|
بحثًا عن الحلِّ: ج – في الأوضاع الحالية للدولة البربرية أو مقارنة مع الثمانينات
يعيد التاريخ نفسه دومًا
مرتين: المرّة الأولى كمأساة... والمرة الثانية كمهزلة! مقدمة في محاضرة ألقتها في 26 نيسان 1997، في ندوة أقيمت من أجل مناقشة مواضيع ذات علاقة بالفنِّ الحديث[1] وكان عنوانها التاريخ والذكرى، توصلت المؤرخة الفرنسية لورانس بيرتران دورلياك إلى استنتاج بمنتهى الأهمية يقول: ... يلزمنا التاريخ دائمًا بتقبُّل بعض الذرائعية. لأن بوسعه أن يساعدنا على التفكير في أمور متشابهة كما يمكن أن يساعدنا على التفكير في أمور مختلفة. فالموقف الذي من شأنه أن يجعل الخطاب المعادي... خطابًا متجانسًا وجامعًا لمختلف الفرقاء، ما هو إلا إعادة اعتبار لنظرية المؤامرة، وإن من أجل ما قد يبدو وكأنه غاية نبيلة. لأن منطقه يبقى منطق المؤامرة، ما يعني أنه موقف خطأ بحكم التعريف...[2] إنها نتيجةٌ بمنتهى الأهمية نعم! وخاصة حين نعاود التفكير بمراحل هامة من تاريخنا المعاصر. لأن النزاهة الفكرية والموضوعية، ومنطق البحث العلمي المتجرد في تناول الأحداث وإشكالياتها تلزمنا دائمًا السعي لتفهُّم ما جرى وما يجري وكيف تطورت الأمور على الأرض. ونبدأ بما يحدث في بلدنا من خلال استعراض مقارن وسريع لـ... الأوضاع بين مرحلتين... فمنطق الأحداث يدفعنا، اليوم وقد مضى على الثورة ما يناهز الـ19 شهرًا، لأن نتمعن بما جرى في سورية قبل ما يقارب الثلاثين عامًا من تاريخه. عن تلك الأيام العصيبة من ثمانينات القرن الماضي يقول المؤرخ الفرنسي الفقيد ميشيل سورا: في شباط 1982، وحين كان الحرس البريتوري للنظام يدكُّ مدينة حماه رابع المدن السورية التي كان يقطنها ما يزيد عن ربع مليون نسمة، وفي ذروة تلك العملية العسكرية التي تمخضت آنذاك عن ما يقارب الـ10000 قتيل – يا لبؤس الدقة المعبِّرة لأرقام تقدر عدد الضحايا ما بين الـ10000 والـ15000 قتيل، كانت الصحافة الغربية، المستنكرة طبعًا للعنف الحاصل، تصور ما كان يجري كشرٍّ ضروري ولازم لإبعاد شبح الخمينية عن بلدان الهلال الخصيب. إن لم نقل كعملية جراحية ضد (حماه) قاعدة الأصولية الإسلامية في سورية...[3] أمَّا اليوم، ونحن في أواخر تشرين الأول 2012، وفي الوقت الذي يدك فيه الحرس البريتوري لنفس النظام كافة المدن السورية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وفي الوقت الذي قاربت فيه أعداد الضحايا الـ35000 ألف قتيل، فإننا نلاحظ أن نفس الموقف الدولي يتكرر، لكن بشكل أكثر مأسويةً وفي الوقت نفسه أكثر هزليةً. حيث لا أحد يسعى جديًا لإيقاف عنف نظام بربري يقمع شعبه. والحجة الواهية لهذا الموقف، التي باشر الناطقون باسم النظام الدولي الإفصاح عنها بلا خجل، تقول: إن من يقاتله النظام السوري قد تكون قوى أكثر منه بربريةً. وبالتالي – يا لبؤس المنطق اللاأخلاقي! – ماذا بوسع "العالم المتحضِّر" أن يفعل، حين يتصارع البرابرة؟! ففي مثل هذه الظروف، ومن منظور غرب "متحضر وعقلاني"، يبدو التحليل في منتهى الصعوبة. لذلك نجد أن نفس التساؤلات التي طرحها سورا في الثمانينات تتكرر اليوم من جديد... ... أتراه صراع طائفي؟ أم أنه صراع طبقي؟ أتراها أرياف تنتقم من المدن؟ أم أنها اختلاجات نظام عسكري؟ أهي تفاعلات سلطة البعث؟ أم أنها ردَّة فعل إسلام ثوري أو محافظ؟ وطبعًا، وفي وسط هذا المعمعان، دعونا لا ننسى اليسار واليمين وكذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي...[4] ونتذكر كيف أنه في الثمانينات من القرن الماضي، ومن أجل مواجهة حركة شعبية لا تقارن من حيث عمقها واتساعها بالتي نعيشها اليوم، كان النظام الأسدي: ... يجنِّد كل الهيئات الاجتماعية التي في متناوله، بدءًا من النقابات والاتحادات والقوى السياسية المنضوية في إطار الجبهة الوطنية التقدمية (كالبعث، والحزب الشيوعي، والاتحاد الاشتراكي)، ويجنِّد كذلك المنظمات الحليفة والمؤيدة له في العالم العربي، كالحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. وأيضًا على الصعيد الخارجي، كان النظام يوقِّع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي، مؤمنًا بذلك تأييد صندوق آخر متناغم على ما يبدو – مع الإسلام – أقصد البلدان الاشتراكية. كما كان يوقِّع معاهدة تحالف استراتيجي مع الثورة الإيرانية، مستفيدًا من صلاة رحم افترضية بين العلويين والإسلام الشيعي. مع الحفاظ في الوقت نفسه على علاقات مبررة جدًا مع السعودية المدين الرئيسي للنظام...