الصفحة التالية

عودة إلى الذات 1
مراجعة أولية هي بمثابة مقدمة

On the Lookout

طائر الليل

 

أعد الكرَّة مرة أخرى ولكن، بنزاهة لامتناهية...
رومان رولان

1

كالصفعة الأليمة التي تعيد المرء إلى واقعه الحزين، وجدتني، بعيد الورشة الأخيرة لمعابر[1] وما تلاها من مناقشات مع بعض الأصدقاء، أشعر بمقدار هشاشتنا كبشر من المفترض أننا أكثر وعيًا من سوانا من جهة، وأتأكد من مقدار سطحية علاقاتنا الإنسانية من جهة أخرى. وهو واقع حال دفعني لأن أراجع نفسي... مرَّةً أخرى.

وأعود إلى ذاتي متسائلاً، منذ البداية، إلى أيَّة ذاتٍ أعود؟ أراجع حياتي التي أحاول استرجاعها أمامي كشريط يبدو وكأنه غير واقعي. أراجع كلَّ علاقاتي بدءًا من تلك التي مع أقرب الأقربين وصولاً إلى من تقاطع طريقي معه بمحض الصدفة ذات مرة. وأراجع أفكاري متفكرًا في كلِّ ما فكرت به وما قرأته، وخاصة في تلك الكتابات التي تأثرت بها وطبعت مسار حياتي. أتفكر فيما عشته، وفي نفسي في نهاية المطاف.

قلت أتفكر، وأنا أعني ما أقول. لكني أعتراف بأن تفكيري، وحين أعود بصدق إلى ذاتي، لن يكون فقط بعين عقل لا مجال لإنكاره، وإنما دائمًا وأبدًا إلى جانبه ستتواجد عين ذلك القلب الذي ياما عذَّبني، إن لم أقل عين تلك العاطفة المتدفقة من الأعماق والتي غالبًا ما كانت تصحح لي المسار و/أو... تورِّطني...

وأتساءل لماذا أعود لأراجع نفسي اليوم تحديدًا وبشكل أعمق من أي يوم مضى؟ ولا أجد إلا جوابًا واحدًا يقول بأني أشعر بأمسِّ الحاجة إلى ذلك. ولكن، إلى جانب هذا الجواب البديهي، وما قد يفسِّر تلك الحاجة الماسة، أعترف بأن هناك أيضًا شعور ومنطق آخر كان يتملكني في الفترة الأخيرة – وإن كان لا يسرني –؛ شعور يبدو وكأنه يعكس نوعًا من الملل من كل ما يحيط بي، وممن حولي، وخاصةً... من نفسي. وهو شعور يجعلني أشعر باليأس أحيانًا ويدفعني حتى إلى التفكير بوضع حدٍّ لحياتي أحيانًا أخرى. ولكن...

الحياة تثبت لي كلَّ يوم وكلَّ لحظة أن ليس بوسعي الاستغناء عمن حولي من أصدقاء أحبهم وأجدني اليوم بعيدًا عنهم، لأنه ورغم كل ادعاءتنا بالتوافق على قيم مشتركة يبدو أننا جميعًا قد فهمنا الحياة بشكل مجتزأ.

وأتساءل عن نفسي، ومن خلالها أتساءل عن الآخرين. أتساءل عما يربطني بهم من جهة وعما يفرِّقني عنهم من جهة أخرى. واكتشف كلَّ يوم، لا بل كلَّ ساعة إن لم أقل كل دقيقة وكل ثانية – وأعتذر هنا من بعض أصدقائي الذين يحبون الكلمات الطنانة –، أني لست فقط في هذا العالم وإنما أنا منه تحديدًا وحصرًا وحتى النهاية.

