الصفحة السابقة          الصفحة التالية

عودة إلى الذات 2
في الحب وفي المحبة

On the Lookout

طائر الليل

 

الحب موجود... وأنا أؤمن به...
آراغون

1

أسترجع بيت شعر جميل لشاعر فرنسي من القرن السادس عشر يقول:

الحياة جميلة، أنا أقتل نفسي كي أفهمكم
هذا
ما نطقت به الوردة، قبل أن تموت
[1].

ولأن الحياة جميلة فعلاً، رغم قسوتها أحيانًا، ترانا نتمسَّك بها بكلِّ ما أوتينا به من قوة، محاولين قدر المستطاع إبعاد ساعة نهايتها. لأننا، ورغم كلِّ ما نحاول أن نقنع أنفسنا به من أوهام تعدنا بحياة أزلية، أو بإمكانية العودة إلى هذه الحياة مرة أخرى، تجدنا مقتنعين في أعماقنا بتلك الحقيقة القاسية التي تقول أن لا حياة سوى تلك المحدودة التي نعيشها على هذه الفانية.

لهذا تجدنا، عن وعي و/أو بلا وعي، نحاول أن نغرف منها قدر المستطاع لأنفسنا، ولمن نحب.

ولكن، مهلاً يا صديقي، مهلاً...

وقبل أن تسهب في الحديث عن مشاكلك وعن مشاكل هذه الحياة، لما لا تتوقف قليلاً وتتأمل في آخر كلمة نطقت بها؟ ولم لا تتساءل عن ماهية الحبِّ الذي ذكرته، والذي قد يكون فعلاً ذلك الذي يعطي الحياة معناها الحقيقي؟ لم لا فعلاً؟! لم لا بكلِّ تأكيد؟! لم لا نتفكر قليلاً معًا في تلك العلاقة التي هي أجمل ما يربط بين البشر، والتي هي ربما أسمى ما في الوجود؟ وأجدني حالمًا، سعيدًا وحزينًا معًا، أستعيد بعضًا من أجمل أبيات الشعر الغزلي تقول:

مولاي وروحي في يده...
قد ضيَّعها...
سلمت يده
[2].

وأتفكَّر بحسرة... ربما لأني قد تجاوزت الخامسة والستين من جهة، و/أو ربما لأن قطار العمر قد فاتني من جهة أخرى، بجمالية تلك العلاقة التي غالبًا ما تكون، من أحد جوانبها الأساسية، حسية جدًا – وهو جانب قد يكون، من منظور معين، أحد أمتع أوجه الحبِّ الذي يتغنى به الجميع. خاصةً وأنه...

عندما يكون الإنسان مجتمعًا بزوجته [بمن يحب]، يعصف شوق التلال الأبدية حولهما[3].

وأتساءل: ما هو الحبُّ يا ترى؟

2

وأتفكر قبل كلِّ شيء بأن الحبَّ هو علاقة، إن لم نقل إنه، وبالنسبة لنا كبشر، التعبير الأكثر صدقًا عن العلاقة بين الـأنا الخاصة بنا والـأنت الخاصة بمن نحبُّ. ولكن قبل الغوص في مضمون هذه العلاقة، أرى من الضروري توضيح بعض الأمور.

وأبدأ ببعض مما قاله حول هذا الموضوع المفكر الهندي الكبير جدّو كريشنامورتي الذي، وإن لم يعرف كيف يوضِّح لمحاوريه ماهية الحبِّ، حاول، بكل بساطة ونزاهة وقسوة، أن يبين، ومن منظوره العقلي الذي غالبًا ما يتخذ شكلاً سلبيًا، ما لا يمكن للحبِّ أن يكون...

فالحبُّ، من منظور كريشنامورتي، لا يمكن، قبل كلِّ شيء، أن يكون تملُّكيًا...

