|
الإنسان الدِّينيُّ بين عنف الدِّيانات وصرامة المناهج
لقاء مع وليد عبد الله[*]
المنهجيَّة الصارمة في النقد الدِّيني سالم المتروك: تقرؤون الفضاء الديني ومكوِّناته التاريخية والعقائدية من خلال حفر تحليليٍّ واسع، تتوسلون فيه بجملة من العلوم الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن حسِّ السؤال النقدي الصادِم. بيد أن هناك مَن يأخذ عليكم أن قراءاتكم، بسبب طبيعتها "الصلبة"، تتعارض مع متطلَّب التسامح المنهجي الذي يقتضي انتقالاً تفكيكيًّا هادئًا بين اعتقادات الشعوب وموروثاتها اليقينية الكبرى ومقاربتَها بمنهجية تنأى عن تسخيفها وعن محاكمتها من منظور عَلمانوي خالٍ من الفوائد العملية والمواضعات المتصالحة. ما تعليقكم على هذه المؤاخذة؟ وبأيِّ نحوٍ تقدِّمون الخلفية المنهجية لكتاباتكم وأبحاثكم في الدِّينيات – الإسلاميَّات خاصة –، الموروث منها والمعاصر؟ وليد عبد الله: للانتماء إلى منهجية نقدية فيها أشكال من الصرامة أو الصِّدام التساؤلي عدة أسباب، منها أن للمنهجية الصارمة في النقد الديني امتدادًا موغلاً في تاريخ البحث والنقد والأساليب التي ظهرت في فترات تاريخية مختلفة؛ إلا أن لها في الزمن المعاصر أبعادًا أخرى: إذ نقرأ الصرامة المنهجية والمواجهة المعرفية الصِّدامية ونشاهدهما في الخطاب الفكري لدى بعض الباحثين والمفكرين والمثقفين وأصحاب المحاولات والمشاريع الفكرية الجُدُد، في العالم العربي والإسلامي، العراقي بالأخص، لما يمثل ذلك من مصداق لمعاينتهم سيرورة الانهيار الحضاري والفكري والقيمي وللظهور الواقعي لفعاليات الاقتتال المذهبي والعقائدي الداخلي وقمع السلطات وتجهيل المجتمع، بما يفرض، بدوره، مواجهةً منهجيةً تتسم بالصرامة الأكاديمية والمهنية العلمية القاسية عند الأساتذة الجامعيين، أو بالمكاشفة المعرفية والواقعية والصِّدامية المنهجية عند الباحثين بشكل عام، وذلك لعدة أسباب، منها: الأحداث العالمية الكبرى والتحولات السياسية العالمية للوقائع، التي انعكست على مسارات فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة على العالم، راسمةً خرائط سياسية جديدة أثَّرت على الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي للعالم، وبالأخص في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وهيجت جيوشًا تاريخية رفعت راية الحفاظ على الدين والهوية والتاريخ وأخرجت إلى العلن وحش الطائفية وصراع العقائد، كما هي الحال في العراق في وجود الاحتلال الأمريكي. نحن مقيمون في داخل هذا البركان الثائر، وقد عايشنا ثورته؛ فلا بدَّ أن نتأثر بالهلع الاجتماعي والإنساني والفكري الناجم عنها، كوننا نشتغل في مجال البحث والتنقيب في الأنساق المعرفية والثقافية للمنظومات الدينية، وعلى وجه الخصوص في البحث عن مرجعيات العنف الديني والبنية العسكرية لتراتبية التكوين الديني والروحي ودورها في تاريخ بناء المجتمع الديني وعقله وسلطته، ذلك المجتمع المصاب بتخمة التراكم الاستلابي للتاريخ في ميادين الحياة المدنية كافة. أمام بركان محتقن كهذا – هو في الحقيقة أكبر من أيِّ بركان طبيعي! –، أمام هذا النوع من البركان العقائدي المخيف الذي لو انفجر لدمَّر المجتمع تدميرًا كاملاً، أو تطايرت منه بعض الكتل الملتهبة على الأقل، كما هي الحال في العراق الآن، فالخسائر ستكون فادحة، وخاصة الخسائر الناجمة عن تفريغ الإنسان من كلِّ ما هو عقلاني وعن تعميق التوحش في باطن الإنسان وذاكرته الواقعية ونسف روحانيته وإنسانيته والترويج لسلطان الوهم كنظام اجتماعي وسلوك إنساني. وأكيد أن هذه الأسباب تؤثِّر فتولِّد العنف الرهيب في مجتمعاتنا، عنفًا لا بدَّ أن يكون له أثر في تكوين الصرامة المنهجية – وقد يكون هذا السبب للصرامة المنهجية معقولاً وقد يكون غير مبرَّر. من هنا نرى أن الصرامة المنهجية أضحت أسلوبية واقعية عند بعض الباحثين الجُدُد في العالمين الإسلامي والعربي، العراقي بشكل خاص، كون العراق هو الأرض التي انفجر فيها البركان السياسي والاجتماعي والعقائدي الذي كان متورمًا بقيح تاريخي وتراكُم ثأري قديم من كلِّ ما هو إنساني أدى إلى ما يكابده العراقي اليوم في شكل عام، والباحثون والمثقفون العراقيون في شكل خاص، من إقصاء وتوحش واستلاب لدى مشاهدة الطقس اليومي لانفجار الأجساد المفخخة الراغبة في الوصول بسرعة ضوء الانفجار إلى الجنان! وأكيد أن هذه "الأجساد" تمتد جذورها إلى عقائد وأفكار ومعارف دينية مارست الاستلاب والتوحش التاريخي والواقعي، أفكار تصح تسميتها بـ"الأفكار الدينية المفخخة"، تحولت إلى واقع فعليٍّ ملموس لدى رؤية مسرح هذه الأفكار والأجساد المفخخة وآثارها واقعيًّا وهي تمارس طقس الإقصاء والإحراق والتدمير لأجزاء مهمة من الحياة والعالم. هذه الطقوس المتوحشة لا مناص لها من أن تتسرب إلى أسلوبية البحوث التي نكتبها ممارسةً متصلبةً وصِداميةً عادة ما تكون مقصودةً أصلاً كممارسة معرفية تحاول أن تؤسِّس لقطيعة معرفية إجرائية باتة مع التراث الاستلابي والممارسات العسكرانية للدين السائدة الآن. من جهة أخرى، لم يعد في إمكان الباحث الإسلامي والعربي، العراقي بوجه خاص، أن ينفصل عن الحسِّ الواقعي والانفعال الوجداني بما تمارسه السلطاتُ المتستِّرةُ بالدين أو الكياناتُ المتسلِّطة، الدينية والعسكرية، ممارسةً عشوائيةً مخيفةً على حقوق الإنسان عمومًا في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية في وحشية قلَّ نظيرها في العالم! لذا من الممكن أن تتسم الأسلوبية المعاصرة الناقدة للحدث العنفي بهذه السمة الآن؛ وهي أسلوبية تُعنى بالواقعة الملموسة المرتبطة بجذور فكرية، واقعة العنف والتوحش الديني وآثارها النفسية التي ربما تنتج أثرًا وجوديًّا ومعرفيًّا يحمل سمات المنهجية الصارمة، لكنه لا ينفصل عن المنظومة الفكرية المعاصرة والمهنية الأكاديمية والعلوم الحداثوية التي تسعى للتجديد ولفتح آفاق معرفية وسلوكية وثقافية جديدة للمجتمع وتحاول أن تحفر في المنظومات الاستلابية الصارمة للدين العسكري وتفكِّكها. هذه الأسباب مجتمعة، وأسباب أخرى معقدة لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقام، تمثلت في هذه الصرامة المنهجية التي أسمِّيها "منهج الواقعة". الأثر البشري على الدِّين والتاريخانية المتطرِّفة س.م.: لديكم اهتمامٌ مركَّز، يكاد أن يكون محوريًّا، في بيان وتبيان الأثر البشري في خلق الوثيقة الدينية واختلاقها عبر التاريخ؛ ويُلاحَظ أن هذا الاهتمام يصل إلى حدودٍ "متطرفة" – إنْ جاز التعبير – في الحكم التاريخاني على الأديان ووثائقها النصوصية، إلى حدٍّ يبدو معه أنكم – من الناحية المعرفية، وليس الإيمانية – لا تتوثقون مطلقًا من وجود مرحلة أولى "طازجة" للأديان، وبالتالي، تقطعون الإمداد السماوي ابتداءً ونهائيًّا. وهذه الملاحظة – إنْ صحَّت – لا تتلاءم مع توجُّه "پراغماتيي" النقد الديني الذين ينزعون إلى التسليم بلحظات النقاء الأولى للأديان، لكنهم يغلقون امتداداتها ويرون انتهاءها مع حركة الإنسان عبر التاريخ وتملُّكه لهوية الأديان وتصريفاتها. ما تعليقكم على ذلك؟ و.ع.: إننا نميِّز بين عدة مدارات لما تسمِّيه بـ"المرحلة الأولى" أو الأصل النبوي ومشاركة الأثر البشري في صناعة الوثيقة الدينية. ويمكن لنا أن نشير باختصار إلى مدارين من مدارات الوثيقة الدينية: 1. مدار اللحظة الروحية لأصل النبوة الأول: وهو مدار يمثل أصل اللحظة الوجودية للنبي في بحثه عن المعنى الإلهي والأصل العرفاني الخالص للذات النبوية في استفرادها بالذات الإلهية. وتُعتبَر هذه اللحظة الكونية حصيلة روحانية وذوقية عالية النقاء والشفافية؛ إذ ترتقي النبوة إلى مقامات عليا حتى تصل إلى تمثُّل ذاتها كحقيقة فردانية، شأن ما يُسمَّى بـ"الحقيقة المحمدية" التي ترسم ملامح الحضور الروحاني لجميع المسلمين السالكين طريقَ البحث عن الحقيقة الإلهية والانتماء إليها. وهذا لا شكَّ في تلمُّسه عبر وسائل خطابية مدوَّنة في التاريخ الإسلامي، وكذلك من خلال الإحساس "الذوقي" لأية روحانية نقية؛ ومن الممكن أيضًا متابعته من خلال سلوكيات أهل التصوف والعرفان ومعارفهم. ونحن نصدِّق بالحقيقة المحمدية، بل وننتمي روحيًّا إليها، لأنها بناء سلوكي وتعليم ذاتي يملأ فراغات روحية كبيرة عند أيِّ مؤمن. 2. مدار النبوة كوظيفة ربانية ثابتة وسلطة التاريخ المقدس: إننا نعتبر هذا المدار الديني فعالية يقوم بها النبي كي يجمع تراث الأنبياء ويسلك طريقهم ويجسِّد طُرُق توصيل الخطاب الرباني للمجتمع في سبيل بناء النبوة الجديدة وتوضيح ملامحها المعرفية والتشريعية والقانونية والتعبدية عبر المصادقة على رسالات الأنبياء السابقين في أزمانهم تثبيتًا لنبواتهم المختلفة؛ وهي عملية تمتزج فيها الشروط الروحية كممارسة مع تثبيت الطرق النبوية في المجتمع الجديد. وهذا المدار تختلط فيه المصادر والتراكمات التاريخية، وتتشعب فيه بدايات الانشقاقات والاختلافات في تداوُل النصوص وجمعها وتثبيتها؛ وهو مدار يختلط فيه الوحي اللاَّزمني بالحدث الزمني، التاريخ بالسلطة، والنظام بالأخلاق. وهذا المدار أيضًا مدار رسم ملامح السلطة الربانية وتجميعها وتثبيتها وتداوُلها، ومدار تكامُل الخطاب الديني وبداية المسؤوليات الواقعية في الحفاظ على الدين وتراثه وصون خطاباته ورجالاته وأبطاله وكلَّ ما يدور في فلكه وفي تجميع الخطابات الربانية والأحاديث النبوية والقيام بعدة ممارسات إجرائية من أجل فصلها وإرجاعها إلى أصلها وفق آليات الانتماء العقدي وظهور التقديس المفرط لكلِّ شيء، بدءًا من الخطاب المقدس، كالقرآن وتفسيره، مرورًا بتقديس العوائل المرتبطة بالهيكل النسبي للنبي، وانتهاءً بتقديس الصحابة والتابعين وتابعين التابعين، حدَّ التفاصيل المرتبطة بالمؤمنين كلِّهم، ناهيك عن تقديس الأمكنة والأزمنة وتواريخ الأحداث إلخ. وتتصارع العقائد والمذاهب والملل والنحل على هذه التفاصيل كلِّها، فيتفق بعضهم مع بعض ويختلف بعضهم الآخر مع بعض، حدَّ فتح فروع أخرى و"بيوت" داخل السياج الإسلامي، حتى يبلغ الأمر ببعضهم إلى إنكار بعضهم الآخر، بشكل أو بآخر، حتى إن النكران يصل إلى المواجهات الدموية! ومعظم هذه "المدن" العقائدية في تاريخ الدين الإسلامي يتعارض تارة ويتوافق تارة أخرى. ومنهم مَن وصل إلى الدعوة الصريحة إلى إبادة الجميع من أجل الاحتفاظ بـ"الأصل" وامتلاك الحق المطلق في الإسلام "الأصلي". نرى النبوة هنا تتخذ أشكالاً متعددة ومتكثرة تنضوي تحت التسمية الواحدة؛ وتشارك جميع الأيدي العقائدية في رسم حضور "الأصل" والتضامن معه بكلِّ قسوة كي تؤكد مصداقيتها. وبذا تظهر ملامح "نبوية" عند هذه الطائفة وتختفي عند تلك. وهكذا يرسم التاريخ أشكالاً وصورًا عديدة لتاريخ الوحي، تفسيرًا وتأويلاً، مظهرًا وتشكُّلاً، حتى إن من الممكن أن ترى عند طائفة منهم صفات وملامح واقعية للرب المعبود تختلف عنها عند أخرى حدَّ التناقض وحدَّ التكفير (مثل تكفير الشيعة عند السلفية الحديثة والتكفيرية الجديدة). والمذاهب الإسلامية جميعًا، بكلِّ ما تحمل من عقول وطاقات، المثالية منها والمادية والمفكرة وغيرها، تتضامن من أجل استمرار "الأصل الأول" المسمَّى باسمها! لذا يكون للتدخل البشري أثرًا واضحًا في إيجاد التقديس ورسم ملامح السلطة وتدوينها كشرط مقدس. وهذا ما يمكن لنا تسميته بـ"الأثر البشري" الواضح في رسم معظم مدارات النبوة الممارَسة كفعل تقديسي وتاريخي. لذلك قد يتراءى للقارئ أننا نقوم بعملية تشكيك جديدة واضحة في هذه الأصول؛ لكننا في الحقيقة نقوم بحفر معرفي في آليات هذه الأصول، وذلك للفصل بين لحظات ظهورها الفكري والمعرفي روحيًّا ومعرفيًّا وتاريخيًّا. وبما أن بحثَنا يركز على المجال التصادمي العنفي في الكيان العسكري للدين وعلى تفكيك آليات الفعل التاريخي والنظام العقلي لهذه الكيانات التي أضحت، بكلِّ امتداداتها التاريخية، عبئًا فكريًّا وواقعيًّا وسلوكيًّا تنوء به مجتمعاتنا، وبما أننا لم نعد نحتمل هذا العبء الجسدي للتاريخ العسكري للدين ولم يعد باستطاعتنا تجميل جثة التاريخ العسكري للربوبية الدينية، بما نجم عنها من أفعال رهيبة مخيفة، ليس أقلها تحطيم روحانية الدين الإسلامي، بمعلِّميه الحقيقيين وأئمته الكبار، وتحويله إلى وحش يبتلع كلَّ شي، فإن هذا الخطر الرهيب يُلزِمُنا على العمل على محاصرته فكريًّا ومعرفيًّا على الأقل، أو حتى دفنه ("إكرام الميت التعجيل بدفنه"!). أمام هذا الخلط التاريخي والعشوائية الفكرية العقائدية المتصارعة، وحيال هذا التسافُل الأخلاقي الناجم عن موات الروحانية النافعة، علينا القيام بمراجعة صارمة للوثوقيات التاريخية للدين كلِّها، كسلطة وعقل وتاريخ. التجربة الدِّينية والوحي س.م.: من الناحية المعرفية الخالصة، ما هو مفهومكم المعاصر للتجربة الدينية ولمقولة "الوحي"، باعتبارها المكوِّن الغيبي الأصيل في التجارب الدينية قاطبة؟ و.ع.: الوحي مكوِّن جوهري في الذات النبوية وكمون وظيفي يتكامل من خلال عدة ممارسات روحية ومادية في السلوك النبوي، معنويًّا وماديًّا، من خلال رحلة الأنبياء البحثية، المعرفية والتأملية، في سبيل إدراك الخطاب الذاتي لهم وتعلُّقهم الروحي بالغيب المتمثل في المعنى الإلهي الذي يتشخَّص على هيئة كُشوف خاصة متعلقة بالذات النبوية في رحلتها الذاتية الخاصة. وعندما يعلن النبي عن وجوده وفعاليته الروحية، تظهر هذه الملكة المعنوية على أنها تمثل ما يسمى بـ"الذاكرة الدينية" أو "الخيال الإيماني" (الوحي)، باعتباره العملية السرَّانية للتكوين الذاتي لحقيقة النبوة وما تمثل من أبعاد روحية ومعرفية وفكرية. ثم يدخل الوحي في مرحلة التشخيص التكليفي عند الأنبياء لدى ظهورهم العلني، ويُعتبَر الواسطة المقدسة لنقل الخطاب الإلهي من خلالهم. وتصبح المعادلة بين مَحاور نقل الخطاب على النحو التالي: الرب + الوحي + النبي = خطاب مقدس في علاقة تنزُّلية وعملية معنوية متروكة لقوة الخيال الإيماني. وإذا حاولنا تصوير عملية إنتاج الخطاب ونقله وتوصيله، فإن هذه العملية، بكلِّ أبعادها، تحصل في "المعمل الذاتي" للنبي، في داخل مكوناته التأملية الخاصة، التي يعلنها النبي في صدق وإخلاص ويصوِّرها على أنها تمثل مَحاور معنوية لنقل الخطاب الإلهي (بواسطة الوحي)، الذي يمثل المعنى الكامن للذات النبوية، فيما يقوم النبي بعملية الترجمة العملية: المعنى الإلهي + الخطاب الكوني + ملكة الوحي = القرآن الكريم الذي يُعتبَر لغة رسالية ذات علاقة بالواقع والحياة والتاريخ الإنساني وظروفه المكانية والزمنية المصاحبة لبعثة الرسول. ونرى لدى قراءتنا لظهور الوحي في الديانات، من خلال اللغة النبوية المترجِمة للخطاب الإلهي والمتمثلة في الكتب المقدسة، عدة تمظهُرات وتنزُّلات مختلفة من نبي إلى آخر، منها: - كشف خيالي + رؤيا صورية + كشف مجرَّد غير مباشر + كشف ذوقي = الوحي الإبراهيمي - كشف سمعي + تكليم ذاتي مباشر + كشف صوري + تجلٍّ مجرَّد = الوحي الموسوي - تجلٍّ ذاتي فرداني + كشف سمعي + خطاب مباشر + توحُّد رباني صوري = الوحي العيسوي - كشف ملائكي + تجلٍّ صوري كياني إنساني + كشف سمعي وبصري + رؤيا مجرَّدة + تجلٍّ ذاتي = الوحي المحمدي وهذه العملية المتحققة في ذوات الكيان الباطني والظاهري للأنبياء أنتجت خطابات رُسِمَتْ ودُوِّنَتْ في كتب، كالتوراة والإنجيل والقرآن، وأصبحت دساتير دينية مقدسة ومواثيق عمل للمؤمنين ولمعتنقي تلك الديانات. لذا جائز القول بأن الوحي عبارة عن وظيفة باطنية تتجلَّى في فعل معنوي على ذات النبي؛ وهي عملية داخلية يترجم النبي من خلالها خطابات الدعوة الدينية والإخبارية عن سلوك الرب والأنبياء وتاريخهم؛ ومن خلالها يعيد كلُّ نبي ترتيب الخارطة التاريخية والدينية للأنبياء الذين سبقوه، ويرسم التعاليم والتشريعات التي يؤسِّس عليها ملامح دعوته. وتصبح هذه العملية مقدسة بنظر العقل الإيماني للمتدين، الذي يمجدِّها تمجيدًا خاصًّا، وهي ذات أثر روحي على الإنسان في شكل عام. الإصلاح الديني وتخفيف إيديولوجيا العسكرة س.م.: هل تعتقدون أن تجارب الإصلاح الديني ومحاولات تحديث الخطاب الإسلامي وعصرنته – بغضِّ النظر عن تفاوت مستوياتها وتعدُّد أدبياتها – سوف تؤتي ثمارًا إيجابية لجهة التخفيف من البقع السوداء التي عطَّلت المعاني الإنسانية والحضارية في الإسلام وشحنتْه بدوافع العسكرة التي اشتغلتم عليها مفصلاً؟ و.ع.: ظهور الإسلام العسكري بهذا الشكل الوحشي المخيف والمتفرد بظلم واستبداد لا نهاية له، لأنه يتم باسم الربوبية والتقديس الديني، ليس وليد اليوم، بل هو حقيقة تاريخية مارست تحويرها وظهوراتها ورسمت حدود ثقافتها من زمن ليس بقريب، إنْ لم نقل إنها تعود إلى بدايات ظهور الإسلام. فبعد موت النبي محمد (ص) تشكَّلت ملامح تبرير التكوين العسكراني للدين، الذي تطور حتى صار ثابتًا وجوهرًا من صلب الدين باسم "الجهاد" المقدس. وقد اختلطت بهذا المعنى نوايا وطموحات وتكوينات ثقافية مختلفة، حتى صاغتْه في شكل صار معه يهدِّد كلَّ ما هو روحاني ومعرفي وفكري خالص، حتى أمسى الكيان العسكري، في فترات تاريخية عديدة، هو الممثل الشرعي للإسلام! ولا يقف هذا الكيان عند حدِّ ممارسة التعبد الاستلابي والسلطة المفرطة والتجسس على الحياة كلِّها ومصادرة أية فكرة مغايرة له، بل صار ثقافة تمارَس كسلوك وإيمان ومضمومة من الوهم المغري والفعال؛ وصار معتنقو الدين ينظرون إليه، في شكل يكاد أن يكون معممًا، على أنه "ثكنة عسكرية" وعلى أن المؤمنين جنود في ساحة حرب، حتى وإن لم تكن هناك فعالية حربية! أمسى المؤمنون جاهزين لخوض غمار الحرب كممارسة "عبادية"، وبات يُنظَر إلى الله – جلَّ وعلا – بوصفه قائدًا عسكريًّا عنيفًا، جلالي النزعة، على العباد طاعة أوامره، لا كحقائق وجودية، بل كأوامر عسكرية بحتة! – حتى وصل الأمرُ بهم إلى الاعتقاد بأن لا نجاة للعباد إلا بالتضحية بكلِّ شيء من أجل إدامة "عجل" هذه الثقافة المريضة، حتى بات لا يمكن للعبد، في نظرهم، دخول الجنان بصالح أعماله، بل بالعمل من أجل تجنب العقاب فقط! هذه العملية تحتاج إلى شرح تفصيلي، ومن الممكن للراغب في الاستزادة مراجعة بحوثنا بهذا الخصوص التي ركزنا فيها على هذا الفهم للدين الذي يُعتبَر الفهم المعمَّم على الأغلبية الساحقة من مسلمي اليوم، ومن شأنه قطعًا أن يسحق كلَّ ما يمثل حضارة الإسلام الفكرية وروحانيته العظيمة. هذه الثقافة العسكرية تشوِّه المعارف العظيمة للإسلام وروحانيته النقية، حتى بات العالم يظن الآن أن الإسلام وحش قاتل وإرهاب فكري وعقائدي. وعلى الرغم من أن في هذه النظرة من الظلم الكثير إلا أنها لا تخلو في الواقع من الصحة إذا نظرنا إلى الكيان العسكري المتمثل في بعض الأصوليات التكفيرية الدينية في الإسلام التي يهوِّل من أمرها الإعلامُ الغربي ويعتبرها تمثل الإسلام الحق. ومن الممكن أن نعتبر أن رحلة الباحثين والمفكرين الكبار في الاشتغال على المنظومات الفكرية والدينية ودراستها وتحليلها قد أوصلت رسائل كثيرة هامة إلى العالم وساهمت مساهمة كبيرة في فتح آفاق واسعة للمعرفة والخصوبة المعرفية وفي تأسيس وعي معاصر قادر على التأثير في المجتمع للنهوض به، بحيث يشارك في بناء الإنسان العربي والإسلامي المستقبلي. نحن متفائلون، ولا ننفك أبدًا عن تجربة الحداثة والعلوم المعاصرة التي نتَّبعها كمنهج علمي ومعرفي لتفكيك الخطاب المقدس وممارسة حفريات معرفية عليه باستعمال عدة مناهج، منها المنهج الأنثروپولوجي الثقافي والمنهج التاريخي للدين ومنهج الأديان المقارنة، ونشعر أن ثمار المعارف الحداثوية بدأت في الظهور كواقع وحلٍّ وجودي بالنسبة لنا. فما عمله المصلحون والأساتذة المعاصرون والباحثون الجُدُد نرى بزوغ نوره في المستقبل القريب – وهذا تفاؤل حقيقي ومدروس. كذلك نرى ملامح الإسلاميات التطبيقية والثورة الفكرية الهائلة التي زرع بذورها الأستاذ الكبير محمد أركون والأساتذة الآخرون، من خلال مناهجهم العلمية الدقيقة ومحاولاتهم المعرفية لتفكيك المنظومة التقليدية الدينية، قد بدأت تنمو نموًّا فعالاً ومنتجًا كحلول وأنظمة معرفية تخفِّف من التوحش والإقصاء والتدمير الذاتي في الديانات عمومًا وفي الإسلام خصوصًا، أو تساعد على تشخيصها وعلى تحديد فعالياتها على الأقل. لقد بتنا نرى تحولات، وإنْ تكن بسيطة إلا أنها فعالة، في انصياع العديد من الأنظمة والأحزاب السياسية والفكرية والدينية لجبرية الانفتاح على العالم وخوض تجارب الحداثة. فعلى الرغم من التباين الزمني والعقلي والتقني ومن ظهور العسكرة الدينية بكلِّ ثقلها، إلا أن الرهان الوجودي على العنف لا يمكن له أن يستمر مادامت هناك قوى معرفية وفكرية وقوى إنسانية فاعلة في توصيل المعلومة المعرفية والتربوية والإنسانية. إننا نتلمس تلمسًا واضحًا نهاية العسكرة الدينية في الإسلام؛ وعندنا شواهد وأدلة تاريخية في تطور العديد من الديانات العالمية التي سبق لها أن انتهجت هذا النهج الدموي المريض بعينه، كالكنيسة المسيحية مثلاً، التي تخلَّت اليوم عن تسلطها الدموي في القرون الماضية القريبة ونزعت عن المسيح البزَّة والرتب العسكرية وألبستْه ثوبه الحقيقي، ثوب المحبة والسلام والتسامح. وهذا ما أدى إلى تواصل المسيحية معرفيًّا ولاهوتيًّا وانتشارها وإفساح المجال لطاقات الإنسان في الإبداع والإنتاج العلمي المعاصر المتحقق في الحضارة الغربية اليوم. لقد بتنا نشهد ملامح ظهور الكيانات العسكرية في الإسلام بشكل وحشي ومخيف حيال العالم والمسلمين، متبديةً في خلوِّ أفكارها من مفهوم الرحمة وفي تسافُل مفاهيمها وتجهيل معانيها وقتلها للمستقبل والإنسان تحت غطاء الحفاظ على "تراث السلف الصالح" والتاريخ الإسلامي. من هنا نرى أنه قد آن أوان الظهور الفعلي لفصل الدين عن هذا التسييس المتهور والعسكرة الوحشية والسلطة القمعية من أجل إظهار المعنى الحقيقي للنبوة المحمدية الطاهرة كرحمة للعالمين. وقد أصبح من البديهي والمعلوم أن الإنسان كائن ديني يحتاج ربًّا يحيي إنسانيته من مواتها، فلا يمنحه الموت المجاني والظلم المتوحش ويلقي عليه أوامر مفرغة من معناها ويأمره بأن يقاتل من أجل مجهول لا يعلمه! *** *** *** التقى به: سالم المتروك [*] باحث من العراق.
|
|
|