2
من أنا؟

أنا مجرد إنسان من هذا العالم. وكجميعكم، أنا ابن أب وأم حددا منذ البداية مسار حياتي فتركا لدي ذكريات جميلة وتعيسة معًا. وأنا ابن عائلة معينة، معروفة لدى البعض وغير معروفة لدى البعض الآخر؛ لا يهم، ولكنها تبقى عائلة تركت في شخصيتي بعض الأثر. وأنا ابن وسط معين ودين معين ولدت وتربيت في كنفهما من خلال العائلة والمدرسة والمجتمع. وسط ودين رفضتهما في مرحلة معينة من حياتي قبل أن أعقل فأعود، ولو متأخرًا، لأحاول تفهمهما من جديد كما أحاول اليوم أن أتفهم كل ما يواجهني في هذه الحياة. وأنا إنسان عاش مسارًا طبيعيًا، وإن لم يكن سهلاً، فدرس وتفوق وتخرج من الجامعة مهندسًا. إنسان عاش حياته العملية بلا انقطاع منذ اليوم الأول لتخرجه وحتى إلى ما بعد تقاعده. وقد كان لهذه الحياة العملية التي تعرفت خلالها على بلادي وعلى بلدان أخرى وعلى الكثير من الناس، وأقمت خلالها الكثير من العلاقات، تأثير كبير عليَّ، الأمر الذي ترك أعمق الأثر في نفسي. وأيضًا، كما سبق وأشرت...

لقد قرأت الكثير خلال حياتي، قرأت الغثَّ الذي سرعان ما رفضته، كما قرأت الثمين الذي ترك في نفسي أعمق الأثر. وتأثرت بما كان منتشرًا حولي من أفكار وعقائد، فتبنيت بعضها وعشته بعمق كما اقتنعت به. ثم حين لم تعد هذه الأفكار ولا تلك العقائد مقنعة تمامًا بالنسبة إلي تركتها بهدوء، ولكن بلا خوف ولا ضغينة ولا ندم، لأني تعلَّمت منها أيضًا في نهاية المطاف، ما يعني أنها تركت أيضًا أثرها العميق في نفسي. كما عشت قصص حبٍّ، وتزوجت، وأصبح عندي أبناء وبنات حاولت أن أقدِّم لهم أفضل ما لدي، ففشلت أحيانًا، ونجحت بشكل عام في أن أساعدهم على أن يكونوا ما هم عليه الآن؛ أناسًا صالحين كبروا وتزوجوا وأصبح لهم بدورهم أبناء وبنات هم الآن متعة ناظري. لأن هذه هي الحياة، ولأني، كما علَّمتهم، تعلَّمت أيضًا منهم الكثير، فتركوا أيضًا أعظم الأثر في نفسي.

وأجدني اليوم، وأنا على على مشارف نهاية طريقي، أعود لأختلي بنفسي. ومن دون انقطاع عن الواقع، من دون انقطاع عن الحياة بحلوها ومرِّها، ومن دون انقطاع عن من أحب وعن من لا أحب، أعاود الكرَّة والتساؤل من جديد: من أنا في نهاية المطاف؟

3
اعرف نفسك...

لأن هذه هي الوصفة السحرية التي يردِّدها اليوم الكثير من "العارفين"، الوصفة التي سأتمكن عن طريقها، إن شاءت الآلهة، من حلِّ كلِّ المشاكل التي تواجهني. وبالتالي، ربما، سأتمكن أيضًا عن طريقها من حلِّ كلِّ مشاكل هذا العالم، والتي هي أيضًا مشاكلي...

وأتساءل عن أية نفسٍ يتحدث أولئك العارفون يا ترى؟

وأنا لا أتحدث الآن وبشكلٍ مباشر عن نفوسكم أيها الأصدقاء، كما أني لا ولن أنتقدكم من أجل الترويج لسوق معتقداتي وأفكاري، كما يفعل البعض في معظم الأحوال، فهذا ليس من حقي. وإنما سأغوص قليلاً في نفسي التي أعود إليها الآن. فأنا هنا في مجالي، وأنا ههنا أمارس حقي، لأني...

