المنطقية للممارسة من جهة، ولمتطلبات تجاوزها من جهة ثانية. فعلى الماركسي الذي يتسلح بالنهضة الاقتصادية الرائدة في الصين، أن لا ينسى أو يتناسى الصراع الذي دار بين أبناء العقيدة الواحدة على الحدود بين الصين وفيتنام، أو بين الصين والاتحاد السوفياتي السابق. كذلك عليه أنْ لا يمرَّ مرورَ الكرام على امتلاكِ المسؤول الفلاني لفيلا أو دارة أو مقاطعة، أو يختٍ فاره مُترف، تحت شعارِ الاشتراكية والتوزيع العادل للثروات الوطنية. وعلى الذي يرتكز في حواره على المنطلقات الإسلامية في الحرية والعدالة والمساواة، أن يتسلح للدفاع عن ميراث المرأة، وتعدد الزوجات، والمُحرَم، ومُلك اليمين من الجواري والعبيد، والحجاب بالنسبة للمرأة الحرَّة وغير الحرة، وديَّة العبد، والجزية على أهل الذمة، ولمَ سُميت صدقةً على المسيحين من بني تغلب؟ وكيف أُخذت من الفرس الذين لم يكونوا أهل الكتاب؟ وحتى يستقيم الحوار ويتربع على كفتي ميزان العدالة المطلق عليه أن يبتعد عن الاستعداء والاستقواء، بمعنى أن يدور تحت مظلة الحرية المطلقة، كأن يلجأ أحدُ الطرفين إلى اجترار مقولات السلطة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها ليقيِّدَ الطرف الآخر ويحشره ضمن إطارٍ يحد حركتَه وانطلاقَه، فإن دافع عن الملكية الفردية اتُّهم بأنه عدوُّ الشعب، وإن تعرَّض لأحدِ رموز السلطة هدم ركيزةً من ركائز الدولة وركنًا من أركانِ المجتمع. والأكثر قسوةً أن يجنِّد أحدُ الطرفين عامةَ المجتمع بأفكاره ومقولاته المتوارثة، ضد الطرف الآخر، فإن تعرض لمسألة الحجاب أو لموضوع الاختلاط بين الجنسين اتُّهم بالتسيُّب والفلتان، وإن ناقش أمرَ الجزية اتُّهم بالكفر وانتهاكِ المقدَّسات. والأمر الثاني أدهى وأمرُّ وأكثرُ عنفًا وإرهابًا من الأول، لأن الأذى فيه يتعدى الشخص ذاتَه إلى أسرتِه وأهله وموقعها في المجتمع. وحتى يُحقِّقَ الحوار الغاية المرجوة منه على الأطراف المتحاورة أنْ تقرَّ مسبقًا أن كلَّ أمرٍ قابلٌ للنقاش، وبالتالي قابل للتعديل أو التطوير أو التصحيح، وعليه فلا يجوز لأحد أن يُلبسَ نفسه عمامةَ القداسة، ويقررَ سلفًا أنَّ ما يطرحُه غيرُ قابلٍ للنقاش ويوظِّف نفسَه ممثلاً أو ناطقًا باسم المقدس، فإذا استثنينا المسائل الجوهرية: كوجود الخالق، وكروية الأرض، وشروق الشمس وغروبها، ومنازل القمر، صار كل شيء قابلاً للأخذ والعطاء وخاضعًا للميزان العقلي للبشر. وهو بالتالي يدور ضمن النظرة العقلانية المتقدمة للإمام الشافعي حين قال: "وكلُّ ما أقوله صحيحٌ يحتمل الخطأ، وإنْ كنتُ أرى فيما يقوله غيري خطأً فهو يحتمل الصواب". فعلى سبيل المثال كيف يمكن أن يستقيم الحوار مع ماركسي متعصب حول الديمقراطية وهو ما يزال يؤمن أن ديكتاتورية البروليتارية أمرٌ مُسلَّم به كحاجة الكائن الحي إلى الماء والهواء؟ وكيف يستقيم حوارٌ مع قومي متطرف، حول قبول الآخر، وحول أن الناس شركاء في الحضارة الإنسانية، وهو على اعتقاد راسخ بأن طبيعةَ الدماء التي تجري في عروقه تقرِّرُ موقعَ قومه بين شعوب الأرض. والأدهى من هذا وذاك، كيف يستقيم حوارٌ مع من يعتبر نفسه واحدًا من الشعب المختار، ويؤمن إيمانًا مطلقًا بأن الآخرين أو الأغيار قد يصلحون عبيدًا أو خدمًا للشعب الذي اصطفاه الخالق العظيم. هذه الفئات... أقصد الإسلاميين المغالين، والماركسيين المتحجرين، والقوميين المتطرفين، والصهاينة العنصريين، وإن اختلفتْ اختلافات جذرية من حيث المبادئ والإيديولوجيات، فهي على اتفاق كامل في موضوع: رفض الآخرين. فالآخرون بالنسبة للفئة الأولى: خارجون عن الدين، لعنتهم الملائكة، وباركتهم الشياطين. وهم بالنسبة للفئة الثانية: أعداء للشعوب، متواطئون مع الاستعمار والإمبريالية. وبالنسبة للفئة الثالثة: شعوبيون حاقدون حاسدون. وللفئة الرابعة: الأغيار أدنى مرتبةً من حيث الخلق والجوهر، لا يجوز حتى النظر إليهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن للشعوب أو للأجيال أن تتعامل مع مثل هذه الطروحات؟ هل تقابلها بالرفض؟ وهي تعرف ما جرَّ عليها الرفض من ويلات ومحن، وبالتالي تصبح بمنزلة من يطرحها أويتبناها..! أم تقابلها بالتسليم والتصديق؟ وعندها لا حاجةَ إلى طرحها على طاولة الحوار، أم تتخذ منها موقفًا ثالثًا يستند إلى حقائق الحياة وعِبرَ التاريخ، يعتمد على فتح باب الحوار على مصراعيه مع كل الأفكار وكل الطروحات قديمةً كانت أو مستحدثة، وتعتمد على مبدأ قبول الآخر كما هو، ويدور الحوار حول الأفكار التي ترسِّخ التفاعل والتعايش بين جميع الأطياف والألوان تحت مظلة الإنسانية أو مظلة الوطن. فالهدف من الحوار يتمثل في تناول كل الأفكار والأسس التي يقوم عليها المجتمع بغية تطويرها وتجديدها لتتواءم مع معطيات العصر، وإفراز بنية اجتماعية جديدة وإنسان عصري، يتوافق بفكره وسلوكه مع عصر ما بعد الكهرباء، إن لم نقل مع عصر الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وفقًا للمبدأ القائل: تتغيَّرُ الأحكام بتغير الأزمان. ٭ أديب بدرخان (1944-2007): كاتب وسياسي سوري راحل، صدرت له رواية: ذاكرة الرحيل (2006)، وحكايات الريح الجبلية تحت الطبع.
|
|
|