[5] أمَّا اليوم فإننا نلاحظ أنه، رغم سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، ورغم استمرار التحالفات الدولية الأساسية للنظام السوري التي ازدادت عمقًا وتجذُّرًا – حيث استمر وترسَّخ تحالف هذا النظام مع روسيا التي أصبحت من منظورها الإمبرطوري القديم/الجديد أحد داعميه الأساسيين؛ ورغم تعمق علاقة النظام السوري مع إيران التي أصبحت من منظورها المذهبي الشيعي/الفارسي داعمه الأساسي الآخر – (نلاحظ) في المقابل، أن السعودية ومعها معظم بلدان الخليج، قد ابتعدت عن النظام السوري، لا بل أصبحت معاديةً له. كما نلاحظ تقلُّص حجم حلفاء النظام السوري في لبنان، حيث ابتعد عنه معظم السنَّة، وأصبح حلفاءه هناك محصورين بشكل رئيس بحزب الله ذي الولاء الإيراني/الشيعي وحلفائه من قوى 8 آذار. أمَّا داخليًا، وخلافًا لما جرى في الثمانينات، فإننا نلاحظ تقلصًا لافتًا، إن لم نقل شبه تلاشٍ لدور حزب البعث وحلفائه في الجبهة الوطنية التقدمية، وكذلك غياب شبه كامل للمنظمات الشعبية من نقابات واتحادات حاول الأسد الأب آنذاك تجنيدها لصالحه. كما نلاحظ أيضًا أن المعركة الجارية حاليًا على الأرض باتت بالدرجة الأولى عسكرية بين الكتائب الأساسية من الجيش النظامي التي ما زالت تدعم الحكم القائم (لأسباب تبدو وكأنها مذهبية) وبين فصائل الجيش الآخر – الجيش الحر – التي يغلُب عليها في المقابل الطابع المذهبي السنِّي. ونتعمق التفكير قليلاً... في الصراعات المذهبية القائمة... حيث يبدو الصراع اليوم، للوهلة الأولى، وكأنه أصبح صراعًا بين أقليةٍ علويةٍ تدعم النظام وتمثل حوالي الـ12% من مجموع سكَّان البلد، وبين أكثرية عربية سنِّية تمثل ما يقارب الـ70% من سكَّان البلد. هذا التناقض الذي ينظر إليه الكثير من السوريين والأجانب على أنه التناقض الأساسي القائم. لكن، وعلى الرغم من وجود الكثير من الدلائل التي قد تدعم هذا التقويم على أرض الواقع، إلا أننا، وبعد التمعن بالوقائع، نجد أن هذه النظرة الطائفية ما زالت، كما قيمها ميشيل سورا في حينه، مبالغ بها ولا تنطبق تمامًا على الواقع السوري. كما لا تنطبق أيضًا بالكامل على الواقع السوري تلك النظرة الماركسية السائدة في أوساط المثقفين اليساريين، والتي تعيد كلَّ شيء إلى مسبباته الطبقية. حول هذا الموضوع، يقول ميشيل سورا: ... ليس بوسعنا الإنكار أنه توجد، في الخيال السياسي لهذا البلد (يقصد سورية)، مرجعية شبه دائمة تدعى "الدولة العلمانية". فهذا الطرح يعود إلى الأيام الأولى للنهضة العربية، إلى القرن التاسع عشر، كشكل من أشكال حداثة سياسية كان بطرس البستاني أفضل من عبَّر عنها في شعاره الشهير "الدين لله والوطن للجميع". من هذا المنظور كانت سورية التي نالت استقلالها عام 1946، أول جمهورية في العالم العربي. مشيرين هنا، إلى أن الواقع الذي لا يمكن إنكاره للحالة الطائفية السورية لا يفترض، كما هو الوضع في لبنان المثال الأكثر وضوحًا لهذه الحالة، وجود طوائف مذهبية منظمة.[6] ويتابع ميشيل سورا فيما يتعلق بنفس السياق تحليله لأحداث الثمانينات فيقول: ... ليست مستويات التحليل السياسي والطائفي للأزمة الحالية عصيةً بالمطلق عن المقاربة. لا بل بوسعنا القول إن بعض تيارات المعارضة كـ"حركة 23 شباط" (البعثية اليسارية التي تمثل جماعة صلاح جديد الذين كانوا على رأس الحكم في سورية ما بين أعوام 1966 و1970) و"رابطة العمل الشيوعي"، تجيِّشان معظم أنصارهما من بين صفوف أبناء الطائفة العلوية، وكذلك الأمر فيما يتعلق بـ"الحزب الشيوعي السوري" (جماعة المكتب السياسي الذي يترأسه رياض الترك). فإن نظرنا إلى الموجة الأخيرة من الاعتقالات التي طالت هذه التنظيمات (في تشرين الأول 1980 فيما يتعلق بالحزب الشيوعي، وفي آذار 1982 فيما يتعلق بالرابطة)، وإن تمعنَّا في أعداد المعتقلين في منطقة اللاذقية، للاحظنا بوضوح مدى التمايزات السياسية القائمة في صفوف أبناء الطائفة العلوية. هذا بالإضافة إلى التمايزات والصراعات القائمة في صفوف عشائر وعائلات هذه الطائفة، وخاصةً منها عشيرة الحدَّادين وعشيرة الكلبية. وأيضًا، في صفوف نفس العشيرة كالكلبية، في بلدة القرداحة مسقط رأس الرئيس (حافظ أسد) في جبل العلويين والتي أصبحت المركز السياسي لأبناء هذه الطائفة، حيث نلاحظ أن أصول الحسب والنسب ما زالت تحدد شكل العلاقة بين مختلف عائلات هذه البلدة. ونسجل في هذا السياق أن عائلة الأسد تحتل مكانةً ثانوية مقارنةً بعائلات أخرى أرفع منها شأنًا، كعائلات إسماعيل، وجركس وخاصةً... عائلة الخيِّر...[7] وأيضًا، نتذكر أنه في تلك الأيام، وضمن نفس السياق المذهبي، حاول النظام، وإن بشكل غير مباشر – عن طريق السيد جميل الأسد (شقيق الرئيس حافظ الأسد) – تشكيل جمعية طائفية سميت بـ"جمعية الإمام المرتضى" التي جرى حلُّها فيما بعد، والتي كان هدفها الرئيس: ... على حدِّ قوله (المقصود هنا جميل الأسد) تطوير شخصية علوية جامعة في قلب هذه الطائفة التي رفضها الإسلام...[8] ونقارن ما جرى في تلك الأيام بما يجري اليوم على أرض الواقع في صفوف الطائفة العلوية فنلاحظ: - أولاً: أن الأمور لم تتغير كثيرًا فيما يتعلق بالأحزاب والفئات العلوية واليسارية التي تحدث عنها ميشيل سورا. فجميع تلك الأحزاب والفئات التي كانت معارضة آنذاك، منضوٍ اليوم في صفوف مختلف فصائل المعارضة السورية في الداخل وفي الخارج، بدءًا من جماعة صلاح جديد وجماعة رياض الترك الأقرب إلى المجلس الوطني، وصولاً إلى عصبة العمل الشيوعي والاتحاد الاشتراكي الأقرب إلى هيئة التنسيق الوطنية. وأيضًا... - ثانيًا: نلاحظ أنه، مع ارتفاع عدد القتلى بين أبناء الطائفة العلوية[9]، عادت لتبرز على السطح، وأكثر بكثير مما كانت عليه الحال في الثمانينات، تلك التمايزات التي تحدث عنها سورا في حينه، بين عشائر وعائلات هذه الطائفة؛ والتي كان آخرها الصدامات التي وقعت مؤخرًا في بلدة القرداحة بين أبناء نفس العائلات المذكورة أعلاه (من قبل سورا) وبين عائلة الأسد وحلفائها. ولكن في المقابل... - ثالثًا: ما زلنا نلاحظ أن معظم أبناء الطائفة العلوية التي نجح النظام الأسدي حتى الآن وبشكلٍ عام في استقطابها عن طريق المؤسستين العسكرية والأمنية، ما زالوا حتى الساعة – كالمسيحيين والدروز – محايدين أو مؤيدين لهذا النظام. الأمر الذي يدفعنا إلى المزيد من التمعن في... تركيبة ودور المؤسسة العسكرية والأمنية... حول تطور تركيبة المؤسسة العسكرية السورية يقول نيقولاوس ﭬـان دام[10] في كتابه الصراع على السلطة في سورية – الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة متحدثًا عن: 1. سورية تحت حكم الانتداب الفرنسي (1920 – 1946): ... لقد ساهمت العديد من العوامل السياسية التاريخية والاجتماعية والاقتصادية في وجود تمثيل قوي لأبناء الأقليات في صفوف القوات المسلحة السورية قبل استيلاء الضباط البعثيين على السلطة عام 1963، ويرجع تاريخ أحد هذه العوامل إلى أيام الانتداب الفرنسي... (حيث فضَّل الفرنسيون) تجنيد مختلف الأقليات الدينية... فيما أسمي بالقوات الخاصة للشرق الأدنى التي تطورت فيما بعد لتصبح القوات المسلَّحة السورية واللبنانية... (وقد اتبعت سياسة التجنيد الفرنسية هذه) تقليدًا طبقته القوى الاستعمارية في العديد من الدول التابعة لها، أي البدء بتجنيد عاملين ثم ضباط من بين المجموعات العشائرية النائية عن العاصمة المركزية، ومجموعات الأقليات، وخاصةً منها المجموعات ذات التطلعات الاستقلالية المحدودة. وعادة ما كانت تلك المجموعات تنحدر من المناطق الأقل تطورًا من الناحية الاقتصادية. لذلك فقد جذبتهم الفرص المتاحة لهم داخل الجيش...[11] ويضيف ﭬان دام نقلاً عن نفس المصدر قائلاً إنه: ... على سبيل المثال، قلما قام الفرنسيون بتجنيد أفراد من العشائر أو القبائل التي سبق أن تمردت ضدهم. بل برز التمثيل القوي للعلويين والدروز من خلال المجموعات والفصائل والعشائر والقبائل التي إمَّا كانت محايدة على طول الخط أو أظهرت ولاءها للفرنسيين... وبالتالي، في عام 1944... كان تمثيل العلويين قويًا بين الجنود وضعيفًا في المجال السياسي وفي سلك الضباط وقوة الدرك والشرطة...[12] مع التأكيد مرةً أخرى على أن... ... ثمة عامل اجتماعي اقتصادي ساعد في إبراز التمثيل القوي لأعضاء الأقليات في الجيش السوري، ألا وهو أنه بالنسبة للكثير من أهل المناطق الفقيرة (حيث كانت تعيش معظم الأقليات) قدَّم السلك العسكري فرصة جيدة لتسلق السلَّم الاجتماعي والتمتع بحياة أكثر رفاهية من تلك التي يوفرها القطاع الزراعي...[13] ونتذكر أن... ... خلال شهر تموز 1945، سلَّمتْ فرنسا جميع الثكنات العسكرية إلى الحكومة السورية، وأصبح الجيش السوري بكامله تابعًا للحكم الوطني...[14] وفي 14 نيسان 1946، كان جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية... 2. الجمهورية السورية المستقلة (1946 – 1958): مع بدايات الاستقلال بدأت مشكلة العلاقة الشائكة والمعقدة، بين النخبة المدنية الحاكمة وبين المؤسسة العسكرية للدولة السورية الفتية، في البروز إلى السطح وفي التفاعل وفي التفاقم. عن هذه المرحلة من تاريخ سورية الحديث يتحدث المؤرخ فيليب خوري قائلاً: ... لم يبدأ القادة الوطنيون التفكير بجدية أكبر في مستقبل المؤسَّسات السورية، ومنها مؤسَّسة الجيش، إلاَّ بعد منتصف الثلاثينات، أي عندما تعاظَم إمكانُ حصول سورية على الاستقلال. عند ذلك فقط، أخذ بعض الوطنيين يشجِّع أبناء النخبة المدينية إلى الانضمام إلى الجيش بالالتحاق بالكلِّية العسكرية في حمص. ولكن على الرغم من أنه كانت هناك زيادة في نسبة عرب المُدُن السنَّة الذين أصبحوا ضباطًا بين عامي 1936 و1945 (وهي نسبة فاقت نسبة الضباط في فترة 1925-1935)، فإن العلاقة بين سلك الضباط والقادة الوطنيين لم تكن طيبة. فقبل كلِّ شيء، جاء أولئك الضباط من فروع متواضعة لأسر مدينية بارزة أو من الطبقات الوسطى الصاعدة، وكانوا ينظرون بامتعاض إلى الزعماء المدينيين الأبرز اجتماعيًّا والأكثر ثراءً. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الامتعاض كان متبادلاً: فالقادة السياسيون السوريون كانوا يحتقرون الجيش، ولم يفارقهم هذا الشعور حتى بعد مغادرة الفرنسيين. وفي معزل عن مشكلة العدالة الاجتماعية، كان القادة الوطنيون لا يثقون بسلك الضباط؛ إذ اتَّهموه بخدمة الفرنسيين صراحة، أو على الأقل بخدمة المصالح الفرنسية، باستنكافه عن النضال الوطني. وبعد مغادرة الفرنسيين عام 1946، كان من الأمور الأولى التي نفذتْها حكومةُ الاستقلال توكيد سيطرتها على الجيش بإخضاعه للسلطة المدنية. فقامت عمليًّا بخفض عدد الجيش [...]. وأدَّى خفض عدد الجيش في الوقت الذي كانت الحرب في فلسطين تلوح واضحة في الأفق، وكانت الفضائح شائعة فيما يتعلق بتقصير الحكومة في إعداد الجيش خلال تلك الحرب، (من العوامل التي أدت) إلى تفاقم العلاقات المدنية–العسكرية والمساهمة مباشرة في دخول الجيش الحلبة السياسية السورية بأول انقلاب عسكري عام 1949...[15] أمَّا ﭬـان دام فيقول متحدثًا عن تلك المرحلة: ... بعد أن نالت سورية استقلالها عام 1946، تزايد إلى حدٍّ كبير عدد الملتحقين بالكلية العسكرية بحمص سنويًا. ويرجع ذلك أساسًا إلى التوسع الكبير في أعداد المدارس التي أتاحت التعليم لأبناء الطبقات الأدنى في مئات من القرى والمدن الصغيرة. وأصبحت المدارس الثانوية الجديدة ذات أهمية خاصة، حيث أن شهادة الدراسة الثانوية كانت ضرورية للالتحاق بالكلية العسكرية. وبينما كان عدد الملتحقين بالكلية قليلاً فيما مضى وكان معظمهم من الطبقات المتوسطة والعليا، إلاَّ أنه وصل في الخمسينات والستينات إلى المئات، وكان معظمهم من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن المناطق الريفية. وقد ساعد هذا الاتجاه مرةً أخرى، وبصورة غير مباشرة، في ازدياد عدد ضباط الأقليات (الفلاحين سابقًا).[16] ويضيف المؤرخ حنَّا بطاطو حول هذا الموضوع موضحًا: ... على مستوى سلك الضباط فإن العلويين لم يحظوا بالأعداد التي تمتع بها السنيون قبل عام 1963، وذلك بخلاف الانطباع الذي كان شائعًا. لقد استمدوا الكثير من قوتهم الحقيقية من بين صفوف الجيش الأقل رتبةً. لذلك، وبإجراء عملية حسابية بسيطة نجد أنهم (أي العلويين) تمتعوا بأغلبية في صفوف الجنود وبكثرة واضحة بين ضباط الصف. وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1955 ... (حتى أن) عبد الحميد السراج، رئيس مكتب المخابرات، اندهش لدى اكتشافه أن ما لا يقل عن 65% من ضباط الصف كانوا تابعين للطائفة العلوية...[17] ونتذكَّر أن في تلك الأيام – تحديدًا في 22 نيسان 1955 – كان اغتيال العقيد عدنان المالكي على يد الرقيب يوسف عبد الرحيم (الذي كان علويًا وعضوًا في الحزب القومي السوري). لكن... ... وبالرغم من حقيقة أن أعضاء الأقليات الدينية كان لهم تمثيل قوي غير متناسب في الجيش السوري، وأنهم شغلوا مناصب عسكرية هامة سياسيًا واستراتيجيًا، إلاَّ أن أبرز الفصائل التي كانت تملك زمام السلطة قبل تقلُّد البعث لها في عام 1963، كانت أساسًا تحت قيادة ضباط سنِّيين. وهكذا فإن زعماء الانقلابات العسكرية الأولى وهم اللواء حسني الزعيم (1949)، واللواء سامي الحنَّاوي (1949)، والعقيد أديب الشيشكلي (1949-1954) كانوا جميعًا سنِّيين...[18] ونتذكَّر أن في ذلك الحين – ما بين أعوام 1955 و1958 – تشكَّل في البلد، وإنْ بشكل غير معلَن، تحالف بين ما أضحى يُعرَف بـ"التجمع القومي" (الذي كان يضم القسم الأكبر من الحزب الوطني بقيادة القوتلي والعسلي، والمستقلين الذين كان أبرزهم خالد العظم، وحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح البيطار، والحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش) وبين كتلة من أبرز ضباط الأركان ذوي الميول القومية العربية واليسارية (والذين كانوا بمعظمهم من السنَّة). وقد قام هذا التحالف، الذي استفاد تمامًا من الأجواء الشعبية والسياسية المواتية لتوجهاته، شيئًا فشيئًا، ببسط سيطرته على مجمل السلطة السياسية في البلاد. وقد استمرت هذه الأوضاع، على الرغم من الصراعات الحادة بين المنتسبين إلى هذا التحالف في صفوف القوات المسلَّحة، حتى 2 كانون الثاني 1958، حيث سافر إلى القاهرة وفدٌ من مجلس قيادة الجيش، رافقه الملحق العسكري المصري في دمشق، ليعرض الوحدة على الرئيس جمال عبد الناصر. وكانت الوحدة السورية المصرية... 3. الجمهورية العربية المتحدة (1958 – 1961): خلال هذه المرحلة الممتدة من 22 شباط 1958 إلى 28 أيلول 1961 أصبح الجيش السوري برئاسة الفريق جمال فيصل الجيش الثاني لدولة الوحدة. لكن تركيبته الأساسية لم تتغير. ونسجل في هذا السياق أنه خلال هذه الفترة، كان تسريح جميع "الضباط السياسيين" الذين كانوا متحالفين مع ما كان يعرف بالتجمع القومي، وأصبح العديد منهم وزراء مدنيين في حكومة الجمهورية العربية المتحدة. وأيضًا، خلال هذه الفترة التي كان أبرز شخصياتها العقيد عبد الحميد السرَّاج رئيس المخابرات السابق، أصبحت سورية، ولأول مرة في تاريخها الحديث، دولة أمنية تحكمها المخابرات. 4. فترة الانفصال (1961 – 1963): عن هذه المرحلة، الهامة لكن القصيرة جدًا من تاريخ سورية – ما بين 28 أيلول 1961 و8 آذار 1963 – يتحدث نيقولاوس ﭭـان دام قائلاً: خلال ما يسمى بفترة الانفصال، وصل الضباط السنِّيون الدمشقيون تحت قيادة المقدَّم عبد الكريم النحلاوي إلى أوج قوتهم. وبالتالي، لم يكن من قبيل المصادفة أنه باستطاعة ضباط دمشقيين (سنِّيين) القيام بانقلاب ناجح في 28 سبتمبر (أيلول) 1961، مما تسبب في انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة... ... بيد أنه خلال فترة الانفصال سرعان ما انهارت جماعة النحلاوي المكوَّنة من ضباط دمشقيين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن النحلاوي لم يتلقى الدعم الكامل من غير الدمشقيين. وقد حاول (النحلاوي) جاهدًا دون جدوى في 28 (آذار) 1962 أن يقوي قبضته المتراخية على جهاز الجيش والحكومة عن طريق انقلاب عسكري. وبعد هذه المحاولة الفاشلة، تم طرده من سورية مع خمسة من أبرز زملائه الدمشقيين... ... وخلال الفترة اللاحقة تم تطهير معظم وحدات الجيش ذات الأهمية الاستراتيجية حول دمشق وغيرها من الضباط الدمشقيين. وكما جاء في وصف القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة السورية حينئذٍ اللواء – الدرزي – زهر الدين فقد تم استبدالهم "بضباط لا يضمرون إلى دمشق وأهلها إلاَّ الحقد والكراهية". وربما كان معظم هؤلاء الضباط من أرياف سورية، حيث كانوا غالبًا يعاملون بازدراء من قبل الضباط الدمشقيين. إن عمليات التصفية العديدة الناجمة عن الصراع على السلطة بين الضباط ذوي المناصب العليا (ومعظمهم سنِّيون) قد أضعف التمثيل السنِّي لحدٍّ كبير في الدرجات العليا لسلك الضباط...[19] وقد استمرت هذه الحالة حتى الثامن من آذار 1963 وبدء... 5. الاحتكار البعثي للسلطة (1963): في 8 مارس (آذار) 1963 (حين) أطاح انقلاب بقيادة ائتلاف من الضباط البعثيين والناصريين والوحدويين المستقلين بنظام الانفصال، وما لبث أن ازداد عدد أعضاء الأقليات في سلك الضياط السوريين مرة أخرى على حساب السنِّيين. وأحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أن القادة البعثيين العسكريين الذين شاركوا في الانقلاب قاموا باستدعاء العديد من الضباط وضباط الصف الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية أو إقليمية لتعضيد مراكزهم الجديدة التي حصلوا عليها على وجه السرعة.[20] وفي نفس السياق يقول ﭬـان دام: ... لقد كان معظم العسكريين الذين تمَّ استدعائهم بهذه الطريقة ينتمون إلى الأقليات وخاصةً العلويين والدروز والإسماعيليين، ولم يكن الأمر مثيرًا للدهشة حيث أن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري كانوا من الأقليات...[21] ويضيف ﭬـان دام معقبًا وشارحًا ماهية تركيبة تلك اللجنة العسكري: تكونت القيادة العليا للجنة العسكرية البعثية التي تأسست عام 1959 خلال الوحدة بين مصر وسورية من قبل ضباط كانوا منقولين لمصر، في البداية من خمسة ضباط من بينهم ثلاثة علويين هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وإسماعيليان هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير. وعندما توسعت اللجنة العسكرية[22] فيما بعد لتشمل 15 عضو أصبح تركيبها كالآتي: خمسة من العلويين وهم محمد عمران من المخرم (حمص)، وصلاح جديد من دوير بعبدا (اللاذقية)، وحافظ الأسد من القرداحة (اللاذقية)، وعثمان كنعان من ريف منطقة حلب (كان ينتمي إلى عشيرة صغيرة كانت ترحل بين ريف حلب وريف لواء الاسكندرون واستقرت في ريف حلب بعد عام 1939)، وسليمان حداد من حمام القراحلة (اللاذقية)، وإسماعيليان هما عبد الكريم الجندي من السلمية (حماه)، وأحمد المير من مصياف (حماه)، ودرزيان من جبل الدروز هما سليم حاطوم من ذبيين وحمد عبيد، وستة من السنيين منهم ثلاثة من حوران هم موسى الزعبي ومصطفى الحاج وأحمد سويداني، واثنان من حلب وهما أمين الحافظ وحسين ملحم، وواحد من اللاذقية هو محمد رباح الطويل. وكان لمعظم أعضاء اللجنة العسكرية أصول قروية وينتمون لعائلات فقيرة، ما عدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي فكانا ينتميان لعائلات بارزة من الطبقة الوسطى...[23] وطبعًا، كان جميع هؤلاء الضباط الذين لم يكن من بينهم دمشقي واحد ينتمون إلى حزب البعث. كما أن البعث الذي جاء إلى السلطة في 8 آذار 1963 لم يكن نفس البعث الذي شارك في السلطة خلال فترة الوحدة، حيث انشقَّ عنه خلال فترة الانفصال جماعة أكرم الحوراني الذين عادوا ليصبحوا "الاشتراكيين العرب". كما أن التوجهاتهم والولاءات الحزبية والعشائرية المناطقية، والمذهبية لهؤلاء الضباط كانت متباينة. وبالتالي، سرعان ما بدأت الصراعات فيما بينهم لتطفو على السطح من جديد. ففي ديسمبر (كانون الأول) 1964... ... تمَّ إبعاد اللواء محمد عمران العلوي من سوريا من قبل أعضاء آخرين في اللجنة العسكرية بتهمة بناء كتلة طائفية علوية داخل الجيش ولكونه المسئول الأول عن جو الارتياب الطائفي السائد حينذاك. ولم يقتصر اتهام عمران بنشر الطائفية من قبل الضباط السنِّيين فقط مثل الرئيس أمين الحافظ وموسى الزعبي، بل أيضًا من قبل ضباط علويين مثل صلاح جديد وحافظ الأسد...[24] وأيضًا، ونتيجة صراعات كثيرة ما بين أمين الحافظ (رئيس الدولة آنذاك) وصلاح جديد (رئيس الأركان)[25] ، انعكست من حيث الظاهر صراعًا بين القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث... ... تمت في 23 فبراير (شباط) 1966، الإطاحة بالرئيس أمين الحافظ ومعارضي جديد الآخرين بالقيادة القومية عن طريق انقلاب عسكري تمَّ تنفيذه ولعب فيه سليم حاطوم وعزَّت جديد دورًا رئيسيًا... وأسفر الانقلاب الجديد عن تصفية بعض جماعات الضباط السنِّيين البارزة، كما تم تسريح أهم أعضاء كتلة عمران...[26] ونسجل أن أول ما قامت به الجماعة التي وصلت إلى السلطة في 23 شباط 1966 (قبل تشكيل الحكومة الجديدة) كان تعيين حافظ الأسد وزيرًا للدفاع. ثم كان تشكيل وزارة برئاسة يوسف زعين ضمت لأول مرة منذ وصول البعث إلى السلطة، وزيرًا من الحزب الشيوعي السوري هو المحامي سميح عطية. واستمرت الصراعات بين الجماعات البعثية بعد الـ23 من شباط؛ واتخذت جميعها، وما تبعها من تصفيات، صبغة طائفية ساهمت بشكل طبيعي في تقوية مراكز الضباط العلويين على حساب الضباط من الطوائف الأخرى. حيث تمَّ في 8 سبتمبر (أيلول) 1966 إفشال محاولة الانقلاب التي حاول الرائد سليم حاطوم وجماعته القيام بها ضد الأوضاع الجديدة. ما أدَّى إلى هرب هذا الأخير ورفاقه إلى الأردن. و... ... في مطلع عام 1967، (كانت محاكمة) عدد من الضباط في دمشق بتهمة اشتراكهم في مؤامرة القيادة القومية المخلوعة...[27] حول ما حدث في تلك المرحلة يقول ﭭان دام: ... لقد تمَّ إجراء تصفيات واسعة النطاق في الجيش السوري وحزب البعث إثر انقلاب حاطوم الفاشل. وشملت التصفيات العديد من الضباط الدروز، وهذا الأمر كان طبيعيًا نظرًا لأن حاطوم وأبو عسلي كانا قد اعتمدا بصورة رئيسية على تأييد الدروز. وغالبًا ما كان يتم تسليم زمام القيادة بالوحدات العسكرية التي تمَّ تصفيتها إلى ضباط علويين. وقد تركت المؤامرة الفاشلة بصماتها على مسار الأحداث السياسية في سورية حتى عام 1967 الذي شهد أيضًا المزيد من التصفيات...[28] أمَّا المؤرخ حنا بطاطو فيقول متحدثًا عن نفس المرحلة موضحًا: ... لقد كان أكثر ما ساعد الضباط العلويين في هذا الصراع هو دورهم القيادي في اللجنة العسكرية وفي التنظيم العسكري لحزب البعث، حيث كانوا بالدرجة الأولى يتصرفون كبعثيين وليس كعلويين. وهذه نقطة يجب التركيز عليها. فالضباط العلويون، الذين لم يكونوا يتصرفون دائمًا كعلويين، كانوا أيضًا، وهذا أمر يجب أن لا يغب عن بالنا، أناسًا من أصول فلاَّحية وبالتالي كانوا يتصرفون على هذا الأساس. أي أنهم كانوا يتصرفون انطلاقًا من غريزتهم وميولهم الناجمة عن هذا الواقع... وقد ساهم إلى حدٍّ كبير في تفوقهم، واقع أنهم ركَّزوا جهودهم على السيطرة على وحدات مقاتلة أساسية ساعدتهم على القيام بانقلاباتهم، كوحدات الطيران، والصواريخ، والمدرعات، وقد نجحوا في ذلك. مع الإشارة إلى أنه كان هناك العديد من السنَّة في سلك الضباط، لكن أهميتهم لم تكن كمجموعة إنما كأفراد وخاصةً في المجالات الاختصاصية أو من الناحية السياسية...[29] وكانت في الخامس من حزيران 1967 حرب مع إسرائيل خسرت سورية فيها هضبة الجولان، كما خسرت مصر فيها شبه جزيرة سيناء وخسر الأردن فيها الضفة الغربية. وكان تصاعد دور المقاومة الفلسطينية التي كان على رأسها حركة فتح بقيادة ياسر عرفات. ونتذكر أن في تلك الأيام كان وزير الدفاع هو حافظ الأسد وكان رئيس الأركان هو أحمد سويداني (مسلم سنِّي من حوران). ونتابع مع نيقولاوس ﭭـان دام بعض ما جرى في هذه الأيام فنلاحظ أنه: ... في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو (حزيران) 1967، فقد بعض البعثيين البارزين من حوران مراكزهم في قيادة الحزب والحكومة. ففي 14 فبراير (شباط) 1968 تم إعفاء أحمد سويداني رئيس أركان الجيش السوري وهو من حوران وكان فيما سبق من أبرز أنصار صلاح جديد من منصبه في الجيش. وكان هذا يعني خلع الشخصية العسكرية الرئيسية المتبقية من حوران. وفي الواقع كان هذا الإجراء يعني تصفية أو تحييد البعثيين العسكريين والمدنيين الحورانيين من جهاز الحزب والجيش بوصفهم كتل قوى منفصلة...[30] وبات يبرز على السطح أكثر فأكثر صراع لم يكن ظاهرًا خلال المرحلة السابقة بين أهم شخصيتين عسكريتين (علويتين) هما صلاح جديد (الأمين القطري المساعد لحزب البعث) وحافظ الأسد (وزير الدفاع)... ... وقد ظهر هذا النزاع بعد الهزيمة العسكرية العربية في يونيو (حزيران) 1967، ويرجع ذلك جزئيًا للاختلافات في الرأي حول السياسات العسكرية والخارجية والاقتصادية الاجتماعية التي كان لا بدَّ من اتباعها حينذاك... وقد باتت الخلافات في الرأي بين جديد والأسد واضحةً جلية في المؤتمرات القطرية والقومية لحزب البعث التي عقدت بدمشق في سبتمبر (أيلول) وأوكتوبر (تشرين الأول) 1968... وقد فاز جديد وأنصاره بأغلبية ساحقة خلالها...[31] لكن وزير الدفاع حافظ الأسد لم يقبل بمقررات هذه المؤتمرات... ... فعقب مؤتمرات الحزب المنعقدة في سبتمبر (أيلول) وأوكتوبر (تشرين الأول) 1968 تم نقل بعض أنصار جديد العسكريين (ومعظمهم علويون) إلى مناصب أقل فعالية في القوات المسلحة... وأعفي المقدَّم العلوي عزت جديد أحد أبرز مؤيدي صلاح جديد العسكريين من قيادة اللواء السبعين، الذي كانت له أهميته السياسية والاستراتيجية...[32] واستمر الصراع بين الرجلين خلال هذه الفترة الممتدة ما بين أواخر 1968 و1970، حيث نجح حافظ الأسد في فرض سيطرته على معظم الفوات المسلحة السورية، بينما أحكم جديد قبضته على جهاز الحزب المدني. وكان الـ13 من تشرين الثاني 1970 حين... ... أمر الأسد العسكريين باحتلال مكاتب القسم المدني للحزب، وكذلك المنظمات الشعبية البعثية، بالإضافة إلى إلقاء القبض على أبرز قادة الحزب المدنيين، بمن فيهم صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي...[33] وكانت "الحركة التصحيحية"... 6. حكم القائد الملهم وعائلته (1970 – حتى تاريخه): حول هذه المرحلة الأطول من تاريخ سورية الحديث، والتي استمرت ما يزيد عن أربعين عامًا، يقول نيقولاوس ﭭـان دام: ... بعد 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، اعتمد الأسد على جماعة الضباط التابعة له للاحتفاظ بالسلطة. وشملت هذه المجموعة عددًا كبيرًا من الضباط الذين كان لهم ولأنصارهم مراكز استراتيجية هامة في القوات المسلحة السورية. هذا وقد تقلَّد الضباط التابعون لطوائف دينية غير علوية مهامًا عسكرية هامة من حيث الشكل، إلاَّ أنهم لم يكونوا في وضع يشكل أي تهديد للرئيس العلوي الذي كان أتباعه الشخصيون قادرين على قمع أية بادرة عصيان... ... وفي الحقيقة، فإن تعيين ضباط سنيين في مثل هذه المراكز العليا، أمثال طلاس وجميل كان من الممكن أن يكون بغرض تهدئة السنيين وتبديد الانطباع بأن أهم المراكز مقصورة على العلويين دون غيرهم...[34] لكن، وهذا عامل أساسي لا يجب تجاهله لفهم هذه المرحلة... ... ونظرًا لأن معظم التحديات لنظامه نبعت من داخل الطائفة العلوية، فإنه ليس من المدهش بمكان أن يضع الأسد ثقته المتزايدة في أشخاص مقربين إليه، كأفراد عائلته أو قبيلته أو قريته وما يجاورها. وذلك كي يؤمن مركزه حتى ضد من هم من طائفته الدينية...[35] فكان ذلك الدور المتزايد لأشقائه، وعلى رأسهم في حينه رفعت وجميل. ولأقربائه وأنسبائه وعلى رأسهم عائلة مخلوف. ولأبنائه وعلى رأسهم باسل (الذي توفي بحادث سيارة في 21 كانون الثاني 1994) ومن بعده ابنه بشار الذي ورث عنه رئاسة الجمهورية في العام 2000. خلال هذه الفترة الأطول من تاريخ سورية الحديث، عرفت سورية نوعًا من الاستقرار الذي يتحدث عنه ﭭـان دام قائلاً: ... إن فترة الاستقرار الطويلة نسبيًا التي تمتعت بها سورية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 يمكن أن تعزى إلى حدٍّ كبير لعدم تقويض الانضباط العسكري والحزبي حينذاك بالشكل الذي كانت الأوضاع عليه فيما سبق، بسبب الانقسام الطائفي والعشائري، بجانب أنه لم يبقى سوى جماعة واحدة من الضباط العلويين، ألا وهي جماعة حافظ الأسد، الذي تقلَّد زمام السلطة العليا واستطاع أن يفرض إرادته على الآخرين...[36] لقد كان هناك استقرار، نعم، لكنه كان استقرارًا قائم على القمع وتسلط الأمن على كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية... كان هناك استقرار حقيقي فعلاً، لكنه كان استقرارًا مرتبطًا بالفساد وبالثراء غير المشروع للقلة الحاكمة على حساب أكثرية الشعب. لقد كان هناك استقرار فعلي، نعم، لكنه استقرار أثبت مدى هشاشته في الأحداث التي شهدتها سورية ما بين 1976 و1982 خلال حكم الرئيس حافظ الأسد، كما هو يثبت اليوم ليس فقط هشاشته، إنما أيضًا استحالة استمراره، من خلال الثورة التي تشهدها سورية حاليًا. تلك الثورة التي بدأت في أواسط آذار 2011 والتي أدت إلى انشقاق كبير في قواتها المسلَّحة، والتي ما زالت مستمرة إلى الآن. في الخلاصة وفي آفاق الحلِّ... وأتفكَّر في أن ما نشهده اليوم إنما يعود بمجمله إلى واقع أن الأسد الأب الذي كان قائدًا كبيرًا ربما، لم يعرف كيف يبني دولة متماسكة وثابتة تستمر من بعده. إنما بنى نظام حكم أمني طائفي وعائلي ينخره الفساد ويواجه اليوم مصيره المحتوم. لذلك، ومن هذا المنظور الذي يقول أن لم تعد هناك اليوم أية إمكانية لأن تعود سورية إلى الأوضاع السابقة التي كانت سائدةً خلال الحقبة الأسدية، يمكن القول إن الثورة، من منظورها الإيجابي، قد انتصرت فعلاً. ولكن... لماذا في هذه الحال، لم يسقط نظام الحكم بعد؟ وهل هو صامد فقط يا ترى بسبب التأييد الروسي والإيراني؟ أم أن هناك واقع آخر يقول إنه لم يسقط إلى الآن لأنه ما تزال هناك شرائح مهمة من أبناء الوطن مترددة إن لم نقل تقف إلى جانبه؟! من هذا المنظور، ومن منطلق توازنات القوى المتصارعة على الأرض داخليًا ودوليًا، يبدو أن كلا طرفي الصراع هي الآن في حالة توازن قلق. حيث ليس باستطاعة أي منها – بالقوة – حاليًا وحتى إشعار آخر، القضاء على الطرف المقابل! من هذا المنظور يمكن القول أيضًا إن استمرار هكذا وضع ليس في مصلحة أحد. لا المجتمع الدولي، ولا الدولة السورية التي ستنهار حتمًا في النهاية، ولا البلد الذي ستعمه الفوضى والخراب والتطرف، ولا الشعب الذي هو في النهاية أكثر من يعاني! ما يعني، من حيث المنطق، أن الحلَّ يجب أن يكون تسويةً سياسيةً لا يهزم فيها أحد. وتخرج منها