لأننا حين ندَّعي بأننا نحبُّ شخصًا ما، فما الذي نعنيه بذلك؟ نحن نعني أننا نملك هذا الشخص. ومن التملك تنبع الغيرة، لأني إن فقدته أو فقدتها، فما الذي سيحصل؟ سأشعر بالفراغ، وبالضياع، لذلك تراني أشرِّع التملُّك؛ فأتمسَّك به أو بها. ومن التمسُّك، والتملُّك، تنبع الغيرة، لأن هذا يولِّد خوفًا وكلَّ تلك الصراعات التي لا تنتهي والنابعة من التملُّك. فحتمًا لا يمكن اعتبار مثل هكذا تملُّك حبًّا. أليس كذلك[4]؟

وهذا صحيح جدًّا. لكن ما كان بحاجة إلى المزيد من التوضيح، من قبله ربما، كان ضرورة التمييز بين مفهوم التملُّك وبين حتمية أن تكون...

كل علاقة حقيقية، مع أيِّ كائن أو مع إيَّة حياة في العالم، حصرية. حيث تتحرر الـأنت الخاصة بها، فتتجاوزها، وحيدةً، وتواجهك. (لأنها) تملأ السموات. لكن هذا لا يعني أن لا وجود لشيء سواها؛ إنما (يعني) أن كل الآخرين يحيون في نورها. وطالما استمرت العلاقة، فإن نطاقها الكوني لا ينتهك. لكن، بمجرد أن تتحول الـأنت إلى هو، فإن النطاق الكوني للعلاقة يصبح مهينًا للعالم، كما تصبح خصوصيتها إقصاءً من الكون[5].

ما يعني، ومن منظور فهمي المتواضع، أنه إن كان يفترض بالحبِّ أن لا يكون تملكيًا، وهذا أساسي؛ فإنه أيضًا، وفي الوقت نفسه، لا بدَّ من أن يكون حصريًا، وهذا أساسي أيضًا.

وأيضًا، لقد كان كريشنامورتي على حق إلى حدٍّ كبير حين افترض بأن...

الحبَّ لا يعني الشعور. فإن حملت مشاعرًا، أو كنت عاطفيًا، فإن هذا لا يعني أنك تحب، لأن المشاعر والعواطف هي مجرد أحاسيس. والشخص المتدين الذي يسعى إلى يسوع أو إلى كريشنا من خلال الغورو الخاص به (بمعنى معلمه) أو أي شخص آخر، هو مجرد شخص عاطفي، وانفعالي، وغارق في الإحساس الذي هو صنيعة الفكر، والفكر ليس حبًّا. لأن الفكر هو من نتائج الإحساس، ما يعني بأن الشخص العاطفي، والانفعالي، ليس بوسعه على الأغلب أن يعرف معنى الحب[6].

ولكني، ورغم موافقتي على أن الحبَّ لا يعني الشعور، وعلى أن الفكر لا يعني الحبَّ، أجدني، من حيث النتيجة، متحفظًا على مثل هكذا كلام. وتحفُّظي ههنا له علاقة بقطعية الحكم الذي توصل إليه صاحبنا، وبقسوته. لأنه حتى الألوهة، التي تستوعبنا جميعًا، ليس بوسعها أن تنفي إمكانية الحب لأي شخص انطلاقًا من واقعه ومن مستوى إدراكه. ما يعني أنه بهذا الحكم، المتسرِّع والقاسي، أخطأ كريشنامورتي فوقع من خلال مقارباته الذهنية في خطيئة التعالي. والمحب الحقيقي – أقصد من يعرف ماهية الحبِّ كعلاقة حصرية تعاش – لا يفترض أن يتعالى. لكن هذا التعالي أكده كريشنامورتي، مرةً أخرى، مع الأسف، في الفقرة التالية من الحوار نفسه حين قال بكل ثقة، ومن نفس المنطلق القطعي والقاسي:

إنَّ الشخص العاطفي، والذي يسكب الدموع من أجل دينه، ليس بوسعه أن يحبَّ بالتأكيد[7].

لأنَّ ما كان كريشنامورني بحاجة لأن يوضحه في هذا المجال، بكل تواضع، وبمزيد من الدقة، هو أنَّ:

المشاعر تقيم في الإنسان؛ لكن الإنسان يُقيم في حبه. وهذا (الأمر) ليس مجازًا إنما (هو) حقيقة قائمة[8].

لكن، ورغم كلِّ شيء، كان كريشنامورتي محقًا جدًا في مقاربته. خاصةً حين إكد أنه...

... حيث لا يوجد الاحترام، لا يمكن للحبِّ أن يتواجد؛ وحيث لا توجد الشفقة، والرحمة، والغفران، لا يمكن للحبِّ أن يتواجد[9].

