|
قيم خالدة
وبدعوى اختلاف الدين والعرق والطائفة والمذهب، وغيرها من الدعاوى، أُشعلت معارك وحروب، وسُفكت دماء، ودمرت منازل، وأحرقت مكتبات، ونهبت آثار، وقطعت أشجار، واغتصبت نساء، وروع أطفال، وقصفت مستشفيات، ودنست معابد، ونهبت ثروات ومقدرات. كل هذه الجرائم بحق الإنسانية نُفذت، في العصور كلها، تحت شعارات مقدسة لتحقيق أغراض مدنسة، وبهذا اُستخدم دين الملايين لدنيا العشرات أو المئات. كل الحروب لها ظاهر وباطن، ما هو معروف ومكشوف، وما هو سري ومكتوم. ويتم تسويقها من خلال عمليات دعاية وتضليل وغش وخداع للأمهات والشباب والجنود. فشجرة العنف الخبيثة، قبل أن ترتوي من الدماء، تُسقى من الأساطير والأضاليل وغسيل الدماغ وإقصاء الآخر. لأن العنف، قبل أن يُعبّر عنه من خلال الرصاص، يبدأ كوسواس؛ وقبل أن يُسمع صليل السيوف وهدير المدافع، تبدأ كلمات تنشر سموم الحقد والكراهية والروح العدائية. إذ لا بد من تجفيف ما في البشر من قدرة على التفكير، وسلبهم نزعة الخير والرغبة في الرحمة والرفق، ليصبح البشر كأنهم حطب يحرق ويحترق، ووقود يشعل ويشتعل. ومن رماد الحرائق ودخانها الأسود يبني أصحاب مصانع الأسلحة ودعاة العنف مجدهم المزيف. كم هي أساسية حاجة البشر إلى تجفيف روافد العنف من خلال إدراكهم حقيقة أنهم ليسوا مضطرين إلى الاختيار بين خيارين سيئين هما: الاستسلام والإذعان، أو العنف وسفك الدماء. العنف الذي هو استعراض قدرة الإنسان على ايذاء أخيه الإنسان.
في العصور الوسطى، وما قبلها، المدينة هي ذلك التجمّع المدني المحصّن. في لبنان وجواره المدينة أوسع من القرية وهو تصنيف يختلف بين بلد وبلد. في طفولتي كنا نقول مدن لبنان: بيروت، طرابلس، صيدا، وزحلة. اليوم اتسعت القرى كثيرًا والفرق بين المدينة والقرية تابع لرؤيتك المساحة. فإذا لازمنا المفهوم القديم للمدينة فيحيط بها السور المحصن وبالسور تغلق المدينة. والسور ذو أبواب فتقول باب ادريس في بيروت مثلاً، وباب الرمل، وباب التبانة في طرابلس؛ والمدينة داخل هذه الأبواب. أما وقد اندثر كل هذا، ولم يبقَ من حصن، فلا تعريف حقيقيّا للمدينة إلا الاتساع ووظائف الأسواق. وموضوع تنوع الأسواق استخرجه ماسينيون في كتابته عن المدينة الإسلامية. لماذا عندك سوق لمهنة واحدة (سوق الصاغة، سوق النحاسين، سوق النجارين) وما إليها؟ لأن السوق لا تقوم على التنافس ولكن على التعاون. روُي لي أنك إذا قصدت محلاً في سوق معيّنة في زحلة قد يقول لك صاحب المحل: اذهب إلى جاري الذي لم يبع اليوم وأنا قد بعت ما فيه الكفاية. التجارة نفسها، إذًا، ليست للربح المفرط ولكن للعيش الكريم مع الزملاء. وقد يُبنى هذا التعاون كثيرًا على النسابة. كنت ترى، مثلاً، في طرابلس، في الثلاثينات، مجموعات أقرباء في سوق الصاغة، ومن الطبيعي ألا يكون بينهم تنافس إلا على مستوى الجمال. وفرة المال لم تكن هي الغاية بل الحذق في المهنة.