البلد منتصرةً بشكل عام. من هذا المنظور، لم يخطىء من قال إن الحلَّ في النهاية يجب أن يكون سياسيًا[37]. وهنا يجب توضيح ما المقصود بالتسوية وبالحلِّ السياسي... لأنه كما لا يمكن أن تكون هناك أية تسوية مع من هم على رأس النظام، والذين يجب أن يتنحوا بالتي هي أحسن بسبب مسؤوليتهم في إيصال البلد إلى الحال التي وصلت إليه. كذلك لا يمكن لأي عاقل أن يقبل بانتصار تلك القوى الظلامية التي تركب اليوم موجة الثورة تحت ستار عصبيات دينية وطائفية تجاوزها الزمن. من هذا المنظور يصبح كلا طرفي الصراع مرفوضًا. وتصبح الثورة إن انتصرت من خلال أصولييها عملاً تخريبيًا. لكن... التسوية واجب، والحلُّ السياسي واجب من منظور آخر يقول أن لا يجوز أن يهزم أي مكون اجتماعي من مكونات البلد! لذلك فإنه، كما لا يجوز أن تبقى أكثرية البلد مستباحة. كذلك لا يجوز أن تهزم تلك الأقلية التي وضعها تطور الأوضاع والظروف والصراعات السياسية والاجتماعية في عين العاصفة. كما لا يجوز أن يهزم من خلالها جيشنا الوطني. من هذا المنظور نعم التسوية واجب. ولا طريق أمامنا سواه. وأحلم أن سورية يمكن أن تعود لتصبح قدوة حقيقية كما كانت تحلم بها نخبتها الاستقلالية. وأتفكر أن هناك حالات معاصر مشابهة في مناطق أخرى من العالم (إسبانيا)... وحتى ربما من منطقتنا (تركيا)... وأتفكَّر قبل كل شيء في إسبانيا ما بعد فرانكو حيث كانت التسوية الفعلية التي حصلت هي في إبعاد جميع المتطرفين الذين شاركوا في حربها الأهلية (عام 1936)، ما حافظ على جيشها الوطني وحوَّله إلى حام لديموقراطيتها وإلى رمز لوحدة البلاد. وكانت نتيجة هذه التسوية أن انتهت الحقبة الفرانكوية بالتي هي أحسن من جهة وأن انتسبت إسبانيا التي أصبحت ديموقراطية إلى الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. وأكتفي حاليًا بهذا القدر... *** *** ***
[3] Michel Seurat L'Etat de Barbarie - Syrie 1979/1982. [4] Ibid. [5] Ibid. [6] Ibid. [7] Ibid. [8] Ibid. [9] يقدر بحوالي 10000 حتى هذه الساعة. [10] ديبلوماسي هولاندي وسفير سابق لهولاندا في دمشق. [11] N.E. BouNacklie “Les Troupe Specialles. Religious and Ethnic Recruitment, 1916-1946, International Journal of Middle East Studies. Vol 25, 1993, p. 656. [12] Ibid. [13] Patrick Seale, The Struggle for Syria p 37. [14] مذكرات أكرم الحوراني، ج 1، ص 430. [15] فيليپ خوري، سورية والانتداب الفرنسي، الطبعة العربية، ص 693. [16] Moussa, Etude Sociologique des Alaouites ou Nusairis pp. 924-6, Be’eri, Army Officers in Arab Politics and Societies, pp. 336-337. [17] Hanna Batatu “Some Observations on the Social Roots of Syria’s Ruling Military Group and the cause for its dominance” The Middle East Journal, Volume 35, Summer 1981, pp. 341-343. [18] نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، النسحة الإلكترونية العربية، ص 54. [19] المرجع السابق، ص 56-58. [20] منيف الرزاز، التجربة المرَّة، ص 158-159. [21] نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، النسحة الإلكترونية العربية، ص 58. [22] تمَّ تشكيل هذه اللجنة العسكرية الموسعة بعد الـ18 من يوليو (تموز) 1963 وتصفية مجموعة الضباط المستقلين بقيادة لؤي الأتاسي وزياد الحريري والضباط الناصريين بقيادة جاسم علوان ومحمد الجراح. [23] محمد عمران، تجربتي في الثورة، الجديد 16 سبتمبر (أيلول)، 1966، ص 18 و18. منيف الرزاز، التجربة المرَّة، ص 87. سامي الجندي، البعث، ص 85. محمد ابراهيم العلي، الغجرية (المرابي 5)، دمشق، 1995 ص 275-294. مصطفى طلاس، مرآة حياتي، العقد الثاني، ص 156-157. [24] منيف الرزاز، التجربة المرَّة. [25] خلال الفترة ما بين أغسطس (آب) 1963 وسبتمبر (أيلول) 1965 شغل صلاح جديد منصب رئيس الأركان السوري، بينما كان حافظ أسد قائدًا للقوات الجوية، وكان محمد عمران، قائدًا للواء سبعين المدرَّع المتمركز جنوب دمشق. كما كان حمد عبيد وزيرًا للدفاع. [26] نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، النسحة الإلكترونية العربية، ص 80. [27] كان التنظيم العسكري السرِّي للقيادة القومية المخلوعة بقيادة اللواء الدرزي فهد الشاعر. بينما كان تنظيمها السياسي بقيادة منيف الرزاز الأمين العام للقيادة القومية. [28] نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، النسحة الإلكترونية العربية، ص 96. [29] Hanna Batatu, Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their Politics. P. 158-159. [30] نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سورية، النسحة الإلكترونية العربية، ص 98 – 99. [31] المرجع السابق، ص 102 و103. [32] المرجع السابق، ص 104. [33] المرجع السابق، ص 109. [34] المرجع السابق، ص 110. [35] المرجع السابق، ص 112. [36] المرجع السابق، ص 115. [37] السيد لافروف وزير الخارجية الروسي. |
|
|