|
إضاءات
كلُّ موعد بين اثنين عقدٌ ثنائي. وحده الموت ينقضُّ علينا دون أن يشاورنا. يسرقنا من هذا الوجود الذي نحبه ما لم يعذِّبنا مرضٌ شديدٌ أو خيباتٌ أحزنتْنا الواحدة تلو الأخرى. هناك مَن رغبوا في الفراق اشتياقًا إلى الله، إذ باتوا متغرِّبين عنه لمَّا كانوا في البشرة. الحقيقة أن خشيتنا النهاية، وما يبدو كذلك، إنما نحياها فقط عندما نحس الحياة تتحرك فينا. ما نرهبه أنْ تنتهي هذه الحركةُ فينا والوجودُ والفرحُ الكبير، وأنْ يحلَّ فينا ملكوتُ الظلام الذي نذوقه فعليًّا على أنه غياب الوعي وغياب الرؤية. وما يسود المؤمنين بالقيامة أنفسهم – ما خلا قلَّة ملتهبة – هو التماسُ الإرجاء للموت. فلسان حالهم إزاء الواقع المتوقَّع هو أن اليوم الموجود أفضل من غدٍ غير موجود، وأن الآتيات حاضنتنا، آجلاً أم عاجلاً، – فلماذا نتسرع في تمنِّيها؟! أنا لم أشاهد أحدًا في حالة الحبور والتشوق الكبير إذا دنا أجلُه! هذا غير حالة الهدوء التي يحياها المؤمنون الصالحون إذا أحسوا بأنهم ينطوون.
المنهجيَّة الصارمة في النقد الدِّيني سالم المتروك: تقرؤون الفضاء الديني ومكوِّناته التاريخية والعقائدية من خلال حفر تحليليٍّ واسع، تتوسلون فيه بجملة من العلوم الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن حسِّ السؤال النقدي الصادِم. بيد أن هناك مَن يأخذ عليكم أن قراءاتكم، بسبب طبيعتها "الصلبة"، تتعارض مع متطلَّب التسامح المنهجي الذي يقتضي انتقالاً تفكيكيًّا هادئًا بين اعتقادات الشعوب وموروثاتها اليقينية الكبرى ومقاربتَها بمنهجية تنأى عن تسخيفها وعن محاكمتها من منظور عَلمانوي خالٍ من الفوائد العملية والمواضعات المتصالحة. ما تعليقكم على هذه المؤاخذة؟ وبأيِّ نحوٍ تقدِّمون الخلفية المنهجية لكتاباتكم وأبحاثكم في الدِّينيات – الإسلاميَّات خاصة –، الموروث منها والمعاصر؟ وليد عبد الله: للانتماء إلى منهجية نقدية فيها أشكال من الصرامة أو الصِّدام التساؤلي عدة أسباب، منها أن للمنهجية الصارمة في النقد الديني امتدادًا موغلاً في تاريخ البحث والنقد والأساليب التي ظهرت في فترات تاريخية مختلفة؛ إلا أن لها في الزمن المعاصر أبعادًا أخرى: إذ نقرأ الصرامة المنهجية والمواجهة المعرفية الصِّدامية ونشاهدهما في الخطاب الفكري لدى بعض الباحثين والمفكرين والمثقفين وأصحاب المحاولات والمشاريع الفكرية الجُدُد، في العالم العربي والإسلامي، العراقي بالأخص، لما يمثل ذلك من مصداق لمعاينتهم سيرورة الانهيار الحضاري والفكري والقيمي وللظهور الواقعي لفعاليات الاقتتال المذهبي والعقائدي الداخلي وقمع السلطات وتجهيل المجتمع، بما يفرض، بدوره، مواجهةً منهجيةً تتسم بالصرامة الأكاديمية والمهنية العلمية القاسية عند الأساتذة الجامعيين، أو بالمكاشفة المعرفية والواقعية والصِّدامية المنهجية عند الباحثين بشكل عام، وذلك لعدة أسباب، منها:
مـدخـل نقصد بـ"العالم الإسلامي"، ابتداءً، هذه المنطقة الجغرافية الواسعة التي تقطنها غالبيةٌ من الناس تدين بالإسلام والتي تمتد من المغرب إلى إندونيسيا ومن نيجيريا إلى كازاخستان، وتبلغ مساحتها حوالى 32 مليون كم2، أي ما يقارب ربع مساحة اليابسة البالغة حوالى 149 مليون كم2. وتشير الإحصاءات المتداوَلة إلى أن عدد سكان الدول الإسلامية مجتمعةً (عدد الدول الأعضاء في "منظمة المؤتمر الإسلامي" 57 دولة) يبلغ حوالى 1.3 مليار نسمة؛ أما عدد نفوسهم على الكرة الأرضية فيقارب المليارين: أي أن العالم الإسلامي، من حيث النفوس، يبلغ حوالى ربع سكان العالم الذين تعدادهم حوالى ستة مليارات نسمة. وتتوزع دول العالم الإسلامي على أربع قارات، إلا أنها تتركز أساسًا في قارتي أفريقيا وآسيا، حيث يوجد في الأولى (أفريقيا) حوالى 438 مليون نسمة وفي الثانية (آسيا) حوالى 852 مليون نسمة. ومن الجدير بالذكر أن من بين الدول الأربعين الأكثر سكانًا في العالم عشر دول إسلامية، منها: إندونيسيا في المرتبة الأولى: حوالى 225 مليون نسمة؛ پاكستان في المرتبة السابعة: حوالى 150 مليون نسمة؛ نيجيريا في المرتبة العاشرة: حوالى 121 مليون نسمة.
كما هي الحال في جميع القضايا الفكرية والسياسية، تطور في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، في مواجهة قضية العَلمانية، موقفان: موقف المغالاة الذي يقود إلى التطرف السياسي الذي يحوِّل العَلمانية إلى "ثابت" constante تصبح أمامه جميع القضايا الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ثانويةً يمكن تأجيلها، وموقف الاعتدال الذي يقود إلى "النسبوية" relativisme وينظر إلى مسألة إنجاز قيم العَلمانية في علاقتها مع القضايا الاجتماعية الأخرى، وفي مقدِّمها قضية الديموقراطية التي تشكل اليوم محور اهتمام المثقفين والمفكرين العرب العاملين على تحويل المجتمعات العربية وتحديثها. ومن الواضح أن المقصود بالديموقراطية ليس نظامًا جاهزًا، وإنما تجديد قيم المجتمعات وأفكارها وتطوير أساليب عملها وتنظيمها، في الميادين كافة، على أسُس المشاركة الفردية والخيار الحر، وبالتالي، التفاوض الاجتماعي والحوار. ولهذا تشكِّل الديموقراطية معركةً طويلة المدى، ربما تحتل العقدين القادمين بأكملهما أو أكثر. ولن يكون النظام الديموقراطي الناجز سوى ثمرة هذا التحويل في الثقافة السياسية وفي سُبُل عمل المجتمعات وتنظيمها.
اختلف الباحثون حول فكر جبران الديني. منهم من اعتبره مسيحيًا بلا منازع، ومنهم من وضعه في خطّ الديانات الشرقية. أين يقع بين هذين التصنيفين؟ ما هي عقيدته وبأيّ دين بشّر؟ لِمَ هذا الاهتمام الدائم بالفكر الديني الجبراني؟ ألأنه يحتل مكانة مهمة بل أساسية في فكره العام، وهو تاليًا لا ينفصل عنه، أم لأننا تعوّدنا، خصوصًا في الشرق، البحث عن هوية مفكّرينا الدينية لإنصافهم أو للحكم عليهم؟ نحاول البحث في دين جبران لا للحكم عليه، ولا لتبرير مواقفه الدينية، بل لأننا نرى الفكر الديني مسيطرًا في أعماله الفنية والكتابية منذ البدايات حتى بلوغ ذروتها في النبي ويسوع ابن الإنسان. كما أننا نقرأ في حركته الفكرية توجّهًا نحو المعارف الربّانية.
عندما كان الحديث يتناول أوضاع المسيحيين في الشرق، كان الحديث يدور حول محور دورهم في صناعة الشخصية المشرقية-العربية. سواء من حيث الثقافة والتربية، أو من حيث الاقتصاد والاجتماع، أو من حيث النضال الوطني. كانت أدوارهم ومواقفهم وأدبياتهم في هذه المجالات كافة جوهرية وأساسية. وكانت تعبر بواقعية عن أصالتهم المشرقية وعن التزامهم بقضايا أمتهم وفي صناعة مصير ومستقبل دولهم الوطنية. ولا عجب في ذلك فهم جزء أساسي من نسيج المجتمعات العربية المتعددة. كانوا قبل الإسلام، واستمروا مع الإسلام. وكانت لهم في المرحلتين مساهماتهم البنّاءة والمباشرة في انتاج الحضارة الإسلامية التي هي موضع اعتزاز المسلمين والمسيحيين معًا. أما اليوم، فإن الحديث عن أوضاع المسيحيين في الشرق يتمحور حول الهجرة: أسبابها المباشرة وغير المباشرة. وحول نتائجها وانعكاساتها، وكلها سلبية ليس على الحضور وعلى الدور المسيحيين فقط، إنما على شخصية العالم العربي وهويته، وعلى مستقبله ومصيره.
|
|
|