عرف القرنُ المنصرمُ دراساتٍ عديدةً حول المخيال lʼimaginaire وتأثيره على الفرد والجماعة. وإن أول مَن تطرَّق إلى المخيال، في الحقيقة، هو أرسطو، معبِّرًا عنه بكلمة phantasma؛ وقد أخذه عنه الفلاسفة العرب، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، وعبَّروا عنه بكلمة "فانتاسيا". أما الفلاسفة المعاصرون الذين اهتموا بهذه المسألة فنذكر منهم كانط وفيخته وشلِّنغ وغيرهم. ومع تطور علوم النفس والدراسات الأنثروپولوجية، توسعت الدراسات وظهرت بحوث جديدة، كتلك التي قام بها جان پول سارتر وجلبير دُوران. وقد أولى المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس الموضوعَ أهميةً خاصة، حيث خصَّص له كتابًا بعنوان التأسيس الخيالي للمجتمع.
الفلسفة، في لحظة البدء، محبة. والمحبة علاقة الكائن بالوجود، بكلِّ شيء. ولذلك فإن الفلسفة تنطلق من لحظة التجلِّي وإشارات العشق إلى معرفة الإنسان ومدى تطابُقه مع سرِّ المعرفة. الفلسفة إرادة المعرفة وفهم الأشياء باللغة. والفيلسوف يشتهي المعرفة بجسمه وبأسئلة الوقت. الوجود قمر الذات. الذات قمر الوجود. لحظة الكشف تومئ إلى الوحي الذي يصوغ معطيات الفكر. إن الفلسفة، عبر تطورها، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، تبحث عن معرفة الذات لنفسها. والمعرفة تشكِّل صورتَها عبر التهكُّم أو المحاكاة أو المنطق. وليس غريبًا عن الفلسفة أن تبحر في طقس الشعر لتعرف كُنْهَ الوجود من خلال الخيلولة التي تبعث الكينونة. ولعل ما نجده في أفلاطونيات أثينا يكشف عن إقصاء الشعراء من "المدينة الفاضلة" التي الحُكم فيها للفلاسفة، باعتبارهم أصحاب المعرفة والحكمة وبوصفهم اكتشفوا، بحدسهم الخلاق، وَهْمَ ظلال الشمس لحظة التقيد في "الكهف". ومنه فإن قصدية النفي للشعر من طرف أفلاطون هو عدم تطابُق الخيال مع جوهر المعرفة والواقع.
تلقَّيتُ نُسَخَ مجلتكم الرأي الهندي، فسررتُ بالغ السرور بقراءة كل ما يمت فيها بِصِلةٍ إلى اللاَّمقاومة[1]، وأود أن أشاطرك الخواطر التي ألهمتْني إياها هذه القراءة. كلما تقدمتْ بي السن – ولاسيما الآن وأنا أشعر بدنوِّ الأجل – أزداد رغبةً في أن أقول للآخرين ما أستشعره بكلِّ قوة وما يتسم في نظري بأهمية بالغة – وأقصد ما يُسمَّى باللاَّمقاومة، وإنْ لم يكن في الواقع غير شريعة المحبة وقد تخلَّصتْ من تفسيراتها الزائفة كلِّها. يشعر كل إنسان ويتعرف في أعماق نفسه (وهذا نراه في وضوح عند الأطفال) بأن المحبة – أي توق النفوس إلى الاتحاد والسلوك الناجم عنه – هي شريعة الحياة الوحيدة والعليا؛ إنه يعرف ذلك مادامت لم تغرِّر به تعاليمُ العالم الكاذبة. وهذه الشريعة أعلنها حكماءُ الكون جميعًا، رومانًا كانوا أم إغريقًا أم يهودًا أم صينيين أم هندوسًا. وأعتقد أن أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح، الذي أكد حتى إنها تلخِّص الناموس والأنبياء[2]. |
|
|