... هنا في منزلـ(ي) مستلقيًا على كرسيـ(ي) الهزاز[2].

وأغمض عينيَّ وأتأمل بصمت فيما كنت أقرأ قبل قليل – ذلك الكتيب صغير الذي كنت قد ترجمته[3] منذ فترة – فقد تفكَّرت قبل المباشرة بكتابة هذه السطور في أنه قد يساعدني على ولوج ذلك الجحيم الداخلي، الذي هو نفسي.

لكنها جملٌ وعباراتٌ قليلة منه بقيت عالقةً في نفسي، وهذه تقول أن:

عندما ترتعب نفسك من رؤية الدموع الحارة للألم، وتلتجئ، وقد أصمَّتتها صيحات الأسى، كسلحفاة خجولة إلى قوقعة الأنانية؛ فاعلم – أيها المريد – أنَّ نفسك ليست جديرة بإلهها الصامت.

وأتفكر بأني لم أخف يومًا من التمعن في الدموع الحارة للألم الإنساني، وأن نفسي لم تلتجئ يومًا إلى قوقعتها الأنانية هربًا من ذلك الجحيم، إنما، وبكلِّ تواضع، كانت هذه الدموع هي التي حركتني طيلة حياتي، فأشعر ببعض الرجاء، خاصةً وأني مقتنع تمامًا بأن...

هذه الأرض... (ما) هي إلا المدخل الوحيد الموصل إلى الغسق الذي يسبق وادي النور الحقيقي، (ذلك) النور الذي لا يمكن لأحد ولوجه، والمشتعل دونما فتيل أو وقود.

وأنا الذي من هذه الأرض، تحديدًا وحصرًا، لا أطمح في أن أصبح إلهًا، خاصةً وأنه ليس بوسعي – ولا أرغب حتى في – التخلي عن عالم الحواس الذي لا أراه منفصلاً عن عالم النفس وعن عالم العلاقات المتبادلة بين البشر.

لذلك تراني أحاول، نعم (فقط) أحاول، أن أتفهم وأن أتلمَّس ما يتجاوزني ويدعوني لأن أدع نفسي...

... تصغي إلى كلِّ صرخة ألم، كزهرة اللوتس حين تعرِّي قلبها فيتشرَّب من شمس الصباح.

ذلك الذي يناديني دائمًا كي

لا (أ)دع الشمس الحارقة تجفف دمعة الألم قبل أن (أ)حاول مسحها عن العينين المفجوعتين...

وتجدني...

في الوقت نفسه أبكي من الألم، لأني حين استنجدت بأصدقائي في لحظة ألمٍ لم أجد أحدًا إلى جانبي... لأنهم ربما لم يعودوا بحاجة إلى صداقتي. أو ربما لأنهم حققوا تكاملهم واكتفائهم الذاتي على هذه الفانية. لست أدري. وأتفكر بضرورة تجاوز مفاهيمي "المثالية" وبضرورة أن ألعب اللعبة الإنسانية كما يلعبها الجميع.

وأجدني عاجزًا عن فعل ذلك. ولكن...

ربما لأني ما زلت أبحث عن نفسي، أجدني بحاجة دائمة لمثل هذه المراجعة الدائمة – رغم قسوتها. وهذه المراجعة مليئة بالذكريات ومليئة بالمشاعر. ما يعني بهذا الخصوص، أني لا أستطيع الاستجابة إلى تلك الدعوة التي تطلب قتل ما في النفس من ذكريات ومشاعر ماضية.

وتراني أسترجع ذكرياتي التي هي أكثر من مجرَّد صور في ذهني. وبالمناسبة...

أسجِّل هنا أني لم اقتنع حتى الآن بتلك الحجة الدامغة التي يسوقها البعض من دون تمعن كافٍ، والقائلة بأن لا وجود إلا للحظة الحاضرة؛ لأني أعتبر مثل تلك الأقاويل، وكما تُطرح، مجرَّد تلاعب في الألفاظ، فأنا كإنسان حسيٍّ لا أستطيع إيقاف أو تجزئة الزمن الذي، كما أفهمه، هو حركة دائمة لا تنتهي، حركة تبدأ من ماضٍ لا يمكن نكرانه لتصل إلى حاضر لايمكن تحديده وسرعان ما يتلاشى لتوه متجهًا نحو مستقبل يحمله في أحضانه. ولكن، يبقى أن هذا الموضوع معقد جدًا ويحتاج إلى المزيد من التمعن والتفكير، فأنا أقرُّ بأن الآن التي هي الحاضر لا تحدد طبعًا بـ

... تلك النقطة التي تحدِّد الانتقال الذهني من زمن إلى آخر، بمعنى ختام للزمن "المنتهي". أو مجرَّد شكل نهاية تعقد وتثبَّت. إنما (المعنى هو) الحاضر الحقيقي الحالي والمليء، (ذلك) الموجود حتى الآن كحاضرية فعلية، كلقاء، وكعلاقة. فالحاضر يظهر فقط من خلال واقع أن الأنت قد أصبحت حاضرة...[4]

يبقى أن هذا موضوع آخر سأحاول مناقشته لاحقًا.

ويبقى أني مقتنع تمامًا بضرورة معرفة نفسي، تلك النفس التي أعتقد أنها ذاتي الحقيقية التي تستوعب شخصيتي على علاَّتها، تلك الذات التي يقولون إنها من الأعماق والتي تتصل بالكون الذي هو أيضًا بعضٌ مني كما أنا بعض منه.

وأتفكر بأن هذه كانت، وما زالت، قناعتي النابعة من أعماق نفسي وذاتي التي أعاود محاولة التعرف إليها والتواصل معها. مع ملاحظة تقول: أن عليَّ أن أعرف حجمي أولاً وأن أكون متيقظًا دومًا ثانيًا وأخيرًا.

4
في الأبيض وفي الأسود وما بينهما...

وأنا أتعرف كلَّ يوم وفي كلِّ لحظة على نفسي من خلال التأمل الصامت... وعن طريق العلاقة. لأني مقتنع تمامًا بما نبهني إليه آخر المعلِّمين الذين صادفتهم[5]، ويقول بأن التأمل والعلاقة لا يتعارضان وإنما يتكاملان.

فأنا أعيش حياتي في قلب العلاقة التي قد تكون خاصة و/أو عامة – ولكنها في الحالتين محددة وحصرية. فأفعل، وأتأثر، وأؤثر، وأخطىء، وأصيب، و... أراجع نفسي في كلِّ مرة حين أعود لأختلي بها متسائلاً.

فأنا قمت بعمل جيد هنا، عمل سرعان ما أتلمَّس أثره سعادةً ورضىً في قلبي، كما أتلمَّس ذلك على وجوه وفي أعين من قمت بالعمل معهم و/أو من أجلهم، فأشعر بالسعادة والرضى لأني أنجزت عملاً جيدًا. تمامًا كما، وبكلِّ بساطة، شعر الخالق بالسعادة والرضى في ذلك اليوم السابع وبعد أن أتمَّ فعل الخلقية. و...

لكني غضبت هنا و/أو أسأت هناك لأني بشر. لأنه فعلٌ سرعان ما أشعر بسببه بحزنٍ عميقٍ في نفسي، كما عند الآخرين الذين لحقت بهم الإساءة. وأعود إلى نفسي وإلى عقلي وقلبي لأتلمَّس جذور الخطأ فيما فعلت فأدى إلى مثل هذه الإساءة وولَّد مثل هذا الغضب.

وأتساءل عن مسببات تلك الإساءة وعن جذور ذلك الغضب الذي قد نجده في داخلنا من جهة، فهذا واقع لا يمكن إنكاره. ولكننا قد نجده أيضًا في خارجنا، وفي العالم الذي نتفاعل معه ونتعامل معه. وهذا العالم ليس وهمًا يا صديقي.

لأننا نعيش من جهة أخرى في عالم ما زال عنيفًا وتسود فيه الإساءة كما يسود فيه الغضب. وهذه الحقيقة هي الوجه الآخر لمستوى واقع آخر لا يمكننا التستر عليه ولا إنكاره. فنحن نعيش في علاقة مستمرة ودائمة مع ذلك العالم المحيط بنا كما نعيش مع أنفسنا.

إلهي، كم سيء هنا التلاعب بالعواطف وبالفكر وبالكلمات! إلهي، كم يساء في هذا المجال إلى العقول وإلى القلوب حين يحصر الخطأ، على سبيل المثال، بجانب ويتم التغافل عن الجوانب الأخرى! إلهي، كم سيء أن تُحصر الإساءة في أعماق الذات الإنسانية وأن يتم التغافل عن مسبباتها في العالم المحيط!

فهذا الإنسان غاضب، مثلاً، لأنه لا يستطيع تأمين ما يكفي من الطعام لعائلته، وهو لا يستطيع ذلك لمسببات عامة تتعلق بالمجتمع وبالسياسة وبمجمل ما يحيط به من ظروف. فكيف، بربكم، كيف بوسعنا أن ننصحه بأن يبحث عن جذور ألمه وغضبه في نفسه قبل أن نساعده، كبشر يفترض أن يشعروا بما يشعر به، على حلِّ تلك المشكلة الأساسية التي هي إطعام صغاره ومسح دموع الألم عن وجوههم؟!

إن الحديث عن العودة إلى الذات هنا تحديدًا، وفي مثل هذه الأحوال، وما أكثرها، سرعان ما يتحول إلى مجرد كلام فارغ وبلا معنى. لأننا في أحسن الظروف لا نرى أن ما نتحدث عنه ونطلبه من أنفسنا، ولأنفسنا، إنما يعكس مستوى مختلفًا من الواقع ومن الحقيقة. ثم...

لنفترض أن الإساءة الناجمة عن الغضب وقعت بين شخصين من نفس المستوى وعلى صعيد العلاقة الحصرية المباشرة بينهما، هنا أعترفُ بأن مراجعة الذات تصبح ضروريةً وتصبح واجبًا لطرفي العلاقة كلٌّّ على انفراد ومعًا من خلالها. لأنه إن لم يحصل هذا فهناك خلل يتوجب علينا مواجهته؛ لأنه خلل في فهم الذات وفي فهم العلاقة، أي خلل مفترض في عالم الـأنت التي تحولت على أرض الواقع إلى هو. ولكن...

يبقى التساؤل يطرح نفسه وبقسوة ويقول: هل أنَّ "معرفة الذات" هي طريق الوحيد (وإن هي بلا شك ذلك الذي لا غنى عنه) لحلِّ مشاكلنا الإنسانية؟ هل هي "الوصفة" السرِّية السحرية النابعة من الأعماق؟

حول هذا الموضوع، وإن لم أكن مخطئ، يقول مارتن بوبر:

إن إضافة "ظاهر" التجارب إلى "باطنها" لا يغير من الواقع شيئًا. فنحن بهذا نتابع فقط التقسيمات النابعة من رغبة الجنس البشري في اكتشاف سرِّ الموت. وأشياء الظاهر وأشياء الباطن ما هي إلا أشياء وأشياء.

وأنا بهذا الخصوص اتفق تمامًا مع مارتن بوبر. لأننا نواجه هنا، في الحقيقة...

5
مشكلة من نوع آخر...

مشكلة قد تبدو بسيطة، لكنها في الحقيقة معقدة جدًا. وأنا لا أحبُّ تعقيد الأمور.

لكن، الأمور في هذه الحياة معقدة. كما أن تجربتي في هذه الحياة قد علَّمتني أن أكون متحفظًا حين أواجه تبسيطًا في طرح أمور ومشاكل تتعلق بهذه الحياة المعقدة.

فأنا أريد معرفة نفسي، وأنا أخاف من أشياء كثيرة وخاصةً أخاف من الموت ككل البشر على مرِّ التاريخ الإنساني. ولكن...

الموت، إن نظرنا إليه بحدِّ ذاته، يبقى حقيقةً وواقعًا في عالمنا، حقيقة وواقعًا واجهه الإنسان منذ البداية وسيبقى يواجهه حتى النهاية. ما يعني أن الموت والخوف منه ما هو إلا واقع حال قائم لا ينتمي إلى "عالم الأفكار المجردة" – رغم أن عالم الأفكار المجردة يتقاطع غالبًا مع عالم الواقع الإنساني.

وأنا أخاف من عالم "الأفكار المجردة"، وبالتحديد منها أخاف من عالم "الأفكار المبسَّطة". وأخاف تحديدًا من أولئك الذين يتناولون الأشياء ببساطة، فيتلاعبون بالأفكار وبالكلمات، وعن وعي أو بلا وعي يتلاعبون بعقول وبقلوب البشر.

وخاصةً، نعم خاصةً، أخاف من (وعلى) ذلك الإنسان الراضي عن نفسه وعن تجربته والذي...

شيَّد أو عبَّر عن نفسه بواسطة بنيان من الأفكار التي يجد فيها الملاذ فأراحته من تبعات العدم...

نعم أخاف من ذلك "المعلم" الذي يدعونا إلى رفض سواه من المعلمين. أخاف من ذلك الذي يتطاول، وبكل صفاقة، على كل القيم والمعتقدات فيوجهنا نحو طريق العدم من خلال توجيهنا إلى رفض كلِّ التوجهات.

و"معرفة النفس" كالحديث عن التحقق الذاتي الكامل في عالم سقيم، كالحديث عن مشاكل هذه الحياة التي لا تحلُّ إلا بالعودة إلى الذات، أضحت اليوم بعضًا من هذه الأفكار المجردة والبسيطة. وأنا أخاف في مثل هذه الأحوال تحديدًا من التجريد كما أخاف من التبسيط.

وأكثر من أي شيء آخر، ولأني خدعت كثيرًا في حياتي، أخاف من الخداع وأخاف من المخادعين.

لذلك تجدني الآن أتعامل بتأنٍ مع كلِّ ما أقرأه وأسمعه وأراه حول هذه المواضيع، وخاصةً حين يتعلق الأمر بالتجربة الإنسانية الحيَّة على مرِّ العصور، تلك التجربة التي خلقت منظورها المتنوع للعرفان وللألوهة وللحياة وللموت ولطبيعة العلاقات في عالم البشر.

و"معرفة الذات"، التي يتحدثون عنها اليوم بهذه البساطة، قد تحولت مع الأسف إلى مجرَّد أداة – إن لم نقل إلى مجرَّد وصفة أو تجربة حسية – يدَّعون بأنها الحلُّ السحري الذي بوسعه أن يغير مسار الإنسان وأن يحلَّ مشاكله، الأمر الذي يجعلنا نتعامل معها بخفَّة، كـ"شيء" من الأشياء، إن لم نقل كتجربة من تجارب هذه الحياة.

وأنا الذي أريد معرفة نفسي أتساءل عما أعرفه عن ذوات أولئك "العارفين".

لكني رغم كل شيء، أستمر في الغوص في الأعماق لأني...

أريد معرفة نفسي.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ورشة مرمريتا 2010.

[2] مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، قيد الطباعة.

[3] هيلينا ب. بلافاتسكي، صوت الصمت، ترجمة أكرم أنطاكي، منشور في معابر.

[4] مارتن بوبر، أنا وأنت، مرجع سابق.

[5] مارتن بوبر، أنا وأنت، مرجع سابق.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود