|
عودة إلى الذات 3
هناك شيء ما عفن في مملكة الدانمارك... 1 على مرِّ التاريخ الإنساني، منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، كان العرفان أصدق تعبير عن العلاقة الحقيقية بين الإنسان وبين ذلك السرُّ العظيم الذي يحتضنه والمتواجد في قلبه – أقصد ذاته الداخلية الخاصة أو الألوهة. على مرِّ التاريخ الإنساني، كان هناك أناس تفاعلوا مع الحياة بعمق أكبر من سواهم، فأقاموا مع ذواتهم ومع العالم المحيط علاقةً تكاد أن تقارب حدَّ الكمال. وقد توصَّل هؤلاء البشر العاديين والخارقين معًا، بعقولهم وبقلوبهم، إلى فهم أعمق لأنفسهم وللسرِّ الكبير لهذا العالم، فهمٍ سرعان ما انعكس على من حولهم عرفانًا ما زلنا نعيشه بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا. 2 من هذا المنطلق يمكن القول بأن العرفان، أو لنقل مجازًا الغنوص، الذي يعني المعرفة السامية والرفيعة، هو تعبير عن تجربة روحية لم تفصح عن نفسها عامةً عن طريق علم اللاهوت أو البرهان الفلسفي؛ وإنما، غالبًا ما عبَّرت عن نفسها عن طريق الأسطورة. والأسطورة، لا ينظر إليها في هذه الحال كقصة خيالية لا يمكن تصديقها، وإنما كوسيلة ابتدعها الإنسان من أجل التعبير عن مستوى آخر من حقيقة لم يكن بالإمكان تناولها ولا الإحاطة بها من خلال المنطق الفلسفي واللاهوتي السائد. من هذا المنطلق، سأحاول، فيما يلي، تلمُّس معنى العرفان وتجربته الحقيقية على مرِّ العصور. وأبدأ بتلك النظرة المتعلقة بالكون وبالعالم الذي نعيش فيه. هذا الكون الذي تناولته المنقولات الروحية لجميع الشعوب، وفي مختلف أصقاع المسكونة، كعالمٍ بعيدٍ عن الكمال. فالبوذية، كالديانات التوحيدية السامية الثلاث التي ولدت في منطقتنا، مرورًا بالكتب السرَّانية للحكمة القديمة، نظرت إلى العالم الأرضي كعالم قميء يسوده الألم والعذاب والموت. من هذا المنطلق، وكتعبير بليغ عن القماءة المفترضة لعالمنا، فلنتأمل معًا – كالغنوصيين القدامى – في دورة الحياة بحدِّ ذاتها، حيث تتغذى كلُّ الكائنات الحية من بعضها البعض، فالكلُّ يقتات من الكلِّ بدءًا بالدود الذي في التراب، وصولاً إلى الإنسان. لا بل حتى الحيوانات الأليفة التي لا تأكل اللحم تقضي على حياة النبات من أجل غذائها. وأيضًا، كان هناك دائمًا بلاء يصيب الإنسان بسبب الأمراض و/أو الكوارث الطبيعية كالهزات الأرضية، والفيضانات، والحرائق، والجفاف، والانفجارات البركانية، إضافة إلى تلك التي تسبب و/أو يتسبب بها الإنسان مباشرةً بدافع من جشعه كالظلم والاستعباد والحروب والقتل المتعمد. وهو واقع حالٍ ولَّد، وما زال يولِّد، على صعيد عالمنا الموت والدمار والألم. الأمر الذي جعل تلك النخبة التي تحسست ووعت آلامها وآلام الإنسانية وعذابها، وفي قلب الجهالة السائدة والمحيطة بها، تنظر إلى نفسها وكأنها غريبةٌ عن العالم الذي تعيش فيه. من هذا المنطلق، ومن هذا الشعور، ولدت، على الأغلب، هذه الحكمة الغنوصية الجميلة التي تقول إنهم – أي أهل العرفان – في قلب هذا العالم وليسوا منه. وهو شعور ومنظور مبرر بالنسبة لكلِّ إنسانٍ بلغ مثل ذلك المستوى الرفيع من الفهم والحساسية. ولكن... وهذا هو الأهم فيما يتعلق بموضوعنا، لقد فهم معظم أهل العرفان، بشكل أو بآخر، وفي مختلف أصقاع المسكونة، أن المسؤول الأول عن عدم الكمال في عالمنا ليس الإنسان، كما افترضت معظم الديانات والفلسفات الأرضية، وإنما ما يتجاوز ذلك الإنسان إلى حدٍّ بعيد – إن لم نقل الألوهة بحدِّ ذاتها. وهذا شطح يكاد أن يقارب، من المنظور الديني السائد، حدَّ الكفر. تلك الحال التي عبَّر عنها الحلاج ذات يوم حين قال وفي منتهى البلاغة: كفرتُ بدينِ الله والكفرُ واجبٌ لديَّ وعند المسلمين قبيحُ وتجدنا أمام ظاهرة في منتهى العمق، ظاهرة تباينت حولها، من حيث الظاهر طبعًا، مفاهيم وتفسيرات أهل العرفان حسب البلدان وحسب المنقول. ولكن هذه المفاهيم والتفسيرات بقيت متشابهة جدًّا من حيث المضمون. 3 لأن أهل العرفان قد حاولوا أيضًا، منذ البداية، وعلى مرِّ العصور، أن يتجاوزوا تلك "الحقيقة" المرَّة، التي هي الواقع "الذي يبدو قميئًا" لعالم غير مكتمل وغير مثالي من جهة؛ وتفسير علاقة هذا العالم بألوهة يفترض أن تجسِّد الكمال والمثالية من جهة أخرى. فسعوا إلى تجاوز هذا الإشكال عن طريق الحكمة و/أو الفلسفة، كأفلاطون على سبيل المثال، من خلال التأمل في تناغم الكون وفي عظمة الخليقة. لكن القماءة تبقى قماءة لم يكن بوسع التناغم ولا بوسع العظمة أن يستروها. كما حاولوا من خلال مفهوم الكارما لدى الديانات والفلسفات الشرقية أن يفسِّروا مسببات القماءة والعذاب الذي يعاني منه الإنسان. ولم يتمكنوا طبعًا من تفسير الكثير. لأنه إن كان بوسع مفهوم الكارما، وفي أفضل الأحوال، أن يبين كيف تتفاعل وتترابط سلاسل العذاب والنواقص والأخطاء والآلام في عالمنا، فإنه لم يكن بوسعه يومًا أن يشرح لماذا وجدت تلك النواقص والأخطاء والقماءات أصلاً. وهو واقع حالٍ لم يغب عن أهل العرفان الذين وجدوا أنفسهم منذ البداية أمام معضلة مستعصية حاولوا أن يتلمَّسوا لها حلاً. وكانت مقاربات مختلفة، وأصبح الحل المطروح حلولاً – إن لم نقل أصبح الحلُّ الوحيد لهذا الإشكال الأكبر حلولاً متشعبة ومختلفة من حيث الظاهر ومن حيث العمق. وأيضًا... لأن هذا الحل لا يمكن تداوله بخفةٍ في العالم الحسِّي والأكثر بساطةً للإنسان في عالمنا الذي تحكمه قسوة الشرائع، أصبحت هذه المعرفة الأعمق من سواها، والناجمة عن تجربة إنسانية أصدق من سواها، سرَّانيةً. ولكن... إضافة "سرِّي" التجارب إلى "ظاهرها" لا يغير من الواقع شيئًا[1]. فالواقع يبقى واقعًا، والتجربة أو الخبرة الإنسانية مهما عظمت وتعمَّقت تبقى مجرد تجربة وخبرة إنسانية. من هذا المنطلق، أصبح العرفان يحمل في طياته بذور ما كان يحاول تجنبه. فتحوَّل على مرِّ الأيام إلى مجرد معرفة و/أو إلى مجرد حكمة. إلهي... كم (كانت) واثقة من نفسها تلك الحكمة التي تخيلت، وفي قلب الأشياء، حجرةً مغلقةً مخصصةً للعارفين ولا تفتح إلا بمفتاح. يا أيتها السرَّانية التي لا سرَّ فيها! يا أيتها المعارف المتراكمة! إنه الـهو، دائمًا الـهو![2] لأنه سرعان ما تتحول أعمق المعارف فعلاً إلى عالم تلك الأشياء التي يدعوها مارتن بوبر بعالم الـهو. لأنه سرعان ما تحولت جميع تلك التفسيرات والمعارف، مهما عظمت، وحين حاولت (أو لمجرد أن حاولت) استيعاب وفهم ما لا يمكن استيعابه والإحاطة به، إلى أشياء ومواضيع، أي إلى عالم الـهو. وما لا يمكن استيعابه ولا الإحاطة به – بالنسبة لنا – هو تلك الـأنت الأزلية الكلية التي تستوعبنا، والتي ستبقى حتى النهاية ذلك السرَّ الأعظم الذي يتجاوزنا. وأيضًا ربما لأن... التجربة العلائقية لإنسان الأزمنة الأولى لم تكن أليفةً ولا سارة، إنما كانت بالأحرى قوة أثرت على الكائن وعاشها فعلاً، ولم تكن اهتمامًا ظليليًا بأرقام مجهولة الهوية![3] فإننا نجد أن ما عكسته هذه التجربة كان مريرًا من جهة، ومتشائمًا، فيما يتعلق بالحياة على هذه الفانية، من جهةً أخرى... ورغم ذلك، يبقى العرفان، كتجربة إنسانية، تجربةً في منتهى الجمال والعمق وتستحق التعرف إليها وفهمها إن شئنا التعرف فعلاً على عالمنا. ومن خلال علاقتنا العميقة مع هذا العالم، إن شئنا التعرف على أنفسنا. والتعرُّف على هذه الخبرة يقول، من حيث الظاهر، إن إجابة أهل العرفان على تلك المعضلة التي واجهتهم، والمتعلقة بقماءات الكون ونواقصه، وعلاقتها بالألوهة، قد اتخذت منذ البداية منحيين بدا وكأنهما متباينين. المنحى الأول، كان ذلك الذي اعتمدته الديانات والفلسفات الشرقية القديمة، والذي رفض، أو لنقل تجنَّب، التطرق إلى موضوع وحدانية الألوهة الكاملة والمتعالية، وأكَّد على ضرورة أن يعود الإنسان إلى ذاته من أجل أن يتحقق، ويتجاوز من خلال تحققه عذابات وآلام هذا العالم. والمنحى الثاني الذي، وإن كان لا يتعارض مع الأول من حيث الغاية، وقاربه في الكثير من التفاصيل، حاول أن يفسِّر تناقضات وشرور عالمنا من خلال تفسير أكثر تعقيدًا للألوهة، متخيلاً نوعًا من التراتبية في عوالمها. وهذا ما حصل في منطقتنا حيث تداخل العرفان المنبثق عن الديانات التوحيدية الثلاث – وعلى رأسها اليهودية – مع عرفان الفلسفة اليونانية وعرفان الديانات المصرية والزرادشتية القديمة، فكانت المسيحية، وكان ما تمخضت عنه تلك التجربة العميقة من تصور معقد لألوهة يفترض أن تتصف بالكلية والكمال. 4 لأن أهل العرفان أو الغنوص يؤمنون في نهاية الأمر بألوهة مطلقة، لاشخصية، متعالية، وتتجاوز كل الأكوان والخلائق. وهذه الألوهة، التي هي أصل كلِّ شيء، لم تخلق أي شيء – بالمعنى الذي نعطيه نحن لمفهوم الخليقة. وإنما... من هذه الألوهة المطلقة، والمتعالية، واللاشخصية انبثقت العناصر التي صنعت الأكوان المرئية وغير المرئية – من هذا المنظور ربما تصحُّ المقاربة الصوفية التي تقول بأن الله متواجد في كلِّ شيء. وأيضًا، من هذا المنظور يفترض أهل العرفان أن بعضًا من تلك العناصر قد ابتعد عن الينبوع، مما انعكس تحولات مؤذية في عملية الخلق. الأمر الذي قد يعني، في المقابل، أن تأليه الكون، أو الطبيعة وما تجسَّد فيها من مخلوقات، هو بمثابة تعبُّد لجزيئات متنافرة وفاسدة؛ حتى وإن كانت هذه الجزيئات، من حيث الجوهر، منبثقة أصلاً من هذا الإله المطلق والمتعالي. وتتشعب الأسطورة المعرفية الغنوصية في هذا الخصوص. وتعيدنا تلك التشعبات إلى عوالم ما نسميه بـالدهور [4](الأيونات) كما هو واضح جدًا في بعض المخطوطات الغنوصية القديمة كأناجيل توما[5] ومريم المجدلية[6] ويهوذا[7]. حيث اتخذت عوالم الدهور هذه مكانها كتجليات إلهية بيننا وبين الألوهة المطلقة والمتعالية. وأيضًا، من هذه الألوهة المطلقة والمتعالية، وبمشيئتها، تمخضت عوالم الدهور عما أصبح يطلق عليه اسم مملكة التحقق أو الامتلاء[8] – البليروما التي تعني التحقق أو الامتلاء الكلي، حيث يتحقق الفعل الإلهي بشكل كامل. وأيضًا... مما ندعوه عوالم الدهور (أو الأيونات) كان واحد في منتهى الأهمية بالنسبة للغنوصيين، وقد أطلقوا عليه اسم الحكمة[9] (صوفيا). وهذه ولَّدت عبر مسيرتها وعيًا ناقصًا – تجسَّد في ذلك الكائن الذي أصبح خالق عالمنا المادي والنفسي، فكان كلُّ ما خُلِق على صورته. وهذا الكائن، الذي افترضوا أنه غير عارف لأصوله، تخيَّل أنه الإله المطلق والوحيد. ذلك الإله الذي يدعوه المنطوق الغنوصي بـخالق الكون المادي (أو الفيض أو الديميورج أو صانع النصف). وهو إله ذو طبيعة ثنائية انعكست على خليقته التي حملت منه وبسببه جانبًا ينتمي إلى الألوهة الحقة؛ الأمر الذي لا يعترف به، على ما يبدو، خالق الكون المادي الذي يتحكَّم بعالمنا الذي أصبح ثنائيًا. لهذا نرى أن البشر يعكسون الطبيعة الثنائية للعالم الذي صنعته تلك الألوهة الناقصة من جهة، ويحملون في ثناياهم، وفي الوقت نفسه، بذور الألوهة الحقَّة من جهة أخرى. أو لنقل من منظور عرفاني آخر، يبدو لي أكثر إنسانيةً وبساطةً وعمقًا، إن: عالم الإنسان مزدوج، وهذا يتَّفق مع موقفه الثنائي. وموقف الإنسان ثنائي، (لأن) هذا يتَّفق مع الطبيعة المزدوجة للكلمات الأساسية التي ينطق بها.[10] وهو منظور سأتناوله لاحقًا في سياق بحثي. ونتابع مع المنظور العرفاني–الإنساني السائد محاولين تفهم تلك الثنائية. ونتفكر فيما يفترضه أهل العرفان، والقائل بأن الجنس البشري مكوَّن من عنصرين. حيث العنصر الأول هو ذلك المادي والنفسي الزائل. والعنصر الآخر، الأساسي والأهم، هو ذلك الروحي الخالد، والذي هو تلك الشظية المنبثقة من جوهر ألوهة أزلية ومطلقة، تلك التي يدعوها أهل العرفان رمزًا بـ"الشرارة الإلهية". لكن... 5 يبدو أنه لم يكن بوسع البشر، بشكلٍ عام، أن يتلمسوا كما يجب تلك الشرارة الإلهية الكامنة في أعماقهم. وهذه الجهالة – من المنظور الأسطوري للعرفان – يعزِّزها في الإنسان، طبعًا، التأثير السلبي للإله المزيف الذي خلق هذا الإنسان ويريد منعه من التعرف إلى ذاته الحقيقية، وإبقائه مرتبطًا ومتعلقًا بالعالم الأرضي وبمفاهيمه التي تجعل منه عبدًا للقوانين الكونية الدنيا. وأيضًا... هناك واقع أن البشر يختلفون من حيث مستويات الوعي والإدراك. فبعضهم ذو طبيعة روحية[11]، وبالتالي مهيأ أكثر من سواه لتلقي العرفان. والبعض الآخر ذو طبيعة مادية[12] ولا يعترف إلا بالعالم المحسوس. كما أن هناك آخرون يحيون من خلال مرآة العقل الذي يحسبونه روحًا، فيخلطون بين الإله المزيف للعقل – الذي هو أيضًا الديميورج – وبين الألوهة الحقة. والجميع يبقى، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، أسير العالم المادي الذي يعيش فيه؛ هذا العالم الذي لا يمكن التحرر منه إلا بالموت الذي ينهي دورة الحياة على هذه الأرض ويطلق الشرارة الإلهية من سجنها. تلك الشرارة التي إن لم تكن مدعَّمة بالعرفان الذي تلقاه الإنسان خلال حياته الأرضية، سرعان ما تعود لتتجسد من جديد – ما ندعوه من منطوقنا بالتقمص. وهكذا، على مرِّ العصور، وفي مختلف الأحقاب، كانت هناك، ووفق الأسطورة الغنوصية، دورات عرفان وتحقق تتطور من جيل إلى جيل. دورات حققت الحرية لبعض المختارين من البشر الذين أعتقتهم من أسر العالم المادي وجعلتهم يعون حقيقة ما في نفوسهم. ونسجِّل أن مفهوم تطور الوعي، الذي نتلمسه الآن، قد توصل إليه أهل العرفان منذ الأزمنة الغابرة. وأيضًا... 6 فيما يتعلق بالخلاص، قدَّم العرفان أو الغنوص، تصورًا أجمل وأكثر عمقًا من ذلك المنبثق عن المفاهيم المبسطة لدياناتنا الأرضية. وهنا، لن نسهب في الحديث عن أولئك الذين حملوا، منذ أقدم العصور، تلك الرسالة العظيمة التي هي مساعدة البشر على تجاوز أوضاعهم التعيسة؛ كالبوذا، والناصري، وماني، وأحمد، وسواهم. وإنما، سنتفكر في ذلك المنطق العرفاني الحذق والمعقد الذي حاول، وفي منتهى العمق، مساعدة الإنسانية، الجاهلة لأصولها والغارقة في مستنقع مشاغل عالمها المادي، على الانعتاق من أغلال هذا العالم وعلى التحقق. من هذا المنظور، كان الفهم الغنوصي للخلاص أحذق وأجمل فعلاً من ذلك الفهم الآخر الذي قدَّمته الديانات الأرضية. فالخطيئة التي يدعونا الغنوص إلى التخلص منها ما هي أساسًا إلا جهل الإنسان لنفسه وبالتالي للبعد الروحي الكامن في أعماقه. ذلك البعد الذي دعى رسل العرفان، على مرِّ العصور، إلى التعرف عليه. وهذا الفهم يؤكِّد على أن الخلاص هو خلاص مباشر وشخصي من جهة، وعام في الوقت نفسه من جهة أخرى. لأنه خلاص يحفِّز تلك الشرارة الإلهية في أعماق وعي كلِّ فردٍ ولدى الإنسانية ككل. ويقودنا هذا الفهم، مرة أخرى، وبشكلٍ مباشر، إلى ضرورة معرفة الذات الخاصة والعميقة – تلك المعرفة التي تمنعنا أحوالنا وارتباطاتنا الأرضية من تحقيقها. الأمر الذي يجعل الألوهة الحقة غير معروفة في عالمنا. والتعرف على الذات لا يمكن أن يتم إلا عن طريق العرفان الذي بوسعه، كما سبق وأشرنا، تحريرنا من شرور هذا العالم، وأن يحفِّز الشراة الإلهية التي في أعماقنا. لأنكم... ... عندما تعرفون أنفسكم، إذ ذاك ستعرفون، وتَفهمون أنكم أنتم أبناء الآب الحيِّ. لكنكم إذا لم تعرفوا أنفسكم، أقمتم في الفقر، وكنتم الفقر...[13] وأكتفي من عرضي الموجز والمجتزئ جدًا لظاهرة العرفان بهذا القدر. وأعود إلى نفسي لأتفكر في الأمر بمزيد من التمعن متسائلاً، مرة أخرى، ما هو العرفان – أو الغنوص – يا ترى؟ 7 أتراه، وكما بينت أدبياته، ذلك التصور الحذق والمعقد للألوهة؟ وتراني أتساءل بكل بساطة حول مدى صحة ذلك التصور الذي قد لا يكون في نهاية المطاف إلا مجرد حالة ذهنية؟ وهو قد يكون حالة ذهنية فعلاً لمجرد أنه حاول استيعاب ما لا يمكن استيعابه، فحوَّل، ومن دون أن يشعر، الألوهة إلى عالم الـهو! أم أن العرفان، ومن خلال ما يدعو إليه من عودة إلى الذات، قد انطلق أيضًا من تصور ذهني مشابه يفترض بأن كل ما في هذا الكون المادي والملموس ملوث. الأمر الذي يستدعي كنتيجة وكمحصلة، التجرُّد التام عن المادة والترفُّع عن هذه الحياة. وأتساءل بهذا الخصوص، مرةً أخرى، هل كانت تلك الحكمة التي تقول بأن ابن العرفان هو في هذا العالم وليس منه هي نتيجة ومحصلة لخبرة حياة عارف حكيم أم أنها كانت مجرد تأملٍ حزينٍ في واقع حال حزين؟ وتراني، فيما يتعلق بالإجابة عن هذه التساؤلات، أعود إلى نفسي متفكرًا بأني، وقد قضيت معظم حياتي مستقصيًا وباحثًا في هذا المضمار وفي أدبياته، ما زلت أجدني وحيدًا وحزينًا – تملأ رأسي التساؤلات وتملأ نفسي الشكوك. ولكني... رغم كلِّ شيء، رغم كلِّ ما قيل ويقال بهذا الخصوص، رغم كلِّ الخيبات والآلام والأحزان، ما زلت أشعر نفسي، إن لم أقل ما زلت مقتنعًا، بأني لست فقط في هذا العالم وإنما منه تحديدًا وحصرًا! وفي الوقت نفسه، أجدني، في المقابل، ساجدًا عند أقدام أولئك العرفانيين العظام الذين تركوا من خلال سيرهم ومنقولهم أعمق الأثر في نفسي. وأشعر ببعض الراحة وفي نفس الوقت أشعر بحزن عميق... لأني حين أتفكر بأني قد تعرفت خلال حياتي على العديد من أولئك "العرفانيين"، فإن القليل جدًا من هؤلاء قد ترك أثرًا عميقًا في نفسي. آه يا أيها الناصري، يا معلِّمي الأول... ... كم صادفت خلال حياتي أناسًا يدَّعون الانتساب إلى هذا الطريق، وكم استمعت إلى أقوالهم، لأجد نفسي مراوحًا مكاني في النهاية، حزين القلب وحيدًا...[14] وأتساءل عن السبب، خاصةً وأن من أقصدهم ههنا تحديدًا هم أناسٌ مطَّلعين، وأكثر مني بما لا يقاس، على أدبيات الغنوص والعرفان على مرِّ العصور. ورغم هذا، لم يكن لما يدعون إليه ولا لما ينطقون به من معرفة تدَّعي الانتساب إلى الحكمة القديمة و/أو تدعو إلى معرفة النفس، ذلك الأثر العميق في نفسي. وأتساءل عن السبب؟! وجوابي، بكل صدق وبكل صفاء ذهني، هو لأني لم أشعر بأن ما كانوا ينطقون به كان صادقًا بما فيه الكفاية. وهذا هو السبب الذي جعل ما ينطقون به من منقول، ومعظمه كان في منتهى الجمال، لا يترك أثرًا عميقًا في قلبي ولا في قلوب الكثيرين. وهذا هو السبب الذي جعلهم، من خلال كلِّ ما قدَّموه، غير قادرين على التوغل في أعماق تلك النفس التي يدعون إلى التعرف إليها. وبالتالي، هذا هو السبب الذي منعهم من عكس معرفتهم بصدق على من حولهم من بشرٍ تعاملوا معهم أحيانًا بكل تعالٍ. إن لم أقل إنهم ما زالوا يتعاملون مع أنفسهم ومع البشر كأشياء لا علاقة لهم بها وليس كبشر يُفترض النظر إليهم كمرآة حقيقية لذواتهم التي لا يتجرؤون على الإفصاح الحقيقي عنها. لأنهم... يتلاعبون مع الغنوص... كأصحاب ذلك المنطق المادي الذي أضحى اليوم شائعًا...[15] وأيضًا، لأن البشرية التي يتحدثون عنها... بشرية هو المجرَّدة التي يتخيلها، ويفترضها، ويدعو إليها (هؤلاء) لا علاقة لها بالبشرية الحيَّة التي يمكن فيها التكلُّم بصدق عن الـأنت. حيث يبقى الصنم هو التخيل الأنبل، وتفسد أسمى المشاعر الوهمية. ولا تبقى الأفكار تتوج رؤوسنا أو تسكنها؛ إنما تطوف بيننا وتفاتحنا. فالإنسان الذي لا ينطق بالكلمة الأساسية يستحق الشفقة؛ والإنسان الذي يتوجه بهذه الأفكار مجردة أو ككلمة سر، وكأنه الناطق باسمها (سرعان ما يتحول إلى) إنسان حقير[16]. وهذا من منظوري، هو ما حوَّل هؤلاء "الأصدقاء" إلى مجرد متفرجين يقفون... أمام نهر (ويـ)راقبـ(ون) سير التيار من عَل وما على سطحه من خبث... لأن من لا يتجرأ على الغوص في أعماق نفسه حقيقةً وفي أعماق هذا العالم، ويتحمَّل مسؤوليته الكلِّية فيه فعلاً، يبقى رغم كلِّ ادعاءاته المعرفية غير قادر على فهم أي عرفان. وبالتالي، غير قادر على تقديم ما يدَّعيه من خبرة إلى الآخرين. ولأن الغوص في أعماق النفس، وما ينجم عنه من عرفان هو حالة تعاش بكلِّ صدق كعلاقةٍ عميقةٍ وحصرية مع الذات ومع العالم المحيط. فإني... ... مما سبق (ا)كتشفـ(ت) أن هناك طريق يقود إلى الله، (و) مما لحق أن هناك فقط طريقًا إلى العدم...[17] لأن العرفان و/أو الغنوص الحقيقي الذين قدَّمه لنا كبار العرفانيين على مرِّ التاريخ، وترك ما ترك من أثر عميق في نفوس البشر، كان خبرة حقيقية صادقة عاشها هؤلاء كعلاقة صادقة مع الـأنت الداخلية الخاصة بهم ومع الإنسان في قلب هذا العالم. كان خبرةً عاشوها كأبناء للإنسان وكأناس من هذا العالم. وأيضًا... لأن ما تمخض عنه هذا العرفان لاحقًا كان ضلالاً بمعظمه، تراني أتساءل مع آخر معلِّمٍ صادفته حول... ماذا يفيد نفسي إن كان بوسعها أن تنسحب مرةً أخرى من هذا العالم إلى الوحدة، حين لا يكون هذا العالم بحدِّ ذاته، وبالضرورة، جزءًا من تلك الوحدة – ماذا تفيد كلُّ "المتعة الإلهية" حياةً تمزَّقت فأصبحت حياتان؟ إن لم يكن لهذه اللحظة الوفيرة الثراء والسماوية علاقة بلحظتي الدنيوية الفقيرة – ما علاقتها بي إذن، أنا الذي ما زال عليَّ أن أعيش بكلِّ جدية على هذه الأرض؟[18] وأتساءل، نعم، وبكلِّ جدية أتساءل: هل حقًا العالم الذي نعيش فيه قميء رغم كل ما نراه ونعيشه من قماءة؟ هل الحبُّ قميء؟ هل العلاقة الجنسية قميئة؟ هل الطبيعة قميئة؟ وهل المادة قميئة؟ وهل فعلاً يجب علينا التحرر من كلِّ ما له علاقة بكل هذه الأمور؟ هل الحياة قميئة حقًا؟ وبالتالي يجب علينا أن نترفع عنها. وأجدني ما زلت أبحث عن نفسي من خلال علاقة أريدها صادقة مع نفسي ومع هذا العالم. لأني أريد معرفة نفسي... *** *** *** [1] مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010. [2] المرجع السابق. [3] المرجع السابق. [4] Aeons. [5] راجع معابر على الرابط: http://www.maaber.org/forth_issue/spiritual_traditions_1a.htm [6] راجع معابر على الرابط: http://www.maaber.org/issue_september08/spiritual_traditions1.htm [7] راجع معابر على الرابط: http://www.maaber.org/issue_june09/spiritual_traditions1_a.htm [8] Pleroma. [9] Sophia. [10] مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010. [11] Pneumatic. [12] Hyletic. [13] إنجيل توما – 3. [14] يسوع يا مسيحي، أكرم أنطاكي، معابر، راجع الرابط: http://www.maaber.org/forth_issue/spiritual_traditions_2.htm [15] المرجع السابق. [16] مارتن بوبر، أنا وأنت، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2010. [17] المرجع السابق. [18] المرجع السابق.
|
|
|