|
مـوعـدنــا مـع المـــوت
في السماء والأرض، هوراشيو، أسرار أكثر مما تتسع لها فلسفتك كلها.
كلُّ موعد بين اثنين عقدٌ ثنائي. وحده الموت ينقضُّ علينا دون أن يشاورنا. يسرقنا من هذا الوجود الذي نحبه ما لم يعذِّبنا مرضٌ شديدٌ أو خيباتٌ أحزنتْنا الواحدة تلو الأخرى. هناك مَن رغبوا في الفراق اشتياقًا إلى الله، إذ باتوا متغرِّبين عنه لمَّا كانوا في البشرة. الحقيقة أن خشيتنا النهاية، وما يبدو كذلك، إنما نحياها فقط عندما نحس الحياة تتحرك فينا. ما نرهبه أنْ تنتهي هذه الحركةُ فينا والوجودُ والفرحُ الكبير، وأنْ يحلَّ فينا ملكوتُ الظلام الذي نذوقه فعليًّا على أنه غياب الوعي وغياب الرؤية. وما يسود المؤمنين بالقيامة أنفسهم – ما خلا قلَّة ملتهبة – هو التماسُ الإرجاء للموت. فلسان حالهم إزاء الواقع المتوقَّع هو أن اليوم الموجود أفضل من غدٍ غير موجود، وأن الآتيات حاضنتنا، آجلاً أم عاجلاً، – فلماذا نتسرع في تمنِّيها؟! أنا لم أشاهد أحدًا في حالة الحبور والتشوق الكبير إذا دنا أجلُه! هذا غير حالة الهدوء التي يحياها المؤمنون الصالحون إذا أحسوا بأنهم ينطوون. في هذا السياق أذهلتْني سيرةُ القديسة تريزا الصغيرة محوَّلةً إلى مسرحية: كانت في احتضارها تتكلَّم على الملكوت التي رأت نفسها تدخله. كان شعوري أنها واثقة منه كمن يتحدث عن انتقاله من غرفة إلى غرفة في بيته! لم يكن عندها إحساس أنها تصعد إلى مكان آخر، خارج الوجود، لم تكن تفصل بين الـ"هنا" والـ"هناك". وكنت أعرف أن التمثيلية مبنيَّة على سيرة القديسة التي كتبتْها هي[1]. هنا فهمت أن الإيمان عند قلَّة مختارة هو بمثابة العيان، وأن لا فرق عند هؤلاء بين الحاضر والآتي؛ إذ ليس فقط يعيشون "استباق الخيرات"، ولكنهم، فوق كلِّ انتظار أو بلا انتظار، يسكنون الخيرات. "في السماء والأرض أسرار أكثر مما تتسع لها فلسفتنا كلها" (شكسپير)، وليس في العقل المجرد مفتاح لها. وعجبي أن الناس ليسوا في عجب! فيما أكتب الآن أنا في ذهول كامل أمام السماء التي غابت عنها الشمس منذ نصف ساعة. غيوم ذهبية متلاصقة ومتباعدة مرمية على سُحُب تبدو لي زرقاء. سميتها كذلك لأن السماء شديدة الصفاء وقد ساد الليل الأرض. هذا المشهد لم يكن في دقائقه منذ ظهور هذا الكون قبل خمسة عشر مليار سنة، ولن يكون حتى انقضاء الدهر. عجبي بالناس أن سرَّ الوجود لا يخطفهم! فكيف يخطفهم سر الله؟! – ومنه الموت. إذا الموت كان فيه كشفٌ ينبغي أن نلقاه بالحبِّ الذي رأيت به ذهبية الغيوم وزرقتها. * * * غير أن المتوغلين في إلهيات قلوبهم يعرفون كلَّ شيء. في هذا أورد أن جدي لأمي قال – وكان في الستين من عمره، وما كان يشعر بأية نوبة أو انزعاج – قال لجدتي يومًا: "أنا مائت اليوم، فاجعلي لي ماءً ساخنًا لأغتسل." فهيأت له ذلك واغتسل. ثم ارتدى ثيابه العربية بأناقة واعتمر طربوشه – وكان هذا في منتصف العشرينيات من القرن الماضي – ثم استلقى على سريره، وصلَّب وجهه، وجمع ذراعيه بشكل صليب على صدره، وانتقل... هذا كان من القلائل الذي ضرب له الملاك موعدًا مع الموت، ودخل معه بهمسات كان وحده يسمعها لأنه كان موعدًا مع الحياة. هناك أكثر من إنسان سأل ربَّه أن ينتقل يوم الجمعة العظيمة أو الفصح، فكان له ذلك. هؤلاء لا يسبر غورَ قلوبهم إلا مولاهم. هناك مَن كان في قلبه دعاءٌ وينصت إليه، أو هناك مَن كان أليفًا للخطاب الإلهي فيه. لكن أكثرنا يتعامل والمجهول. وعليك – عاقلاً – أن تستغل المجهول لتهيِّئ اللقاء الكبير، لقاء الموت الذي يأتيك كالسارق. في منحى المعرفة الدنيوية أو في منحى المنطق، إذا تجاوزت سنًّا متقدمة، أو معروفة كذلك عند الناس، فكل سنة تُعطاها إنما تدنيك من الأجل. وهذا تتهيأ له إنْ كنت من العاقلين لأن لقاء الرب رهيب! وهذا ما جعلني أجيب سائلاً: "أنا لا أخشى الموت، أخشى ما بعده، أي رؤية الله الديَّان لقذارتي." ولكن أرجئ هذا الحديث الآن. فاللقاء الأخير لك أن تستعد له باليقظة وبالتطهر مادام لك نصيبٌ فيه. فقد تكون رؤية الله إياك أرحم من رؤيتك نفسك؛ إذ لا تعرف نفسك ولا تستطيع، وليس لك بفضائلك (أو بما تحسبه كذلك) مدخل، ولو كان عليك أن تجمِّل ذاتك كلَّ يوم. فإن كلَّ بهائك هو حسبان بهاء، ولا تحمل أنت صكَّ دخول إلى الملكوت. وقد قال إشعياء: "برُّنا أمام الله كخرقة الطامث." وإذا كان هذا أمرنا مع الله، فلا يعني أن شرودنا يمكن أن يقرأه الله برًّا. فإن "الشرود" يعني، بالأقل، أننا لسنا على جدية اللقاء. إن بنوَّتنا للربِّ التي يتكلم عليها العهد الجديد ليست مرادفة للغنج. صحيح أن كلامنا يسمِّي الله "يا أُبَيِّ" (بصيغة التصغير الذي يفيد التحبب)، لكن التحبب لا يقود إلى الدلع إن احترمت نفسك ووقَّرت ربَّك. * * * ماذا يحتِّم هذا على الشيوخ مثلي؟ بادئ ذي بدء، أن ترفض الشيخوخة معنويًّا، ولو أحسست في بدنك هذا النقص أو ذاك، هذا الضعف أو ذاك؛ إذ انحدار الجسد ليس بشيء عند الله. يجب أن تعيش كأنك أبدي، أي في توقُّع غَدٍ تملأه عملاً وتملأه حضورًا. وهذا متعلق فقط بالنفس التي لا تشيخ، إذا فهمتَ أن فحواها يأتي من ربِّها، وأن عطاءها يأتي من حبِّها للناس وخدمتهم. ما سماه آباؤنا "ذاكرة الموت" هو في تصوري أسلوب تربوي يأتي من نفحة التوبة، ولا يعني أننا مسمَّرون على انتظار ما يبدو نهاية. أنت مائدة يأكل عليها الجميع. أنت انتباه. لك أن تأخذ كلَّ يوم قسطًا من الراحة، ولكن عليك أن تبقى يقظًا، ولا تنغلق نفسيًّا، ولا تقلِّل من خدمة الآخرين في ادعاء أنك مسافر وأنت لا تعرف متى يبدأ السفر إلى السماء. القوة الروحية يجب تقويتُها فيك لأنها تنفعك عند الوصول؛ ولكن يجب أن تعلم أن تعميق ارتباطك بالله هو، بالدرجة الأولى، في زخم عطائك والـ"هناك". الشيخوخة من هذا القبيل ليست ابتلاء. وقد يكون البِلى في الشباب إذا حاد عن الرؤية الأخيرة وعن الصميمي، مغرًى بالجمال وطراوة هذا اللحم وقوته وبطموحات الأرض. أقول للشباب ألا يفتخر لأن المحبة هي كل شيء، وهي وحدها قاتلة الموت. نشيد الأناشيد يكتفي بالقول: "إن الحب قوي كالموت." كان يتكلم على العاطفة التي تربط الرجل بالمرأة. غير أن المحبة التي توحِّدك بالمسيح أقوى من الموت لأنها تجتازه وتستبقيك في ملكوت قلبك حيث الله ساكن. هذا ينبغي أن يقود الشباب – ونحن معه – إلى "إن اللحم والدم لا يرثان ملكوت الله". ما أستنتج من قولة الرسول بولس هذه أن الجمال والثقافة لا علاقة لهما بسيادة الله عليك، لا اليوم ولا غدًا. * * * وإذا كان لي من شيء أتَّعظ أنا به – وربما الذين دنوا من عمري أو تجاوزوه – أنه لم يبقَ لنا إلاَّ وجه الآب، وأن السعي الآن، فيما نكمل خدمتنا، أن نحفظ وديعة الإيمان سالمة وأن نرجِّح القراءة الروحية المطهِّرة للنفس على كلِّ قراءة أخرى لأن "الأيام شريرة". ليس لنا وقت نهدره في المجد الباطل. "لقد اقترب الليل ومال النهار" وبقيت أوقات قليلة نقضيها مع السيد. لقد حان موعدُ مجالسته، إذ الموعد الأخير الصاعق آت. ليتنا نستقبله بطمأنينة وسلام... *** *** *** عن النهار، السبت 16 شباط 2002، السنة 69، العدد 21180 [1] هي تريز مارتن، المعروفة بالقديسة تريزا الطفل يسوع (1873-1897): راهبة فرنسية، دخلت في العام 1888 دير كرمل ليزيو وعاشت فيه حياة عادية، لكن سيرتها الذاتية، قصة نفس (1897)، تشهد لروحانية عالية مؤسَّسة على التسليم لله. طُوِّبَت في العام 1925. (المحرِّر)
|
|
|