كما كان محقًا تمامًا في النتيجة التي توصل إليها، في نهاية حواره، والتي تقول:

... أنت تحبُّ حقًّا حين لا تتملك، وحين لا تكون حسودًا، وحين تحترم الآخرين، وحين تكون رحيمًا وعطوفًا، وحين تحترم زوجتك وأطفالك وجيرانك، وخدمك المساكين...

لذلك...

... لا تقل: "أنا أحبُّ العالم"، لكنك حين تتعلم كيف تحب شخصًا واحدًا فإنك ستعرف كيف تحب العالم. لأننا حين لا نعرف كيف نحب شخصًا واحدًا يكون حبنا للإنسانية زائفًا[10].

وفعلاً، كان كريشنامورتي محقًا بشكل عام في حواره وفي مقارباته التي حاول فيها أن يوضِّح مفهومه للحب وللمحبة. وفهمه الجميل هذا يتقاطع إلى حدٍّ بعيد مع ما جاء على لسان بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس حين قال بأن:

المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب شيئًا ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، و تصدِّق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدًا. وأما النبوأت فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل[11].

وأتفكَّر بأن كلَّ هذه المبادىء صحيحة جدًا. لكن...

يبقى أنه لم يكن بوسع بولس الرسول قبل ما يقارب الألفي عام، كما لم يكن بوسع كريشنامورتي في الأمس القريب، كما لن يكون بوسع أحد في المستقبل، أن يقدِّم تعريفًا وافيًا للحبِّ؛ وذلك ربما لسبب بسيط هو...

أن الحبَّ لا يعرَّف...

لأن الحبَّ علاقة... ولأنه علاقة حصرية... ولأن العلاقة تعاش. ولأن...

من يتخذ موقفه في العلاقة يشارك في واقع، أي مع كائن لا يكون ملكًا له فقط ولا يكمن خارجه فقط. لأن كل واقع هو فعل أشارك فيه من دون أن أكون قادرًا على تملُّكه لنفسي. فحيث لا توجد مشاركة لا يوجد واقع. وحيث يوجد تملُّك ذاتي لا يوجد واقع. وبمقدار ما يكون هناك اتصال مباشر بالـأنت، بمقدار ما تكون المشاركة أكثر كمالاً[12].

3

ولأن الحبَّ هكذا، أعتقد أنه من غير الممكن تناوله بمنطق العقل والفكر والتحليل والعلم. لذلك تراه وجد في الشعر الذي يصف أحواله و/أو في القصة التي تتحدث عن أحوال المحبين، أفضل وسيلة للتعبير عن نفسه. وهو بهذا يشبه العرفان (أو الغنوص) الذي وجد في الأسطورة أفضل أسلوب للتعبير عن نفسه بلغة البشر.

من هذا المنظور، يمكننا أن نعتبر نشيد الأنشاد جزءًا لا يتجزأ من الكتاب المقدَّس، إن لم نقل إنه الفصل الأكثر قداسةً في هذا الكتاب. ومن هذا المنظور ترانا ما زلنا ننفعل حين نستمع إلى ذلك النشيد يغني:

... شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني.
أحلِّفكنَّ يا بنات أورشليم ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى
يشاء[13].

فالحبُّ، وخاصةً منه ذلك الذي بين الرجل والمرأة، هو أولاً وقبل كل شيء علاقة حصرية... وعلاقة حسية. وأيضًا...

وتحديدًا لأنه كذلك... فإنَّ الحبَّ المتبادل بين الرجل والمرأة، كما بين أي إنسان وأي إنسان آخر، هو مسؤولية. لا بل هو مسؤولية كبرى. فالحبُّ بين الرجل والمرأة لا يمكن أن يبقى مقتصرًا على العلاقة الحسية بينهما، وهي في مرحلة معينة أساسية إن وجد، إنما غالبًا ما يمكن أن تتمخض هذه العلاقة عن أسرة وعن أطفال. كما أنه، وفي كل الأحوال يفترض أن يتمخض عن صداقة.

وكل هذه الأمور، من خلال انعكاساتها الحياتية، هي علاقات حبٍّ و/أو علاقات محبة حصرية. أي علاقات تعاش بكلِّ جدِّية على أرض الواقع.

ويتوسع نطاق الحبِّ من علاقة حصرية بين الرجل والمرأة، ليصبح علاقةً حصرية أوسع من خلال الأسرة...

ويتوسع نطاق الحبُّ فيتجاوز نطاق الأسرة، ليصبح علاقات محبة حصرية وتعاش مع أسر أخرى، ومع أشخاص آخرين. وهكذا...

تستمر هذه العلاقة وتتوسع، إنْ كانت صادقةً وحصريةً فعلاً، بين الـأنا الخاصة بكلٍّ منا والـأنت الخاصة بمن نحب. كما أنها في المقابل قد تنقطع وتنتهي إن فقدت صفتها العلائقية الحميمة فتحولت الـأنت الخاصة بكل منَّا إلى شيء، وتحولت العلاقة مع الآخر إلى علاقة مع مجرد آخر – مجرد هو.

لأننا إن لم نتوجه إلى من نحبُّ بالكلمة الأساسية أنا–أنت، فإننا لا نعرف معنى الحب.

وأعود لأتفكَّر بمزيد من التعمق في ذلك الاستنتاج الذي توصَّل إليه كريشنامورتي حين قال:

... إننا حين لا نعرف كيف نحب شخصًا واحدًا يكون حبنا للإنسانية زائفًا...

واستنتج من هذا القول، الذي كان أجمل وأصدق ما عبَّر عنه في لقائه، أن من توصَّل إلى هكذا استنتاج لا بدَّ أنه، وفي يومٍ ما من حياته، قد عرف وعاش حبًّا حقيقيًا من خلال علاقة حصرية مع إنسان محدد. ولكن، يا للإسف، أتراه خسر كلَّ شيء بعدئذٍ، حين تخلى عن حياته الطبيعية كإنسان وتحول إلى... مجرَّد مفكر كوني؟!

لأن هذه هي الحقيقة الحزينة. إن من ينقطع عن الحبِّ كعلاقة حصرية يخسر حبَّ الشخص المقابل، وتلك النشوة الرائعة التي كانت تجمعهما معًا، كما قد يخسر حتى الصداقة. وأيضًا، بسبب انعدام هذه العلاقة الحصرية مع شخص محدد ومع أسرة محددة ومع أناس محددين يفرح لفرحهم ويبكي لألمهم، تراه يخسر كلَّ شيء ويصبح مجرد أسيرٍ لأوهامه ولعالم أفكاره. أسير ما كان (وما زال) يدعونا – محقًا – لرفضه. لكن...

4

هل يمكن للحبِّ على هذه الفانية أن يدوم؟

كجواب على هذا التساؤل ليس عندي ما أضيفه على القصيدة والأغنية الشهيرة لأراغون[14] التي تقول:

لا شيء مضمون أبدًا للإنسان لا قوته،
لا ضعفه، ولا قلبه. وحين يظن نفسه
فاتحًا ذراعيه لك فإن خياله يكون خيال صليب.
وحين يظن نفسه ضامًّا فرحه إليه فإنه يسحنه سحنًا.
طلاق غريب ومؤلم هي حياته.
لا يوجد حبٌّ هانئ!!!

لأن الحياة شبيهةٌ بأولئك الجنود العزَّل
الذين تمت تهيئتهم لمواجهة مصيرٍ آخر
لماذا يتوجب عليهم الاستيقاظ باكرًا
حين نجدهم في النهاية منزوعي السلاح وتائهين
لذلك رددي هذه الكلمات يا حياتي واحبسي دمعك
لا يوجد حبٌّ هانىء!!!

يا حبِّي الجميل، يا حبِّي العزيز، يا جرحي العميق
أحملك في داخلي كعصفور جريح
وهؤلاء من دون أن يدرون يشاهدوننا نمرُّ
مرددين من ورائي تلك الكلمات التي غزلتها
من أجل عينيك الواسعتين، ثم ماتت لتوها
لا يوجد حبٌّ هانىء!!!

حتى نتعلَّم كيف نحيا يكون قد فات الأوان
فلتبكي في الليل قلوبنا معًا
كم من الضنى ضروري من أجل أصغر غنوة
كم من الندم تستلزمه رعشة
كم من الشهيق يلزم للحن قيثار يغني
لا يوجد حبٌّ هانىء!!!

لا يوجد حبُّ غير منذور للألم
لا يوجد حبٌّ لا يُبرِّح
لا يوجد حبٌّ لا يلوِّع
وليس يشذُّ عنك أنت
حبُّ الوطن
لا يوجد حبٌّ إلا ويقتات بالدموع
لا يوجد حبٌّ هانئ!!!

لأنه، وهذه من الحقائق المؤلمة في هذه الحياة، لا شيء مضمون فعلاً للإنسان... فإنه، لا يوجد حبٌّ هانىء، ولا يوجد حبٌّ لا ينتهي.

لأنه، وحتى في أحسن الأحوال، لا بدَّ لأي حبٍّ من أن ينتهي على الأقل بموت أحد الحبيبين قبل الآخر أو كما في الأساطير بموتهما معًا. لذلك، لا يوجد حبٌّ هانىء، ولا يوجد حبٌّ أزلي على هذه الفانية.

لأننا بشر، ولأن الحبَّ الأزلي والكلِّي والشامل هو من صفات الألوهة.

ولأن الأمر فعلاً كذلك، ولأن هذه هي الحياة، فإنه لا يوجد على هذه الأرض حبٌّ غير منذور للألم. ولكن...

هذا لا ينفي أنَّ الحبَّ يبقى أجمل وأقدس ما في الوجود...

5

لكني، وبهذه المناسبة التي تحدثت فيها عن الحبِّ وعن الألم، تراني ما زلت أشعر بضيق لأني لم أستطع التعبير تمامًا عمَّا في نفسي وكنت أريد قوله. لهذا أجدني مضطرًا لأن أغوص المزيد في أعماق الجحيم ولأن أتفكر المزيد.

لأني حين تحدثت عن الحبِّ فقد كنت...

[أ] تحدث عنه وكأنه العلاقة الوحيدة بين البشر. ولكن إن صح الكلام، هل بوسعـ[ـي] الحديث عنه كمثال فقط، [أقصد] كمثال يواجه شيئًا اسمه الكراهية[15]؟

والجواب على هذا التساؤل الكبير والمشروع يمكن تلمسه من خلال العودة إلى أنفسنا - و/أو ربما إن قرأنا مارتن بوبر الذي قال ذات يوم إنه:

طالما أن الحبَّ "أعمى" فإن هذا يعني أن ليس بوسعه رؤية الكائن بكليته، بمعنى أنه غير متأثر بالكلمة الأساسية للعلاقة. (أمَّا) الكراهية (فـ)ـعمياء بطبيعتها[16].

وأتفكر أن الحبَّ، مع الأسف، غالبًا ما يكون "أعمى". لأننا في هذه الحياة، وحين نحبُّ شخصًا ما، فإنه غالبًا ما لا يكون بوسعنا أن نراه بكليته، إنما نرى منه فقط ذلك الجانب الأجمل الذي يجعلنا نحبُّه، ولا نرى منه ذلك القميء الذي قد يجعلنا نكرهه. لهذا السبب، قد يصبح "الحبُّ الأعمى" وجهًا آخر للكراهية التي هي عمياء بطبيعتها. وهذا غالبًا ما يحدث في هذه الحياة، وخاصةً عندما يكون و/أو يصبح الأشخاص والعلاقات منتمين بلا وعيٍ، وبهذا الشكل أو ذاك، إلى عالم الـهو.

وبالتالي...

لأنه فقط بعض من الكائن يمكن كرهه. [ولأن] من يستطيع أن يرى الكائن بكليته، ويجد نفسه مضطرًا لرفضه، لا يبقى منتميًا إلى مملكة الحقد؛ إنما يصبح في مملكة المحظور الإنساني الذي يمنعه من النطق بـأنت. فيجد نفسه غير قادر على النطق بالـأنت للإنسان الآخر الذي يواجهه. لأن هذه الكلمة تفترض دائمًا تأكيدًا للآخر الذي نتوجه إليه. ما يعني أنه يجد نفسه مضطرًا لرفض ذلك الآخر أو لرفض نفسه[17].

وهذا ما يحصل فعلاً على أرض الواقع حين يواجَه الإنسان بالجانب المظلم لمن أحب، والذي كان خفيًا عنه، فإنه قد يصبح مضطرًا لرفضه إن لم يكن يريد أن يقابله بنفس الطريقة. أقصد عن طريق الجانب المظلم الخاص به.

ونلاحظ أن هذا الرفض لا ينتمي فعلاً إلى عالم الحقد أو الكراهية، إنما ينتمي إلى مملكة محظور إنساني قد يكون أخطر من الحقد وأسوء وأقسى من الكراهية، لأنه محظور يجعلنا غير قادرين على التوجه بالـأنت إلى الشخص الذي يواجهنا. لأن هذه الكلمة المقدسة تفترض دائمًا التأكيد على كلِّية هذا الشخص. لكن كما سبق وقلنا...

هناك جانب منه نرفضه، وبالتالي لم يعد بوسعنا التأكيد على تلك الكلِّية. وهذا الأمر قد يجعلنا، على أرض الواقع ولأننا بشر، مضطرين إلى رفض ذلك القميء الذي يواجهنا منه أو لرفض أنفسنا. و...

ترا[نا] أمام هذا الحاجز [نـ]قرر الدخول في علاقة مع نسبيته. ومترافقًا مع هذا الواقع يقام الجدار[18].

وهذا الجدار الذي لا يمكن، حين نعيه بعمق، أن ينتمي إلى عالم الكراهية؛ هذا الجدار الذي قد يكون، من منظور العلاقة بين الـأنا وبين من لم يعد بوسعنا التوجه إليه كـأنت، أسوء من الحقد وأقسى من الكراهية؛ غالبًا ما يكون النسيان.

وأنا فيما أقوله ههنا إنما أتحدث بكل صدق عن نفسي متفكرًا، وكإنسانٍ من هذا العالم، بأولئك الذين أحببتهم وابتعدت عنهم خلال حياتي.

لأني ما زلت غير قادرٍ على التشبه بذلك الذي أسجد باكيًا عند قدميه وكان قادرًا على حبِّ الجميع.

وأتفكر أنه لهذا السبب أجدني خلال حياتي أنسى من أساء إلي. وألاحظ أن عمق هذا النسيان ومداه كان يتناسب دائمًا مع عمق الإساءة وعمق الجرح في الفؤاد. كما وكما كان يتناسب خاصةً مع عمق علاقة المحبة التي كانت تربطني بذلك الشخص الذي انقطعت علاقتي به.

والنسيان، كما يقولون، لا يعني الكراهية. لكنه، إن تفكرنا بصدقٍ، حالة أقرب إلى اللاحبِّ واللاكراهية؛ لأنه انقطاع في كلِّية العلاقة.

لذلك تراني بحاجة إلى المزيد من التأمل من خلال المزيد من الغوص في أعماق نفسي. خاصةً و...

إن الإنسان الذي يكره صراحةً [يبقى] أقرب إلى العلاقة من ذلك الذي لا يحبُّ ولا يكره[19].

كما قال محقًا مارتن بوبر...

وأنا ما زلت أريد معرفة نفسي...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] بيير رونسار: La vie est belle, je me tue a vous le dire…. Dit la fleur, et elle meurt..

[2] من قصيدة مضناك جفاه مرقده لشاعر مجهول. غناء محمد عبد الوهاب.

[3] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الثالث، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010.

[4] جدو كريشنامورتي، الحرية الأولى والأخيرة، في الحب.

[5] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الثالث، مرجع سابق.

[6] جدو كريشنامورتي، الحرية الأولى والأخيرة، في الحب.

[7] المرجع السابق.

[8] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الأول، مرجع سابق.

[9] جدو كريشنامورتي، الحرية الأولى والأخيرة، في الحب.

[10] المرجع السابق.

[11] رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، 13: 4 – 7.

[12] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الثاني، مرجع سابق.

[13] نشيد الأنشاد، 7 – 8.

[14] Il n’y a pas d’amour heureux.

[15] مارتن بوبر، أنا وأنت، الجزء الأول، مرجع سابق.

[16] المرجع السابق، الفقرة نفسها.

[17] المرجع السابق، الفقرة نفسها.

[18] المرجع السابق، الفقرة نفسها.

[19] المرجع السابق، الفقرة نفسها.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود